الصفحة الأولى الصفحة السابقة الصفحة التالية الصفحة الأخيرة    

 
حملة الليطاني
خريطة لبنان
اُنظــــر كـــذلك
 
سلام الجليل الاجتياح الإسرائيلي للجمهورية اللبنانية، 1982، (سلام جليل)
مذبحة قانا الاجتياح الإسرائيلي للجمهورية اللبنانية، 1996، (مذبحة قانا)
الحرب الأهلية اللبنانية
الجمهورية اللبنانية

التمهيد المتواصل لاحتمال التدخل العسكري من جانب إسرائيل

          تابعت إسرائيل، باهتمام شديد، تطور الأحداث في لبنان. وبدا من أسلوب توجيه الأخبار والتعليقات، أنها تمهد لاحتمال التدخل العسكري. رأت "يديعوت أحرونوت" أنه في مكان ما في الصورة، كان يحوم ظل إسرائيل، "ليس كبلد معادٍ بالذات ... بل كعائق، دون إحداث تغيير في غير مصلحة لبنان كما هو عليه اليوم". والواقع إن التغيير في غير مصلحة لبنان، من وجهة نظر إسرائيل، كان يعني أن يتحول لبنان إلى دولة مواجهة. فما دام لبنان ساحة لحـرب داخلية، فإن إسرائيل تمتنع عن التدخل المباشر، مكتفية بتغذية الصراع بطرق غير مباشرة. ولكنها تهدد بالتدخل وشن عمليات عسكرية، لو تدخلت أي قوة سورية أو عربية أخرى في النزاع القائم، أو قُدّم دعم للوجود الفدائي. ومنذ بداية الأحـداث، عمدت وسائل الإعلام الإسرائيلية إلى التهويل المصطنع، في وصف الأخطار على الحدود، للإبقاء على جو من التوتر، من أجل التأثير في مجرى الأحداث في لبنان. ونقلت الإذاعة والصحف الإسرائيلية تحذيرات وتصريحات، أطلقها المسؤولون الإسـرائيليون، يهددون بالتدخل المباشر إذا توافرت مقاييس وشروط معينة. رافق ذلك زيارات المسؤولين العسكريين إلى مناطق الحدود الشمالية، والقيام بجولات جوية في المواقع المتقدمة، تذكيراً بأن قوات إسرائيل في حالة استنفار، ونقلت الإذاعة الإسرائيلية، في 31 أكتوبر 1975، حديثاً لرئيس الأركان، مردخاي جور ، قال فيه: "إن ما يهـمنا هو ألاّ يصبح لبنان دولة مواجهة، وإذا تدخلت قوات عربية، خاصة سورية، فسوف يكون للأمر مغذى عسكري من الدرجة الأولى، لأن ذلك سيكون إيذاناً بفتح جبهة جديدة على حدود إسرائيل".  ووصف مردخاي جور الجبهة الجديدة بأنها متشابكة للغاية، من ناحـيتَي الأرض والقرب من مناطق ذات كثافة سكانية. وعالجت، "هاآرتس" الموضوع عينه بتساؤلها : ما هو الخط الأحمر، الذي يُعَدّ تجاوزه مَسّاً بمصالح إسرائيل الأمنية الحيوية؟ وبعبارة أخرى، ما الذي يمكن أن يُعَدّ ذريعة الحرب، من وجهة نظر إسرائيل؟ كما أبرزت المخاوف الإسرائيلية، من أن تؤدي التطورات في لبنان إلى انضمامه إلى الجبهة الشرقية: "لا يجوز، في أي حال، إذا ما أقيمت جبـهة شرقية تضم لبنان، إلغاء احتمال قيام الجيش السوري بمحاولة العمل من جناحين: الأول من مرتفعات الجولان، والثاني من طريق لبنان". وأكد رابين : "أ ن تغيير الوضع في لبنان، ينطوي على خطر حقيقي على أمن إسرائيل، وأننا نحتفظ بحقنا في الدفاع عن أمننا على الحدود الشمالية لدولة إسرائيل".

          بل إن بعض الصحف الإسرائيلية، كانت تؤيد التدخل الإسرائيلي في لبنان، على أساس أن الفرصة كانت سانحة للتدخل، لتجنّب الأخطار، التي قد تنجم، في المستقبل، نتيجة لتغَيُير الأوضاع في لبنان. بل ذهب بعض المراقبين إلى اتهام الحكومة بالتقصير وتفويت الفرصة، بسبب عدم تدخلها. كما أكدت "يديعوت أحرونوت" : "أنه إذا ما دخل الجيش السوري لبنان، وتم انتشاره بالشكل الذي يهدد أمن إسرائيل، ويخرق التوازن الأمني بين البلدين، فإن ذلك سيكون مدعاة للتدخل الإسرائيلي في لبنان". وحتى يونيه 1976، كانت إسرائيل لا تزال ترى أن الدور السوري لم يصل بعد إلى حدّ يهدد بتغيير الوضع، أو يقتضي رد فعل إسرائيلياً.

          الخطر الثاني، الذي لوحت به إسرائيل، هو ازدياد الوجود الفلسطيني. وهو ما حاولت إسرائيل إبعاده من الحدود خلال أحداث الأزمة. ولكنه عاد ليتمركز في المواقع التي هجرها الجيش اللبناني، وخاصة بعد تشكيل جيش لبنان العربي، في 11 مارس 1976. وعبّر آلون، في الكنيست، عن هذا القلق بقوله: "ليس خطر غزو سوري هو الخطر الأمني الوحيد الوحيد، المحتمل أن ينتج، من زاويتنا، عن الحرب الأهلية في لبنان. فهناك أيضاً، خطر آخر أكثر أهمية، وهو محاولة المنظمات الفلسطينية، السيطرة على الجزء الجنوبي من لبنان، لتحويله إلى قاعدة منظمة لأنشطة عصاباتها، ضد إسرائيل ومستوطناتها. ولن نسلم بهذا الخطر، ولن نتجاهله إذا تجسدّ. وسنستمر في الاحتفاظ بحقنا السياسي الأوفى، وفي السهر على استعدادنا العسكري، من أجل ضمان مصالحنا الحيوية في مناطق الحدود وسلامة سكانها. وسنستمر في الاحتفاظ بحقنا في اتخاذ الخطوات اللازمة، بحسب ما تفرضه الظروف، من أجل ضمان هذَيْن الأمرَيْن في المستقبل".

          ووصفت جريدة "دافار" موقف الفلسطينيين في الجنوب اللبناني بالقول : "إن أخطر نتيجة تؤدي إلى الحرب، هي سيطرة المنظمات الفلسطينية وحلفائها في جنوبي لبنان على امتداد الحدود مع إسرائيل". كما أشارت إلى الفراغ الذي نشأ بعد ترك الجيش اللبناني مواقعه في الجنوب اللبناني، والتي أصبحت تمتلئ بالقوى المعادية. وأكد شيمون بيريز ذلك، في الكنيست، بقوله : "إذا ما نشأ خطر يهدد مستوطنات الشمال، نتيجة احتـلال "المخربين" وهو الاسم الذي تطلقه إسرائيل على جيش التحرير الفلسطيني، للمواقع الخالية، فإن الجيش الإسرائيلي سيعمل على إبعاد هذا الخطر".

          وبعد التدخل السوري المباشر في لبنان (يونيه 1976)، ناقشت الأوساط الرسمية والمعلقون السياسيون الإسرائيليون احتمالات التدخل الإسرائيلي، من خلال مراقبة دقيقة للتطورات.  وأشارت جريدة "دافار" ، إلى "أنه ليس ثمة مبرر، نتيجة الدراسـات الخارجية عن تحرك السوريين ووحدات المخربين، لتبديل الرأي والسياسة الإسرائيليين في الموضوع. وأن إسرائيل مستعدة لمواجهة أي احتمالات للموقف العسكري على الحدود الشمالية". ودار معظم المناقشات حول شرح مفهوم الخط الأحمر ومضمونه، الجغرافي والسياسي، خاصة بالنسبة إلى نقطتين أساسيتين: الأولى، إمـكان تمركز قوات سورية في بعض المناطق اللبنانية بصورة دائمة. والثانية، إمكان تجدد نشاط المقاومة الفلسطينية ضد إسرائيل من جنوبي لبنان.

          وفي خصوص النقطة الأولى، أوضحت إسرائيل، أن ما تعنيه بالخط الأحمر، ليس خطاً جغرافياً، ولكن المقصود به عدة عوامل مختلفة، مثل حجم التوغل السوري في لبنان، وحجم القوة العربية، التي سترسل إليه، ومدة بقائها فيه، وصورة التشكيل الجديد لمنظمة التحرير الفلسطينية في لبنان. وعلى الرغم من كل ما قيل عن الضمانات الأمريكية لإسرائيل، قبل التدخل  السوري وبعده، إلاّ أن إسرائيل حذرت سورية من التمادي في بسط  نفوذها على لبنان، ومن ثمّ، ضمه كله إليها أو ابتلاع جزء منه. وحذر آلون سورية من أي محاولات "تقوم بها، من أجل دمج لبنان مع سورية".

          وفي خصوص النقطة الثانية، نجد أنه مع ترحيب إسرائيل ببعض الظواهر، الناتجة من التدخل السوري والمؤدية، على المدى القريب، إلى إضعاف قوة منظمة التحرير الفلسطينية، إلاّ أنها كانت واثقة أن الأمور، لن تبقى على ما هي عليه، وخاصة إذا أُبعد الفلسطينيون إلى جنوبي لبنان، أو أتاحت سورية لمنظمة التحرير الفلسطينية ما يسمح لها بالعمل ضد إسرائيل من الأراضي اللبنانية، لأن الأمر، في هذه الحالة، سوف يتعلق بأمن إسرائيل الإستراتيجي في وقت الحرب. وهدد إيجال آلون، في مقابلة صحفية، نشرتها "دافار" بقوله : "من المحظور السماح لمنظمة التحرير الفلسطينية بالسيطرة، من جديد، على مناطق أو قواعد قريبة من الحدود، بغرض ممارسة نشاط ضد إسرائيل". واختتم تهديده بقوله: "فالوضع الذي كان قائماً في السابق، لن يعود مرة أخرى" .

          وقد مثّل مؤتمر قمة الرياض (16 ـ 18 أكتوبر1976)، من وجهة نظر إسرائيل، احتمالاً في تغير الموقف العربي، بشكل يهدد أوضاع الحدود الشمالية الإسرائيلية، التي كانت هادئة حتى تلك الفترة. وتناولت الصحف الإسرائيلية الموقف، بعد هذه القمة، من زاويتين:

الأولى:

خطر إرسال قوات ردع عربية، قوامها 30 ألف جندي، إلى لبنان. ووضعت في حسبانها إمكان توجُّه هذه القوات نحو الجنوب، ودورها المستقبلي في حالة نشوب حرب بين العرب وإسرائيل.

الثانية:

احتمال عودة الفدائيين إلى مواقعهم في الجنوب، بدعم من سورية، خاصة إذا وُضعت اتفاقية القاهرة موضع التطبيق، بهدف استئناف العمليات الفدائية من الجنوب اللبناني.

          لقد أصبح واضحاً، أن إسرائيل، لن تحتمل توغلاً مكثفاً لقوات الردع العربية إلى الجنوب. ولن تقبل بمحاولة الفدائيين استئناف نشاطهم من الحدود الشمالية، أو السيطرة على الجنوب . وحول هذا الموضوع، تركزت التحذيرات الإسرائيلية المستمرة لقوات الردع، وللسوريين بوجه خاص، من تجاوز الخط الأحمر، الذي أصبح مرناً جداً، ومتحركاً جداً، وفق الظروف. فالخط الأحمر، بالنسبة إلى إسرائيل، هو المساحة الممـتدة من الجزء الجنوبي لليطاني، حتى ميناءَي صيدا وصور. ولكن التفسير، الذي أعطته تل أبيب لما سُمي بالخط الأحمر، لا يعني، بالضرورة، ضفاف الليطاني، بل إن الخط الأحمر هو كل ما ترى إسرائيل فيه تهديداً لأمنها.

لذا، جاء احتجاج إسرائيل على دخول قوات الردع بلدة النبطية، التي تقع شمال الليطاني، إذ رأت أن وجود هذه القوات فيه تهديد لأمنها، نظراً للأهمية الإستراتيجية لهذه البلدة، وسيطرتها على الطرق المؤدية لإسرائيل . وأعلن شيمون بيريز : "أن إسرائيل لن تحتمل أي تهديد عسكري على الحدود الشمالية، من جانب قوات عسكرية أجنبية. وستعارض أي حشد عسكري، سوري أو فلسطيني، بالقرب من حدودها". وكان الباعث على هذا التحذير أمرين:

أولهما:

خوف إسرائيل من تحوّل لبنان إلى دولة مواجهة مع إسرائيل، على الصعيدين السياسي والعسكري.

وثانيهما:

العمل على منع عودة النشاط الفدائي إلى الشريط الفاصل، أي الحيلولة دون العودة إلى تطبيق اتفاقية القاهرة. وعمدت التعليقات الإسرائيلية إلى التهويل بالأخطار المترتبة على عودة رجال المقاومة.

          وجاء تحذير جريدة "هاآرتس" على ألسِنة بعض المسؤولين الإسرائيليين، بقولها: "لن نرضى أن يتحول الجنوب (اللبناني)، من جديد، إلى قاعدة لقوات معادية، تعود إلى قصف مستعمرة كريات شمونة، وتخطف رهائن. لقد سمحت إسرائيل للجيش السوري بالتدخل في لبنان، ولم تفعل ذلك من أجل أن يصبح جنوبي لبنان، ثانية، مجالاً حصيناً لمنظمة التحرير الفلسطينية، برعاية دمشق هذه المرة".

          وأمام هذا التحول الجديد في الموقف، كان على إسرائيل أن تتّبع أساليب ثلاثة:

  1. البحث عن ضمانات أمريكية، عبر اتصالات دبلوماسية مع السلطات اللبنانية والسورية، تُبقى الجنوب منطقة عازلة، لا تدخلها قوات سورية أو عربية، ولا منظمات فدائية .
  2. تشجيع جهات محلية، لا يسُرُّها استئناف الحرب ضد إسرائيل، "جهات لبنانية مهتمة بالعيش معنا بسلام، ولا ترغب في الرضوخ لمنظمات الإرهاب"، كما وصفتها جريدة "دافار".
  3. التدخل العسكري المباشر.

التدخل العسكري الإسرائيلي في الأزمة اللبنانية

1. قبل مؤتمر قمة الرياض (16 ـ 18 أكتوبر 1976)

          لم تكتفِ إسرائيل بمراقبة التطورات، أو بالحرب الإعلامية، أو التهديد بالتدخل، بل كانت، منذ بداية الأزمة اللبنانية، متدخـلة فيها فعلاً، ليس لحماية أهدافها ومصالحها الأمنية فقط، وإنما للاستفادة أيضاً من الأوضاع العامة القائمة في لبنان . وفي الوقت نفسه، لم تخفِ إسرائيل مساعداتها لبعض أطراف الصراع داخل لبنان. فذكرت جريدة "يديعوت أحرونوت" أن المعونة الإسرائيلية، التي تُقَدم إلى لبنانيين، ليست إنسانية فقط، وأن تشجيع المسيحيين، قد بدأ بفضل الأسلحة الإسرائيلية، التي تدفقت إليهم من طريق البحر. وأكدت أن هذه المساعدات، شملت "تدريب وحدات، وتزويد بالأسـلحة والمعَدات". وكشفت وكالة أنباء نوفوستي السوفيتية، في الرابع من أغسطس 1976، عن بعـض الوقائع، التي تشهد على الدعم العسكري المباشر، وأن القوى اليمينية في لبنان، تتلقى أسلحة ومعَدات من إسرائيل.  وذكر ممثل القوى اليمينية لمراسل الجريدة الأمريكية "كريستين ساينس مونيتورThe Christian Science Monitor"، أن الإسرائيليين راضون. فنحن نقوم بعملهم في لبنان، عوضاً عنهم، وذلك بقمع القوى التقدمية فـي لبنان وحركة المقاومة الفلسطينية. كما أكدت مجلة "التايمTime " الأمريكية اشتراك إسرائيل الفعلي في الحـرب الأهلية اللبنانية. وأوضحت أن هناك عدداً من اللقاءات، تمّت بين شيمون بيريز، وزير الدفاع الإسرائيلي، وزعماء الموارنة، جرى فيها نوع من التفاهم، للقضاء على قواعد المقاومة الفلسطينية في جنوبي لبنان. ووصفت المجلة اللقاء المثـير، الذي جرى تحت جنح الظلام في ميناء جونيه، وكيف بدأ بنزول قوة الكوماندوز الإسرائيلية، التي أقامت اتصالات مع الحامية اللبنانية، فانتشرت قوات الطرفين على حد سواء، وعملت على تأمين مساحة للهبوط، وارتفعت طائرة عمودية من على سطح سفينة شحن، تقف قرب الشاطئ، يحرسها أسطول صغير. وكانت الطائرة تحمل المسؤولين الإسرائيليين. وقد أشارت المجلة، في مقال لاحق، بعد عام تقريباً، إلى تفاصيل وقائع هذا الاجتماع السري ، الذي عُقد بين إسحاق رابين وشيمون بيريز، من جانب، وكميل شمعون وبيار الجميل، من جانب آخر، اللذين وصلا في قارب مستقل. وأنهما طلب ا من ر ابين سرعة التدخل لمصلحتهما، لك ي يحتفظا بمواقعهما في لبنان. وقد علقت المجلة على هذا  اللقاء بقولها: "أول مرة تتحالف فيها إسرائيل، على نحو فعال، مع العرب في دولة محايدة، منذ الأزمة الأردنية عام 1970".

          وقد تُرجم التفاهم الإسرائيلي ـ اليميني إلى واقع ملموس، فزودت إسرائيل اليمينيين بالأسلحة والمعَدات، ودربت أفراداً منهم على القتال. وأكدت مجلة التايم أنها زودتهم بنحو 110 دبابات، و5 آلاف بندقية آلية، و12 ألف بندقية عادية، وبعض الزوارق البحرية، لأغراض الدورية، وبعض الطائرات الصغيرة. كما دربت 1500 فرد من اليمينيين على القتال، داخل معسكرات إسرائيلية. وقد أدى الأسطول الإسرائيلي، خلال الأزمة، دوره في دعم القوى اليمينية. وأكدت المصادر الإسرائيلية الحصار، الذي فرضته البحرية الإسرائيلية، على مرفأَي صور وصيدا، اللذين تسيطر عليهما القوات التقدمية اللبنانية ومنظمة التحرير الفلسطينية. وأسرت بعض الزوارق الصغيرة، وأغرقت أخرى. واعترفت الصحف الإسرائيلية بأن التدابير الإسرائيلية، أدت، بالفعل، إلى إغلاق طريق التزود بالأسلحة والمؤن في مرفأَي صيدا وصور .

2. بعد مؤتمر القمة

          أدّى تفجُـر الأزمة إلى انهيار وضع السلطة في جنوبي لبنان، خاصة بعد ظهور ما عُرف بـ "جيش لبنان العربي" (مارس 1976)، وتمكّنه، بمساعدة العناصر الفدائية، من احتلال بعض المواقع في الجنوب. إلا أن مراقبي الأمم المتحدة، أشاروا في تقاريرهم إلى تزايد الوجود العسكري الإسرائيلي، وأن القوات الإسرائيلية أصبحت ترابط على مسافة تقدر بنصف كيلومتر داخـل الأراضي اللبنانية. كما ذكر أحد المراقبين الدوليين، في رأس الناقورة، أن الإسرائيليين لا يعُدّون منطقة الجنوب الحدودية جزءاً من أراضي لبنان.

          حرصت إسرائيل على تهيئة الظروف لنقل الحرب الأهلية إلى الجنوب، فبدأت بتحريض العناصر اليمينية في القوات النظامية على رفض الانضمام إلى الجيش العربي. وبمساعدة إسرائيل، تمكنت هذه العناصر من تشكيل قوة عسكرية لمساعدة الميليشيا اليمينية، التي كانت تقاتل في منطقتَي بيروت والجبل، ووعدتهم بالمسـاعدة على قتال الفلسطينيين واليساريين. وبدأت ميليشيا اليمين، بالجنوب، في بناء التحصينات حول القرى، والقيام بدوريات مسلحة في المنطقة، وإنشاء متاريس على الطرق الرئيسية، تمهيداً لتحريك الوضع عسكرياً في هذه المنطقة الحدودية.

          وعلى الرغم من أن قضية الجنوب، كانت على جدول أعمال مؤتمرَي القمة، في الرياض والقاهرة، وكانت موضوعاً أساسياً، استأثر باهتمام كافة الأطراف، إلا أن المؤتمرين، ركزوا الاهتمام على بحث كيفية وقف الحرب اللبنانية، عبْر تدخل قوات الردع، بينما اتُّخذت قرارات عامة لمواجهة الوضع العسكري في الجنوب، مثال ذلك: أوصى الرؤساء بإعادة إحياء اتفاق القاهرة عام1969 ، الذي يُعطي للفلسطينيين قواعد عسكرية في منطقة العرقوب. ولكن الواقع أن تطبيق اتفاق القاهرة، كان تطبيقاً نظرياً، بسبب العديد من الصعوبات، التي منها على سبيل المثال:

أ.

تخوّف عربي من حدوث انفجار على خط المواجهة، يكون كفيلاً بنقل الأزمة من مرحلة التعريب إلى التدويل. لذا، وعلى الرغم من اهتمام الدول العربية بمسألة التواجد الفلسطيني، إلا أن الموقف العربي ارتأى تجميد العمليات على الحدود اللبنانية في هذه المرحلة، حتى لا يتعرض الجنوب اللبناني للاحتلال من جانب إسرائيل .

ب.

سعي إسرائيل الدائم إلى إفراغ شريط القرى الأمامي، امتداداً من البحر حتى أعالي منطقة العرقوب، من أي وجود عسكري مُسلّح. ثم مد هذا الفراغ بكل مقوماته الملائمة، ليشمل مناطق القطاع الأوسـط من الجنوب، الذي يمتد، بدوره، في مدينة صور حتى النجيلة والمناطق المجاورة. ولذا، تركز سعي إسرائيل، بعد مؤتمر القمة، على تشكيل حزام أمن حولها، لا تعبره قوات الردع، ولا يتعداه الفلسطينيون المسلحون.

ج.

محاولة القوى اليمينية التخلص من الوجود الفلسطيني، بحجة أن وجود وحدات المقاومة الفلسطينية، ستؤدي إلى اصطدامات مع إسرائيل، وسيحوّل الجنوب، من جديد، إلى أرض حرب فلسطينية ـ إسرائيلية، مع ما يلي ذلك من تدفق مهاجرين من الجنوب نحو الشمال، وخلق مشاكل أكثر للبنان. لذا، كانت هذه القوى على استعداد لمنع الفلسطينيين، بالقوة، من الوصول إلى هناك، مستعينة بالدعم الإسرائيلي، بعد أن تخلّت عنهم القوى العربية والدولية في هذه المرحلة.

          لذا، كان من الطبيعي قيام تحالف إسرائيلي ـ يميني، يجعل من الجنوب أهم نقطة ساخنة في العالم العربي، تكون إسرائيل هي المستفيد الأول من إشعال نارها. خاصة مع استمرار أطماعها التقليدية في أراضي لبنان ومياهه، والهادفة إلى إقامة جسر جديد، يجعل من الليطاني حدود أمن إسرائيل في الشـمال، إضافة إلى إمكان استخدام الجنوب لسد حاجات الاستهلاك والتصدير الإسرائيليين . وفوق كل ذلك، تسـتطيع إسرائيل الإبقاء على الحرب مشتعلة في الجنوب اللبناني، بعد أن توقفت في العمق اللبناني، وأن تحول الجنوب إلى طوربيد، يمكن أن يفجّر أي اتجاه نحو التسوية، لو تمت مثل هذه المحاولة، وأن تحتفظ بالجنوب ورقة ضغط على السياسة العربية، تخفف من مقاومة العرب لمواقفها، وتفرض التسوية التي تناسبها.

          وهكذا اجتاحت منطقة الجنوب، في فترة ما بعد انتهاء حرب السنتين، في أكتوبر1976، موجه من الصراع المحـلي المسلح، أصبحت أكثر الأحداث الجارية أهمية بمنطقة الشرق الأوسط. وعلى الرغم من أن المعلومات عن القتال الدائر هناك، كانت أقلّ من المعلومات عن أحداث الحرب الأهلية، لكنها لم تكن أقلّ أهمية أو ضراوة في منطقة حساسة، إستراتيجياً، تمتد ما بين الناقورة وجبل الشيخ. وخلال هذه الأحداث، امتد مجال نفوذ إسرائيل في الجنوب اللبناني . وأصبح التحالف الإسرائيلي ـ اليميني واضحاً، وبدأت الوحدات اليمينية المسلحة، والمدربة من قِبل إسرائيل، تُوسع عملياتها العسكرية، لضمان مراكز إستراتيجية في الجنوب، وإبطال مفعول اتفاقية القاهرة.

          كما شَكلت سلسلة القرى، التي سيطرت عليها الوحدات اليمينية، ما يُسمى بحزام الأمن الإسرائيلي، وهو خط (مرجعيون ـ الخيام ـ رميش ـ عين إبل ـ رامية ـ يارين ـ الناقورة ـ دير ميماس ـ إبل السقي). وكرد فعل، سعى التحالف الفلسطيني ـ اليساري إلى الاحتفاظ ببعض المواقع قرب الحدود (بلدة بنت جبيل والقرى المجاورة ومدينة النبطية)، ومحاولة استرجاع بلدات القليعة والخيام ومرجعيون والطِّيبة، في محاولة للاحتفاظ بالطرق المسيطرة على منطقة العرقوب .

          ومن الملاحظ أن كل القوى، التي كانت مشتركة في الحرب اللبنانية، بدأت تنقل مسرح عملياتها نحو الجنوب، وبكل ما تملك من أسلحة ومعَدات، ولم يتغير سوى الموقع فقط. وبدأ الاقتتال بين الجماعات الفلسطينية اليسارية والميليشيا اليمينية، داخل منطقة الحزام بعمق نحو 20 كم. وتزايدت عملية الإمداد بالأسلحة والمدافع والذخائر والعربات المدرعة من جانب إسرائيل للقوى اليمينية. ويبدو أنها زودتهم بكل شيء، بما في ذلك الملابس والدبابات، عدا الأفراد . وأظهرت شبكات التليفزيون الأجنبية، عناصر من الكتائب اليمينية يحملون أسلحة إسرائيلية الصنع . وتعمدت الصحف الإسرائيلية إبراز أوجُه المساعدة العسكرية، التي تقدمها إسرائيل لليمينيين في الجنوب، صراحة. فذكرت "عال همشمار" : "أن المحاربين اللبنانيين يفاخرون علناً بالخوذ الفولاذية الإسرائيلية، وبالبنادق الهجومية الأمريكية، طرازM-16" . وأكدت الجريدة نفسها "أن إسرائيل زوّدت "الكتائب" بدبابات خفيفة، يقودها لبنانيون تم تدريبهم داخل إسرائيل". ونقلت جريدة "هاآرتس" نقلاً عن مجلة "التايم": "أن إسرائيل زودت "الكتائب" بعدد 38 دبابة شيرمان Sherman ، و33 دبابة T-54 ، و5 زوارق مدفعية، من طراز دبورDabur، وثلاثة زوارق، من طراز تيوشي". وأكد هرتسوج، ممثل إسرائيل في الأمم المتحدة، ما أبرزته الصحف، عن المساعدات العسكرية الإسرائيلية لميليشيا "الكتائب" في لبنان.

          كما فتحت إسرائيل مستشفياتها لقوى اليمنيين في لبنان، لنقل جرحاهم ومرضاهم إليها، وزودت هذه القوى بالوقود ومواد التموين، اللذين يعَدّان من المستلزمات الضرورية للاستمرار في القتال . وفي الوقت الذي تزايد فيه تدهور الوضع الأمني في الجنوب اللبناني، عززت إسرائيل قواتها بالمدرعات والمدفعية، على طول حدودها الشمالية.

          ومن الواضح أن إسرائيل، استطاعت أن تزيد من حدّة الصراع الدائر بين القوى الفلسطينية والقوى اليمينية. وهذا يعني نجاحها في تصعيد الصراع العربي ـ العربي، على الجانب الآخر من حدودها الشمالية، والذي نجح في الحدّ من العمليات الفدائية المسلحة داخل الحدود الإسرائيلية. كما نجحت أيضاً في أن يتولى اليمينيون المهمة، التي ظلت تقوم بها لعدة سنوات سابقة.

          وما من شك في أن تدهور الوضع الأمني في الجنوب اللبناني، مع تزايد المعارك بين الفريقين المتقاتلين، ومع مزيد من النزوح، وإفراغ المنطقة سكانياً ، كل ذلك أدى إلى أن ازدياد التصريحات الإسرائيلية بالتلويح باجتياح الجنوب، خاصة بعد التطورات التي حدثت في إسرائيل، ومنها فوز تكتل الليكود في الانتخابات، وما رافقها من تشـدّد المواقف الإسرائيلية. ومن ثمّ، جاء التصعيد المستمر من جانب إسرائيل، حتى اكتملت الحلقة تماماً من أجل قيامها بالعدوان على الأراضي اللبنانية. ومن الواضح أن إسرائيل، قد كسبت أكثر من أي طرف آخر في الصراع الداخلي في لبنان، والذي تمثل في تقويض التوازن الداخلي فيه، وصرف طاقات القوات الفدائية عن النشاط الحدودي، وتحويل قطاع جنوبي لبنان إلى منطقة مكشوفة للتغلغل الإسرائيلي، مع ضمان عدم عبور قوات عربية وراء "الخط الأحمر"، الذي رسمته إسرائيل بحجة حماية حدودها. هذا، إضافة إلى تحويل أنظار الرأي العام العالمي عن القضية الجوهرية في الصراع العربي ـ الإسرائيلي وهي القضية الفلسطينية.



الصفحة الأولى الصفحة السابقة الصفحة التالية الصفحة الأخيرة