ثالثاً: "الحركة الوطنية اللبنانية"
رأت هذه الحركـة، أن العدوان الإسرائيلي على الجنوب، ليس بداية المطاف في الصراع العربي ـ الإسرائيلي، ولن يكون نهايته. كما أنه لم يكن مفاجئاً، لأن جميع الدلائل، كانت توحي بوقوع مثل هذا العدوان، حاضراً أو مستقبلاً. وأبرز الدلائل تلك العلاقة بين التحالف الكتائبي وإسرائيل، الذي كان يهدف إلى ضرب الثورة الفلسطينية والقوات اللبنانية المشتركة في الجنوب.
وتنحصر النتائج النهائية الملموسة لآثار الغزو الإسرائيلي للجنوب اللبناني، في الآتي:
- تأجلت جميع الجهود الرامية إلى المصالحة الوطنية في لبنان، إلى "حين إشعار آخر"، انتظاراً لتفاعل الآثار الناتجة من المعطيات الجديدة (وكان هذا التأجيل هو أبرز الخسائر السياسية، التي أصيب بها لبنان).
- عاد هذا العدوان بأزمة الوجود الفلسطيني على الأراضي اللبنانية إلى نقطة الصفر. وهذا في حد ذاته، سيثير قضية عربية ـ عربية، وعربية ـ لبنانية، للبحث عن حلول جديدة لهذا الأثر المهم.
- أصبحت إعادة بناء الجيش اللبناني، ضرورة لا تنكرها أي قوة في لبنان، وذلك من أجل استعادة هيبة الدولة، وتحقيق التوازن على المستوى الوطني.
- أثارت أزمة الجنوب أيضاً الاتجاهات، التي يجب أن يحددها لبنان لمستقبله السياسي. فهل ينضم إلى مبادرة السلام، التي تبناها الرئيس السادات؟ أو ينضم إلى جبهة الصمود والتصدي؟ وكان الرأي أن اختيار إحدى الجبهتين سيتسبب في مشاكل إضافية، فلو اختارت لبنان طريق مبادرة السلام، لما تجاوزت إسرائيل حدودها. بينما ستتعرض لبنان لردود فعل من سورية المتواجدة عسكرياً على أراضيها. ولو اختارت لبنان جبهة الصمود والتصدي فإن ذلك سيجعل دول المجموعة أكثر تعاوناً مع لبنان في أزمته، ولكن سيعرضها إلى استمرار الاعتداءات الإسرائيلية.
- أخيراً، أصبح الدور السوري في لبنان، مصدر سؤال كبير، لا توجد إجابة عنه، بعد أن نجحت إسرائيل في كشف الدور السوري، وإفقاد الرأي العام، اللبناني والعربي، في مصداقية هذا الوجود.
الآثار في المقاومة الفلسطينية
على الرغم من الخسائر العسكرية، التي تكبدتها المقاومة الفلسطينية أثناء الغزو، إلاّ أنها خرجت بنصر سياسي كبير، ونصر عسكري محدود. فالنصر السياسي نَبَع من كشف سياسة إسرائيل العدوانية، حتى في الوقت الذي بدأت فيه مسيرة السلام مع أكبر الدول العربية. ومن ثم، فإن هذا الغزو سيعطل أو يوقف المفاوضات السياسية الدائرة. وكذلك، نال الفلسطينيون تأييداً كبيراً من جميع القوى والدول العربية، خصوصاً من فلسطيني الأردن، الذين كانوا محرومين من التعبير عن شعورهم منذ ثماني سنوات، في الوقت الذي أيدت قوى لبنانية كثيرة الموقف الفلسطيني، على الرغم من تصاعد صيحات قوى أخرى مثل "الكتائب" تنادي بضرورة إنهاء الوجود الفلسطيني على أرض لبنان.
وقد كان موقف المقاومة الفلسطينية من الأزمة اللبنانية ـ اللبنانية، في مايو 1978، في وقوفها على الحياد، وعدم تدخلها، في أي حال، إلى جوار أحد الأطراف، موقفاً له أثره الإيجابي الكبير، لبنانياً وعربياً ودولياً.
ولم ترضخ المقاومة لشروط إسرائيل، فلم يكد يبدأ الانسحاب الإسرائيلي الجزئي، في 11 أبريل 1978، حتى كانت المقاومة تنظم صفوفها، وترسم خطط العودة إلى الجنوب اللبناني بصورة أفضل، وبتجمعات لها فعاليات ملموسة، وبتحالفات أشد مع المقاومة الوطنية اللبنانية. وقد أدت عودة القوات الفلسطينية، في البداية، إلى صدامات بينها وبين القوات الدولية، ولكن المقاومة الفلسطينية التزمت بالتعاون مع القوات الدولية، وأصبحت تصرفاتها مقبولة تجاهها، وهذا ما أثار حفيظة إسرائيل، التي اتهمت القوات الدولية بـ "التواطؤ مع الفلسطينيين". وقد أكدت المقاومة الفلسطينية وجودها، بالتنسيق مع القوى الوطنية اللبنانية، في مدينَتي صيدا وصور، وفي مناطق العرقوب، وجوَيّا، والرشيدية، والنبطية، والدامور. أمّا الآثار السلبية، الفلسطينية ـ الفلسطينية، الناتجة من الغزو، فهو اتساع الفجوة بين أهداف الفصائل الفلسطينية، طبقاً لانتماءاتها المختلفة، سواء إلى سورية أو إلى العراق أو الفصائل المحايدة. وقد شجع دعم العراق لفصائله على أن تشتبك هذه الفصائل بعض الاشتباكات مع قوات الأمم المتحدة المؤقتة والجيش اللبناني في الجنوب. ولكن، سرعان ما تمت السيطرة عليها.
ولم تقف المقاومة مكتوفة الأيدي بعد هذا الغزو، بل استمرت أعمالها القتالية، سواء ضد أهداف إسرائيلية داخل الجنوب اللبناني نفسه، أو ضد أهداف داخل إسرائيل. وهذا ما جعل إسرائيل تشن عدوانها الثاني في يونيه 1982.
الآثار في الموقف السوري
ربما تكون آثار الغزو الإسرائيلي في سورية معادلة لآثاره في كل من لبنان والفلسطينيين، مع اختلاف نوع الخسائر. فالخسارة السورية كانت سياسية، في الدرجة الأولى، إذ اكتنف الشك الأهداف السورية من وجود قواتها في لبنان. وفقد المواطن العادي الثقة بقدرة سورية علي مواجهة إسرائيل.
لَمْ تركن سورية إلى هذه الهزيمة السياسية. فسرعان ما كان اجتماع الرئيسين، سركيس والأسد، في اللاذقية، لإقرار دخول القوات السورية إلى الجنوب (بعد وجود قوات الأمم المتحدة). واتخذت سورية عدداً من الإجراءات لتأكيد وجودها في لبنان، وعدم الرضوخ لأي ضغوط، مع تنشيط الإجراءات العسكرية لهذه القوات ضد معارضي وجودها، وتشجيع ومساندة السلطة اللبنانية في السيطرة على الأمور في لبنان. كما ظهرت روح جديدة في التعامل السوري مع المقاومة الفلسطينية، وخصوصاً بعد معارضة منظمة التحرير الفلسطينية للمبادرة المصرية تجاه السلام. كما شجعت سورية تمرير الدعم العربي لمنظمة التحرير عبر الأراضي السورية.
وقد استمر الوجود السوري في لبنان حتى الآن، على الرغم من مروره بخطوط صاعدة وهابطة، في تقبّل لبنان أو الرأي العام العربي لهذا الوجود. ولكن ثبت أن الوجود السوري في لبنان، يدخل في نطاق إستراتيجية سورية، تتعلق بالأمن الوطني السوري نفسه، وليس الأمن اللبناني.
آثار الغزو في إسرائيل
عندما قررت إسرائيل شن الغزو، كان لها أربعة أهداف تريد تحقيقها، كما ذكر من قبل، هي: التخلص من المقاومة الفلسطينية في الجنوب، وإنشاء منطقة حزام أمني حدودي، وإرغام الدول العربية على الاتجاه إلى السلام مع إسرائيل، والسيطرة على مياه نهر الليطاني. وباستعراض النتائج الإستراتيجية للغزو ، فإن هذه الأهداف لم تتحقق إلاّ بنسبة لا تتعدى 10 ـ 15 %، وتنحصر في إنشاء الحزام الأمني، الذي تمكنت المقاومة الفلسطينية من اختراقه بسهولة. أمّا باقي الأهداف، فلم تتحقق إلاّ بنسبة محدودة جداً، الأمر الذي أدخل تقييم هذا الغزو في نطاق الفشل الشديد، على الرغم مما أحدثه من خسائر مادية للمدنيين اللبنانيين، وعلى الرغم من تكبد المقاومة الفلسطينية لحوالي ألف شهيد.
وكان أهم ما حققته القوات الإسرائيلية، خلال العشرين يوماً الأولى للغزو، هو استدعاء جيش لبنان المنشـق، بقيـادة الرائـد سعـد حداد، وزرعه على الحـدود اللبنانية ـ الإسرائيلية، بعمق 10 ـ 15 كم داخل الحدود اللبنانية، ومساعدته على تحصين مواقعه، ودعمه بالأسلحة على مختلف مستوياتها، وربط قيادته بالقيادة الإسرائيلية. ثم أعلنت، بعد ذلك، انسحاب جزئي من العرقوب، تلاه، وببطء شديد، انسحابات أخرى، تمّت خلال عام 1978. وكانت شروطها للانسحاب تتحدد في:
- ضمان عدم عودة المقاومة الفلسطينية إلى الجنوب.
- سيطرة الجيش اللبناني على الجنوب.
- أن تتخذ قوات الطوارئ مواقعها على طول نهر الليطاني، لتشكل حاجزاً ضد المقاومة (أي أنها كانت لا تريد أي وجود فلسطيني في الجنوب) إطلاقاً.
- تجريد منطقة جنوبي لبنان من السلاح (وهذا لا ينطبق علي التحالف الكتائبي ـ الإسرائيلي)، مع ضمان حماية الأقليات في الجنوب (والمقصود بذلك جيش سعد حداد).
- الإبقاء على الحدود مفتوحة بين لبنان وإسرائيل.
ولم تتقيد إسرائيل بوضع جدول زمني للانسحاب، ولكنها اضطرت إلى الانسحاب مرغمة، نتيجة لضغوط أمريكية وعالمية، استغرقت طوال عام 1978.
وقـد قامـت القـوات الإسرائيليـة بعمليـة نهب منظـم للتـراث اللبنـاني الحضاري لمدن الجنـوب، إذ استولت علـى حوالـي خمسـة آلاف قطعـة أثريـة، كانت مصلحـة الآثار اللبنانيـة، قـد أودعتهـا المخـازن، حتى يتـم نقلهـا إلـى المتحـف الوطني اللبناني في بيروت. وهـي مـن الآثـار الفينيقيـة، التـي يرجـع تاريخهـا إلى ثلاثـة آلاف عام. وفـي الوقـت نفسـه، قامت إسرائيل، بواسطـة علمائهـا، بالتنقيب علـى آثـار أخـرى، تـم نقلها إلـى الدولـة العبريـة. وقـد تقدم لبنان، وقتها، بشكوى إلى كل من الأمـم المتحدة، واليونسكو
United Nations Educational, Scientific, and Cultural Organization (UNESCO).
ــــــــــــــــــــ
|