أزمة عام 1952
على الرغم من أن نواب المعارضة كانوا قلة، إلا أنهم كانوا الأفضل تنظيماً، والأقوى تأثيراً في الجماهير، من أعضـاء الكتلة الدستورية. ومن أبرز قادة المعارضة كميل شـمعون. ومن الغريب أن يتحالف شمعون مع كمال جنبلاط، الشخصية الثانية، البارزة، بين صفوف المعارضة . واستطاعت المعارضة، في عام 1952، أن تجمع صفوفها من عناصر متنافرة من الليبراليين، أتباع شمعون وإميل البستاني، والتقدميين الاشتراكيين، بزعامة كمال جنبلاط، إضافة إلى المنظمات شبه العسكرية، مثل "النجادة" و"الكتائب". وعلى الرغم من هذا التنافر، إلا أن المعارضة أطلقت على نفسها اسم "الجبهة الاشتراكية" .
ولعل بشارة الخوري كان محقاً بعض الشيء، حينما وصف المعارضة بأنها تتستر وراء المبادئ، وأن أهدافها هي خدمة المصالح الشخصية لبعض الساسة المحترفين، الذين يتطلعون إلى السلطـة. كمـا أن بعض السياسيين، مثل رشيد كرامي، كان غاضبـاً لسقوطـه فـي الانتخابات عام 1951.
وقد أراد الخوري أن يُرضي، على الأقل، فريقاً من هؤلاء الطامعين في السلطة، وهم أنصار رياض الصلح. فاختار سامي الصلح، ليرأس الوزارة عام 1952. إلا أن ذلك، لم يمنع العناصر الأخرى من متابعة نشاطها. ففي يونيه من العام نفسه، رُفعت عريضة تطالب بالإصلاح الإداري، وتعزو عجز الحكومة إلى تجاهل الكفاءات، من أجل التوازن الطائفي. ومن الإصلاحات الإدارية، تحولت المعارضـة إلى المطالبة باستقالة رئيس الجمـهورية، ونددت بالنظام الطائفي، سواء في تعيين الموظفين أو في التمثيل النيابي. وفي 9 سبتمبر 1952، تحول سامي الصلح، فجأة، إلى صفوف المعارضة. وألقى بياناً في مجلس النواب هاجم فيه رئيس الجمهورية .
وإزاء هذا الموقف، صار أمام بشارة الخوري خياران: إمّا أن يستجيب للمعارضة، أو يستعين بالجيش، ويمنع وقوع أزمة دستورية. وفكر بالفعل في استخدام الجيش، بيد أن قائده العام، فؤاد شهاب، رفض فكرة الاشتباك ضد جماهير الشعب. وهكذا، قرر بشارة الاستقالة، في 16 سـبتمبر، بعد أن عهد إلى فؤاد شهاب برئاسة الدولة مؤقتاً. ولم يجد النواب الذين تنتمي غالبيتهم إلى حزب بشـارة الخوري، غضاضة، في أن ينتخبوا، عام 1958، الشخص نفسه، الذي تسبب بإسقاط رئيسهم، أَلا وهو كميل شمعون، بأغلبية 74 صوتاً، مقابل صوتين.
حكم شمعون 1952 ـ 1958
اشتعل الصراع ضد حكم شمعون منذ عام 1957، بعد أن أعلنت حكومة شمعون في 16مارس1957، قبول لبنـان لمبدأ أيزنهاور . ونادت المعارضة باحترام مبدأ الحياد الإيجابي، بينما اتجهت حكومة شمعون اتجاهاً، لم يسـبق له نظير في الانحياز نحو الغرب، وسلمت بأن الاتحاد السوفيتي يهدد الشرق الأوسط . وطالبت المعارضة بأن تتولى حكومة محايدة الإشراف على الانتخابات، وبرفع الرقابة عن الصحف، وإلغاء حالة الطـوارئ، التي فرضت على البلاد منذ العدوان الثلاثـي، عام 1956، ورفع عدد المقاعد في المجلس النيابي إلى 88 مقعداً، وعدم إجراء اتفاق مع دولة أجنبية، قبل انتخاب مجلس جديد، بما في ذلك ما يتضمن مشروع أيزنهاور من التزامات. وتجاهلت حكومة شمعون تلك المطالب، فنشرت قانوناً انتخابياً جديداً، جعل عدد المقاعد 66 مقعداً، وأن تتم الانتخابات على أربع مراحل. وكان من الواضح أن الهدف من ذلك، هو تسهيل تدخل الحكومة في حرية الانتخابات.
وجـرت الانتخابات في يونيو 1957، إلا أن الحكومة التجأت إلى وسائل التهديد، التي لم يسبق لها مثيل فـي لبنان. فاستدعى شمعون الأسطول السادس للمرابطة قرب الشواطئ اللبنانية، بقصد إرهاب المعارضة. كما استدعى شمعون أحد المرشحين ضد شارل مالك، ويدعى "فؤاد غصن"، وبدا أن شراء الأصوات أصبح هو الشـيء السائد. ولم تخـف صحيفة "لوريان" و"الحياة"، وكانتا تناصران شمعون، تهمة الرشاوى، التي دفعها أنصار الحكومة .
وسقط في تلك الانتخابات زعماء معروفون، كانوا يتمتعون بنفوذ مؤثر في دوائرهم، مثل كمال جنبلاط عن دائرة الشوف، وعبدالله اليافي وصائب سلام في بيروت، مما لا يدع مجالاً للشك في تزييف الانتخابات.
ويتضح، مما سبق، وجود أسباب عديدة كامنة، بعثت على الاستياء لدى الرأي العام، طفا كثير منها فوق السطح عام 1957، نتيجة المعركة الانتخابية. ولذا، حينما تمت الوحدة بين مصر وسورية، كان الشعور في لبنان معبأ للانفجار في أي لحظة. وازداد الموقف الداخلي توتراً، فوقعت مصادمات مسلحة، في طرابلس وبيروت، خلال الفترة من 28 مارس حتى 2 أبريل 1958. وسـقط عدد من الضحايا، وكان ذلك نتيجة الشائعات، التي انتشرت، ومفادها أن شمعون، ينوي تعديل الدستور، تمهيداً لتجديد فترة الرئاسة .
وبعد فترة من الهدوء النسبي، توتر الموقف من جديد، بسبب اغتيال المتني ، وهو مدير جريدة "التلغراف"، وأحد الصحفيين البارزين. وثارت ثائرة المعارضة، وطالبت باستقالة شمعون، وحل مجلس النواب، وتكوين حكومة أمن وطني (وفاق وطني). ودعت المعارضة إلى إضراب شامل. واستمال شمعون إليه بعض التنظيمات المسلحة، مثل حزب "الكتائب"، وانقسمت العاصمة إلى قسـمين متحاربين، ووضعت المتاريس. وتحولت طرابلس إلى شبه ميدان قتال، ونزل الجيش إلى المعركة، واستخدمت الدبابات. وكانت أكبر مراكز المعارضة في "الشوف".
وبوجه عام، سيطرت المعارضة على نحو 40% من أراضي لبنـان. وحشدت نحو 12 ألف مقاتل، في الوقت الذي لم يزد فيه تعداد الجيش اللبناني عن عشرة آلاف مقاتل . ومن جهة أخرى، عمل شمعون، وبعض الموارنة، على إعطاء الصراع صورة طائفية محضة. ومن الواضح، أن كميل شمعون، كان يريد تدويل المسألة اللبنانية، على أساس اتهام الجمهورية العربية المتحدة بالتدخل، ومن ثم، طلب المساعدة من الغرب، وبالتحديد من الولايات المتحدة الأمريكية، لحماية استقلال لبنان.
وفي 13 مايو1958، صرح شارل مالك بأن الجمهورية العربية المتحدة، تساعد المعارضة، وطلب اجتماع مجلس الأمن، للنظر في هذه المسألة. وحينما اجتمع المجلس، في 27 مايو 1958، كانت كثير من الهيئات، داخل لبنان وخارجه، قد نصحت الحكومة بأفضلية طرح القضية أمام الجامعة العربية، على أساس أن الخلاف قائم بين دولتين عربيتين. لذلك، أجل مجلس الأمن النظر في شكوى لبنان. وتقرر عقد جلسة استثنائية للجامعة في بلد عربي محايد، ووقع الاختيار على ليبيا. ولم تكن حكومة الجمهورية العربية المتحدة متحمسة لبحث القضية، أصلاً، في اجتماع على أي مستوى، لأنها لا تجد مبرراً للشكوى. وطلبت أن يسحب لبنان شكواه المقدمة إلى مجلس الأمن. وحاولت الجامعة إيجاد حل توفيقي، من أجل عدم الإضرار بالعلاقات العربية ـ العربية، وضرورة سحب لبنان شكواه من مجلس الأمن. وكانت الدهشة عظيمة، حينما قررت حكومة شمعون رفض قرارات الجامعة، واستئناف الشكوى في مجلس الأمن. وما أن طُرحت القضية على المجلس، في 6يونيه1958، حتى تبين أنها تحولت إلى موضوع من موضوعات الصراع الدولي، بين الشرق والغرب. فقد رأى الاتحاد السوفيتي، أن الأزمة مفتعلة، من أجل إيجاد مبرر لتدخل الغرب. وبنى الوفد اللبناني شكواه أمام مجلس الأمن، على الادعاء بوجود تسلل جماعي، عبر الحدود السورية، يُقدر بنحو 15 ألف متسلل، في الأشهر الأخيرة من عام 1957. ويتمـثل الادعاء الثاني في وجود أسلحة مصرية لدى بعض الثوار. واقترح السويد إرسال قوة من المراقـبين، تكون مهمـتها استطلاعية لمراقبة الحدود. وبالفعل، أرسلت قوة من نحو 54 مراقباً، وشرعت في إجــراء التحقـيقات، وكتبـت ثلاثة تقاريـر، أكدت خلالها عدم وجود تسلل جماعي، أو تدخل من جانب الجمهورية العربية المتحدة . ومن ثم، أصبح واضحاً أن هـدف الحكومة اللبنانية، لم يكن سوى وسيلة لإيجاد المبرر للتدخل العسكري الأمريكي.
ويبدو أن شمعون ربط بين مصيره ونظام الحكم في العراق، الذي أُطيح به في 14 يوليه1958. فاستولى على شمعون شعور جارف بالذعر، فأسرع بتوجيه رسالة إلى الإدارة الأمريكية، في 14يوليه جاء فيها: "إذا لم تبادر القوات الأمريكية بنجدة الحكومة اللبنانية، خلال 48 ساعة، فإنكم ستجدونني ميتا" . وحتى بعد أن نزلت القوات الأمريكية على الساحل، قرب العاصمة بيروت، أصر شمعون على أن تدخل هذه القوات بيروت. وأنزل الأمريكيون نحو 15 ألف جندي، يومي 15 و16 يوليه، واحتلوا مطار بيروت الدولي. ولا شك أن ذلك الموقف، قد جرح كرامة بعض ضباط الجيش اللبناني.
وفعلاً دخلت القوات الأمريكية إلى بيروت، وبررت حكومة واشنطن هذا العمل، بأنه إجراء اتخذ بناء على رغبة السلطة الشرعية في لبنان، وأنه موجه ضد الاتحاد السوفيتي، وليس ضد الجمهورية العربية المتحدة، بدليل عدم التدخل في العراق. وتظاهر الأمريكيون أنهم يتبعون سياسة محايدة بين الحكومة والمعارضة، داخل لبنان .
وإزاء ذلك، تصاعد الموقف في مجلس الأمن. وطالب الاتحاد السوفيتي بالانسحاب الفوري للقوات الأمريكـية. وعرض مشروع أمريكي بإرسال قوة طوارئ دولية، تحل محل القوات الأمريكية. وعرضت اليابان مشروعاً آخر، يقضي بزيادة قوة المراقبين الدوليين. ولم يتمكن مجلس الأمن من اتخاذ قرار بالموافقة على أي من هذه المشروعات، بسبب استخدام حق النقض (Veto ).
وقدم أيزنهاور اقتراحاً إلى الجمعية العامة، في 8 أغسطس 1958، يقضي بتقوية وجود الأمم المتحدة، في كل من لبنان والأردن، وإنشاء قوة سلام دولية للمنطقة، ومنع تسابق التسلح بين دولها، وتعيين لجنة اقتصادية واجتماعية، لمعالجة المشكلات المتعلقة بهذه الأمـور، على أساس أنها سبب رئيسي من أسباب التوتر السياسي. ولم ترحب الحكومات العربية بأية اقتراح، دون تمثيل المعنيين فيه، إذ يعد ذلك، من أساسه، مبدأً خاطئاً، ووصاية مقنعة، ترفضها الحـكومات الوطنية. وتحـت ضغط عربي أمام الجمعية العامة، استطاعت الدول العربية، أن تخرج، في النهاية، بتوصية مشـتركة، تشمل في أول بند منها "إعلان بريطانيا والولايات المتحدة الأمريكية سحب قواتهما من لبنان والأردن في أقرب فرصة" . ولا شك أن تطور الأحداث داخل لبنان، هو الذي ساعد على تقارب وجهات النظر العربية، إلى أن خرجت بتوصية موحدة أمام الجمعية العامة.
استطاع التدخل الأمريكي في لبنان، أن يحقق أهدافه، بأن أسكت الأصوات المنادية بالاتحاد مع الجمهورية العربية المتحدة. وإذا كان من بين محركات الأزمة شعور المسلمين بالاستياء من امتيازات الموارنة، فإن الامتيازات لم تمس. وإذا كان ثمة أثر ملموس، حققته المعارضة، فهو أنها حالت دون تفكير شمعون في تجديد رئاسته، أو اختيـار رئيس آخر على شاكلته. فالرئيس فؤاد شهاب، الذي انتخب في أعقاب الأزمة، ترفع عن التكتلات القديمـة، ووقف موقفا محايداً بين الأطراف المتنازعة. وانتقلت السلطة انتقالاً طبيعياً إلى شهاب في 24 سبتمبر 1958. وهكـذا هدأت النفوس، إلا أن القيادة اللبنانية الجديدة، لم تكن تؤمن بالتغيير الجذري في لبنان. ومن ثم، لم يطرأ أي تعديل يذكر على سياسة لبنان في المرحلة التالية. ولم يخرج لبنان عن سلبياته في مؤتمرات القمة، وشاركت حكومته، على مضض، في مشروعات تحويل نهر الأردن. ثم أتت حرب يونيه 1967 وذيولها، التي دفعت لبنان، إلى المواجهة مع إسرائيل.
|