الصفحة الأولى الصفحة السابقة الصفحة التالية الصفحة الأخيرة    

في المستوى العالمي:

          لم تقتصر آثار الانتفاضة وثمارها على المستويات الثلاثة السابقة، وإنما تعدتها لتشمل دول العالم، والرأي العام العالمي كله. وقد تمثل ذلك فيما يأتي:

1.

تغير النظرة العامة تجاه إسرائيل وشعبها، حيث لم تعد ثابتة تلك النظرة القديمة المبنية على الزعم بتعرض اليهود لمذابح إنسانية مروعة، سميت بمذابح "الهولوكوست والبوغروم" مما ولد الشعور بالذنب لدى الغربيين، ومن ثم نظرة الإشفاق على شعب مضطهد مشتت عومل بقسوة، ولابد من نصرته.
هذه النظرة تغيرت بشكل كبير بعد الممارسات الوحشية، تجاه الشعب الفلسطيني، خاصة عند نقل وقائع تكسير أطراف شابين أعزلين من قرية، عراق التايه، بنابلس. وقد أقدم على هذا العمل ثمانية جنود مدججين بالسلاح. كما نقلت أخبار وصور قتل الأطفال والنساء، ودفن الأحياء في قرية سالم وغيرها، وإحراق فران في بيت النار بمخبزه، وصب الماء المغلي على طفلة لم يتجاوز عمرها العامين، وغير ذلك مما حفلت به أحداث الانتفاضة، من صور مأساوية مؤلمة.

2.

تحرك الدول الكبرى لإيجاد حل سياسي، ومخرج للمأزق الذي وقعت فيه إسرائيل بسبب الانتفاضة، وطرح مشاريع حلول تهدف إلى إيجاد شعور لدى الشعب الفلسطيني بوجود بوارق أمل، في التخلص من حياة الاضطهاد والبؤس في ظل الاحتلال، وذلك ليوقفوا انتفاضتهم.

3.

زادت من تعاطف الرأي العام العالمي مع الفلسطينيين، وأوجدت الشعور بضرورة الاعتراف بتطلعاتهم السياسية، وإيجاد حل عادل لقضيتهم.

4.

كشف أمام الرأي العام العالمي زيف الدعاوي الإسرائيلية، بأن دولتهم هي الدولة الديمقراطية الوحيدة في المنطقة، وأظهرتها على حقيقتها العدوانية العنصرية، من خلال الأساليب والوسائل التي استخدمت، في قمع شعب الانتفاضة.

5.

إحجام كثير من السياح من دول العالم المختلفة، عن التوجه إلى "فلسطين"، خوفاً من التعرض للأذى نتيجة الأحداث الدامية.

          هذه الآثار العامة للانتفاضة،أضافت رصيداً وعدداً من المكاسب للشعب الفلسطيني، في صراعه المرير والممتد مع اليهود، وكونت تجربة مهمة، وقاعدة يمكن البناء عليها، في مواجهات قادمة.

          إن الصورة الجديدة، التي اتخذتها الانتفاضة، من حيث استمرارها، واتساع دائرة شمولها، وعدم فتور حماستها، وما أحدثته من تعاطف دولي صريح ونادر مع الشعب، تؤكد نجاح الانتفاضة في فرض نفسها على رأس قائمة الاهتمامات الدولية، والهموم العربية كما تؤكد ضرورة إيجاد حل عادل وسريع؛ لاحتواء الأزمة، قائم على فهم جديد لآراء ومصالح كلا الطرفين. وبطبيعة الحال، فقد تطلعت كل الأنظار، على المستويين العربي والعالمي، إلى الولايات، للقيام بتحرك إيجابي في هذا الصدد، لما لها من علاقة "خاصة" ووثيقة مع إسرائيل.

          وأما الولايات المتحدة، فمما لا شك فيه، أن أحداث الانتفاضة هزّت من دور إسرائيل حليفاً لأمريكا. فإسرائيل كانت تطرح نفسها دائماً باعتبارها حليفاً أمريكياً زهيد التكاليف، ولكن الانتفاضة بينت أنها مكلفة، من الناحية الإعلامية، والاقتصادية، والسياسية، وأنها قد تحقق عمليات إجهاضية سريعة، (دور الفتوة)، وأن تضرب في العمق العربي، ولكنها غير قادرة على الاحتفاظ بالأمن والسلام الأمريكي، (دور الشرطي)، والدفاع عن الداخل الإسرائيلي، ولذلك، ففائدتها محدودة، وتكلفتها باهظة.

          غير أن رد الفعل الأمريكي جاء ضعيفاً، ومتذبذباً، ومخيباً للآمال العربية والتوقعات العالمية. وهو يعكس، بهذا، واقع السياسة الأمريكية، القائم على إيجاد توازن حذر، بين التزامات ومصالح، هي في حقيقة الأمر متناقضة. ويعد إبراز هذا التناقض، أهم ما حققته الانتفاضة من نتائج، والتحدي الرئيسي، الذي يواجه السّياسة الأمريكية، في الشرق الأوسط، والعلاقات الأمريكية الإسرائيلية.

          إن الاهتمام المكثف، الذي أولته وسائل الإعلام الأمريكية والعالمية، بمتابعة أخبار الانتفاضة، والحرص على نقل الأحداث بأمانة، ومن دون مبالغة، في إظهار أساليب العنف الإسرائيلي، أو تقصير، بحذف أي منها؛ يعكس تغيراً واضحاً في صورة الشعب الفلسطيني، من منظور الرأي العام والإعلام الأمريكي. فقد ظهر المواطن الفلسطيني، لأول مرة، في صورة الإنسان البسيط الأعزل والفقير، الذي تُمارس ضده أبشع الجرائم، من الوحشية، والقسوة، وانتهاك الحريات، على مسمع ومرأى من العالم كله. وهذا إنجاز لا يُستهان به، فقد تعود المواطن الأمريكي على رؤية الفلسطيني في صورة الإرهابي المسلح، الذي لا هم له سوى قتل الأبرياء، من دون وجه حق، وبناء على حقد أعمى، وغضب غير مفهوم، وعداء للجنس السامي.

          من ناحية ثانية، أدى اهتمام الإعلام الأمريكي، بتغطية الأحداث بأمانة (إلى حد كبير)، إلى إبراز هوية الشعب الفلسطيني، بطريقة غير مباشرة، وغير مقصودة. فلأول مرة أصبح يشار إلى قسوة ووحشية القوات الإسرائيلية، كما ركز الوصف الإعلامي، على صلابة الفلسطينيين وصمودهم، وارتفاع روحهم المعنوية، على الرغم من كل ما يلقونه من معاناة.

          كذلك، أبرزت وسائل الإعلام الأمريكي، بصورة واضحة، حقيقة الاحتلال الإسرائيلي، ومدى تناقضه، مع ما تدعيه الحكومة الإسرائيلية، من قيم ومبادئ إنسانية، وديمقراطية. فركزت على مدى تدهور الأحوال المعيشية في الأراضي المحتلة، واستحالة الحياة فيها، في ظل الأوضاع القائمة.

          والأهم من ذلك أن الانتفاضة سلّطت الضوء على حقيقة السياسة الأمريكية، في الشرق الأوسط، التي اتخذت لنفسها هدفاً ثابتاً، هو تشجيع الحرية والديمقراطية. ومع ذلك، فقد قبلت راضية، طوال العشرين عاماً الماضية، من دون احتجاج أو معارضة، استمرار الاحتلال الإسرائيلي، ومن ثم جاء اللوم المباشر عليها. فقد اجتمع في واشنطن، في 27 يناير 1988، أكثر من 500 مواطن يهودي ومسلم ومسيحي، وصدر عنهم، بيان طويل، انتهى بمطالبة حكومة الرئيس ريجان، بإعطاء قضية السلام في الشرق الأوسط الأولوية العاجلة، في سياسته الخارجية الحالية.

          وفى الوقت نفسه، تظاهرت أعداد كبيرة من اليهود الأرثوذكس، في أوائل يناير 1988م، ووزعوا المنشورات، أمام مبنى الأمم المتحدة، منددين بإسرائيل، مؤكدين أن الصهيونية لا تمثل اليهودي، وحرقوا العلم الإسرائيلي. كما ناشدت هذه الجماعات اليهودية، إسرائيل أن تتحرك؛ لإنهاء الاحتلال في بعض الأراضي العربية. وقد اضطر هذا الغضب السفير الإسرائيلي، لدى الولايات المتحدة، إلى الحضور إلى نيويورك، وعقد اجتماعات مع هذه الجماعات، بهدف احتواء نقدها الصريح لإسرائيل.

      ولكن ثمة ثلاث ملاحظات، على موقف الإعلام والرأي العام الأمريكي، من الانتفاضة هي:

أ.

من الصعب والخطأ التصور أن الرأي العام الأمريكي، أو وسائل إعلامه، قد تبنت القضية الفلسطينية، بين ليلة وضحاها. فقد انحصر الدور الإعلامي في إطار الصدق، في نقل أحداث الانتفاضة، ولأول مرة. وما تبع ذلك كان نتيجة غير متصورة، وغير مباشرة.

ب.

لم ينص أي تعليق، على تأييد صريح من قبل الرأي العام الأمريكي للقضية الفلسطينية. وإنما نظر إلى المشكلة القائمة، من وجهة نظر إنسانية بحتة، مع تفادي الجانب السياسي المباشر للقضية.

ج.

اكتفى الرأي العام الأمريكي بتوجيه اللوم إلى إسرائيل، باعتبار أن سياستها غير واقعية، ومنافية لما تدعو إليه من قيم غريبة، مثل الحرية والديمقراطية. كذلك، اتخذ اللوم في معظم الأحيان صيغة النصح؛ وأنه من صالح إسرائيل التصرف بأسلوب مختلف!



الصفحة الأولى الصفحة السابقة الصفحة التالية الصفحة الأخيرة