مقترحات البحث الأشكال والخرائط الصور المحتويات

مقاتل من الصحراء

حفيد ابن سعود (تابع)

          وعلى الرغم من أن ذكريات جدي كان لها الأثر الكبير في صقل شخصيتي، إلاّ أن مَثَلي الأعلى، وأنا أشُبُّ عن الطوق، هو والدي الأمير سلطان. ظل نبراساً ملهماً لي طوال حياتي. وأثناء حرب الخليج، وأنا آنئذٍ أشغل منصباً مستهدفاً من كل جانب، منصب قائد القوات المشتركة ومسرح العمليات، كان الدرع التي أحتمي بها. كان يذود عني ذات اليمين وذات الشمال. فلو تخيَّلت أننا نلعب مباراة في كرة القدم الأمريكية، لكنت أنا من يندفع بالكرة وهو اللاعب الذي يسبقني ويطرح أرضاً كل من يحاول إعاقتي. كان هناك خط هاتفي مُؤمَّن يربطني به. وكنت أتحدث إليه يومياً غير مرة. وكانت توجيهاته اليومية ترسم لي المسار. وآلمني كثيراً أنّ التحليلات التي قرأتها عن حرب الخليج لم توفِّه حقه وزيراً للدفاع. كان له دور في الحرب لا يقلّ أهمية عن دور ديك تشيني، وزير الدفاع الأمريكي. كان حقاً الجندي المجهول وراء النصر في حرب الخليج.

          كان ينتابني، في صغري، شعور بأن أبي لا يحبني قدر حبه لأخوتي، وأنه يفضلهم عليَّ. ولكن عندما أصبحت رجلاً تبيَّن لي أنه يحبني حباً جماً، وأن ما حسبته قسوة منه، لم يكن سوى محاولة منه لتربيتي وتهذيب شخصيتي. فلا غرو أن أحمل له حباً لا يماثله حب، واحتراماً لا يدانيه احترام. ولا أملك إلاّ أن أخفض له جناح الذل اعترافاً بفضله.

          بدأ والدي يصطحبني معه في رحلات الصيد بالصقور ولَمَّا أتجاوز التاسعة أو العاشرة من عمري. وهي رحلات قد تستغرق أسبوعاً كاملاً. كما عهد بي إلى أحد أصدقائه وأتباعه، وهو رجل من أعيان قبيلته، اسمه الشيخ محمد بن خالد ابن حثلين، عمره من عمر والدي أو يكبره قليلاً. كان الشيخ محمد يحب الصيد، وكان يصطحبني وأخوي فهداً فهداً وبندراً ، ويعلمنا أصول الحياة في البادية.

          وفي تلك الأيام، وقبل الطفرة التي نتجت من اكتشاف البترول ، كانت فاكهة المانجو تُعد رفاهية تهفو إليها النفس. وكانت الحلوى المعتادة هي علب الحليب المركز التي كنّا نثقبها بسكين الصيد لنمتص ما بداخلها. لم تكن مكيفات الهواء منتشرة، لذلك كنّا في فصل الصيف ننطلق إلى الصحراء في آخر الليل، وننام هناك، بعد الفجر، حتى توقظنا أشعة الشمس. وغدت رحلات الصيد هوايتي المفضلة بعد أن كبرت. فأصبحت أذهب إلى قلب الصحراء لمدة شهر أو ستة أسابيع كل عام تقريباً، حيث نسير في قوافل ونقيم معسكراً، ثم نتابع الصيد من شروق الشمس حتى غروبها. وكنت أجد الكثير من المتعة في رحلات الصيد، لكنني توقفت عنها نهائياً في أواخر السبعينات. وكانت آخر رحلة صيد لي في شتاء عام 1976 -1977 حين ذهبت إلى الشمال مروراً بمدينة عرعر الحدودية ومكثت شهراً كاملاً في الصحراء العراقية أمارس هواية الصيد. وأصبحت أعرف طبيعة الأرض هناك معرفة جيدة مما ساعدني على توظيف تلك المعرفة أثناء حرب الخليج.

          يتميز والدي بأنه رجل منظم. يمتد تاريخه الوظيفي في الحياة العامة إلى أيام شبابه حين عينه الملك عبدالعزيز أميراً على الرياض. وهو دقيق في مواعيده، وهي صفة يقال إنه اكتسبها من الملك فيصل، إذ كان ساعده الأيمن لسنوات عدة. وكان الملك فيصل دقيقاً في عاداته اليومية، حتى ليقال إن الناس تضبط ساعاتها على تحركاته. وهكذا اكتسبت من والدي صفة الدقة والحرص بشكل مباشر، ومن الملك فيصل بشكل غير مباشر. فنما عندي حب النظام والتفاني في أداء الواجب.

          من الأمور التي علقت بذاكرتي منذ أيام الطفولة أن أبي كان يخصص وقتاً يجلس فيه معنا، مهما عظمت مشاغله. وكانت وجبة الغداء مناسبة مهمة فنجتمع كل يوم في بيت جدتي، حصة بنت أحمد السديري أرملة الملك عبدالعزيز، وهي سيدة مرموقة تكنّى بـ "أم فهد"، اسم ابنها الأكبر، الملك فهد. كنّا نذهب جميعنا إلى بيتها، الملك ووالدي وأعمامي وعماتي وكل أبنائهم وبناتهم. كان اجتماعاً يومياً حاشداً لا ينقطع. ومن بين أعمامي جميعهم، ربما أكون الأقرب إلى الأمير سلمان بن عبد العزيز ، أمير منطقة الرياض، فهو لي نعم الصديق والناصح الأمين. ساعدني على حل كثير من المشاكل بما في ذلك مشاكلي الشخصية. وللأمير سلمان جهوده العظيمة وبصماته الواضحة التي لا ينكرها أحد في التطوير الهائل لعاصمة المملكة .

          كانت "أم فهد" شخصية قوية يحترمها الجميع، وتمزج مشاعر القوة لديها بمشاعر الحب والحنان. لقد فاتني، للأسف، أن أستمع إليها جيداً أيام طفولتي لأتعلم منها دروس الماضي. و يخطئ الغربيون في اعتقادهم أن النساء لا يحظين بالاحترام في مجتمعنا. فهذا الاعتقاد مجاف تماماً للحقيقة والواقع. فتأثير النساء في بيئة المنزل في بلادنا عظيم، وبلا حدود. وعندما توفيت "أم فهد" في عام 1969، لم ينقطع والدي عن تناول الغداء مع عائلته في بيت أمي في الرياض أو في جدّة، حيث يجتمع أبناؤه وبناته، إذا تصادف وجودهم مع أزواجهم وأبنائهم.

          استطاع والدي بهذا التقليد أن يجمعنا ويؤلف بيننا ويشجعنا على الحديث ومناقشة كثير من الأمور والتعبير عن آرائنا، في حدود اللياقة والاحترام. كان تقليداً رائعاً حقاً، تقليدٌ يسر المرء أن يشهده ويشارك فيه. كان فرصة يومية، إلاّ إذا حالت دونها ظروف قاهرة، أن أنعم برؤية أمي وأقبِّل يدها وأتشرف بالجلوس إليها وأفوز بدعواتها وأتجاذب معها ومع أخوتي وأخواتي أطراف الحديث.

          تركت أمي، الأميرة منيرة، بصمات واضحة في حياتي. فهي. كما ذكرت. من قبل، كبرى بنات عبد العزيز بن مساعد آل  جلوي، ابن عم الملك عبدالعزيز ورفيق دربه الذي قاتل إلى جانبه، وعاش حتى ناهز التسعين عاماً. إنني لأشعر حقاً بالفخر لأن الدماء التي تجري في عروقي تنحدر من أصليْن كريمين: من جَدَّيَّ الملك عبدالعزيز وعبد العزيز بن مساعد آل جلوي. وكلاهما من القادة العسكريين المبرَّزين، فإليهما يُعزى الدور الرئيسي في استعادة مدينة الرياض ومن ثَم في توحيد المملكة.

          يفيض قلب أمي عطفاً وحناناً، فهي لا تحمل ضغينة لأحد، ولا مكان في قلبها إلاّ للحب. وهي، في الوقت نفسه، صريحة إلى أبعد الحدود تعبر عمّا في صدرها بلا تردد. وكان من شأن هذه الصفة أن تسمو بأخلاق من حولها. ولم يحدث أن غادرتّ البلاد دون أن أودِّعها. وهي دائماً أول من أحدثه لدى عودتي، أقدمها على زوجتي وأولادي. وتفتخر أمي بأن تُكنى "أم خالد" بدلا من الأميرة منيرة. وهو فخر أعتبر نفسي أولى به منها. وشاع بين الناس في المملكة أن مَنْ أراد مني شيئاً وخشي رد طلبه، فعليه أن يتوجَّه إلى أمي ليطلبه منها، لأنه يعلم تمام العلم أنها إذا طلبت مني شيئاً فإنني ملبّيه لا محالة.

          كانت أمي، أيام حرب الخليج، كلما سمعت بسقوط صاروخ سكود scud، تأمر بإعداد سيارتها لتنتقل بها إلى مقر وزارة الدفاع حيث كنت أعمل، فتدور حوله ليتأكد لها أن المبني لا يزال قائماً، وأن ابنها لا يزال حياً يرزق.

          إلى جانب أمي كانت مربيتي، بشرى، شخصية مهمة في طفولتي. كانت سوداء البشرة قصيرة القامة، حادة الطباع، وبلغ من حدة طبعها أن أمي كانت تتحاشى الخلاف معها. وكانت أمَةً لأسرة أمي في حائل ( قبل أن يُلغى نظام الرق في المملكة رسمياً عام 1962 ) وانتقلت إلى الرياض مع أمي عندما تزوجها الأمير سلطان. وتزوجت بشرى من قبل، ودام زواجها عاماً أو عامين قبل أن يموت زوجها في حادث. ثم كرَّست حياتها، بعد ذلك، لخدمة عائلتنا. لم تكن تقرأ أو تكتب، لكنها كانت مربية لا نظير لها. تمتلك موهبة نادرة في تربية الأطفال، وكان ذلك من حسن حظي. قامت على رعايتي أنا وأختي البندري ، ثم أخي الأصغرتركي حتى بلغ العاشرة من عمره.

          كانت بشرى وابنها نادر جزءاً من عائلتنا، ولا أبالغ إذا قلت إن تأثيرها في حياتي كان مهماً. فقد قامت على رعايتي طوال فترة صِبايَ، وعلمتني كيف أكون رجلاً. كان لها رأيها المستقل وعزيمتها التي لا تلين. تتحرك الصُّمُّ الرواسي، ولا يتغير لها رأي. عندما كنت في الخامسة أو السادسة، أوكل أبي إلى عبدالله بن مسعود أمر مرافقتي. أعطته بشرى بعضاً من مالها ليشتري ذخيرة لبندقيته، ثم طلبت إليه أن يعلمني استخدام البندقية والرماية بها. وعندما كنت أسقط جرّاء رد فعل الطلقة، كانت تطلب من عبدالله أن يساعدني على النهوض واستئناف الرماية. كما كانت تطلب من ابنها أن يصارعني، وتشجعنا بحماسة: "اهجم عليه.. هيا.. كن قوياً". أمّا إذا رأتني أسير مترهَلا فتصرخ بي: "قف معتدلاً وإلاَّ كسّرت عنقك". وإذا تسللت إلى مجلس أبي وبدر مني سلوك لا يعجبها، تقفز كالنمرة وتلطم وجهي. كانت تصرخ بي: "لا تطأطئ رأسك وأنت تتحدث إلى الناس، أنظر في عين من تتحدث إليه".

          انتهى دور بشرى، بطبيعة الحال، بعد أن أكملت الدراسة الثانوية، ولكن بقي بيننا وُدٌّ لم ينقطع. عندما التحقت بالأكاديمية الملكية العسكرية في ساندهيرست sandhurst  كانت تعاني مرض السرطان ونقلت إلى لندن لتلقي العلاج. كنت أهرب من ساندهيرست في الحادية عشرة ليلاً وأذهب إلى لندن لأمضي الليل كله إلى جانبها في المستشفى، ثم أعود قبل الفجر. قضت نحبها في المملكة، بعد عودتها من لندن بزمن قليل. وقيل لي إنها ظلت تحتفظ بصورتي معها وهي في النزع الأخير. كانت تعُدُّني حقا ابنا لها.

سابق بداية الصفحة تالي