|
ثانياً: الأسباب السياسية
تنوعت وتشابكت المسببات السياسية، ومستوياتها الإقليمية والدولية. وكان المطروح أمام الفلسطينيين، في تلك الفترة، هو الحكم الذاتي، الذي تضمنته اتفاقات كامب ديفيد، التي أُبرمت بين مصر وإسرائيل عام 1979م، ورفضها الفلسطينيون ومعظم العرب، في مقابل إصرار فلسطيني على الاستقلال في التفاوض، والتمسك بحق تقرير المصير لإقامة دولة مستقلة، وهو أمر لم يتوقع الفلسطينيون أن يقبل به المشروع الصهيوني.
وكانت النظرة السائدة لدى الإسرائيليين، أن القومية الفلسطينية هي نتاج الإرهاب والعنف، الذي تمارسه حركة فتح، وآمنت النخبة الإسرائيلية الحاكمة في تل أبيب، منذ عام 1981م أنه، فور دحر الفلسطينيين في لبنان، سينتهي أمر المشروع الفلسطيني. لكن ذلك لم يحدث.
وعلى الجانب الآخر، كان الاعتقاد السائد، لدى الفلسطينيين وكثير من العرب، أن الحكومة الإسرائيلية ـ مدعومة بالفيتو الأمريكي ـ تحاول فرض سلام القوة المسيطرة المهيمنة، وفقا لتوازن القوى لصالح إسرائيل، وهو أمر ـ وفقاً لمحلل سياسي أمريكي ـ خلق شعوراً بالإحباط القومي، وأدى إلى مزيد من التطرف والتشدد في الشرق الأوسط؛ فالعرب لم يفكروا في الاعتراف بإسرائيل، عقب هزائم 1948م، 1956م، 1967م، بل فكروا في ذلك بعد حرب 1973م. لذلك على الإسرائيليين أن يدركوا عواقب فرض سلام القوة، على نمو تيارات المقاومة في الدول العربية. وقد سعت النخبة الحاكمة الإسرائيلية، على تنوعها بين ليكودية وعمالية، إلى ترسيخ الشعور بالهزيمة والإحباط لدى الفلسطينيين، كي تفرض عليهم الأمر الواقع. وتنوعت الممارسات الإسرائيلية الرامية إلى هذا الهدف؛ فشنّ شارون حملة إعلامية، قال فيها: إن الهدف الأساسي لسياسته هو الاستيطان في الضفة والقطاع، وأطلق شارون، على إجراءاته، مفهوم "إعادة تنظيم الحكم العسكري في الأراضي المحتلة". وتم التنسيق بين الحكومة والمستوطنين لتطبيق سياسات النفي والتشريد Transfer. فخلال النصف الأول من الثمانينات، صعدت حركة "كاخ" الصهيونية، من لهجتها العنصرية العدائية ضد العرب الفلسطينيين. وقال مائير كاهانا، زعيم حركة كاخ، في لقاء مع صحيفة النهار المقدسية، مخاطباً العرب: "سنخرجكم بالقوة، وعليكم التسليم بحقيقة وجود الدولة اليهودية، على كل أرض إسرائيل، ولا حق لكم في السّيادة عليها، أو الحكم فيها. السلام غير وارد، على الإطلاق، والقوة هي التي تفرض في أيامنا هذه أسس التعايش".
وبالفعل تركت السلطات المحتلة الإسرائيلية المستوطنين ينفذون المخطط الشاروني الكاهاني؛ لطرد سكان الضفة وغزة. (انظر الجدول الرقم 1).
ويلاحظ، في هذا الجدول، أن عام 1983م شهد ذروة الاعتداءات من جانب المستوطنين على الفلسطينيين، وهو عام اعتزال بيجين السياسة، وتولي شامير وشارون، والمعروف أنهما، وريثا بيجين في عنصريته، في مواجهة الفلسطينيين.
اتسعت المستوطنات، التي بناها الإسرائيليون، بعد أن حصلوا على الضوء الأخضر من الحكومة، وبنت حركة "جوش إيمونيم" الدينية المتطرفة، عدداً كبيراً من المستوطنات، التي قطنها أعضاؤها. وكان معنى ذلك مصادرة العديد من الأراضي والمنازل الفلسطينية، وتشريد المزيد من المستوطنين.
وقد شهدت مرحلة ما قبل الانتفاضة تحركات سياسية عديدة، تمخضت عن نتائج زادت من معاناة الشعب الفلسطيني، وأدت إلى تعقيد قضيته أكثر فأكثر. فقد بدأت تلوح في الأفق مبادرات التسوية، وتنعقد مؤتمرات ولقاءات لترسيخ الوجود اليهودي، وحمايته من التعرض لتيارات مستقبلية، تهدده أو تشكل خطراً عليه.
وأحاط الوضع السياسي العام للقضية الفلسطينية، جو من التشاؤم بعد الاجتياح الإسرائيلي للبنان، وإخراج المنظمة، وتشتيت أتباعها، وشن حرب على المخيمات الفلسطينية، في بيروت وصيدا وطرابلس. وبعد أن وصلت كافة محاولات القوى الدولية والعربية والفلسطينية السياسية، إلى طريق مسدود، مما أوجد جواً من اليأس من أي حل سياسي محتمل أمام الشعب الفلسطيني، بعد هذه المحاولات المتعددة، بدأت بمشروع روجرز عام 1970، وانتهت بمشروع المؤتمر الدولي بإشراف الأعضاء الدائمين في مجلس الأمن الدولي. هذا الوضع السياسي، الذي رفضت فيه إسرائيل كافة المبادرات التي وافق عليها "الفلسطينيون الرسميون"، نسف الأمل في الحل السياسي الذي يمكن أن يحقق حداً أدنى من طموحات الشعب الفلسطيني. وهذا ما جعل الظّرف السياسي المحيط بالانتفاضة، يشكل أحد أهم عوامل اشتعالها. ويمكن أن تجمل الدواعي السياسية، التي ساعدت على اشتعال الانتفاضة فيما يلي:
1. مبادرات التسوية والتطبيع
عقب توقيع مصر اتفاقيات تسوية مع إسرائيل، في أطار مبادرة السّلام، تبع ذلك اتخاذ تدابير وإجراءات تطبيعية، ونفّذت مشاريع اقتصادية مشتركة، وسُمح بالتبادل التجاري، والخبرات في مجالات شتى، مما حيّد دور مصر ـ نوعاً ما ـ في الصراع القائم في المنطقة.
ونتيجة لإخراج منظمة التحرير الفلسطينية من لبنان، وتهجيرها، وتشتيت اتباعها ظهرت على الساحة بوادر مفاوضات سرية بين الإسرائيليين وقيادة المنظمة، بهدف التوصل إلى أرضية للاتفاق السياسي. فضلاً عن المحاولات الإسرائيلية لجر عدد من الدول العربية إلى طاولة المفاوضات، بطرق غلبت عليها السرية، في أمريكا وأوروبا.
وشكلت هذه الاتفاقيات والمفاوضات ـ على الرغم من أنها كانت لا تزال في البداية ـ عامل إحباط لدى الشعب الفلسطيني، وأدت إلى شعوره بأن الدول العربية والإسلامية تتخلى عن قضيته، وتصرف النظر عنها إلى الحلول السلمية.
2. طرح فكرة الوطن البديل
نادى عدد من القادة الإسرائيليين بطرد الفلسطينيين إلى الأردن، وإنشاء وطن بديل لهم يعيشون فيه، ضمن معاهدات سلام مع إسرائيل، تضمن الأمن وحماية الحدود.
يُضاف إلى ذلك المناداة بضم الضفة الغربية وقطاع غزة، بشكل نهائي، إلى إسرائيل، وإنهاء القضية الفلسطينية، وطي صفحتها، بعد طرد الفلسطينيين ليلحقوا بركب اللاجئين في الدول العربية.
كان هذا الطّرح، الذي نادى به "أرييل شارون"، طرحاً مرعباً، زاد من هواجس الخوف لدى الفلسطينيين، وذكرهم حرب 1948، وكيف هُجّروا من البلاد قسراً، وبلا رحمة.
3. عقد اتفاقات إسرائيلية متعددة الأغراض، مع عدد من الدول
جرت قبيل الانتفاضة تحركات سياسية إسرائيلية، على مستوى دول العالم، خاصة في أفريقيا وآسيا. فقد عمدت إسرائيل إلى مد مزيد من الجسور، مع تركيا والهند ودول جنوب شرق آسيا، وإثيوبيا ونيجيريا، وعدد من دول أفريقيا.
وقد ركزت هذه التحركات، على ترسيخ مبدأ التعاون في مجالات كثيرة، من أهمها التبادل التجاري، وتوريد الأسلحة.
وتنوعت الاتفاقيات والمعاهدات، التي وقعتها إسرائيل مع هذه الدول، فمنها الأمني والدّفاعي والسياسي والاقتصادي، وغير ذلك.
نجحت إسرائيل في تحركها هذا في تحييد عدد من الدول، وكسب تأييد عدد آخر، وفتح أبواب دول، كانت مغلقة من قبل في وجه اليهود.
4. استمرار الدعم السياسي الدولي، للكيان الصّهيوني
برز التغلغل الصهيوني في مراكز النفوذ في دول العالم بشكل واضح، في الآونة الأخيرة. وتمثل ذلك في التأييد العالمي للممارسات الصهيونية، أو غض الطرف عن كل ما هو محرم في القوانين الدولية، والوقوف سياسياً إلى جانب الدولة العبرية، لإفشال أي محاولة للضغط عليها، أو إجبارها على رفع القيود عن الفلسطينيين، أو إلغاء القوانين الظّالمة، التي وضعت من أجل التضييق عليهم.
كما تمثل في محاسبة كل من يحاول النيل من سمعة الإسرائيليين، أو التنقص منهم، أو اتهامهم بالوحشية والكذب، والطعن في سياستهم.
5. فشل المؤتمرات العربية والإسلامية، في حل القضية
ظلت قضية فلسطين تُطرح على مائدة المؤتمرات العربية والإسلامية، دون الخروج بقرار فعّال يعيد الحق إلى أهله، ويرد عن الفلسطينيين الاعتداء، ويرفع عنهم الظلم، وإنما كانت في الغالب تخرج بقرارات وبيانات، تكتفي بالتنديد والشجب والاستنكار.
وقد أدى هذا بدوره إلى حالة من اليأس لدى الفلسطينيين، الذين ملوا من هذا الوضع القاتل، ولم يعودوا يعلقوا أي آمال على مثل هذه المؤتمرات والخطب والندوات.
هذه الدواعي السياسية، أدت في مجملها إلى إيجاد شعور عام لدى الفلسطينيين بتمييع قضيتهم، وتهميشها، والتهوين منها في سبيل إنهائها، بالصورة التي ترضى عنها "إسرائيل".
وهذا ما شكل دافعاً آخر، يفرض على أرض الواقع اشتعال المواجهة.
|