الصفحة الأولى الصفحة السابقة الصفحة التالية الصفحة الأخيرة    

موقف الإدارة الأمريكية

          مع تصاعد الأحداث، في الأراضي المحتلة، على نحو لم تشهده من قبل، جاء الموقف الأمريكي متحفظاً وفاتراً. فبعد فترة طويلة من الصمت (حوالي أسبوعين)، اقتصر رد الفعل الأمريكي على بيان مقتضب، أصدرته الخارجية الأمريكية، في أواخر ديسمبر 1987، يناشد الجانبين ضبط النفس. ولم يتعد البيان وصف الأوضاع الدامية، التي تعيشها الأراضي المحتلة، كما لم يحمل في طياته أي إدانة مباشرة لسلطات الاحتلال الإسرائيلي.

          غير أن فشل القوات الإسرائيلية، في احتواء الانتفاضة، وإدانة الرأي العام العالمي بشدة، ولأول مرة، لأعمال العنف الإسرائيلي، ترتب عليه، موقف متخبط ومتردد، من قبل الإدارة الأمريكية، بعد خروجها عن صمتها. ففي الكونجرس، وعلى الرغم من تجاهل الرئيس ريجان، تماماً، لأوضاع الضفة في بيانه السّنوي والأخير، أمام الكونجرس الأمريكي، في 1987، والمعروف باسم "خطاب الاتحاد"، ومرة أخرى في خطابه أمام مجلس الشيوخ والنواب مجتمعين.

          وعلى الرغم من ذلك، أشار ريتشارد ميرفي، مساعد وزير الخارجية الأمريكي، في بيان له أمام اللجنة الفرعية لشؤون الشرق الأوسط، بمجلس النواب، في منتصف ديسمبر 1988م إلى أن التقرير السنوي، الذي تعده الخارجية الأمريكية، يؤكد أن الإجراءات الأمنية الإسرائيلية في الأراضي المحتلة، تخالف كل المواثيق الدولية. كما أكد أن واشنطن ناقشت كثيراً بعض الممارسات الإسرائيلية العنيفة، مع الحكومة الإسرائيلية، من دون جدوى. ووصف الموقف الفلسطيني بأنه واقعي؛ لأنه يتطلع إلى إمكانية التسوية السياسية المستقبلية، وليس عنفاً لمجرد العنف أو الإرهاب!!

          كما عكس الموقف الأمريكي، في اجتماعات الأمم المتحدة، سياسة التردد والتخبط، وهو ما وصف من قبل جميع الأطراف، بأنه موقف متناقض ومثير للدهشة. فعند انعقاد أولى اجتماعات مجلس الأمن في 22 ديسمبر 1987م، التزم المبعوث الأمريكي بالصمت، واكتفى بمراقبة ما يحدث داخل المجلس، ثم امتنع عن التصويت لقرار، يشجب أعمال العنف الإسرائيلي، ويدعو الحكومة الإسرائيلية الالتزام بنصوص معاهدة جنيف، الخاصة بحماية المدنيين وقت الحرب، غير أنه أكد صراحة خارج قاعة المجلس عن قلقه البالغ، لتصاعد التوتر في الأراضي المحتلة.

          فيما بعد، حدث تحول واضح في الموقف الأمريكي، أدى إلى توتر العلاقات الأمريكية الإسرائيلية. فقد صوتت الولايات المتحدة، لأول مرة، لصالح قرار مجلس الأمن، الذي يطالب إسرائيل بالعدول عن سياسة العنف، ويناشدها الالتزام بنصوص معاهدة جنيف. وقد أكدت الولايات المتحدة موقفها هذا، مرة أخرى، بالامتناع عن استخدام حق النقض (الفيتو) لمنع صدور قرار المجلس في 14 يناير 1988، الذي يشجب، بشدة، ما تتبعه إسرائيل من سياسات، في الضفة الغربية وغزة، ويطالبها مرة ثالثة، بالالتزام فوراً باتفاقية جنيف.

          وقد جاء رد الفعل الإسرائيلي عنيفاً، في التصريحات، التي أدلى بها إسحق شامير، حيث وصف الموقف الأمريكي في مجلس الأمن، بأنه "مبالغ فيه ومنافق".وأكد عزم الحكومة الإسرائيلية على مواصلة أسلوب القوة، وأن حكومته لن تقبل النصح، أو التهديد، من قبل الإدارة الأمريكية، فيما يتعلق بالأسلوب، الذي تنتهجه، للمحافظة على استتباب الأمن "الداخلي" الإسرائيلي! بل تمادى المسؤولون الإسرائيليون، في غضبهم، إلى حد توجيه القذف المباشر إلى كل من الإدارة الأمريكية وبريطانيا، والإشارة إلى قصف الأولى لليبيا، وسياسة القمع والتعذيب، التي تنتهجها الثانية في أيرلندا الشمالية.

          إزاء تصاعد التوتر، في العلاقات الأمريكية الإسرائيلية، والتحدي السّافر، من قبل مسؤولي الحكومة الإسرائيلية، لسياسة الولايات المتحدة، تراجعت الأخيرة عن موقفها المعتدل، واستخدمت، في أول فبراير 1988م، حق النقض (الفيتو)، لإحباط مشروع القرار المقدم في مجلس الأمن، بإدانة الانتهاكات الإسرائيلية لحقوق الإنسان، في الضفة الغربية وغزة، على الرغم من إجماع كل الدول الأخرى، على التصويت لصالح هذا القرار، وعلى الرغم من الجهود، التي بذلها المجلس في إعداد صيغة مشروع القرار، تجنباً "للفيتو" الأمريكي.

          وعلى الرغم من أن هذا الموقف الأمريكي، جاء مخيباً للآمال العربية، والتوقعات العالمية، ومثيراً للدهشة والاستنكار معاً، فإنه يعكس مدى نجاح الانتفاضة، في فرض واقع جديد على المصالح الأمريكية، في الشرق الأوسط، ومن ثم وضع قيود غير مسبقة، على التزامها المطلق تجاه إسرائيل.

       وقد ارتكز الدور الأمريكي على محورٍ ذي اتجاهين متوازيين:

الأول:

تأكيد الولايات المتحدة، صراحة، عزمها احتواء الأزمة، وإيجاد حل سريع وعاجل، ليكون خطوة مبدئية لتسوية القضية الفلسطينية. وقد اجتمع جورج شولتز، وزير الخارجية الأمريكي، في 28 يناير 1988م، بكل من حنا سنيورا، وفايز أبو رحمة، وهما فلسطينيان معتدلان، لمناقشة المطالب الفلسطينية، بعد أن نجحت الولايات المتحدة في إقناع إسرائيل بالسماح لهذين الزعيمين بالسفر إلى الولايات المتحدة.
كما نشّطت الولايات المتحدة، في فبراير 1988، جهودها الدبلوماسية، عن طريق إرسال كل من مساعد وزير الخارجية الأمريكي، ريتشارد ميرفى، ثم وزير الخارجية جورج شولتز، في جولات مكوكية إلى الشرق الأوسط، تستهدف محاولات إقناع الأطراف المعنية، بالمقترحات الأمريكية الجديدة، التي تنص على منح الحكم الذاتي المؤقت للشعب الفلسطيني، في الأراضي المحتلة، ابتداء من سبتمبر 1988.

الثاني:

التزمت الإدارة الأمريكية، بعدم إدانة السلطات الإسرائيلية، صراحة، بأي شكل من الأشكال، ويتضح ذلك، جلياً، في تصريحات ريجان، في حديث أدلى به إلى رئيس تحرير الأهرام، في الجمعة 29/1/1988 ـ ويدل على حرص شديد، من جانب الإدارة، على عدم إثارة غضب إسرائيل: فقد تعمد ريجان "عدم استخدام لفظ" الشعب الفلسطينى، لما يحويه، من تصريح ضمني، بحقوق الشعب. كذلك لم يحدد موقفه من الإجماع الدولي، فلم يؤيده أو يعارضه.

          كما اتهم كلا الطرفين ـ الإسرائيلي والفلسطيني ـ فأكد ضرورة تمتع "جميع" الأطراف، بقدر كاف من الإحساس بالواقعية، ولم يختص إسرائيل وحدها.

          والخلاصة أنه، في ضوء التذبذب الواضح للسياسة الأمريكية، تظهر ثلاث حقائق رئيسية:

1.

تبدو الإدارة الأمريكية غير جادة، في السعي للتوصل إلى تسوية عادلة، من شأنها احتواء التّصاعد الخطير، في أحداث الضفة وغزة.

2.

لا تستطيع واشنطن فرض ضغوط، أو عقوبات عسكرية، أو اقتصادية على إسرائيل، لقبول عقد مؤتمر للسلام، من شأنه الإضرار بمصلحة إسرائيل، التي تعامل معاملة الحليف والشريك، بمقتضى اتفاق التعاون الإستراتيجي المشترك، بين البلدين، الذي يفرض قيوداً عديدة، تعمل على شل حركة الجهود الدبلوماسية الأمريكية، وتحديد قدرتها على التفاوض واتخاذ القرار.

3.

إن الأسلوب الوحيد، الذي تستطيع واشنطن اتخاذه، هو محاولة إقناع الحكومة الإسرائيلية، بأنه في صالحها، هي أولاً وأخيراً، قبول الحل السلمي؛ لإنقاذ صورتها أمام الرأي العام العالمي.

          وقد ظّل الموقف الأمريكي، حتى الآن عام 2000م، يتجنب إدانة إسرائيل، ولكنه يحاول أن يلعب دور "الوسيط" أكثر من "الشريك" على الرغم من أن القضية وصلت إلى "عنق الزجاجة"، وإسرائيل ما زالت تراوغ في تنفيذ التزاماتها للمرحلة النهائية.



الصفحة الأولى الصفحة السابقة الصفحة التالية الصفحة الأخيرة