الصفحة الأولى الصفحة السابقة الصفحة التالية الصفحة الأخيرة    

 
حملة الليطاني
خريطة لبنان
اُنظــــر كـــذلك
 
سلام الجليل الاجتياح الإسرائيلي للجمهورية اللبنانية، 1982، (سلام جليل)
مذبحة قانا الاجتياح الإسرائيلي للجمهورية اللبنانية، 1996، (مذبحة قانا)
الحرب الأهلية اللبنانية
الجمهورية اللبنانية

أهداف إسرائيل من إثارة الأزمة

        الواقع أن السؤال، الذي كان يطرح نفسه خلال الأزمة اللبنانية، هو: ما هو الدور الإسرائيلي في الأزمة اللبنانية؟ إذ على الرغم من كل التفسيرات، السياسية والاجتماعية والاقتصادية، للأزمة، فلا يمكن أن تكون وحدها المسؤول المباشر، أو أن تبرر ما حدث خلال عامين متتاليين. ولكن الظروف مثلت أرضاً خصبة لتحقيق جملة أهداف، تبدو إسـرائيل فيها المستفيد الوحيد من تفجر الوضع في لبنان، في ذلك الوقت، ومن استمرار الوضع غير المستقر فترة طويلة. ويمكن رصد هذه الأهداف في ثلاثة اتجاهات:

الاتجاه الإستراتيجي

        تحتفظ إسرائيل، منذ قيامها، بنظام أمن خاص، يعتمد على استمرار الحروب والصراعات الداخلية في الوطن العربي. وفي عام 1975، وصل لبنان إلى مرحلة، أصبح فيها عبئاً وعائقاً للنظام الأمني الإسرائيلي، بعد أن كان يُعَدّ أضعف حلقة في سلسلة الدول العربية، على حد تعبير بن جوريون ؛ إذ بدّلت حرب أكتوبر 1973 الكثير من الأوضاع الإستراتيجية في المنطقة. فقد استفادت الثورة الفلسطينية، بعد أن شاركت في الحرب ضمن حدود طاقتها، بإعادة تنظيم صفوفها، وتطوير قواتها المسلحة وعملياتها العسكرية، وصار في وسعها الاعتماد على الدرع العربي، لتخفيف تأثيرات الـردع المباشر . وكان عام1974 هو عام العمليات الفدائية الانتحارية. فلجأت إسرائيل إلى مجموعة من الإجراءات والتدابير الوقائية، لمنع دخول الفدائيين إلى لبنان ، رافقتها عمليات انتقامية مستمرة، من قرى الحدود الجنوبية والمخيمات الفلسطينية، بعد أن حمّلت لبنان مسؤولية هذه العمليات. وكان الهدف من هذه العمليات فصل ارتباط اللبنانيين بالفلسطينيين، ودفع الطرفين إلى صدام مسلح. وهو هدف قديم ما برحت إسرائيل تسـعى إلى تحقيقه. فتحصل بذلك، عمـلياً، من طريق استنزاف القدرات، العسكرية والسياسية، الفلسطينية، على وقف إطلاق النار في الجبهة الوحيدة، التي ما فتئ القتال دائراً فيها، إذ إن معارك داخلية كهذه، تمنع تصاعد العمليات في المناطق المحتلة، وعلى خطوط وقف إطلاق النار .

        وكان هدف إسرائيل الثاني من ضرب المخيمات الفلسطينية والقواعد اللبنانية، هو منع لبنان من التوجه نحو المعسكر العربي المحارب، مما يعني تقليص حدودها الساخنة، ومنع القوات العربية من فتح جبهة جديدة. وكان واضحاً للقيادة العسكرية الإسرائيلية بعد الحرب، بأنه في حالة نشوب حرب جديدة على الحدود اللبنانية، لن يبقى لبنان خارج دائرة النشاط العسكري. ومن الملاحظ أن الجنوب اللبناني، ظل المنطقة المتفجرة الوحيدة على الحدود الإسرائيلية، بعد توقيع اتفاقية فك الارتباط على الجبهة السورية، في 31مايو1974. وسارعت الحكومة اللبنانية، خوفاً من احتلال إسرائيل للجنوب، بدعوى تحطيم القواعد الفدائية، إلى الحصول على ضمانات جديدة من الدول الكبرى، في مواجهة هذا الاحتمال.

        ويبدو أن لبنان نجح في التوصل إلى تفاهم من هذا النوع مع الولايات المتحدة الأمريكية، إثر زيارة هنري كسينجر Henry Alfred Kissinger ، وزير خارجية الولايات المتحدة الأمريكية، في 16 ديسمبر1973، على الاّ تخضع الأراضي اللبنانية لمفاوضات مؤتمر جنيف للسلام. ولكن هذا السلاح التقليدي اللبناني، لم ينجح في وقف الاعتداءات الإسرائيلية المتكررة. فلجأت السلطة اللبنانية إلى محاولة الحصول على دعم عربي. واستجابت الدول العربية، ودعت إلى عقد مجلس الدفاع العربي المشترك، بالقاهرة، في 5 يوليه1974. ورفض لبنان العرض، الذي تقدمت به الدول العربية، لتقديم مساعدات عسكرية أو وجود قوات عربية. كما رُفضت المطالب الفلسطينية شراء أسلحة متطورة للدفاع. وبررت موقفها بأن التسلح الكثيف، سيعطي إسرائيل ذريعة لبدء هجوم رادع على لبنان واحتلال جنوبيّه. وكان كل ما تريده السلطة اللبنانية من الدول العربيـة، أن تستخدم نفوذها السياسي والاقتصادي، لإقناع الغرب بالضغط على إسرائيل لوقف غاراتها . ولكن السلطة اللبنانية مالت، فيما بعد، إلى التوافق مع الإرادة العربية، بالتعهد، سياسياً وعسكرياً، بحماية المخيمات الفلسطينية والأراضي اللبنانية من الغارات.

        وازداد اهتمام إسرائيل، منذ مطلع عام 1975، باحتمال دخول قوات سورية إلى لبنان، وتحويله إلى دولة مواجهة على أرضها قوات سورية وفلسطينية، واستغلال سورية لإمكانات الأراضي اللبنانية، في حالة نشوب حرب في المستقبل. وهدد شيمون بيريز Shimon Peres، وزير الدفاع آنذاك، بأن هذا يهدد أمن الحدود الشمالية لإسرائيل وسلامتها . كما هدد رئيس الأركان، مردخاي جور، أنه سيضطر إلى أن يَعُدّ لبنان دولة مواجهة، وسيسلك تجاهه، من ردود الأفعال والمواقف، ما يتلاءم مع تطورات الأوضاع .  وازداد اهتمام إسرائيل بالمبادرة السورية، لإقامة قيادة سورية ـ فلسطينية، والتقارب بين سورية والأردن، وفكرة إحياء الجبهة الشرقية من رأس الناقورة إلى العقبة. وعبّرت الصحف الإسرائيلية عن هذه المخاوف، أثناء الأزمة، إذ كان هدف إسرائيل، كما تقول "هاآرتس" في عددها الصادر في 2 نوفمبر1975: "هو منع قيام جبهة رابعة، في حالة نشوب الحرب". وهكذا، فإن تفجير لبنان من الداخل، لا بـد أن تكون له انعكاسات خطيرة على فرصة إقامة جبهة واحدة، مؤلفة من دول المشرق العربي، ويحُول دون تحويل لبنان إلى دولة مواجهة لإسرائيل، على أرضها قوات سورية وفلسطينية. وأكد مردخاي جور ذلك، قبل الأزمة بشهرين، بقوله : "إنه يجب خلق وضع جغرافي سياسي جديد، ومنع العرب من التهديد باستئناف الحرب، كما فعلوا في حرب يوم الغفران".

        وكانت خطوة إسرائيل التالية، إذا حدث فراغ على الحدود، أن تتقدم لتملأ هذا الفراغ، بالتمركز في الجنوب اللبناني، الذي له أهمية، عسكرية وإستراتيجية، لحماية أمن إسرائيل.  ومن ثم، تمنع المقاومة والجيوش العربية من التمركز فيه، لتهديد إسرائيل تهديداً مباشراً.

الاتجاه السياسي

        خططت إسرائيل، منذ بداية عام 1975، لتوريط القوى الفلسطينية في معركة تستهلك قواها، وتُفقدها الدعم العربي. لذلك، هلّلت للقتال الدائر في لبنان؛ إذ إنه سيشوه مكانة منظمة التحرير الفلسطينية كممثل شرعي للشعب الفلسطيني . كما أن تعريب الصراع، وإثارة التناقضات بين قوى المواجهة العربية، سيضرب التضامن العربي، الذي ظهر في حرب أكتوبر، وتعطيل قدرات الأمة العربية، ويشغلها بقضايا جانبية، ويرهقها، مادياً وعسكرياً وبشرياً، في حرب استنزاف أهلية، ويضعف الثقة الدولية بالعرب. وهذا يخدم هدف إسرائيل، الذي عبّر عنه موشي ديان، لمراسل "التايمزTimes"في 20أبريل1976، بقوله : "إن ما يجري ليس حرباً ضد إسرائيل، لكي نتصدى له". وصرح بأنه يتوقع تغييراً في الأنظمة العربية، تبعاً لذلك.

        ومن الأهداف السياسية أيضاً، خلال الأزمة اللبنانية، هدف قديم، كانت إسرائيل تسعى إلى تحقيقه، في أكثر من مجال، وهو محاولة إقامة كيانات طائفية وعنصرية في المنطقة، تتخذها إسرائيل ذريعة لتبرير وجودها، كدولة يهودية، حيث يمكنها أن تتعايش مع مجموعة كيانات طائفية، تضمحل فيها القومية العربية. وهي خطة ليست جديدة، حواها مخطط صهيوني عنصري قديم. فمنذ عام 1937، كان بن جوريون وزملاؤه في الحركة الصهيونية، ينظرون إلى كل قطْر عربي، كمجموعة طوائف، لكل منها تصنيف خاص، وفقاً للمصلحة الصهيونية. وكان بن جوريون يرى في لبنان "الماروني" ممراً من أجل توسيع العمل الصهيوني .

        هدف آخر كانت إسرائيل تسعى إلى تحقيقه، من خلال إثارة الأزمة اللبنانية، هو اختلاق قضية لبنانية تحِلّ مكان القضية الأساسية، وهي القضية الفلسطينية. وبذلك، تشغل الرأي العام العالمي بأحداث لبنان، لتظهر للعالم أن الصراع العربي ـ الإسرائيلي، ليس هو الوحيد في المنطقة، ولا هو يستدعي حلاًّ ملحّاً، وتفرض بذلك الحل الإسرائيلي. وكان هذا المخطط هو التحدي الأكثر خطراً، الذي تعمل إسرائيل على تنفيذه لضرب أماني الشعب العربي في تحقيق الوحدة، من طريق إثارة النعرات الطائفية، وإعادة المنطقة العربية إلى المناخ الشعوبي الممزق. فتعوق بذلك كل إستراتيجيات النضال الوطني ضدها. ولا يمكن فصل هذا الهدف عن مؤامرة دولية، افتعلت الحرب بهدف تغيير خريطة المنطقة العربية، بقصد تجزئتها وإعطاء إسرائيل، أو الدول الأجنبية، مبرراً للتدخل.

الاتجاه، المائي والاقتصادي

        ظلت المياه هي المحور الرئيسي، الذي تدور حوله اهتمامات إسرائيل بعد عام 1948، لسد حاجاتها في فلسطين المحتلة، وتوسيع رقعة الاستيطان، لاستيعاب أعداد كبيرة من المهاجرين الجدد. ومع تدفق المهاجرين الجدد، عمدت إسرائيل إلى الإسراع في استغلال مصادر المياه المتاحة لها، ووضعت الخطط لذلك. ومنذ بداية الخمسينيات، قُدرت كمية المياه الممـكن استهلاكها، بين 2400 و2800 مليون متر مكعب سنوياً. وأشارت تقديرات الخبراء إلى أن النقص في كمية المياه، سيكون في حدود 200 مليون متر مكعب سنوياً من المياه، ابتداءً من عام 1975، حين تبدأ الأزمة الحقيقية للمياه، لأن الطلب على المياه سيفوق الكميات المتاحة. وكان طبيعياً أن تهتم إسرائيل اهتماماً جدّياً بتأمين مصادر مياه جديدة، قبل ذلك التاريخ . ولم يكن أمامها سوى حَلَّين: الاحتفاظ بالأراضي العربية المحتلة في 5 يونيه 1967، واحتلال المزيد من الأراضي العربية. ويلوح أمام إسرائيل مصدر آخر للمياه، وهو نهر الليطاني ، الذي تتوق إلى الاستيلاء عليه منذ زمن بعيد، لأن استخدامه سهل، إذ يكفيها القليل من الإنشاءات، لتربطه بالشبكة القائمة لديها، فضلاً عن حاجتها إليه، لأنه يحل لها مشكلة ملوحة المياه المتزايدة في بحيرة طبرية. وفي ينايرعام1955، نشرت مجلة شؤون الشرق الأوسط "Middle Eastern Affairs" الأمريكية مقالاً، جاء فيه: "كان من الواضح أن أحلام تطوير النقب، لا يمكن أن تتحقق بدون مياه الليطاني". وتقدم أريك جونستون، مبعوث الرئيس الأمريكي "أيزنهاور Dwight David Eisenhower" ، بمشروع يقضي بتحويل 400 مليون متر مكـعب من مياه الليطاني إلى نهر الحاصباني، لضمها إلى سهل البطوة في إسرائيل، ومن ثم، جرّها إلى النقب . وصرح "ليفي أشكول Levi Eshkol" ، وزير خارجية إسرائيل، عشية حرب يونيه 1967، لمندوب جريدة "لوموند Le Monde " الفرنسية: "هناك نصف مليار متر مكعب من مياه الليطاني تضيع سنوياً في البحر. ويجب استغلالها لمصلحة شعوب الم نطقة، ولا يسَع إسرائيل، العطشانة، أن تقف مكتوفة الأيدي، وهي تشاهد مياه نهر الليطاني ت ذهب هدراً إلى البحر. إن القنوات باتت جاهزة في إسرائيل لاستقبال مياه هذا النهر المحوّلة إليها" .

         وهكذا، يتضح أن الأطماع الإسرائيلية في مياه جنوبي لبنان أطماع قديمة، لحاجة إسرائيل لهذه المياه لتحقيق مشاريع الاستيطان. وكانت حاجتها إلى مياه الليطاني هي أحد الأسباب الرئيسية للغزو الإسرائيلي لأراضي لبنان، فيما بعد. بل إنه وبُعيد انفجار الأزمة في لبنان، طالبت جريدة "دافار" الإسرائيلية، في 15 أبريل 1975، بضخ مياه نهر الليطاني في نهر الأردن، لاقتسامها بين إسرائيل ولبنان والأردن.

         يضاف إلى ذلك أن الاقتصاد اللبناني، يرتكز بصورة رئيسية على قطاع الخدمات (68% من الناتج الوطني). وأهم مقومات هذا القطاع هي التجارة والسياحة والنقل وإعادة التصدير والخدمات المالية والتجارية، التي انتقل معظمها من فلسطين إلى لبنان. وهذا القطاع يتطلب استقراراً. ولذا، كانت التهديدات الإسرائيلية والاعتداءات والدعايات الكاذبة، تهدف، بالأساس، إلى تدمير اقتصاد لبنان، وإزالته كمركز مالي واقتصادي وسياحي، ترثه إسرائيل .

         ولا يَكْمُنُ خطر إسرائيل على الاقتصاد اللبناني فقط في خلق أوضاع سياسية غير مستقرة، تؤدي إلى انكماش اقتصاد الخدمات، ولا في ترويج الدعايات الكاذبة، لمنع السياح من زيارة لبنان، بل يَكْمُنُ أيضاً في طبيعة النشاط الاقتصادي الإسرائيلي المشابه للاقتصاد اللبناني، والمنافسة الإسرائيلية للاقتصاد اللبناني في الأسواق العالمية، وبصفة خاصة في أسواق أوروبا الغربية، وفي أفريقيا وآسيا . ولا شك أن الأراضي الزراعية الخصبة في سهلَي مرجعيون والساحلي، والمنتجة للحمضيات، كانت مَطْمَعاً لإسرائيل لتوسيع رقعتها الزراعية، والقضاء على منافس قوي لها في الأسواق العالمية. كما أن وجود أماكن أثرية غنية في لبنان، تُمثل عدة حضارات، تزيد من أطماع إسرائيل في الاستيلاء عليها، لتنشيط السياحة أو خلق ظروف مواتية لتحويل السياحة عن لبنان.



الصفحة الأولى الصفحة السابقة الصفحة التالية الصفحة الأخيرة