الصفحة الأولى الصفحة السابقة الصفحة التالية الصفحة الأخيرة    

ز. تكسير العظام

كان أكثر ما يجرح كبرياء الجنود والضباط الإسرائيليين، أن يصابوا بحجر في الرأس أو في الوجه، والحجر ليس سلاحاً نارياً يعطي الجنود وضباطهم مبرراً لإطلاق النار. لذلك يصب الجنود غضبهم ونقمتهم على هؤلاء الفتيان، عندما يلقون القبض عليهم، بعد مطاردة شديدة مجهدة يُعاني فيها الجنود المثقلون بأحمالهم، فينهالون على الفتيان ضرباً بالأيدي وكعوب البنادق، وركلاً بالأرجل. ولكن هؤلاء الفتيان، إذا أفلتوا من أيدي جلاديهم، يسارعون إلى قذف الحجارة من جديد، وهذا سلاحهم الوحيد. من هنا لجأت السلطات، وعلى أعلى المستويات "رابين وزير الدفاعإلى إصدار أمر بتكسير عظام يدي الشباب ليعجزوا، لمدة عدة أسابيع، عن رشق الحجارة. وكان لهذه الصورة أثر كبير في الرأي العام العالمي، الذي شاهد هذه المناظر الوحشية حية. وقد بدأت هذه العمليات من منتصف شهر يناير 1988، بناء على نصيحة من الحكومة الأمريكية بإيجاد طريقة غير الذخيرة الحية. فقد صرح إسحاق رابين لصحيفة "الجيروزاليم بوستبعد خمسة أيام من إصداره التعليمات إلى جنوده بضرب المواطنين الفلسطينيين، وتكسير أطرافهم، قائلاً: إن هذا الأسلوب أكثر فعالية من الاعتقالات، لأن المعتقل في سجن الفارعة مثلاً، يمكث 18 يوماً، يعود بعدها إلى الشوارع للتظاهر وقذف الحجارة. أما إذا كسر الجنود يديه، فإنه لن يتمكن من العودة، إذا عاد، إلى الشارع، قبل شهر ونصف شهر على الأقل". ونشرت صحيفة يديعوت أحرونوت في 4 مارس 1988، على لسان أحد الجنود قوله: "تلقينا أوامر بأن من يقذف حجراً، يجب أن ينام شهراً على الأقل في المستشفى".

ح. الاعتقال

ويُعد هذا الأسلوب من أسهل الأساليب، وأكثرها انتشاراً واستعمالاً. فقد كان الجنود الاسرائيليون يطاردون الرماة والمتظاهرين، ويمسكون عدداً منهم، ممن يقع على الأرض متعثراً، أو يجرح أو.. فيُساق هؤلاء بالضرب والرفس إلى السيارة، التي تقلهم إلى السجن، ليبقى فيه من غير تهمة توجه إليه، لمدة 18 يوماً، أو أكثر "حسب هوى السّجان". كما توجد اعتقالات لأسباب أخرى، أهمها ضد الشباب مَن تصل إخباريات عن مشاركتهم بأعمال عسكرية، فيعتقلون من بيوتهم. وقد بلغ عدد المعتقلين، بعد ثلاثة أشهر من بدء الانتفاضة، 2350 معتقلاً، وتجاوز عدد المعتقلين الإداريين 240 معتقلاً. وبعد سنة من عمر الانتفاضة، بلغ عدد المعتقلين 25000 خمسة وعشرين ألف فلسطيني، اعتقلوا خلال السّنة الأولى من الانتفاضة، من ضمنهم خمسة آلاف، بينهم عدد من النساء، مكثوا في السجن ما يزيد على ستة أشهر. أي أنه لم يبق بيت واحد في المناطق المحتلةلم يعتقل أحد أبنائه على الأقل، وإذا أضفنا إلى هذا عدد الجرحى، الذين تجاوز عددهم ـ حسب الإحصاءات ـ عشرات الآلاف في السنة الأولى، ندرك فظاعة الضرر، الذي لحق الجمهور الفلسطيني في المناطق المحتلة".

ويقول زئيف شيف وزميله إيهود يعاري، في كتابهما "انتفاضة": إن عدد المعتقلين إدارياً ـ عقب توقف الانتفاضة ـ بلغ 18211 معتقلاً، وأن عدد الجرحى في عمر الانتفاضة وصل على 130787 جريحاً؟ انظر الجدول الرقم (10).

وأما عدد الشهداء، الذين سقطوا برصاص الجنود الإسرائيليين، أو بالغازات، أو بالضرب، في سنوات الانتفاضة، فقد بلغ 1392 شهيداً، منهم 362 شهيداً من الأطفال دون سن السادسة عشرة، وأربعون امرأة. انظر الجدول الرقم (10).

ولم تكن إسرائيل تكتفي بقتل، من يشارك في الانتفاضة، أو في أعمال الاشتباك المسلح، أو مَنْ يُنفذون عمليات تفجيرية بطولية، بل مدّت عملياتها خارج الأرض المحتلة، ضد من ترى أن لهم دوراً في الانتفاضة، أو العمل ضدها. فغتالت خليل الوزير أبي جهاد في عملية بوليسية دولية، شاركت فيها طائرات وسفن ووحدات كوماندوس، في 16 أبريل 1988 في منزله في العاصمة التونسية. كذلك قتلت ثلاثة من ضباط فتح في مدينة ليماسول في قبرص، بتاريخ 14 فبراير 1988، وعمليات أخرى كثيرة. وقد أدت هذه العمليات إلى ردود أفعال عنيفة في الأرض المحتلة؛ أحرقت فيها مساحات من الغابات والمزارع في إسرائيل منذ أواخر أبريل إلى يونيه، بلغت 150 ألف دونم، وتشكلت كتائب "أبو جهاد".

ط. الإبعاد:

إذا كان الاعتقال يُبعد الشباب عن ميدان الصراع أياماً، وتكسير العظام يبعدهم أسابيع وشهوراً، فإن إسرائيل لجأت إلى طريقة أشد وأنكى، وهي الإبعاد عن الوطن، بصورة دائمة. وكانت لا تستطيع أن تفعل ذلك مع الجماهير، فإنها لجأت إلى هذا الأسلوب مع من ترى أنهم يحركون الجماهير ويقودونها ويخططون لها، ولا تجد دلائل مادية تدينهم بها في المحاكم، فتتخلص منهم بالإبعاد والطرد. وقد لجأت إسرائيل إلى هذه العقوبة عقب احتلالها للضفة الغربية وقطاع غزة، في حرب يونيه 1967. فكانت تُبعد مجموعات محدود العدد من قادة المنظمات، أو العناصر النشطة في المجال الفكري والسياسي، "حتى ناهز عدد المبعدين 2500 مدني فلسطيني، منذ عام 1967 حتى السنوات الخمس الأولى من الانتفاضة. وتبنى مجلس الأمن عشر قرارات حول هذه الإبعادات، هي القرارات ذوات الأرقام: 468، 169، 184، 607، 608، 636، 641، 681، 694، 726، وفوق ذلك يوجد عدد كبير من قرارات الجمعية العامة للأمم المتحدة، والمنظمات التابعة للأمم المتحدة الصادرة في هذا الشأن. وكانت إسرائيل قد لجات إلى انتقاء أفراد معينين، منذ أشهر الانتفاضة الأولى، لإبعادهم إلى خارج الأرض المحتلة. فطردت الشيخ عبدالعزيز عودة، وأربعة آخرين من نشطاء وقادة حركة الجهاد الإسلامي في 3 يناير 1988، وتراجعت عن إبعاد أربعة كانت قررت إبعادهم أيضاً، وتستند السلطات الإسرائيلية في إبعادها للفلسطينيين على المواد 108، 112، من قانون الطوارئ لعام 1945، الذي أصدرته حكومة الانتداب البريطاني، مع أن القانون الدولي يخضع الاحتلال الإسرائيلي للقطاع والضفة الغربية لبنود اتفاقية جنيف الرابعة لعام 1949، المتعلقة بحماية المدنيين في زمن الحرب، وتعلن المادة 49 من هذه المعاهدة أن النقل القهري للفرد أو الجماعة، وكذلك إبعاد الأشخاص المحميين، من أرض محتلة إلى أرض سلطة الاحتلال، أو أي دولة أخرى محتلة، أو غير محتلة محرم، أياً كانت دوافعه".

ويرى زئيف شيف "أن عقاب الطرد من المناطق، كان أسلوباً رادعاً في نظر كثير من رجال جهاز الأمن الإسرائيلي. وعندما اتسع نطاق الانتفاضة، ووجد الجيش الإسرائيلي صعوبة في قمعها والقضاء عليها، أثيرت عدة اقتراحات بشأن القيام بعملية طرد جماعية، تشمل مئات من نشيطي اللجان الشعبية ومنظمي التظاهرات. وكحل وسط تقرر طرد 25 من زعماء اللجان الشعبية". "ووصل عدد المطرودين في نهاية السنة الأولى من عمر الانتفاضة، إلى 50 خمسين فلسطينياً، من قادة أجهزة الانتفاضة. والحقيقة أن هذا الاسلوب، الطرد والإبعاد، يتفق تماماً، مع مخططات الصهيونية بتفريغ فلسطين من أهلها، لإحلال مستوطنين مكانهم. ولذلك بدأت به من بعد حرب يونيه 1967 مباشرة. ويقول إسحاق رابين عن إجراءات الإبعاد: "الترحيل إحدى الوسائل التي تحاول بها إسرائيل إعادة الهدوء إلى الأراضي المحتلة. إننا نعرف من هم الذين أبعدناهم. إنهم أسوأ الجميع "بالنسبة إلى إسرائيلإنهم لن يوافقوا أبداً عن الكف عن اللجوء إلى العنف والإرهاب، ولن يغيروا رأيهم ويقبلوا التفاوض".

ولعل أهم وأخطر عمليات الإبعاد، كانت إبعاد 415 عنصراً من حماس والجهاد الإسلامي إلى جنوب لبنان.

وكان ذلك في أثناء المفاوضات، التي تلت مؤتمر مدريد، عندما نفّذت كتائب القسام عمليات عنيفة ومؤلمة للجانب الصهيوني. فقد نفذت "وحدة خاصة عملية أسر عسكري إسرائيلي في مدينة رام الله، المحتلة منذ عام 1948، ونفّذ أبطال الخليل سيارة جيب في كمين، فقتل جنديان وأصيب ضابط، وأدخل مجاهدان في 10 ديسمبر 1992، سيارة مفخخة في منتصف الليل، إلى مرآب أحدى البنايات الواقعة على طريق الخليل في القدس، ولكن العملية لم يكتب لها النجاح، إذ شاهد أحد السّكان ملثَمين يغادران المرآب ففجّر الخبراء السيارة".

ورداً على هذه العمليات، التي أزعجت إسرائيل، ووجهت ضربة مهينة لأجهزتها الأمنية، وخلال انعقاد المفاوضات في واشنطن، "قامت (إسرائيل) بأكبر حملة شرسة منذ 1967، في سياق حملات التهجير الانتقائية والجماعية. ففي 16 ديسمبر 1992 شرعت السلطة الإسرائيلية تجمع أكثر من 400، من قادة ورجالات وعناصر الحركة الإسلامية حماس والجهاد الإسلامي، من السجون والمنازل، وحملتهم في حافلات كبيرة معصومي العيون، مشددي الوثاق باتجاه الشمال نحو لبنان، وعبر معبر زمريا، وفي مساء 17 ديسمبر أنزلتهم من الحافلات وأمرتهم بالتوغل في الأرض اللبنانية".

وقد كان هدف إسرائيل من إبعاد العناصر الإسلامية المحركة للانتفاضة، أن يدخل هؤلاء المبعدون في عداد اللاجئين، من غير رجعة إلى ديارهم، فتخمد الانتفاضة. ولكن المبعدين أفشلوا خطة إسرائيل، فأبوا أن يبتعدوا عن الحدود، وأصروا على البقاء والإقامة قريباً من الأسلاك الشائكة، على الرغم من البرد الشديد في هذا المكان والزمان من أشهر السنة. وساعدهم على ذلك الحركات الإسلامية والفلسطينية والحكومة اللبنانية. فقد أعلنت لبنان رفض السّماح لهم بالدخول إلى لبنان، وسارعت الحركات والمنظمات إلى إمدادهم بالخيام والفراش والطعام ولوازم الحياة. فأقاموا مخيماً كبيراً، في مرج الزهور، سُمي "مخيم العودةعلى بعد أقل من كيلو مترين من المعبر على الحدود. وبدأت مناشدة دول العالم والأمم المتحدة ومجلس الأمن، على إعادتهم إلى وطنهم. وانعقد مجلس الأمن في 18 ديسمبر 1992، وتبنى بالإجماع القرار الرقم 799 لسنة 1992، الذي أدان بشدة التّصرف الإسرائيلي، وطلب أن تكفل إسرائيل، سلطة الاحتلال، عودة آمنة وفورية لكل هؤلاء المبعدين إلى الأراضي المحتلة. وطالب المجلس في القرار، أيضاً، الأمين العام أن يبحث إرسال ممثل إلى المنطقة، ليتابع مع الحكومة الإسرائيلية هذا الموقف الخطير، وأن يرفع تقريره إلى مجلس الأمن. كما أكد تحريم اتفاقية جنيف الرابعة للإبعاد، ينطبق على كل الأراضي، التي تمثلها إسرائيل منذ عام 1967، وعدّ تصرف تل أبيب الأخير منافياً للاتفاقية. ولكن إسرائيل رفضت قرار مجلس الأمن الرقم 99". وأرسلت الأمم المتحدة، موظفها المسؤول عن إسرائيل في المنظمة، لمناقشة القضية مع إسرائيل، لكنه لم ينجح. فقدّم المراقب الدائم لفلسطين لدى الأمم المتحدة، مشروع قرار تحت البند السابع من الميثاق، متضمناً عقوبات محددة ضد إسرائيل، ولكن إسرائيل والولايات المتحدة الأمريكية رفضتا هذا المشروع، بانتظار قرار محكمة العدل الإسرائيلية العليا، الذي جاء مؤيداً بالإجماع لقرارات الإبعاد". وجرت مفاهمة بين إسرائيل والولايات المتحدة الأمريكية، على إعادة المبعدين بعد عام.

ونتيجة للإبعاد، ولرفض إسرائيل قرار مجلس الأمن، توقفت المفاوضات العربية الإسرائيلية في واشنطن منذ الجولة الثامنة، في 17 ديسمبر 1992، وتعطلت بذلك مساعي عملية السلام مدة خمسة أشهر. وأصبح مرج الزهور في الجنوب اللبناني، مزاراً لكل القوى الوطنية والعربية والإسلامية. فكانت الوفود الحزبية والنقابية من لبنان وسورية ومصر والأردن، تصل إلى مرج الزهور لتشد على أيدي هؤلاء المبعدين، وتقدم إليهم المساعدات الطبية والغذائية، والدعم المعنوي والسياسي والإعلامي.

والحقيقة، التي ينبغي أن تشار إليها، هي أن بعض الشخصيات الفلسطينية، كان لها موقف من ارتباط المفوضات بقضية عودة المبعدين. "فقد نشرت مجلة الوطن العربي في شهر أبريل 1993، حواراً مع مسؤول فلسطيني لم تذكر اسمه، هاجم فيه موقف المنظمة من قضية المبعدين، وربطها باستئناف المفاوضات، وقال: "إن حسابات الزعامة، هي التي دفعت عرفات للتورط في حل قضية المبعدين. وقد كشفت مصادر مطلعة لمجلة المجتمع أن المسؤول الفلسطيني هذا هو محمود عباس "أبو مازن".

ولا يُنكر أن إسرائيل ضايقتها الانتفاضة، واستمرار حمام الدم الإسرائيلي، ولو كان قليلاً، مقارناً مع ما يراق من دماء الفلسطينيين. فقد تسربت معلومات تتحدث عن خطة إسرائيلية، أعطها كل من إسحاق رابين وإيهود باراك، رئيس أركان الجيش الإسرائيلي، تقضي بانسحاب مفاجئ من قطاع غزة المحتل، في أعقاب المطاردات وحوادث القتل، التي يتعرض لها الجنود الإسرائيليون، على أيدي المقاومة المسلحة لحماس".

وكانت إسرائيل تُقدر أن إبعاد هؤلاء القادة وعناصر حماس، وحركة الجهاد الإسلامي، إلى لبنان، "كفيل بتعطيل عمليات الجهاد والمقاومة، ضد جنود الجيش الإسرائيلي وآلته العسكرية. ولكن هذا الظن خاب، فقد تصاعدت العمليات الجهادية في غزة وخان يونس والقدس والخليل ونابلس. ففي شهر مارس 1993، دهس المجاهد ساهر التمام ضابطي صف كانا في طريقهما إلى معسكر الجيش الإسرائيلي القريب من مدينة نابلس فقتلهم، وفي مساء 20 مارس، ذكرى معركة الكرامة، شن ثلاثة مجاهدين هجوماً بالأسلحة الرشاشة على سيارة جيب عسكرية، تحرس حافلة تقل طلاباً في طريقهم من مستوطنة عيلي زاهف، إلى مستوطنة أريئيل، فقُتل سائق السيارة وأصيب الجنديان الآخران بجروح بليغة. وفي صباح 27 مارس، قتل أحد المجاهدين جندياً إسرائيلياً، عندما شن هجوماً على دورية لقوات حرس الحدود، في سوق الخضار بطولكرم". "وفي يوم الجمعة 16 أبريل 1993، يوم مسيرة الأكفان، التي قام بها المبعدون في مرج الزهور، انطلق المجاهد ساهر التمام، بسيارته المفخخة نحو مستوطنة ميجدلا، القريبة من عين البيضا، على بعد 15 كم من نهر الأردن، حتى وصل إلى ساحة مقهى "فيلج إنالذي يعج بالجنود الصهاينة، وفجّر سيارته بين حافلتين عسكريتين، وأسفر الهجوم عن احتراقهما وسقوط عشرات القتلى والجرحى واستشهاد المجاهد ساهر". وكانت هذه العملية باكورة العمليات الاستشهادية؟ "فقد صرح المحلل السياسي الإسرائيلي، أهارون كلاين، عقب العملية، بأنه يتوجب على الإسرائيليين، وأجهزتهم الأمنية الاستعداد لمواجهة مرحلة جديدة، من عمليات المنظمات الإسلامية المتطرفة. وهذه العملية تعيد إلى أذهان الإسرائيليين العمليات الانتحارية "الاستشهاديةالتي نفذتها المقاومة الإسلامية والوطنية، في لبنان، ضد التجمعات والأهداف العسكرية الإسرائيلية، عقب احتلال الجيش الإسرائيلي جنوب لبنان".

ومن أهم العمليات، التي نُفذت خلال هذه الفترة، من وجود المبعدين في مرج الزهور، عملية اختطاف حافلة ركاب، في القدس، نفّذها بها ثلاثة من المجاهدين، "وطالبوا بإطلاق سراح الشيخ أحمد ياسين وعبد الكريم عبيد، وخمسين أسيراً من حماس وخمسين أسيراً من الجهاد الإسلام، وفتح الجبهة الشعبية والديموقراطية والقيادة العامة. فقد صعد هؤلاء المجاهدون إلى الحافلة في السابعة والثلث من صباح الخميس الأول من يوليه 1993، وعلى متنها أربعون راكباً، وبعد دقائق سيطروا على الحافلة، وطالبوا بالسماح للحافلة بالتوجه إلى لبنان، ولكن القوات الإسرائيلية أجبرت الحافلة على التوقف على بعد مائة متر من مركز قيادة الشرطة في حي الشيخ جراح، وأطلقت النار على الحافلة، وأصيب أحد المجاهدين في رأسه، وبدأ الركاب يهربون من النوافذ. وعلى الرغم من هذا الحصار، تمكن المجهدان الآخران من مغادرة الحافلة، وأجبرا سيارة إسرائيلية على حملهما والخروج من القدس، فاصطدما بحاجز، عند أحد الجسور في مستوطنة جيلو، وتبادلوا إطلاق الرصاص مع جمود الحاجز، ولكن القذائف الصاروخية أصابت السيارة وفجرتها عند مدخل بيت لحم، واستشهد المجاهدان".

وقد كتبت مجلة المجتمع في عددها الرقم 1033، بعد أقل من شهر من عملية الإبعاد، في تحليل سياسي للسيد عاطف الجولاني، تقول: "حين أقدم رئيس الوزراء إسحاق رابين على اتخاذ قرار إبعاد 465 فلسطينياً من نشطاء حركتي حماس والجهاد، كانت لديه مجموعة من الحسابات، التي رجحت لديه صحة القرار، وبعد مضي شهر على عملية الإبعاد، أظهرت تطورات الأحداث أن حسابات رابين كانت غير دقيقة، وخاطئة. فقد اكتشفت إسرائيل أن عشرة أبعدوا عن طريق، ولم تتوقع إسرائيل حجم الإدانة الدولية لخطوتها، كما فوجئت إسرائيل بالرفض اللبناني، وبصمود المبعدين وإصرارهم على البقاء في مخيمهم، على الرغم من قسوة الطقس. وقدراهن رابين على العملية ستوجد شرخاً في الصف الفلسطيني، ولكنها أوجدت تماسكاً بين المنظمات الفلسطينية، على اختلاف مواقفها المبدئية، وبدلاً من تسرع عمليات التفاوض، التي بدأت، توقفت هذه المفاوضات، كما أدت إلى تصاعد الانتفاضة الشعبية، وتوسع العمليات العسكرية وتعمقها. كما أدت هذه العملية إلى ارتفاع في اسهم حماس في الشارع الفلسطيني، والشارعين العربي والسلامي، وإلى بروزها في وجه المشروع الصهيوني".

ي. الضغوط على منظمة التحرير الفلسطينية وقيادتها:

وقد تعرضت منظمة التحرير وقيادتها، إلى ضغوط وإغراءات قوية، للعودة إلى المفاوضات ونجحت في ذلك فعادت المنظمة إلى المفاوضات بعد توقف دام خمسة أشهر" فاستؤنفت المفاوضات العربية الإسرائيلية في الجولة التاسعة، على الرغم من رفض إسرائيل المدعوم أمريكياً، تقديم أي تنازلات في قضية المبعدين، "والإصرار على أعادتهم بعد عام كامل

ففتح قرار المنظمة، بحضورها الجولة التاسعة، الباب أمام الوفود العربية الأخرى للعودة إلى المفاوضات، وكانت هذه العودة للمفاوضات، متجاوزة الرفض الشعبي، ورفض غالبية الفصائل، حتى إن الوفد المفاوض كان يخشى العودة إلى الأراضي المحتلة، خوفاً من التهديدات، التي صدرت بسحقه. وكان أحدها التهديد الذي وجهته كتائب أبو جهادمن داخل حركة فتح نفسها، فأصدرت قيادة المنظمة بياناً تحذر فيه من التعرض لأعضاء الوفد، وتعلن فيه مسؤوليتها عن حمايتهم، ومن الأسباب التي دفعت قيادة المنظمة إلى العودة إلى المفاوضات:

1-

إغراءات باستئناف الدعم العربي المادي للمنظمة، الذي كان قد توقف بسبب تأييدها لموقف العراق، في احتلاله للكويت، وإعادة العلاقات مع سورية، والحصول على موافقة إسرائيل على إعادة ثلاثين مبعداً، أُبعدوا قبل 1987، معظمهم من فتح.

2-

خشية قيادة المنظمة، من أن يؤدي التركيز الإعلامي على قضية المبعدين، وتعثر المفاوضات، إلى تنامي التأييد الشعبي والسياسي لحركة حماس، التي يرى فيها منافساً قوياً على الساحة الفلسطينية.

3-

الضغوط العربية والدولية، التي تعرضت لها قيادة المنظمة بهدف دفعها لاتخاذ قرار المشاركة".

وهكذا حرّكت عملية الإبعاد المياه الراكدة، وأشعلت الانتفاضة، وأعادت إليها وهجها. كما شغلت القيادة الفلسطينية، والمجتمع الفلسطيني في الداخل والخارج، والقيادات الشعبية والسياسية، في العالمين العربي والاسلامي، كما شغلت العالم بأسره حتى مجلس الأمن. وتحولت إلى تظاهرة إعلامية حركت الإعلام العربي والعالمي، وشدته إلى هذه الزاوية الصغيرة من جنوب لبنان، حتى كتب الله لهؤلاء المبعدين أن يعودوا إلى وطنهم بعد عام كامل من الإبعاد، فكانت عودتهم أول عودة جماعية تتم لمن هجّروا من وطنهم فلسطين.



الصفحة الأولى الصفحة السابقة الصفحة التالية الصفحة الأخيرة