الصفحة الأولى الصفحة السابقة الصفحة التالية الصفحة الأخيرة    

 
الشكل الرقم (1)الفكرة العامة لعملية الغزو الأرجنتيني 1 أبريل 1982
الشكل الرقم (2)أعمال القتال للاستيلاء على ستانلي 1-2 أبريل 1982
الشكل الرقم (3)استرجاع جزيرة جورجيا الجنوبية عملية ثلاجة فورتونا
الشكل الرقم (4)استرجاع جزيرة جورجيا الجنوبية عملية خليج كمبرلاند
الشكل الرقم (5)استرجاع جزيرة جورجيا الجنوبية عملية خليج ستورمنس
الشكل الرقم (6)استرجاع جزيرة جورجيا الجنوبية الهجوم على الغواصة سانتافي
الشكل الرقم (7)أعمال القتال الافتتاحية للجانبين 1 مايو 1982
الشكل الرقم (8)إغراق الطراد جنرال بلجرانو والمدمرة شيفلد 2، 4 مايو 1982
الشكل الرقم (9)الإبرار البريطاني في منطقة سان كارلوس 21 مايو 1982
الشكل الرقم (10)احتلال رأس الشاطئ والتقدم نحو الأهداف المرحلية الأولى 21 مايو - 1 يونيو
الشكل الرقم (11)معركة جوس جرين 27-29 مايو 1982
الشكل الرقم (12)استيلاء اللواء الثالث على خط المرتفعات الثاني 11-12 يونيو 1982
الشكل الرقم (13)الهجوم البريطاني الأخير وسقوط ستانلي 13-14 يونيو 1982
الشكل الرقم (14)معركة ويرلس ريدج 13-14 يونيو 1982
 
الخريطة الرقم (1)مسرح حرب فوكلاند
الخريطة الرقم (2)مسرح عمليات فوكلاند 2 أبريل - 14 يونيه 1982
الخريطة الرقم (3)جزر فوكلاند
الخريطة الرقم (4)جزيرة جورجيا الجنوبية (سوث جورجيا)
الخريطة الرقم (5)جزيرة جورجيا الجنوبية (منطقة العمليات)
الخريطة الرقم (6)حدود مناطق الحظر البريطانية والأرجنتينية

ثانياً: الدروس المستفادة

الدروس الاستراتيجية:
أهمية التحالفات السياسية والعسكرية:

                     أكدَّت حرب "فوكلاند" الدرس القديم الذي يتعلق بالدور المؤثر الذي تلعبه التحالفات السياسية والعسكرية لأحد أطراف الصراع ـ وخاصة إذا كان هذا الطرف من الدول الكبرى ـ على مجريات الصراع ونتائجه لصالح ذلك الطرف على حساب الطرف الآخر الذي لا يتمتع بمثل تلك التحالفات، فقد كان لعضوية المملكة المتحدة الفاعلة في كل من حلف "الناتو" و"السوق الأوروبية المشتركة" أثره الكبير في مساندة كل من دول الحلف والسوق للموقف السياسي البريطاني في الأمم المتحدة عندما تفجرت أزمة "فوكلاند"، كما دعمت دول السوق الموقف العسكري البريطاني بإصدارها ـ مبكراً ـ قرار الحظر على مشتريات الأرجنتين من الأسلحة والعتاد والذخائر من تلك الدول، وكان لذلك القرار آثاره السلبية على القدرات العسكرية للأرجنتين، وخاصة بالنسبة إلى قواتها الجوية والبحرية.

          أما الولايات المتحدة فكان دعمها العسكري للمملكة المتحدة مباشراً وكثيفاً، فعلى ضوء الدراسة التي أجرتها قيادة القوات البحرية الأمريكية للموقف العسكري البريطاني عندما تصاعدت أزمة "فوكلاند"، وجدت تلك القيادة أن قدرة المملكة المتحدة على الدعم الإداري لقوة الواجب هشَّة وضعيفة، ممَّا قد يؤدي إلى خسارتها الحرب، ومن ثمَّ بدأت الولايات المتحدة في تقديم مساعدات عسكرية ضخمة ابتداءً من شهر أبريل 1982، قبل أن يقرر مجلس الأمن القومي الأمريكي في الأول من مايو دعم المملكة المتحدة عسكرياً.

          وعلى ذلك أقامت الولايات المتحدة غرفة عمليات مركزية في "البنتاجون" لبحث وإرسال احتياجات الدعم العسكري من الأسلحة والعتاد والوقود إلى المملكة المتحدة على مدار الساعة، كما وفَّرت تلك الحليفة إمكانات كبيرة لتحلية الماء والإعاشة في جزيرة "أسنشن" ـ التي كان لها فيها قاعدة عسكرية قبل أن يقوم البريطانيون بحشد قواتهم فيها ـ ودفعت بمخزون كبير من الاحتياجات الإدارية إلى تلك الجزيرة لدعم أسطول قوة الواجب.

          وتوضح القائمة التالية أبرز أصناف الدعم العسكري التي قدمتها الولايات المتحدة لبريطانيا خلال الحرب.

الأسلحة:

200 صاروخ "سايد وندر AIM-9L" جو/ جو.
أنظمة صواريخ "ستنجر" مضادة للطائرات.
مدافع "فولكان" للدفاع الجوي.
صواريخ "شرايك" مضادة لرادرات الدفاع الجوي.
صواريخ "هاربون" مضادة للسفن.

الذخائـر:

عبوات مشاعل لأنظمة M-130.
قذائف إنارة عيار 60 مليمتراً لمدافع المورتار (الهاون).
ذخائر عيار 40 مليمتراً شديدة الانفجار.
ذخائر متنوعة أخرى.

العتـاد:

محركات طائرات عمودية "شينوك CH-47".
4700
طن أرضية مطارات.
18 حاوية للإسقاط الجوي.
350 صمام أكزوست للطوربيدات.
مهمات اكتشاف الغواصات.
أطباق أقمار صناعية وأنظمة اتصالات مؤمنة عبر تلك الأقمار.
أجهزة رؤية ليلية.

الوقـود:

12,5 مليون جالون وقود لطائرات "فولكان" و"فكتور" و"نمرود"، و"سي 130".

          وقد أثبتت الحرب حيوية الدعم السابق لأعمال القتال البريطانية، وخاصة صواريخ "سايدوندر M9L" التي مكنت طائرات "الهارير" البريطانية من التفوق على المقاتلات الأرجنتينية في القتال الجوي.

          ولم يكن الدعم السابق هو كل ما قدمته الولايات المتحدة لدعم الموقف العسكري البريطاني، فقد وضعت الأخيرة تسهيلاتها الإلكترونية في جنوب "شيلي" في متناول البريطانيين، وفي وقت متأخر من الحرب حركت الولايات المتحدة قمراً صناعيا أمريكياً ليغطي جزر "فوكلاند"، وزودت المخابرات البريطانية بما يبثه ذلك القمر من معلومات عن تطور أوضاع القوات الأرجنتينية في الجزر، كما زودت القيادة البريطانية بالتقنية الخاصة بفك رموز الشفرة الأرجنتينية لاستخدامها بواسطة مراكز المخابرات والاستطلاع، كما وضعت الولايات المتحدة خطة طوارئ لدعم الأسطول البريطاني بإحدى سفن الاقتحام البرمائي إذا ما فُقدت إحدى السفينتين البريطانيتين.

          أمّا الأرجنتين فلم تحظ بمثل الدعم الأوروبي أو الأمريكي للمملكة المتحدة، بل إن التوتر المستمر بينها وبين إحدى جاراتها (شيلي) أجبرها على إبقاء العديد من قواتها جيدة التدريب على الحدود مع جارتها، في الوقت الذي حد فيه الحظر الأوروبي على تصدير الأسلحة والعتاد والذخائر إلى الأرجنتين من قدراتها العسكرية وخاصة بالنسبة إلى بعض الأسلحة والذخائر الحيوية اللازمة لقواتها الجوية والبحرية، فعلى سبيل المثال كان كل ما تسلمته الأرجنتين من صواريخ "إكسوست" لطائرات "سوبر اتندار" لا يزيد عن خمسة صواريخ واعتذرت فرنسا عن تزويدها بباقي الصفقة المتعاقدة عليها من هذه الصواريخ في ظل قرار الحظر، وكانت هذه الصواريخ كفيلة بتغيير الموقف العسكري في مسرح العمليات لو توفرت للأرجنتين أعداد كافية منها لتكرار الهجمات الجوية لإغراق إحدى حاملتي الطائرات البريطانية، غير أن الأعداد المحدودة من هذه الصواريخ وطائرات "سوبر اتندار" أجبرت القيادة الأرجنتينية على استخدامها بحذر مرتين، أغرقت في المرة الأولى المدمرة "شيفلد"، كما أغرقت في الثانية سفينة الحاويات "أتلانتك كونفيور" بما عليها من طائرات عمودية ومخزونات إدارية.

استمرار الاحتكام إلى الحروب التقليدية على الرغم من امتلاك الأسلحة النووية

          أكّدت حرب "فوكلاند" أنه على الرغم من التطور الكبير في مجال الأسلحة النووية، فلا زالت الدول المختلفة ـ حتى التي تمتلك مثل تلك الأسلحة ـ تلجأ إلى الحروب التقليدية عند الاحتكام إلى السلاح لحسم منازعاتها مع الدول الأخرى، وهو درس قديم برز خلال الحرب الكورية وأكدته حروب الدول الكبرى فيما تلاها من حروب، مثل "العدوان الثلاثي على مصر" و"حرب فيتنام" و"حرب أفغانستان"، وأخيراً "حرب فوكلاند"، وقد أكدت كل الحروب السابقة، أنه على الرغم من تزايد الترسانات النووية لدى العديد من دول العالم، فإن دور الأسلحة الأخيرة لازال محصوراً في إطار استراتيجية الردع وتحقيق التوازن الاستراتيجي بين الدول النووية بعضها وبعض.

أهمية توفير المعلومات الموقوتة والقراءة الصحيحة لها بالنسبة إلى القرار السياسي الصحيح:

          أكّدت حرب "فوكلاند" أحد الدروس القديمة التي اُستخلصت من حروب الماضي، فقد أوضحت "لجنة فرانكس" التي شُكلت بعد حرب "فوكلاند" لتقصي حقائق هذه الحرب في تقريرها، أن قرارات الحكومة البريطانية لمعالجة تلك الأزمة قبل اندلاع الحرب بُنيت على التقديرات الخاطئة لوزارة الخارجية من ناحية وتقييم الاستخبارات البريطانية الخاطئ لموقف الأرجنتين السياسي والعسكري والأحداث السابقة للغزو من ناحية أخرى، كما كان هناك قصور فادح في المعلومات التي توفرت عن القيادة الأرجنتينية الجديدة وقواتها المسلحة وأوضاع تلك القوات، حيث أوضح تقرير تلك اللجنة (الفقرة 264) أنه "... على الرغم من أن الحكومة البريطانية لم تتلق أي إنذار مبكر بالغزو، فقد كان يجب أن يكون لديها معلومات أكثر شمولاً وأهمية عن التحركات العسكرية للأرجنتين، وحقيقة الأمر أنه لم يكن هناك أية تغطية لهذه التحركات، ولم يتوفر ثمة دليل لدى الحكومة من صور الأقمار الصناعية بهذا الخصوص ..." (الملحق الرقم 17).

          وفي الفقرة رقم (313) أكد ذلك التقرير أنه "نتيجة لعدم توفر إمكانات التغطية للتحركات العسكرية داخل الأرجنتين فلم تتوفر أية معلومات استخبارات مسبقة عن بنية القوة البحرية الأرجنتينية وتجميعها، وهي القوة التي قامت بالغزو"، كما لم تكن هناك أية معلومات استخبارات من المصادر الأمريكية أو غيرها تشير إلى أن القوة التي نُشرت في عرض البحر قبل الغزو كانت تستهدف شيئاً آخر غير المناورات البحرية العادية (الملحق 17).

          كما أكد نفس التقرير (الفقرة 294) أنه "على الرغم من إدراك المسئولين في وزارة الخارجية والكومنولث في بداية عام 1982 بأن الموقف يتجه نحو المواجهة، فقد رسخ في اعتقادهم أن الأرجنتين لن تتجه الى الحرب قبل أن تفشل المفاوضات، وأنه سيكون هناك سلسلة من الإجراءات السياسية والاقتصادية المتصاعدة قبل اللجوء إلى الحرب، وأكدت تقديرات وزارة الخارجية وأجهزة المخابرات البريطانية أنه "لن يحدث أي إجراء، ناهيك عن غزو الجزر، قبل النصف الثاني من العام".

          وفي الفقرة رقم (302) من تقرير اللجنة المشار إليها أوضحت تلك اللجنة "أن المسئولين في وزارة الخارجية والكومنولث لم يقدروا بدرجة كافية ـ في ذلك الوقت ـ إمكانية تغير موقف الأرجنتين أثناء محادثات شهر فبراير أو في أعقابها، ولم يولوا اهتماماً كافياً للعناصر الجديدة في الحكومة الأرجنتينية، والتي كانت مصدراً للتهديد".

          أمّا بالنسبة إلى خطأ تقييم الموقف الأرجنتيني واستخلاص الاستنتاجات الصحيحة منه، فقد أوضحت الفقرة (316) من تقرير "لجنة فرانكس" خطأ تقييم هيئة الاستخبارات البريطانية المشتركة للشواهد والدلائل التي كانت تشير إلى تغير موقف القيادة السياسية الأرجنتينية واتجاهها إلى تصعيد الموقف نحو المواجهة.

          وقد أوضحت "لجنة فرانكس" في سياق تقريرها أن ما شاب معالجة الحكومة البريطانية للأزمة التي أدَّت إلى الحرب يعود بالدرجة الأولى إلى نقص المعلومات التي توفرت عن القيادة الأرجنتينية وقواتها المسلحة من ناحية وخطأ تقييم الأحداث والمعلومات الخاصة بالأرجنتين من ناحية أخرى. وقد أوضحت الدراسات البريطانية بعد الحرب أنه ما كان ينبغي أن تفاجأ المملكة المتحدة بالغزو الأرجنتيني، فقد كان لديها من الإمكانات والوسائل ما يمنع الأرجنتين من تحقيق المفاجأة، خاصة وأن الأجهزة البريطانية كان يمكنها اختراق الاتصالات الدبلوماسية والعسكرية الأرجنتينية بالإضافة إلى استخلاص الاستنتاجات الصحيحة من الدلائل والشواهد والتصريحات المعلنة.

          ومن هنا تبرز أهمية تكريس الدولة لإمكاناتها المتاحة لجمع المعلومات اللازمة عن العدو وتنسيق الأجهزة القائمة بذلك على الصعيدين السياسي والعسكري، والتقييم الصحيح لهذه المعلومات واستخلاص الاستنتاجات السليمة اللازمة لاتخاذ القرارات السياسية والعسكرية الصحيحة، وهو ما أوصت به "لجنة فرانكس" في تقريرها.

تزايد أهمية الأقمار الصناعية في مجالات الاتصالات والاستطلاع والقيادة والسيطرة:

          اعتمدت القيادة البريطانية خلال حملتها لاستعادة جزر "فوكلاند" على المعلومات التي وفرتها الأقمار الصناعية الأمريكية، وقد استمرت أعمال الاستطلاع لمسرح الحرب بالأقمار الصناعية طوال الحرب، سواء من جانب الولايات المتحدة أو الاتحاد السوفيتي، وقد قامت الأولى بتغيير مدار أحد أقمارها الخاصة بالاستطلاع بالصور لتوفر للمملكة المتحدة أفضل تغطية لمسرح العمليات، ولم تكن أقمار الاستطلاع السوفيتية أقل نشاطاً في هذا الشأن، فقط غطَّت تلك الأقمار كل مسرح العمليات جنوب الأطلنطي، فضلاً عن المملكة المتحدة.

          وقد زودت الولايات المتحدة بريطانيا بنسخ من الصور التي أخذتها أقمارها، والعديد من المعلومات التي رصدتها أقمار الاستطلاع الإلكتروني، أما الأرجنتينيون فقد نفوا بشدة حصولهم على أي دعم من الاتحاد السوفيتي في هذا المجال، وان كانت هناك دلائل تشير إلى حصولهم على بعض المعلومات من الاتحاد السوفيتي.

          وفي مجال القيادة والسيطرة، كانت قيادة الحملة في "نورث وود" وقيادة أسطول قوة الواجب ـ سواء في جزيرة "أسنشن" في البداية أو في جنوب الأطلنطي فيما بعد ـ تعتمد اعتماداً كاملاً على تسهيلات المواصلات المؤمنة التي وفرتها لها الأقمار الصناعية الأمريكية، كما كان للقيادتين السابقتين حرية الاتصال بالأقمار العسكرية وأنظمة الاتصالات الأمريكية المؤمنة، وهو أمر لم يكن متاحاً لسيطرة القيادة البرية للحملة على وحداتها أثناء تقدمها عَبْر الأراضي الوعرة لجزيرة "فوكلاند الشرقية"، مما أدى إلى انقطاع الاتصالات بين تلك القيادة ووحداتها بواسطة الأجهزة اللاسلكية العادية في تلك الأراضي، وكانت مبادرات قادة الوحدات هي التي كانت تنقذ الموقف دائماً عند انقطاع هذه الاتصالات.

          وكان يمكن للبريطانيين أن يتعرضوا لمشاكل كثيرة لو لم يحصلوا على تسهيلات الاتصال عبر الأقمار الصناعية الأمريكية، فقد كانت سفنهم تفتقر لنظم القيادة والسيطرة والاتصالات المؤمَّنة في العمليات المشتركة على مثل تلك المسافات التي جرت عليها تلك العمليات خلال الحرب.

الأهمية القصوى للتأمين الإداري خاصة في مسارح العمليات البعيدة

          تزداد أهمية التأمين الإداري في مسارح العمليات البعيدة حيث تطول خطوط المواصلات وتزداد درجة تعرضها لأعمال قتال العدو البحرية والجوية، وقد كانت حرب "فوكلاند" مجالاً خصباً لإبراز هذا الدرس، فقد واجه الطرفان مشاكل جمة في مجالات التأمين الإداري عبر خطوط مواصلاتهما الطويلة، وخاصة بالنسبة إلى استعواض الخسائر، كما حدث بعد غرق السفينة "أتلانتك كونفيور" بما عليها من طائرات عمودية وقطع غيار، حيث أدى فقد هذه السفينة إلى مشاكل جمة في النقل الجوي التكتيكي للقوات البريطانية، واختناقات عديدة في مجال صيانة أسلحتها ومعداتها وطائراتها.

          وقد أسفرت تلك الحرب عن عدة دروس في مجال التأمين الإداري كان أبرزها:

أهمية مساهمة المصادر المدنية في تأمين احتياجات القوات المسلحة في الحرب والأزمات، وكان هذا الدرس أبرز ما يكون في مجال النقل البحري، حيث وفرَّت عملية تعبئة واستئجار خمس وخمسين سفينة مدنية بريطانية طاقة نقل ضخمة بلغت 675038 طن على النحو التالي:

عبارات لنقل القوات وعتادها

:

13 سفينة حمولتها 215339 طناً.

سفن إمداد

:

4 سفن حمولتها 315615 طناً.

سفن معاونة

:

15 سفينة حمولتها 49912 طناً.

ناقلات بترول

:

23 ناقلة حمولتها 374172 طناً.

          وقد سمحت حمولات هذه السفن بنقل مائة ألف طن من الاحتياجات والأسلحة والعتاد، وتسعة آلاف فرد، بالإضافة إلى خمس وتسعين طائرة وطائرة عمودية.          

تزايد معدلات الاستهلاك العالية في الأسلحة والذخائر والمعدات أكثر مما كان متوقعاً، مما دفع القيادة البريطانية إلى تلبية احتياجات حملتها على حساب مخزون حلف "الناتو"، الأمر الذي يحتم زيادة المرتبات ومخزونات الاحتياطي من تلك الأصناف لتوفير القدرة على الاستمرار في القتال، كما يتطلب وجود جهاز إداري مرن قادر على تلبية احتياجات القوات المسلحة، سواء في مسارح العمليات القريبة أو البعيدة.

أهمية التزود بالوقود جواً لزيادة مدى عمل الطائرات المختلفة، فعلى الجانب البريطاني سمح تجهيز أغلب الطائرات بمعدات التزود بالوقود جواً لطائرات النقل والقاذفات والاستطلاع القيام بمهامها عبر آلاف الأميال من قواعدها في المملكة المتحدة أو جزيرة "أسنشن"، كما سمح لطائرات "الهارير" بالطيران دون توقف من الجزيرة الأخيرة حتى منطقة انتشار الحاملات في جنوب الأطلنطي، أما على الجانب الأرجنتيني، فقد أدَّى عدم تجهيز طائرات القتال بمعدات التزود بالوقود جواً (عدا طائرات سوبر اتندار) إلى قصر فترة بقاء الطائرات فوق أهدافها والاقتصار على هجمة واحدة لكل طائرة مع تجنب القتال الجوي، الأمر الذي قلَّل من قدرة الطائرات الأرجنتينية على العمل وَحَّد من قدرتها على المناورة لتجنب الدفاعات البريطانية.

أهمية توزيع احتياجات التأمين الإداري في عدة سفن، وعدم تركيز صنف واحد من الأسلحة أو الذخائر أو الاحتياجات في سفينة واحدة عند استخدام النقل البحري، لتجنب المشاكل الإدارية مثل التي حدثت عند غرق السفينة "أتلانتك كونفيور".

أبرزت التحركات البرية البريطانية قيمة الآليات القادرة على السير في كافة الأراضي، كما أبرزت الحرب أهمية الطائرات العمودية كأحد وسائل النقل والإبرار، وفاعليتها في أعمال القتال ضد السفن المعادية.

الدروس العملياتية العامة

          أكدت "حرب فوكلاند" العديد من الدروس العملياتية في الحروب السابقة، فقد أبرزت تلك الحرب أهمية التخطيط الجيد والدقيق على المستويات المختلفة، وأن يتسم ذلك التخطيط بالمرونة والقدرة على مواجهة المتغيرات وإمكانية استخدام البدائل في المواقف الطارئة التي يفرضها القتال، وخاصة في مسارح العمليات البعيدة، كما أكدت تلك الحرب أن التخطيط الجيد للعمليات وأعمال القتال، وإصرار القوات على تنفيذ مهامها كفيل بالتغلب على عدو متفوق عددياً، كما يؤدي إلى تقليل الخسائر المادية والبشرية، وهو ما ظهر واضحاً في معركة "جوس جرين" التي تغلبت فيها كتيبة المظليين الثانية على القوات الأرجنتينية المدافعة والتي كانت تتفوق عليها سواء من الناحية العددية أو مصادر النيران أو التجهيز الهندسي، الأمر الذي انعكس على الخسائر البشرية للجانبين، فبينما لم تزد خسائر القوات البريطانية عن سبعة عشر قتيلاً وخمسة وثلاثين جريحاً، فإن خسائر القوات الأرجنتينية بلغت نحو خمسين قتيلاً وأكثر من ألف أسير.

          كما أكدت حرب "فوكلاند" الأهمية القصوى لتحقيق السيطرة الجوية وخاصة مسارح العمليات البعيدة، حيث يصعب سرعة التدخل لدعم الوحدات المقاتلة أو استيعاض الخسائر، وقد دفع أسطول قوة الواجب ثمناً باهظاً نتيجة لعجز طائراته المحدودة العدد عن تحقيق السيطرة الجوية في مسرح العمليات، رغم نجاحه في تحقيق السيطرة البحرية وإجباره الأسطول الأرجنتيني على التزام سواحله في الوطن الأم بعد إغراق الطراد "جنرال بلجرانو" في الثاني من مايو.

          كما أكدت تلك الحرب على أهمية التعاون الوثيق، سواء بين أفرع القوات المسلحة أو بين وحدات هذه الأفرع المشتركة في العملية، وكانت الحملة البريطانية لاستعادة جزر "فوكلاند" مثالاً جيداً لإبراز ذلك الدرس، والتأكيد على أن التعاون على المستويات الاستراتيجية والعملياتية والتكتيكية أحد الأسس الرئيسية التي لا غنى عنها لتحقيق الأهداف الاستراتيجية للحرب، وخاصة في مسارح العمليات البعيدة، فقد كان لتعاون القوات البريطانية الثلاث (البرية والبحرية والجوية) خلال مراحل الحرب المختلفة أثره الكبير في نجاح الحملة البريطانية لاستعادة جزر "فوكلاند"، وهو أمر افتقدته القوات الأرجنتينية التي وقع على عاتق قواتها الجوية العبء الرئيسي في تلك الحرب بعد انسحاب قواتها البحرية إلى سواحل الأرجنتين في أعقاب غرق الطراد "جنرال بلجرانو"

دروس الحرب البرية
المشاة

          لقد غلبت أعمال قتال المشاة على المعارك البرية، ولم يستفد الأرجنتينيون كثيراً من مدرعاتهم، كما كان البريطانيون مقيدين في استعمال مدرعاتهم ودباباتهم الخفيفة بطبيعة الأرض، وكان عليهم الاعتماد بدرجة كبيرة على المسيرات الطويلة وقتال المشاة القريب.

          وقد أبرزت حملة "فوكلاند" أهمية العمليات الليلية وأعمال قتال الدوريات والإغارات الجريئة، كما أبرز القتال قيمة تفوق أسلحة المشاة وعتادها وهو ما ظهر واضحاً في "جوس جرين" وجبل "لونجدون"، عندما سمحت أسلحة المشاة المتفوقة للقوات الأرجنتينية المدافعة بإيقاف تقدم القوات البريطانية المهاجمة، ولم ينقذ القوات الأخيرة من عدة مواقف حرجة خلال المعارك البرية سوى الإسناد النيراني بالمدفعية والمعاونة الجوية، وقد أكدت تلك المعارك استمرار سيطرة البنادق الآلية الحديثة والرشاشات المتوسطة والثقيلة على معارك المشاة وخاصة في المناطق الجبلية التي لا تستطيع المدرعات من اقتحامها.

          كما أظهرت المعارك البرية بشكل واضح أهمية المواقع الدفاعية العميقة المجهزة هندسياً، ومواقع الرماية وحقول الألغام المحمية، وخطط النيران المدروسة سلفاً، والتي يمكن تغطيتها مباشرة بمدافع "المورتار" والرشاشات الثقيلة، وخاصة عند القتال في المناطق الجبلية حيث تقل فرص المدرعات للقيام بعمليات الاختراق والتطويق.

          وكان على القوات البريطانية المهاجمة أن تمطر المواقع الدفاعية الأرجنتينية بوابل من قذائف المدفعية البحرية ومدفعية الميدان وقنابل الطائرات قبل التقدم لاقتحام تلك المواقع الدفاعية الحصينة كما كان عليها أن تخوض قتالاً شرساً مع القوات الأرجنتينية في تلك المواقع قبل أن تتمكن من الاستيلاء عليها، ووفقاً لما جاء في بعض التقارير البريطانية الرسمية، فإن وحدات المشاة ما كانت تستطيع تحقيق مهامها خلال تلك الحملة لولا الإسناد النيراني الكثيف من المدفعية والطائرات.

          وقد أمكن للبريطانيين الاستفادة من نيران المدفعية البحرية الكلاسيكية والتي تعود للحرب العالمية الثانية لأن القوات الأرجنتينية كانت تفتقر إلى الأسلحة المناسبة للرد عليها، وكان يمكن للوضع أن يتغير لو كان لدى الأرجنتين في جزر "فوكلاند" أعداد كبيرة من المدفعية المجهزة بالرادار أو الصواريخ أرض/ سطح للدفاع الساحلي.

          وقد أكدت حرب "فوكلاند" ضرورة الاهتمام بالتدريب الجيد ورفع اللياقة البدنية لقوات المشاة، وتدريبها على السير على الأقدام لمسافات طويلة دون الاعتماد على وسائل النقل الميكانيكية لمواجهة المواقف الطارئة، وقد برز هذا الدرس جيداً بعد غرق السفينة "أتلانتك كونفيور" بما عليها من طائرات عمودية، ممَّا اضطر الكتيبة 45 كوماندوز وكتيبة المظليين الثالثة للسير على الأقدام نحو خمسين ميلاً (81 كم) في أراضٍ وعرة وطقس قارص البرودة بسبب الافتقار إلى وسائل النقل الميكانيكية البديلة.

المدرعات

          أثرت طبيعة الأرض الوعرة لجزر "فوكلاند" في استخدام المدرعات في تلك الحرب، وعلى الرغم من أن البريطانيين كانوا قادرين على استخدام مركباتهم المدرعة ودباباتهم الخفيفة للمساعدة في الانتقال من "سان كارلوس" إلى "بورت ستانلي" فقد كان يعوزهم الأعداد الكافية من تلك المركبات، وهو ما يعني أنه كان عليهم أن يعتمدوا كثيراً على أعمال النقل بالطائرات العمودية أو السير على الأقدام بكامل عدتهم.

          وقد أدى عدم وجود أرض مناسبة للمدرعات إلى خلق بعض المشاكل لوحدات الجيش البريطاني التي تدربت على القتال من ناقلات الجند المدرعة أكثر مما تدربت على أعمال قتال المشاة المترجلة، مثلما حدث لكتيبة "ولش جاردز" التي وجدت نفسها غير قادرة على التحرك سيراً على الأقدام مسافات طويلة مثل وحدات اللواء الثالث التي تحركت على المحور الشمالي.

          ولم تغب المدرعات تماماً عن القتال في حرب "فوكلاند"، فعلى الرغم من عزوف الأرجنتينيين عن استخدام دباباتهم الإثنتي عشرة من طراز "بانهارد 90" في معارك المدرعات، فقد اعتمد البريطانيون في معركة "بورت ستانلي" على الاستخدام واسع النطاق للمشاة المترجلة المدعومة بالمدرعات الخفيفة، وقد أحسن البريطانيون استخدام دباباتهم الخفيفة في المراحل الأخيرة من القتال.

المدفعيـة

          استخدم الجانبان في "حرب فوكلاند" تشكيلة من أنظمة المدفعية والصواريخ أرض/ أرض كان أكبر أعيرتها البرية هو الهاوتزر 155 مليمتراً، كما استخدم البريطانيون مدافع السفن من عيار 4.5 بوصة في الإسناد النيراني لأعمال قتال قواتهم البرية بالإضافة إلى مدفعيتهم وقواذفهم من عيار 105 مليمترات.

          وقد أكدت تلك الحرب أهمية الإسناد النيراني بالمدفعية لنجاح أعمال قتال المشاة وخاصة في العمليات الهجومية، بل إنه يمكن القول أن المشاة البريطانية ما كانت تستطيع تحقيق مهامها لولا ذلك الإسناد الذي بلغ 500 قذيفة في اليوم للمدفع الواحد، وقد أطلقت المدفعية البريطانية نحو ثمانية آلاف قذيفة في أعمال الإسناد النيراني للوحدات البريطانية.

          وقد مكَّن ضعف القصف الأرجنتيني المضاد البريطانيين من استخدام مدفعيتهم بأمان، كما مَكَّن استخدام الأراضي المرتفعة وحاسبات المدى بالليزر البريطانيين من الرماية المباشرة على الأهداف المنظورة بدقة كبيرة.

          وقد نجح البريطانيون في استخدام الطائرات العمودية للمناورة بوحدات المدفعية ونقل ذخائرها، على الرغم من الأعداد المحدودة من طائرات النقل العموديةالتي تبَّقت لديهم بعد غرق "أتلانتك كونفيور" على عكس الأرجنتينيين الذين كانت تحركاتهم بطيئة.

الألغـام

          اُستخدمت الألغام والموانع الصناعية بشكل واسع خلال "حرب فوكلاند" ويقدر الأرجنتينيون مجموع الألغام التي قاموا ببثها بنحو 27500 لغم منها ما لا يقل عن أربعة آلاف لغم ضد الدبابات، غير أن تلك الحرب أكدت مرة أخرى الدرس القديم وهو أن حقول الألغام تفقد قيمتها مهما كان عددها وكثافتها ما لم يتم تغطيتها بالنيران التي تمنع فتح الثغرات فيها، وهو ما فشل فيه الأرجنتينيون على الرغم من كثافة حقول ألغامهم وتعدد أنواع الألغام فيها.

          وقد مثلت حقول الألغام الأرجنتينية تقنيات مختلفة تراوحت بين القديم والحديث. ولم تكن الألغام قديمة الطراز تمثل تحدياً لكاشفات الألغام البريطانية، إلا أن الألغام الحديثة مثلت مشكلة كبيرة لتلك الكاشفات التي عجزت عن تحديد محلاتها، مما اضطر البريطانيون إلى إقامة أسوار من الأسلاك حول العديد من تلك الحقول بعد أن اضطروا إلى إيقاف جهودهم المضنية لإزالتها بعد الحرب.

          وقد ثبت أن الألغام الإيطالية من طراز "4 إس بي 33 4 SB 33" والألغام الأسبانية من طراز "بي 4 بي B 4 B" والألغام الأرجنتينية من طراز "إف كي 1 FK 1" المضادة للأفراد يصعب اكتشافها، خاصة وأن الكثير منها يجري بثها بدون حلقة الكشف التي تمكن الأرجنتينيين من إزالة ألغامهم، وعلى الرغم من إنفاق البريطانيين سبعة ملايين جنيهاً إسترلينياً في الأبحاث والجهود المتواصلة طوال أربع سنوات بعد الحرب، إلا أنهم لم يتوصلوا إلى طريقة لاكتشاف تلك الألغام، مما سيلقي على وحدات المهندسين العسكريين عبئاً ثقيلاً في حروب المستقبل لإزالة مثل هذه الألغام.

أنظمة الرؤية الليلية

          أدّت أجهزة الرؤية الليلية دوراً كبيراً في القتال الليلي الذي جرى على نطاق واسع خلال العمليات البرية، وقد اختار البريطانيون القتال الليلي للحد من خسائرهم والاستفادة من ستر الظلام في التغلب على الدفاعات الأرجنتينية الحصينة في المناطق الجبلية، إلا أنه يمكن القول أن أداء أجهزة الرؤية الليلية البريطانية كان سيئاً، حيث كانت تصاب بعمى مؤقت عند وقوع أي انفجار مضيء أو ظهور أي وميض ضوء، وقد أقر البريطانيون بقصور أجهزة الرؤية الليلية البريطانية التي استخدموها خلال الحرب، وأن الأجهزة التي أمدتهم بها الولايات المتحدة كانت أكثر تطوراً وساعدتهم على إدارة أعمال قتالية ليلية ناجحة على الرغم من قلة عددها، الأمر الذي يحتم ضرورة تزويد القوات البرية بأجهزة الرؤية الليلية الحديثة في أي حرب مستقبلية بعد أن أصبح القتال الليلي هو الأساس وليس الاستثناء عند الهجوم على المواقع الدفاعية المحصنة، وخاصة في غياب السيطرة الجوية.

دروس الحرب الجوية
عـام

          وقع العبء الرئيسي لأعمال القتال الجوية في تلك الحرب على عاتق أسراب القتال والطائرات العمودية على متن حاملتي الطائرات وسفن قوة الواجب البريطانية من ناحية، ومجموعات القتال الأرجنتينية العاملة من المطارات والقواعد الجوية في الوطن الأم من ناحية أخرى، حيث بلغت أعداد طلعات الأولى 2876 طلعة طائرة لأسراب القتال (كان معظمها لأغراض الحماية والدفاع الجوي) و10381 طلعة طائرة عمودية لأسراب الطائرات العمودية (كان معظمها لأغراض المعاونة والتأمين)، بينما بلغت أعداد طلعات الثانية 495 طلعة (تمثل معظم الطلعات الهجومية الأرجنتينية)، حيث كان الهدف الرئيسي لأسراب القتال البريطانية هو حماية قوة الواجب وتوفير الظروف الجوية الملائمة لأعمال قتال وحداتها، بينما كان الهدف الأساسي لمجموعات القتال الأرجنتينية هو إيقاع أكبر قدر من الخسائر في أسطول قوة الواجب، وقد انعكست الأهداف المختلفة للجانبين على طبيعة مهام كل منهما وأعمال قتاله لتنفيذها والدروس المستفادة منها.

          وكان أول وأبرز الدروس الجوية خلال حرب "فوكلاند" هو التأكيد مرة أخرى على أهمية السيطرة الجوية لنجاح العمليات البرية والبحرية بأقل قدر من الخسائر، وهو الدرس القديم الذي استُخلص من الحرب العالمية الثانية وأكدته كل الحروب التقليدية التي تلتها، فإزاء عجز أسراب قوة الواجب عن تحقيق السيطرة الجوية في منطقة العمليات، كان على سفن القتال في هذه القوة (الهدف الرئيسي طائرات القتال الأرجنتينية) أن تدفع فاتورة هذا العجز طوال الحرب على نحو ما أظهره جدول خسائر البحرية البريطانية، والتي تعود كلها إلى الهجمات الجوية الأرجنتينية، ولو أن القوات الجوية الأرجنتينية قد عالجت مشكلة عدم انفجار معظم القنابل التي تستخدمها طائراتها في هجماتها على السفن البريطانية، لكان لتلك الحرب منحيَّ آخر نتيجة حرية العمل النسبية التي تمتعت بها طائرات القتال الأرجنتينية.

          أما ثاني الدروس الجوية في حرب "فوكلاند" هو تأكيد أهمية القواعد الجوية المتقدمة وحاملات الطائرات وطائرات الصهريج عند العمل على مسافات بعيدة عن القواعد الجوية في الوطن (خارج مدى طائرات الدولة)، فبالنسبة إلى المملكة المتحدة فإنه لولا وضع تسهيلات القاعدة الجوية الأمريكية في جزيرة "أسنشن" في خدمة القوات الجوية والبحرية البريطانية، ووجود حاملتي الطائرات وأسراب طائرات الصهريج في خدمة تلك القوات، لما استطاعت الحكومة البريطانية شن حملتها لاستعادة جزر "فوكلاند"، كما أن عدم امتلاك البحرية البريطانية حاملات طائرات هجومية كبيرة في ذلك الوقت حَدَّ من قدرة المملكة المتحدة على حشد الأعداد الكافية من طائرات القتال لتحقيق السيطرة الجوية في مسرح العمليات، وقد أدى البعد الكبير لجزيرة "أسنشن" عن مسرح العمليات ووقوعها خارج مدى عمل المقاتلات والمقاتلات القاذفة البريطانية إلى إجبار قيادة القوات الجوية البريطانية على الاكتفاء باستخدام التسهيلات الجوية في تلك الجزيرة لتمركز بعض قاذفاتها العتيقة من طراز "فولكان"، التي كانت على وشك التخلص منها، والتي أكدت الحرب عدم فاعلية استخدامها.

          وعلى الجانب الأرجنتيني أدى عدم تجهيز مطارات "فوكلاند" لاستخدام طائرات القتال كما فعل البريطانيون بعد استعادة الجزر، وسحبهم للحاملة 15 مايو من منطقة العمليات إلى عجزهم عن حشد أعداد كبيرة من طائرات القتال خلال ضرباتهم الجوية التي كانت تتم على أقصى مدى لتلك الطائرات وبأعداد قليلة نسبياً في كل هجمة.

          وقد أكدت حرب "فوكلاند" أن القوة الجوية العضوية التي تعمل من فوق سفن السطح هي مفتاح النجاح في العمليات البحرية الكبرى التي تجري في مسارح العمليات البعيدة خارج مدى عمل الطائرات من قواعدها في أرض الدولة.

القتال الجوي

          لقد كانت الحرب الجوية في "فوكلاند" ـ في أحد جوانبها الرئيسية ـ صراعاً بين طائرات القتال الأرجنتينية وبين مقاتلات "سي هارير" البريطانية التي كانت مكلفة بحماية أسطول قوة الواجب بالتعاون مع وسائل الدفاع الجوي الذاتية لسفن ذلك الأسطول، وعلى الرغم من أن نتيجة القتال الجوي كانت لصالح البريطانيين على طول الخط، فلم يكن ذلك لافتقار الطيارين الأرجنتينيين إلى البسالة والكفاءة، فقد أظهر هؤلاء الطيارون شجاعة ومهارة في الهجوم على السفن البريطانية التي شهدت بها نتائج هجماتهم واعترف بها البريطانيون أنفسهم، غير أن القتال الجوي مع الطائرات البريطانية لم يكن هدفهم، حيث اقتضى عملهم على أقصى مدى لطائراتهم عدم التورط في قتال جوي مع الطائرات البريطانية، لأن أي اشتباك لبضع دقائق مع تلك الطائرات كان كفيلاً باستهلاك نسبة لا بأس بها من الوقود اللازم لعودة تلك الطائرات إلى قواعدها في الأرجنتين، ولذلك كانت تعليمات القيادة الأرجنتينية لطياريها تقضي بتجنب الاشتباك مع المقاتلات البريطانية تأميناً لسلامة عودتهم إلى قواعدهم، وقد استغل البريطانيون هذا القصور لإيقاع أكبر قدر من الخسائر في الطائرات الأرجنتينية.

          وإن اختلاف المهام الرئيسية لكل من طائرات القتال الأرجنتينية والبريطانية يجعل من الصعب استخلاص الدروس من القتال الجوي الذي جرى في معظمه في صورة هجمات جوية بريطانية على طائرات قتال أرجنتينية اختارت ـ عن قصد ـ عدم التورط في قتال جوي مكتفية بمناورات التخلص والهروب بعد تنفيذ مهامها حرصاً على كمية الوقود اللازمة لعودتها، وما من شك أن نتيجة القتال الجوي كانت ستختلف لو توفر للطائرات الأرجنتينية قدرة أكبر على البقاء في الجو وصواريخ مماثلة للصاروخ الأمريكي المتطور "سايد وندر AIM-9L" الذي زُودت به المقاتلات البريطانية عند تصاعد الأزمة، والذي يسمح بالاشتباك خلف مدى النظر وتعود إليه معظم خسائر الطائرات الأرجنتينية نتيجة القتال الجوي، أو لو توفر للأرجنتينيين القدرة على توجيه ضربات جوية شاملة بأعداد كبيرة من الطائرات أكثر من قدرات الصد لدوريات المقاتلات البريطانية.

          وقد أثبت الاستخدام القتالي لطائرات "سي هارير" في القتال الجوي فعالية ومرونة طائرات الإقلاع والهبوط الرأسي (VTOL)، كما أكد قدرتها على العمل بكفاءة من فوق سفن السطح، وهو ما سمح لها بالقيام بالعبء الرئيسي من أعمال القتال البريطانية في تلك الحرب، ومواجهة طائرات تفوقها في السرعة بفضل تزويدها بصواريخ جو/ جو أكثر تطوراً.

المعاونة الجوية والهجوم على السفن

          على الرغم من استخدام الجانبين للصواريخ الموجهة بفاعلية، سواء ضد السفن أو ضد بعض الأهداف البرية والرادارات، فقد كانت معظم الهجمات الجوية على الأهداف البرية والمطارات والسفن تتم باستخدام القنابل الحديدية التقليدية والتي أثبتت أنها لا زالت صالحة للاستخدام في عصر الصواريخ.

          فعلى الجانب البريطاني استخدمت تلك القنابل في الهجوم على المطارات والقوات البرية الأرجنتينية في جزر "فوكلاند"، أمّا على الجانب الأرجنتيني فباستثناء الهجوم على المدمرة "شيفلد" وسفينة الحاويات "أتلانتك كونفيور"، اللتين تعرضتا للهجوم بواسطة صواريخ "إكسوست"، فقد استخدمت القنابل الحديدية في الهجوم على باقي السفن البريطانية التي تمَّت إصابتها أو إغراقها، كما استخدمها الأرجنتينيون في الهجوم على القوات البرية البريطانية ومراكز قياداتها البرية، وقد أكدت الهجمات الجوية الأرجنتينية من الارتفاع المنخفض فعاليتها في اختراق الدفاعات الجوية البريطانية، وكان يمكنها أن تحقق خسائر أكبر للسفن البريطانية لو عالج الأرجنتينيون مشكلة قنابلهم التي لم تنفجر.

          ومن ناحية أخرى أكدت الهجمات الجوية باستخدام الصواريخ الموجهة فعاليتها سواء ضد سفن السطح أو الغواصات الطافية.

          وفي مجال المعاونة الجوية القريبة أثبتت طائرات "الهارير GR3" فعاليتها ومرونتها وقدرتها على العمل من الحاملات وأراضي الهبوط الميدانية الصغيرة، وهو ما سمح لها بتنفيذ 500 طلعة ضد القوات الأرجنتينية في جزر "فوكلاند" بأقل قدر من الخسائر على الرغم من أنها كانت أكثر تعرضاً للدفاعات الجوية الأرجنتينية من زميلتها البحرية من طراز "سي هارير".

الإنذار الجوي:

          عندما اشتعلت "حرب فوكلاند" كانت المملكة المتحدة لا تملك أي نظم إنذار جوي محمولة في الطائرات، وكان على أسطول قوة الواجب أن يدفع ثمن هذا القصور الخطير، والذي ضاعف من تأثيره ضعف شبكة الإنذار الجوي التي تعتمد على رادارات "الهارير" وسفن قوة الواجب، وقد ظهر مبكراً عدم كفاية النظام الأخير في مواجهة الطائرات الأرجنتينية التي كانت تقترب على ارتفاعات منخفضة، حيث كان ذلك الارتفاع لا يسمح باكتشافها قبل أن تصبح على مسافة 35-45 كيلومتراً من سفن التغطية الرادارية، وعلى هذا المدى كان يمكن للطائرات الأرجنتينية الارتفاع وإطلاق صواريخها أو الهجوم بقنابلها قبل أن تقوم سفن التغطية بأية إجراءات دفاعية فعالة، وقد كانت المدمرة " شيفلد" على سبيل المثال تقوم بمهمة التغطية الرادارية لمجموعة الحاملات عندما تعرَّضت للهجوم الجوي الأرجنتيني بصاروخ "إكسوست" أسكنها أعماق المحيط.

          وقد أكدت حرب "فوكلاند" الدرس القديم الذي دفع العرب ثمنه غالياً عام 1967، وهو أنه في ظل ظروف الحرب الجوية الحديثة وقدرة الطائرات المعادية على الاقتراب المنخفض من أهدافها، فإنه لا غنى عن نظم الإنذار المحمولة جواً لتعميق مدى الإنذار الجوي من ناحية، واكتشاف الأهداف المقتربة على ارتفاعات منخفضة من ناحية أخرى، وخاصة بالنسبة إلى الأساطيل البحرية وتشكيلات الطائرات التي تعمل بعيداً عن مدى المحطات الرادارية ثلاثية الأبعاد المُقامة على الشواطئ الصديقة.

          ولقد حاول البريطانيون استخدام طائرات "سي هارير" في مهام الإنذار الجوي، إلا أنهم كانوا مقيدين بعدد الطائرات المتاحة وقدرة الرادارات المجهزة بها تلك الطائرات، فلم يكن هناك سوى ثمان وعشرين طائرة من ذلك الطراز، كما كان جهاز رادار "بلوفوكس" المجهز به تلك الطائرات والمصمم أصلاً للقتال الجوي ـ غير قادر على الكشف في الاتجاه الأسفل، ومن ثمَّ كانت الطائرات الأرجنتينية التي تطير على ارتفاع منخفض قادرة على الإفلات من المراقبة الرادارية لتلك الطائرات أثناء وجود الأخيرة في الدوريات الجوية، ما لم يرها طيارو المقاتلات البريطانية بالعيْن المجردة.

          وعلى الجانب الآخر كان الأرجنتينيون يفتقرون أيضاً إلى نظام الإنذار المحمول جواً، غير أنهم حاولوا تعويض هذا القصور باستخدام طائرات "البوينج 707" في أعمال الاستطلاع الراداري في عرض المحيط بعيداً قدر الإمكان عن تهديد طائرات "الهارير" البريطانية، وعلى شواطئ جزر "فوكلاند" اعتمد الأرجنتينيون على أجهزة رادارات الدفاع الجوي المتحركة ثلاثية الأبعاد من طراز "تي بي إس-43، 44 TBS-43,44" لإنذار قواتهم وطائراتهم.

          وقد اعتمدت الطائرات الهجومية الأرجنتينية كثيراً على الرادارات الأخيرة، إلا أنه على الرغم من الأداء الجيد لتلك الرادارات فقد كان بها كثيرٌ من الثغرات من حيث المدى والتغطية ممَّا حَدَّ من قدراتها على تزويد الطائرات الأرجنتينية بالمعلومات الضرورية لها.

الدفاع المضاد للطائرات
المدفعية المضادة للطائرات

          استخدم الأرجنتينيون المدفعية المضادة للطائرات خلال الحرب في مهام الدفاع الجوي عن الأهداف البرية والجوية ودعم نيران المواقع الدفاعية البرية في المناطق التي تتمركز بها عند الحاجة، وقد ركز الأرجنتينيون أغلب مدافعهم المضادة للطائرات للدفاع الجوي عن مطار "بورت ستانلي" ومطار "كندور" بالقرب من "جوس جرين"، حيث خُصِّص للدفاع عن الأول بطاريتا مدفعية عيار 35 مم "أورليكون" ثنائية المواسير مزودة برادار "سوبر فيلد موس"، بالإضافة إلى بطارية مدافع عيار 20 مليمتراً مزودة برادار "سكاي جارد"، وقاذفات صواريخ أرض/ جو من طراز "رولاند" و"تايجر كات" و"أس. إيه. 7 SA7"، وكانت المهمة الرئيسية للوحدات السابقة هي الدفاع الجوي عن مدرج المطار. وقد أثبتت المدافع عيار 35 مليمتراً فاعليتها حتى ارتفاع 10000 قدم (3000 متر)، وصواريخ "تايجر كات" و"رولاند" حتى ارتفاع 12000 قدم (3600 متر)، غير أن راداراتها كانت تتعرض للتشويش بجهاز "إيه. إل. كيو-101 ALQ-101" المجهزة به طائرات "الفولكان" البريطانية كلما قامت تلك الطائرات بالهجوم على المطار.

          أما الدفاع المضاد للطائرات حول مطار "كندور" فقد تَشكَّل من ثمانية مدافع مزدوجة عيار 20 مليمتراً وقاذفيْ صواريخ أرض/ جو من طراز "إس. إيه. 7" ورادار "سكاي جارد" وآخر من طراز "ألفا"، وقد أصابت تلك المدافع إحدى طائرات "سي هارير" في الرابع من مايو، ونجحت في إجبار تلك الطائرات على البقاء بعيداً عن أجواء المنطقة، وقد فشلت مقاتلات "الهارير" في إسكاتها أيام 16، 17، 18 مايو، بينما نجحت تلك المدفعية في إسقاط طائرة "هارير" أخرى في السابع والعشرين من مايو، كما لعبت دوراً ناجحاً في تعطيل تقدم القوات البريطانية نحو "جوس جرين" في اليوم التالي.

          ويوضح الاستخدام الأرجنتيني الناجح للمدفعية المضادة للطائرات، سواء في مجال الدفاع الجوي أو الدفاع البري، أهمية الدور المزدوج للمدفعية المضادة للطائرات وخاصة بعد تعدد مواسيرها وتزويدها بأجهزة الرادار الحديثة، وعلى الرغم من التطور الذي حدث في مجال صواريخ الدفاع الجوي فلا يمكن الاستغناء عن المدفعية المضادة للطائرات، في الحرب الحديثة، خاصة ضد الطيران المنخفض.

          أمّا على الجانب الآخر، فقد اعتمد البريطانيون على نظم الصواريخ أرض (سطح)/ جو أكثر من اعتمادهم على المدفعية المضادة للطائرات، إلا أن نجاح الطائرات الأرجنتينية في اختراقات الدفاعات الجوية البريطانية عن قوة الواجب عدة مرات، وإغراق وإصابة سبع عشرة سفينة بريطانية نتيجة للهجمات الجوية كان يدعو من غير شك إلى إعادة النظر في نظام الدفاع الجوي الذاتي عن السفن في مسارح العمليات البعيدة، فقد أكدت نتائج الهجمات الجوية الأرجنتينية على ضرورة تجهيز السفن بأعداد كبيرة من المدافع والرشاشات ذات معدلات نيران عالية يتوفر لها القدرة على التعامل أوتوماتيكياً مع الطائرات المعادية، مع نشر هذه المدافع والرشاشات، والصواريخ الخفيفة الموجهة بنظام الأشعة تحت الحمراء مثل صواريخ "ستينجر" الأمريكية على سطح السفن بحيث تغطي الزوايا الميتة للصواريخ سطح/ جو المجهزة بها السفن.

الصواريخ أرض (سطح)/ جو

          استخدمت الصواريخ أرض (سطح)/ جو على نطاق واسع في حرب "فوكلاند" سواء للدفاع عن السفن والقوات البريطانية، أو للدفاع عن المطارات والأهداف الحيوية الأرجنتينية في جزر "فوكلاند"، وقد استخدم أسطول قوة الواجب صواريخ سطح/ جو من طراز "سي وولف" و"سي دارت" و"سي كات"، بينما استخدمت القوات البرية البريطانية صواريخ "رابير" و"بلو بايب" و"ستنجر".

          وطبقاً لبيانات وزارة الدفاع البريطانية التي أُذيعت بعد الحرب أن اثنتين وخمسين طائرة وطائرة عمودية أرجنتينية قد تم إسقاطها بواسطة الصواريخ أرض (سطح)/ جو البريطانية على النحو التالي:

خمس طائرات وطائرات عمودية بواسطة صواريخ "سي وولف".

ثماني طائرات وطائرات عمودية بواسطة صواريخ "سي دارت".

ثماني طائرات وطائرات عمودية بواسطة صواريخ "سي كات".

تسع طائرات وطائرات عمودية بواسطة صواريخ "بلو بايب".

أربع عشرة طائرة وطائرة عمودية بواسطة صواريخ "رابير".

ثماني طائرات وطائرات عمودية بواسطة الصواريخ الأخرى (غالباً "ستنجر").

          وهذه الأرقام تمثل 51% من جملة الطائرات والطائرات العمودية، التي اعترفت الأرجنتين بخسارتها في تلك الحرب (102 طائرة وطائرة عمودية)، ولما كان هناك نحو ثلاثين طائرة وطائرة عمودية أرجنتينية تمَّ تدمير بعضها على الأرض في مطارات "فوكلاند" واستولت الطائرات البريطانية على البعض الآخر في تلك المطارات، فإن نسبة الطائرات والطائرات العمودية، التي أسقطتها الصواريخ ترتفع إلى 72% من جملة الطائرات الأرجنتينية التي تم إسقاطها، وهي نسبة عالية إذا قورنت بنسبة الإسقاط في القتال الجوي والتي لم تزد عن 28%، وقد أكدت تلك الخسائر أهمية دور الصواريخ أرض (سطح)/ جو في منظومة الدفاع الجوي عن الدولة أو في مسارح العمليات البعيدة، وهو الدور الذي برز خلال حرب أكتوبر عام 1973 نتيجة للخسائر الجسيمة التي أنزلتها الصواريخ المصرية والسورية بالطائرات الإسرائيلية في تلك الحرب.

          ولم تكن نتائج الصواريخ أرض/ جو على الجانب الأرجنتيني أقل فاعلية، فعلى الرغم من أن خسائر الطائرات والطائرات العمودية البريطانية نتيجة لأعمال قتال العدو كانت أقل من نظيرتها الأرجنتينية (23 مقابل 60) فإن نحو 61% من تلك الخسائر كان نتيجة لأعمال قتال الدفاع الجوي الأرجنتيني وخاصة الصواريخ أرض/ جو، ونحو 39% منها نتيجة الهجمات الجوية الأرجنتينية على السفن المحملة بالطائرات العمودية.

          وعلى الرغم من النتائج السابقة للصواريخ أرض (سطح)/ جو، فقد أظهر الاستخدام الميداني لها عدداً من العيوب ونقاط الضعف في بعض طرازاتها، فبالنسبة إلى نظام صواريخ "رابير" ثبت أن الأجهزة الإلكترونية في هذا النظام شديدة الحساسية أكثر من اللازم عند التعامل الخشن معها، والذي غالباً ما يحدث في بيئة الحرب، وتبين أنه من بين الإثني عشر قاذفاً من قواذف هذه الصواريخ التي وُضعت في منطقة "سان كارلوس" في بداية الإنزال لحماية السفن البرمائية وقوات الإبرار كان هناك ثماني قواذف عاطلة عن العمل خلال اليوم الأول للإبرار، وهو أحرج أيام العملية "سَتْون". وقد أدت الأعطال المتزايدة لتلك الصواريخ وقلة المدفعية المضادة للطائرات على السفن البريطانية إلى كثرة عدد السفن التي أصيبت أو أُغرقت نتيجة للهجمات الجوية الأرجنتينية.

          أما صواريخ "بلوبايب" فكان أقصى ما حققته هو ثماني إصابات من بين مائة صاروخ تمَّ إطلاقها خلال الحرب، أي ما يساوي 8%، وهي نسبة منخفضة مقارنة بصواريخ "رابير" التي حققت نسبة 31% على الرغم من عيوبها السابقة، وقد أكدت تلك الحرب عدم فاعلية صاروخ "بلوبايب" ضد الأهداف العابرة والمقتربة، إلا أنه على الرغم من هذه العيوب فقد ساعد تزويد القوات البرية البريطانية بأعداد كبيرة من تلك الصواريخ الخفيفة على الحد من فعالية الهجمات الجوية الأرجنتينية ضد هذه القوات.

دروس الحرب البحرية

أهمية السيطرة الجوية لتأمين أعمال القتال البحرية

                     أكدت "حرب فوكلاند" مرة أخرى الأهمية البالغة للسيطرة الجوية وأثرها على الحرب البحرية، فحتى عام 1940 كان يمكن لأسطول يتكون من عدد كافٍ من السفن أن يذهب إلى أي مكان ويفعل ما يشاء في المحيطات والبحار المفتوحة، إلا أنه بعد أن بدأت القوة الجوية تلعب دورها البارز في الحرب العالمية الثانية وتنامى هذا الدور فيما تلاها من حروب، أصبحت القوة البحرية عاجزةَ عن القيام بدورها التقليدي السابق مادام العدو يملك السيطرة الجوية فوق تلك البحار، ومن ثمَّ بُنيت حاملات الطائرات كأحد العناصر الأساسية في تشكيل الأساطيل التي تجوب البحار لتوفر لتلك الأساطيل السيطرة الجوية اللازمة لها للقيام بدورها.

          ولما كانت طبيعة الحاملات وسعاتها عادة ما تكون أقل من المطارات على اليابسة فإنه من الصعب حشد الأعداد المطلوبة من الطائرات على متن الحاملات لتحقيق السيطرة الجوية في مواجهة عدو يعمل من مثل هذه المطارات إلا بزيادة عدد حاملات الطائرات أو تحقيق التفوق النوعي في القوة الجوية على متن تلك الحاملات، غير أنه عندما تصاعدت الأزمة بين المملكة المتحدة والأرجنتين حول جزر "فوكلاند" واحتكم الطرفان إلى السلاح لم يكن لدى الأولى سوى حاملتين صغيرتين لطائرات الإقلاع والهبوط الرأسي والطائرات العمودية وكانت طائرات "الهارير" هي الوحيدة من بين طائرات القتال البريطانية القادرة على العمل من هاتين الحاملتين، بينما كان نحو 60% من طائرات القتال الأرجنتينية التي تعمل من مطارات اليابسة، وطائرات بحريتها ـ التي يمكنها العمل من على متن حاملتها الوحيدة ـ قادرة على تهديد الأسطول البريطاني جنوب الأطلنطي.

          ولما كان التفوق النوعي في طائرات القتال في جانب الأرجنتين، فقد تمتعت الأخيرة بمزايا التفوق العددي والنوعي، الأمر الذي لم يسمح للبريطانيين بتحقيق السيطرة الجوية اللازمة لتأمين أسطولهم في منطقة العمليات البحرية حول جزر "فوكلاند"، غير أنه حَدَّ من التفوق الجوي الأرجنتيني المشار إليه افتقار الطيارين الأرجنتينيين للتدريب الكافي على العمل فوق البحر، واضطرارهم للقيام بمهامهم على أقصى مدى لطائراتهم ـ مما لا يوفر لهم وقود يسمح بالاشتباك ـ بينما كان البريطانيون أفضل تدريباً، واستغلوا تفوقهم العددي في الطيارين لزيادة معدل طلعات طائراتهم لتعويض قلة عددها، وتزويد تلك الطائرات بتسليح متفوق عوض قصورها النوعي، خاصة وأن أغلب أعمال القتال كانت تدور على الارتفاعات المنخفضة حيث لا يظهر مزايا التفوق النوعي لطائرات القتال الأرجنتينية.

          ونتيجة لعجز أسطول قوة الواجب عن تحقيق السيطرة الجوية في منطقة العمليات فقد دفع ذلك الأسطول ثمناً باهظاً من سفنه، حيث أُغرقت "شيفلد" بصاروخ موجه جو/ سطح أُطلق من هجوم جوي على ارتفاع منخفض بعد أن عجزت أجهزة الرادار المجهزة بها السفن البريطانية وطائرات "الهارير" عن رصد الطائرات الأرجنتينية قبل اطلاقها ذلك الصاروخ، كما احترقت "أتلانتك كونفيور" ثم أُغرقت نتيجة الهجوم عليها بصاروخ مماثل أما باقي السفن السبع التي فقدها أسطول قوة الواجب والعشر سفن التي دُمرت جزئياً من ذلك الأسطول، فقد جاءت خسائرها نتيجة الهجمات الجوية الأرجنتينية بالقنابل الحديدية التقليدية، وكان يمكن أن تتضاعف تلك الخسائر لو انفجرت كل القنابل التي أصابت السفن البريطانية.

أهمية نظم الأسلحة البحرية الحديثة وفعاليتها

                     على الرغم من عجز طائرات "الهارير" عن تحقيق السيطرة الجوية في حرب "فوكلاند" فإن من بين كل الأسلحة التي استخدمها الأسطول البريطاني في تلك الحرب كانت طائرات "سي هارير" هي الأكثر فعالية وبروزاً، وبدونها كان يمكن للمملكة المتحدة أن تخسر الحرب، فقد مكَّنها تسليحها وأجهزتها الإلكترونية المتفوقة وقدرتها العالية على المناورة، والمستوى العالي لطياريها من أن تكون نِداً لطائرات القتال الأرجنتينية التي واجهتها، الأمر الذي يبرز دور التقنية المتفوقة ومستوى التدريب العالي للطيارين والأطقم الفنية في رفع معامل الكفاءة النوعية لنظم الأسلحة.

          وبرز في تلك الحرب استخدام الجانبين للتقنية العالية كثيرة التكلفة، حيث استخدمت السفن والطائرات نظم أسلحة ومعدات إلكترونية متقدمة وخاصة بالنسبة إلى الصواريخ جو/ جو، وجو/ سطح، وأرض/ سطح، فضلاً عن استخدام معدات الحرب الإلكترونية والغواصات المزودة بمحركات نووية، والاتصالات المؤمَّنة المعتمدة على الأقمار الصناعية، الأمر الذي سيجعل المحللين مستقبلاً يتساءلون ـ عند تقييمهم للقدرات القتالية للسفن ـ عن كفاءة النظم الإلكترونية ونظم الأسلحة بتلك السفن ومعدات الحرب الإلكترونية المزودة بها، ومدى قدرة تلك السفن على البقاء في ظل الحرب البحرية الحديثة.

          وقد برز خلال الحرب عددٌ من نظم الأسلحة التي استخدمت لأول مرة في الحرب البحرية، فبالإضافة إلى طائرات "الهارير" البريطانية، أثبتت صواريخ "إكسوست" الفرنسية الأصل كفاءتها في تلك الحرب، وكان صاروخٌ واحدٌ منها كافياً لإغراق مدمرة حديثة مثل "شيفلد" أو سفينة كبيرة مثل "أتلانتك كونفيور"، وقد ثبت أن أفضل دفاع ضد مثل هذه الصواريخ يتطلب تدمير الطائرات التي تحملها قبل أن تطلق تلك الصواريخ، وهو الأمر الذي يحتم ضرورة وجود نظم إنذار جوي محمولة بالطائرات مع الأساطيل البحرية تكون قادرةَ على اكتشاف الطائرات المعادية المقتربة على ارتفاع منخفض على مسافة مائتي ميل حتى يتوفر الوقت اللازم للتعامل مع تلك الطائرات قبل إطلاق صواريخها على سفن الأسطول. كما أبرزت حملة "فوكلاند" أهمية الحرب الإلكترونية ضد الأهداف الطائرة بداية من اكتشافها والتعرف عليها (صديقة أم معادية) إلى الشوشرة عليها وإعمائها أو تدميرها.

وعلى صعيد بناء السفن، أثارت المتاعب الكثيرة التي عانت منها السفن البريطانية نتيجة للحرائق أسئلة عديدة حول المواد المستخدمة في عملية البناء، ونظم السيطرة على التدمير، وأسلوب مكافحة الحرائق، وأدت دروس تلك الحرب إلى صرف النظر تماماً عن استخدام الألومنيوم في بناء السفن الحربية بعد أن ثبت تأثره السريع بدرجات الحرارة العالية الناتجة من الحرائق، والعودة مرة أخرى إلى استخدام الصلب في بناء هياكل السفن، كما يشمل التغيير التقنيات المستخدمة في مكافحة الحريق والمعدات المستخدمة فيه.

سفن الأسطول التجاري

          أكدت "حرب فوكلاند" أهمية الأسطول التجاري، ليس فقط كاحتياطي ودعم لسفن المعاونة والتأمين الإداري والفني التابعة للأسطول الحربي، وإنما أيضاً كقواعد عائمة لإيواء الوحدات الاحتياطية لحين دفعها للاشتباك، ومستودعات طوارئ عائمة لاحتياجات الوحدات المقاتلة، كما سمح تجهيز بعض السفن التجارية بأسطح قوية باستخدام تلك السفن لإيواء الطائرات والطائرات العمودية سواء أثناء الرحلة البحرية أو إدارة العمليات حيث كانت تجرى لها أعمال الصيانة والإصلاح، وكان أبرز مثال على ذلك سفينة الحاويات "أتلانتك كونفيور" التي عملت ـ حتى غرقها ـ كحاملة معاونة.

          وقد تمَّ إدماج عدد كبير من السفن التجارية المستأجرة مع الأسطول الحربي وعملت عليها أطقم مشتركة وشارك بعضها في عمليات الإبرار في "سان كارلوس"، كما جُهز العديد من تلك السفن بأنظمة الاتصالات عَبْر الأقمار الصناعية، وعلى ذلك فإننا سنرى في المستقبل مزيداً من دمج السفن التجارية في الأساطيل الحربية وقت الأزمات والحروب ـ على ضوء تجربة "فوكلاند" ـ ليس فقط للقيام بأعمال المعاونة والتأمين الإداري والفني ولكن أيضاً للقيام بالأعمال شبه القتالية كما حدث في تلك الحرب، وهو ما يستوجب أن يُوضع في الاعتبار عند تصميم وبناء سفن المستقبل إمكانية استخدامها في الأغراض الحربية وتجهيزها بوسائل الدفاع الذاتية ضد الطائرات والغواصات عند الحاجة، فقد أثبتت "حرب فوكلاند" أن المملكة المتحدة ما كان يمكنها شن حملتها لاستعادة تلك الجزر دون الأعداد الكبيرة من سفن أسطولها التجاري التي قامت بتعبئتها واستئجارها لدعم أسطولها الحربي.

          وفي النهاية فإنه يمكن القول ـ في ضوء دروس حرب "فوكلاند" ـ إن السيطرة البحرية لم تفقد أهميتها في ظل بروز أهمية السيطرة الجوية، خاصة في مسارح العمليات البعيدة والتي يغلب عليها الطابع البحري، إلا أن السيطرة الجوية على مسرح العمليات مازالت هي مفتاح النصر ـ سواء في العمليات البحرية أو البرية أو الجوية ـ كما كان عليه الحال منذ الحرب العالمية الثانية، وهي العامل الذي لا غنى عنه لتحقيق السيطرة البحرية وتمكين القوات البرية والبحرية من القيام بدورها في الحرب.

          كما أبرزت "حرب فوكلاند" التكلفة العالية للحروب الحديثة حتى ولو كانت ضد إحدى دول العالم الثالث، فخلال الأربعة والسبعين يوماً التي استغرقتها حرب "فوكلاند" تكلفت المملكة المتحدة ما يزيد على 1.6 بليون جنيه إسترليني أي ما يقرب من ثلاثة بلايين دولار، كما تكلفت الأرجنتين ما يزيد قليلاً عن ذلك الرقم، وهو عبء ضخم دفع فاتورته الشعبان البريطاني والأرجنتيني ثمناً لحرب لم يسع إليها أحد.

ـــــــــــــــــــــ



الصفحة الأولى الصفحة السابقة الصفحة التالية الصفحة الأخيرة