إرشادات مقترحات البحث معلومات خط الزمن الفهارس الخرائط الصور الوثائق الأقسام

مقاتل من الصحراء
Home Page / الأقســام / العراق والكويت، الجذور ... الغزو ... التحرير / تطور الأوضاع السياسية، الدولية والإقليمية والعربية، في ضوء تصاعد الأزمة









مقدمة

المبحث الثامن

تطور الأوضاع السياسية، في ضوء تصاعد الأزمة، بدءاً من 8 يناير 1991

أولاً: اجتماع جنيف

وفي يوم الثلاثاء، 8 يناير 1991، أعلن الرئيس جورج بوش، أنه لم يرسل وزير خارجيته إلى جنيف لتقديم تنازلات، أو لعرض حلول وسط، بل إن الهدف من الاجتماع، هو إعطاء صدام حسين فرصة، قد تكون الأخيرة، لحل الأزمة بالوسائل السلمية، قبْل حلول الموعد النهائي، الذي حدَّده مجلس الأمن، بعد أسبوع. ووجّه كلامه إلى دول التحالف، قائلاً: "إننا ندخل المرحلة الأكثر خطورة من هذه الأزمة. إن العراق يصل، في الأيام المقبلة، إلى الموعد النهائي، الذي يؤكد حدود صبر العالم المتمدن. وإن موعد 15 يناير، ليس موعداً لبدء النزاع المسلح؛ وإنما هو موعد نهائي، لكي يختار صدام حسين السلام على الحرب". وقال، بعد استقباله وزير خارجية ألمانيا، هانز ديتريش جينشر: "من المهم ألاّ نرسل إشارات متباينة، وأن نفعل ما في وسعنا، لإقناع صدام حسين، بأن المجتمع الدولي جادّ في نياته".

وفي يوم الأربعاء، 9 يناير 1991، جلس طارق عزيز وجيمس بيكر، وجهاً لوجه، حول مائدة اجتماعات، في إحدى قاعات فندق "الإنتركونتننتال"، في جنيف. وبدأ الاجتماع، الذي كان العالم كله يتطلع إليه، من خلال ثلاث جلسات، استغرقت 6 ساعات كاملة (أُنظر وثيقة نص المحضر العراقي لمحادثات وزير الخارجية الأمريكي، جيمس بيكر مع وزير الخارجية العراقي، طارق عزيز في جنيف يوم الأربعاء، 9 يناير 1990).

الجلسة الأولى

بيكر:          هذا اجتماع مهم جداّ. فنحن نجتمع كممثلَين لدولتَين ذاتَي سيادة. إن الغرض من هذا الاجتماع، ليس ضغط بعضنا على بعض، بأي صفة. ولكن يجب أن لا يكون مفاجئاً لكم، أني لست هنا لإعادة التفاوض في شأن قرارات المجتمع الدولي، التي صدرت عن مجلس الأمن. ولكن أنا هنا لكي أتصل بكم؛ وهذا لا يشمل الحديث فقط، بل الإنصات، كذلك. ولذا، فإني لست راغباً في الحديث فحسب، بل في الإنصات كذلك. وآمل أن يكون لديكم الرغبة عينها، الإنصات إلى جانب الحديث. وسأبدأ بالطريقة، التي تفضّلونها، إمّا أن تبدأوا، إذا فضّلتم، أو أكون أنا البادئ، ولكن، قبْل أن تبدأوا، أودّ أن أسلّمكم رسالة من الرئيس بوش إلى الرئيس صدام حسين. وهذه نسخة من الرسالة لكم.

طارق عزيز:     شكراً، سيادة الوزير. إنني أرغب، فعلاً، في أن يكون هذا اللقاء لقاءً مثمراً. وأعتقد أن السبيل إلى ذلك، هو أن ينصت بعضنا إلى بعض. أنا أعرف موقفكم. وأعرف أن بيننا خلافات كبيرة. ولكني، كما قلت، مستعد للإنصات لكم، كما أرحب باستعدادكم للإنصات لما أقول. أمّا بالنسبة إلى الرسالة، التي سلّمتني إياها، فاسمح لي، أولاً، أن أقرأها.

بيكر:     تفضّلوا؛ ولهذا السبب قدَّمتها إليكم، وستسلّم نسخة من الترجمة العربية، إلى سفيركم في واشنطن[1].

    وفضّ طارق عزيز الظرف، وبدأ يقرأ المظروف. وكانت الرسالة تتلخص في الآتي (أنظر وثيقة نص رسالة الرئيس الأمريكي، جورج بوش إلى الرئيس العراقي صدام حسين في 5 يناير 1991 وأذاعها البيت الأبيض مساء السبت، 12 يناير 1991)، (والنص الإنجليزي للوثيقة):

·    نقف، اليوم، على شفا حرب بين العراق والعالَم، بسبب غزو الكويت.

·    لا يئد هذه الحرب إلاّ امتثال العراق الكامل، وغير المشروط، لقرار مجلس الأمن، الرقم 678.

·    اتحد المجتمع الدولي على دعوة العراق إلى الانسحاب من أراضي الكويت كلها، من دون شرط، ومن دون أي تأخير. وعبّر عن ذلك، في ما لا يقلّ عن 12 قراراً لمجلس الأمن.

·    لن يكون هناك مكافأة للعدوان، ولن يكون ثمة مفاوضات.

·    إن لم تنسحب القوات العراقية من الكويت، من دون شروط، فسيخسر العراق ما هو أكثر من الكويت. والقضية، هنا، ليست مستقبل الكويت؛ فهي ستتحرر؛ وحكومتها ستعود، وإنما هو مستقبل العراق. ودونك الخيار.

·    لا يغرنّك (يقول بوش لصدام) تنوّع الآراء؛ فهذه هي الديموقراطية الأمريكية. وعليك أن تبعِد عن ذهنك أي إغراء كهذا؛ إذ يجب التفريق بين التنوع والانقسام.

·    إذا اندلعت الحرب، فسيكون وبالها أشد عليك وعلى بلدك (الخطاب لصدام) منه على سائر أطرافها. وإنني أؤكد لك، أن الولايات المتحدة الأمريكية، لن تقبل باستخدام أسلحة، كيماوية أو بيولوجية، أو مساندة أي نوع من الأعمال الإرهابية، أو تدمير حقول النفط الكويتية ومنشآتها. وسيطالب الشعب الأمريكي بأقوى ردّ ممكن على مثل هذه الأعمال. وستدفع أنت وبلدك، ثمناً رهيباً، إذا أصدرتَ الأوامر بتنفيذ بأعمال شنيعة، من هذا النوع.

وبعد أن قرأ طارق عزيز الرسالة، قال مخاطباً وزير الخارجية الأمريكي: "سيادة الوزير، في بدء حديثكم، قلتم إن هدف الاجتماع، ليس ضغط بعضنا على بعض. وقد قرأتُ رسالة الرئيس جورج بوش إلى رئيسي، وهي مملوءة بعبارات التهديد. كما أن لغتها غير مألوفة في التخاطب بين رؤساء الدول. لذلك، فإني أعتذر عن تسلُّمها. وفي إمكانكم أن تنشروها عبْر وسائل الإعلام. وسنردّ عليها بوسائلنا". و"إنني أرجو ألاّ يعطل ذلك اجتماعنا، لأننا نرغب، فعلاً، في أن نتحدث؛ فنحن لم نتحدث منذ بدء هذه الأزمة. كما هو معروف، فإن شعبَينا مقبِلان على مواجَهة. ومن المفيد، قبْل الشروع في مثل هذه المواجَهة، أن نستكشف كل الإمكانات، التي يمكن أن تبني تفاهماً بين بلدَينا. لذلك، فإني لا أستطيع أن أقبَل لغة رسالة الرئيس بوش، مع أنه ذكر أنه لا يقصد التهديد، وإنما الإبلاغ. أنا أفضل أن يبلغ بعضنا بعضاً موقفه بأسلوب متحضر، يعبّر عن الاحترام المتبادل. وإذا وفقنا الله للوصول إلى تفاهم، فهذا أمر جيد. وإذا لم نوفَّق؛ وهذا ما لا نتمناه، فعندئذ، كلٌّ يعرف طريقه. حول بدء العمل، أرغب في الاستماع إلى الوزير بيكر، أولاً".

وتحدث بيكر، وقال: "أولاً، أرجو أن أكون واضحاً. إني لا أرى في هذه الرسالة لغة غير متحضرة. ثانياً، من الضروري جداً، أن يفهم بعضنا بعضاً، وأن الهدف من هذه الرسالة، أن نجعل ما نقوله منذ أشهر عديدة واضحاً جداً. كما تُظهر الرسالة، أن المجتمع الدولي جاد جداً في فرض القرارات الاثني عشر، الصادرة عن مجلس الأمن. لا أستطيع أن أجبرك على أخذ هذه الرسالة، ولن أحاول.

وتلخص حديث جيمس بيكر، بعد ذلك، في الآتي:

·    لا نستطيع أن نناقش أحكام قرارات مجلس الأمن، ولا أن نعيد التفاوض فيها.

·    سنغلق سفارتنا في بغداد، في 12 يناير 1991. ونحن نريد أن نخرج الدبلوماسيين الخمسة، الباقين فيها، وأن تسحبوا كل دبلوماسييكم من واشنطن.

·    لا يزال هناك فرصة لحل سلمي، شريطة الانسحاب من الكويت، من دون قيد أو شرط.

·    ستكون العواقب مدمرة للعراق المعزول، لو استخدمت القوة العسكرية. وإنني أقول إن المقصود، ليس التهديد، بل الإبلاغ.

·    إذا بدأ الصراع، فإنه سيكون ضخماً، ولن يكون فيتنام أخرى.

·    إذا استُعملت الأسلحة، الكيماوية أو البيولوجية، ضد قواتنا، فإن الشعب الأمريكي، سيطالب بالثأر. ولدى استخدام مثل هذه الأسلحة، فإن هدفنا لن يكون تحرير الكويت فقط، وإنما إطاحة النظام الحالي. وإن أي شخص مسؤول عن استخدام هذه الأسلحة، سيكون عرضة للمساءلة، في المستقبل.

·    ستدمر الحرب كل شيء، كافحتم من أجْل بنائه، في العراق.

·    لا تسيئوا تفسير الأحداث الكثيرة، التي تسمعونها عن مجتمعنا الديموقراطي.

·    لن تُهاجَموا، إذا استجبتم لقرارات مجلس الأمن. لن نهجم على بلدكم أو قواتكم، وذلك في حالة وجود استجابة كاملة للقرارات. وفي هذه الحالة، لن نحتفظ بقوات عسكرية كبيرة، في الخليج.

·    نؤيد فكرة حل الخلافات بين العراق والكويت، سلماً، بعد الانسحاب، كما يدعو إلى ذلك القرار الرقم 660.

ردّ طارق عزيز على نظيره الأمريكي، فقال: "أنتم قلتم إن كل هذا، بدأ في 2 أغسطس 1990. لكن لدينا وجهة نظر مختلفة. ويسعدني أن تتاح لي الفرصة، لأشرح لك ولزملائك وجهة نظرنا". وانبرى طارق عزيز يلخص وجهة النظر العراقية في ما يلي:

·    نحن نعرف الحرب وتكاليفها. والشعب العراقي يحبنا، ويحب قيادته ويؤيدها، وهذه حقيقة. وإذا نشبت الحرب بيننا وبينكم، فإننا نحن الذين سننتصر. أقول هذا من دون غرور. والحرب لا تخيف العراق.

·    إن قواتنا كانت قوة لحفظ التوازن، ولحماية أمن المنطقة واستقرارها.

·    حكام الكويت السابقون، أوصلوا العراق إلى حافة الانهيار الاقتصادي. وفي قمة بغداد، تحدث الرئيس صدام حسين مع كل القادة العرب، بحضور الملك فهد، وجابر، وزايد. وقال إن ما يعمد إليه بعض الدول، من إغراق السوق بالنفط، هو حرب ضد العراق.

·    العراق لا يدعو إلى التفاوض في قرارات مجلس الأمن. ليست هذه هي المسألة الأساسية، وإنما المسألة الأساسية، هل نعمل معاً، نحن والآخرون في المنطقة وفي العالم؟ هل نعمل من أجْل سلام شامل، ودائم، وعادل، في كل المنطقة، لكي تعيش كل شعوبها بأمن وسلام واستقرار، أو لا؟

·    العراق يربط انسحابه من الكويت بتنفيذ كل قرارات الأمم المتحدة، وعلى رأسها ما يتعلق منها بالقضية الفلسطينية. وإذا كنتم مستعدين للعمل من أجْل أن يستتب السلام والعدالة والاستقرار والأمن، في كل المنطقة، فستجدوننا في مقدمة المتعاونين معكم.

الجلسة الثانية

    في بدايتها، علق طارق عزيز على حديث جيمس بيكر في الجلسة الأولى. ثم قال:

·    "الآن، نحن مستعدون للبحث في إطار البحث للتسوية الشاملة للأوضاع في المنطقة. نحن مستعدون لتصفية كل أسلحة الدمار الشامل، النووية والكيماوية والبيولوجية، في المنطقة. وحول المخاوف والشكوك والادعاءات حول إمكانيات العراق النووية، نحن بلد موقع على معاهدة حظر انتشار الأسلحة النووية، ومنشآتنا المتواضعة جداً، تخضع للتفتيش المستمر. لكن حليفتكم، إسرائيل، التي لا تثيرون أي ضجة حول امتلاكها للسلاح النووي، وليست موقِّعة على هذه الاتفاقية، وترفض التوقيع عليها، وترفض الزيارة والتحقيق في منشآتها" (أُنظر وثيقة نص المحضر العراقي لمحادثات وزير الخارجية الأمريكي، جيمس بيكر مع وزير الخارجية العراقي، طارق عزيز في جنيف يوم الأربعاء، 9 يناير 1990).

·    "إذاً، عندما نتحدث عن المعايير المزدوجة، فنحن لدينا أساس قوي لذلك، أساس ملموس. يبدو لنا أن موقف الولايات المتحدة، هو أن إسرائيل تستطيع أن تمتلك ما تريد من أسلحة، ولكن يحرم على العرب، أن يملكوا أي أسلحة، حتى للدفاع. هذا هو موقفنا من موضوع أسلحة الدمار الشامل. إنه موقف واضح، ومسؤول، وعادل. إذا امتلك الناس الذين يهددوننا أسلحة، فمن حقنا أن نمتلك أسلحة. ولكن إذا كانت هناك ترتيبات مضمونة، وعلى قاعدة التعامل بالمثل، لإزالة مثل هذه الأسلحة، فنحن مستعدون. أنت أخذت هذا التعهد مني، الآن، بشكل لا لَبْس فيه. ولكنك لا تستطيع أن تأخذ ما يشبهه من وزير خارجية إسرائيل، أو من رئيس وزرائها".

·    "إننا ننظر إلى قرارات مجلس الأمن، على أنها قرارات أمريكية ضد العراق. وأحد الأدلة على أنها قرارات أمريكية ضد العراق، أننا نجلس هنا، اليوم. إن الحوار لا يجري بيني وبين الأمين العام للأمم المتحدة، ولا بيني وبين وزير خارجية أثيوبيا وساحل العاج ورومانيا! تحولت هذه المواجَهة إلى مواجَهة بين أمريكا، من جهة، والعراق، من جهة أخرى. نعم، أنتم لديكم حلفاء، ونحن، أيضاً، لدينا حلفاء. يمكن أن حلفاءنا، لا يبدون على السطح، مثل حلفائكم، أي دول يمكن ذكر أسمائها، وذلك بسبب الظروف المعقدة في المنطقة العربية. ولكننا لسنا بعيدين عن شعبنا، أقصد الأمّة العربية. العديد من العرب إلى جانبنا. وإذا حصلت مواجَهة بيننا، سيكون لكم حلفاؤكم، وسيكون لنا حلفاؤنا".

·    "نحن لا نعتبر أنفسنا أعداء للولايات المتحدة. مشكلتنا مع الولايات المتحدة، هي إسرائيل، وتأثركم بالسياسة الإسرائيلية. هذه هي المشكلة معكم، قبْل وبعْد 2 أغسطس. لو عالجنا هذه المسألة، بشكل جدي، وشمولي، وعلى قاعدة المشروعية الدولية، وعلى قاعدة العدل والإنصاف ـ فكثير من الخلافات بيننا، سنتغلب عليها، ولن نجد أنفسنا في وضع المواجَهة. ستجدني في واشنطن، أبحث معك قضايا التعاون، الاقتصادي والثقافي، وكذلك أجدك في بغداد، لنفس الهدف".          

          واستمر الحديث بين طارق عزيز وجيمس بيكر بين أخذٍ وردّ، حتى وصل إلى نقطة قال فيها طارق عزيز: "إننا نفهم سياستكم كما نراها الآن. إنكم تمارسون معنا، بالضبط، ما فعلتموه من قبْل مع الرئيس جمال عبدالناصر، سنة 1967".

الجلسة الثالثة

تحدث طارق عزيز، موضحاً أن العراق، أعلن، في 2 أغسطس 1990، أنه سيبدأ عملية انسحاب. وردّ عليه بيكر، موضحاً أن الانسحاب من الكويت، لم يتحقق.          

ثم قال بيكر: "أرجوك، ألاّ تجعلوا قادتكم العسكريين يقنعونكم بأن الإستراتيجية، التي استخدمت ضد إيران، ستنجح هنا، وأنا أقصد المجتمع الدولي. إنكم، في الحقيقة، ستواجِهون قوة مختلفة تماماً. نحن سمعنا تصريحاتكم. إنه لو جرى هنا صراع جدي، ستكون هناك إصابات كثيرة. ولكن، في اعتقادنا، أن هذا لن يحدث" (أُنظر وثيقة نص المحضر العراقي محادثات وزير الخارجية الأمريكي، جيمس بيكر مع وزير الخارجية العراقي، طارق عزيز في جنيف يوم الأربعاء، 9 يناير 1990).

وفي نهاية الجلسة، قال جيمس بيكر: "إنني لا أقترح عملاً خاصاً، في هذا الصدد، لاستجابتكم لقرارات الأمم المتحدة. أنا كنت أوضح فقط موقف الولايات المتحدة".

وردّ طارق عزيز: "ولكن، هذا ما نسمعه من مصادر مختلفة، منذ حصلت الأحداث الأخيرة". واستطرد قائلاً: "إننا لن نعترف بالقرار الأخير لمجلس الأمن، وكذلك القرارات الأخرى، لأنها ظالمة، ومجحفة، وصدرت، كأحكام غيابية، ضد بلد مستقل، هو العراق. لذلك، فالتعامل مع هذا التاريخ (يقصد 15 يناير 1991)، هو أمر متروك لكم، وأقول لك، بالنسبة لنا، الأمر لم يتغير. أنا قلت لكم، منذ بداية الأحداث، ونحن نتوقع العمل العسكري، وقبْل صدور القرار الأخير من مجلس الأمن". ثم اختتم طارق عزيز حديثه، قائلاً: "أنا مسرور، أن هذا اللقاء قد تم. صحيح أن الخلافات عميقة بيننا، ولكننا استطعنا تبادل وجهات النظر. ولو حصل هذا في وقت مبكر، ربما كنا حصلنا على نتائج أفضل. والآن، أنتم تضعون موعداً نهائياً. إن العمل، السياسي والدبلوماسي، له قواعده، ويجب أن تشعر الأطراف، التي تقبِل على العمل السياسي، بأنها ليست مهددة وموضوعة تحت مطرقة، ولكي تفكر، بشكل بناء، تفكيراً من النوع، الذي يفتح آفاق المستقبل، وليس باتخاذ قرارات تحت الضغط. هذا لم يكن سلاماً، هذا استسلام. ونحن لن نقبَل الاستسلام. وشرحت لك الأسباب الجوهرية، التي تدفعنا إلى هذا. نحن نريد سلاماً شاملاً، ودائماً، سلاماً قائماً على العدل والإنصاف والمشروعية الدولية. هذه هي رغبتنا المخلصة".

وطال الحديث على هذا النحو، لنهار كامل؛ لأن الرسالة الحقيقية في هذا الاجتماع، تركزت كلها في الساعة الأولى منه. أمّا بقية النهار، فقد استغرقتها ثلاث جلسات، اقتصرت على مناقشات وحجج، طالما سمعت من قبْل. وفي الغالب، فإن جيمس بيكر لم يكن لديه مانع من أن تطول الاجتماعات، حتى يوحي للعالَم، بأنه بذل جهده في مفاوضات جادّة، ولكن عناد العراق، حال دون وصولها إلى نتيجة.

ومع تعدد الجلسات، توجس بعض العواصم العربية، أن يكون الاجتماع قد تحول إلى مفاوضات، وأن تكون هذه المفاوضات قابلة للتحول إلى نتائج، خصوصاً أن أنباء كثيرة، رددها الرئيس بوش نفسه توقعت أن يقرر العراق الانسحاب، في اللحظة الأخيرة، خالقاً واقعاً جديداً، يحتاج التكيّف معه إلى طرق اقتراب أخرى. وكان ذلك، بالفعل، ما توقعه تقرير رسمي، قدَّمه وليام وبستر، مدير وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية.

وازداد توجس بعض العرب، حينما أعلن، في الساعة السابعة، من مساء 9 يناير، بتوقيت جنيف، أن الوزيرَين، الأمريكي والعراقي، سيعقدان مؤتمراً صحفياً، في قاعة المؤتمرات، في فندق "الإنتركونتننتال". وما لبثوا أن تنفسوا الصعداء، حينما ظهر جيمس بيكر، في قاعة المؤتمرات، وحده، ليبدأ كلامه قائلاً: "إنه سوف يتحدث بما عنده، أولاً. وبعده، سوف يتحدث طارق عزيز".

وبدأ بيكر كلامه، أمام أكثر من أربعمائة من رجال الإعلام، قائلاً: "تحدثت، للتو، مع الرئيس بوش. وأعطيته تقريراً كاملاً عن اجتماعنا، اليوم. وقلت له إن الوزير طارق عزيز وأنا، قد فرغنا من حوار دبلوماسي جدي، وطويل، بهدف الوصول إلى حل سياسي للأزمة في الخليج. إنني قابلت الوزير طارق عزيز، اليوم، ليس للتفاوض، لأن ذلك ليس في مقدورنا، كما أوضحت له؛ فقرارات مجلس الأمن ليست قابلة للتفاوض. إننا اجتمعنا، اليوم، بقصد الاتصال، وليس بقصد التفاوض. والاتصال معناه أن نسمع ونتكلم، وقد فعلنا ذلك. وكانت الرسالة التي نقلتها من الرئيس بوش، ومن شركائنا في التحالف، أن العراق، يجب أن يمتثل لقرارات الأمم المتحدة، وينسحب من الكويت، وإلاّ فإنه سوف يطرد منها بالقوة. وإنني لآسف، أن أقول لكم، أيها السيدات والسادة، إنني لم أسمع، اليوم، شيئاً، يدل على مرونة في موقف العراق، ولا على استعداد للامتثال لقرارات مجلس الأمن".          

وبعد ذلك، غادر جيمس بيكر القاعة، ليدخلها طارق عزيز، الذي قال: "إنه جاء إلى هذا الاجتماع بقلب وعقل مفتوحَين وبنيّة صادقة. وإنه كان يتمنى أن يقع هذا الاتصال المباشر، بين الولايات المتحدة والعراق، في مرحلة مبكرة من الأزمة. فإن كل الفرص، التي كانت متاحة، أهدرت، فرصة بعد فرصة، حتى التقينا، هنا، في اللحظة الأخيرة". ثم قال: "إذا ما قررت الولايات المتحدة الاعتداء على العراق، فإن العراق لن يستغرب، فهو يسمع التهديد، كل يوم. وقد قلت للوزير بيكر إننا سندافع عن بلادنا، بكل قوة. وإن الشعب العراقي شعب شجاع، وإن الأمّة العربية، لن تقبَل إخضاع شعبها في العراق وكسر إرادته، لأن إرادته جزء من إرادتها".          

وبعد انتهاء لقاء جنيف، توجَّه جيمس بيكر، وزير خارجية الولايات المتحدة الأمريكية، إلى المملكة العربية السعودية، للقاء الملك فهد. فبمقتضى الاتفاق السري بين واشنطن والرياض، لا بدّ من الحصول على إذن من الملك فهد، قبل الشروع في أي عملية عسكرية هجومية، قد تشن من بلاده. وقد طلب جيمس بيكر، الآن، هذا الإذن، ووافق الملك فهد، سريعاً، طالباً فحسب أن يتلقّى إيذاناً مسبقاً فحسب بالحرب، قبْل بدئها.          

ووعد بيكر بأنه سيُبلغ هو نفسه الأمير بندر بن سلطان، سفير المملكة إلى واشنطن، قبْل أي هجوم. واتفقا على ضرورة وضع ترتيبات اتصال، شديدة الحذر، بين الأمير بندر، في واشنطن، والملك فهد، في الرياض. وحتى لا ينشغلا بنقل الرسائل، أو العثور على هواتف آمنة، اتفق الملك والأمير السفير على استخدام اسم رمزي، هو سليمان؛ وهو اسم أحد موظفي الأُسرة المالكة، حينما كان الأمير بندر طفلاً. فإذا ذكر بندر اسم سليمان، في مكالمة مع الملك فهد، فإن هذا يعني الحرب.

لقد أظهر الرئيس جورج بوش قدراً من المرونة، حينما وافق على لقاء وزير خارجيته وزير خارجية العراق، في حين كان يناقش، في الكونجرس، موضوع الحرب. ووافقت الإدارة الأمريكية، كحل وسط، على إيفاد جيمس بيكر إلى جنيف، في سويسرا، للقاء طارق عزيز. والغرض الوحيد، الذي حققته محادثات جنيف، هو أنها أثبتت، بشكل واضح، تشدّد كلٍّ من العراق والولايات المتحدة الأمريكية.

وبانتهاء محادثات جنيف، وجهت الإدارة الأمريكية كل اهتمامها إلى المناقشة، التي توشك أن تبدأ، في الكونجرس، حول الأزمة. وعلى مدى يومَين، دعا أعضاء من مجلسَي الشيوخ والنواب زملاءهم لتأييد أو رفض مشروع قرار، يمنح الرئيس سلطة استخدام القوات المسلحة للولايات المتحدة الأمريكية، في تنفيذ قرار مجلس الأمن، الرقم 678. وكان العديد من الكلمات مقنعاً ومجدياً، كما كان العديد منها غير مقنع. غير أنه في يوم السبت، 12 يناير 1991، وافق الكونجرس، بمجلسَيه، على قرار مشترك، يخول الإدارة التنفيذية السلطة، التي تعتقد الإدارة أنها تملكها بالفعل. وجاءت نتيجة التصويت في مصلحة القرار 52 ضد 47، في مجلس الشيوخ، و250 ضد 183 في مجلس النواب[2]. وبذلك، منح الكونجرس الرئيس بوش التصريح بدخول الحرب. وتضمن القرار صيغة قرار الأمم المتحدة، في شأن "كل الوسائل الضرورية"، لكنه يرخص بشكل محدَّد "باستخدام القوة العسكرية".

ويمكن القول، في هذا الوقت، إن مسرح العمليات، قد أُجيد إعداده، سياسياً وعسكرياً. وحاز الرئيس الأمريكي تصديقاً من الكونجرس، لا يقيد حركته، بل قوى مركزه أمام العالم، وأمام الشعب الأمريكي. وإن العد التنازلي لبدء العمليات العسكرية، قد بدأ.

ثانياً: لقاء بيريز دى كويلار وصدام حسين

وفي 9 يناير 1991[3]وبعد فشل محادثات جنيف، اتصل الرئيس بوش، هاتفياً، من كامب ديفيد، بالأمين العام للأمم المتحدة وطلب منه الذهاب إلى بغداد، ولو لساعات، يقابل، خلالها، صدام حسين. وحاول دى كويلار أن يعتذر عن أداء المهمة، لعدة أسباب، أبرزها:

·    إن الوقت تأخر، وإن العراقيين لن يأخذوا مهمته مأخذ الجدّ، وأغلب الظن، أنهم سيرونها نوعاً من "سد الخانات"، يستهدف إحداث أثر نفسي في العالَم، لا أكثر ولا أقلّ، وهو ما يسيء إلى هيبة الأمين العام للأمم المتحدة.

·    إنه إذا كان لا بدّ أن يذهب، فهو يفضّل أن يكون ممثلاً لمجلس الأمن، وهو ما يتطلب دعوة هذا المجلس. وهنا قاطعه بوش بقوله، إنه تحت أي ظرف من الظروف، لا ينبغي دعوة مجلس الأمن؛ إذ إنه قد أصدر قراره، ودعوته، مرة أخرى، إلى إصدار تحذير، في اللحظة الأخيرة، لا يحل شيئاً، وإنما قد يعطل كل شيء.

·    إنه مقيد باجتماع في أوروبا. ولا بدّ أن يكون هناك، يوم الإثنين، 14 يناير 1991.

ولم يكن الرئيس بوش على استعداد لقبول أعذار دى كويلار. وقد عرض الأمين العام أن يبعث ممثلاً شخصياً له إلى بغداد، ليذكرها بأن المهلة، التي حددها مجلس الأمن، قاربت يومها الأخير. إلاّ أن الرئيس الأمريكي، أصرّ، قائلاً: "إنه يريده أن يذهب إلى بغداد، ولو ساعة واحدة، ثم يتوجه منها إلى أوروبا"؛ إذ إن ذهاب الأمين العام للأمم المتحدة، شخصياً، وفي الدقيقة الأخيرة، سيجعل العالَم كله، يحس "مأسوية الموقف".

وكانت بغداد في دهشة من رسالة، جاءتها على غير انتظار، بعث بها الأمين العام للأمم المتحدة، يطلب موعداً عاجلاً مع الرئيس صدام حسين. وبعد ظهر السبت، 12 يناير 1990، وصل الأمين العام للأمم المتحدة إلى بغداد، في محاولة أخيرة لإقناع الرئيس صدام حسين بتنفيذ القرارات الدولية قبل انتهاء المهلة التي حددها مجلس الأمن في 15 يناير 1991. وأدلى بيريز دى كويلار في مطار بغداد بتصريح جاء فيه: "جئت بحسن النية والرغبة في التوصل إلى حل سلمي، لكنني مقتنع أيضاً بأنني أتيت برغبة المجتمع الدولي في حل سلمي". وأضاف أنه لا يعرف إلى متى سيبقى في بغداد.

ومساء يوم الأحد، 13 يناير 1991، كان دى كويلار جالساً وجهاً لوجه أمام الرئيس العراقي، ودار حوار بين الاثنين استمر وقتاً طويلاً، قال، خلاله، دى كويلار للرئيس صدام:

·    "إنكم قدَّمتم خدمة عظيمة للقضية الفلسطينية، لأنكم وضعتم مستقبل الفلسطينيين على خريطة العالم. وحتى الرئيس بوش، حين قابلته، يوم السبت[4] اتفق معي على أن القضية الفلسطينية، تحتاج إلى حل. وأنا لست رجلاً ساذجاً، لأتصور أننا نستطيع أن نحل هذه المشكلة، الليلة. وكل ما أريده هو أن تعطيني شيئاً، أستطيع أن أبني عليه موقفاً، يزيل التوتر، وأن أحرم دعاة الحرب فرصة، يظنونها مواتية. وهذا هو كل ما عندي".

·    "إنه يملك "دعم الاتحاد السوفيتي بالكامل"، كما عبر عنه الرئيس جورباتشوف، في 11 يناير 1991، وإنه التقى كلاًّ من الرئيس الفرنسي ووزير خارجية يوغوسلافيا، في 11 يناير 1991، في باريس، وكذلك عاهل الأردن، الملك حسين، مساء ذلك اليوم. إلاّ أن الأمين العام، من دون أن يكون في حوزته أي تفويض من مجلس الأمن، أو من التحالف، أو من الولايات المتحدة الأمريكية، فلن يستطيع أن يضمن للعراق أكثر من أنه لن يُهَاجم، إذا ما التزم بقرارات مجلس الأمن. كما أنه ليس في إمكانه أكثر من اقتراح خطط عامة، في شأن تقرير الكويت مصيرها، بما قد يزيل نظام حكم آل الصباح؛ وهو ما تعترض عليه واشنطن ولندن، بشدة، وتقديم الوعود بطرح القضية الفلسطينية للنقاش، في وقت لاحق.

    بعد ذلك، مضى الرئيس صدام حسين في حديث طويل عن الأزمة، وصل فيه إلى القول:

·    "إن العراق قدَّم مبادرات كثيرة لحل الأزمة، وكان على استعداد لقبول مبادرات كثيرة من غيره. ولكن الرئيس الأمريكي، كان يرفض كل واحدة منها، بعد ساعة من صدورها".

·    "إن قرارات مجلس الأمن، في حقيقتها، قرارات أمريكية؛ ونحن في عصر أمريكي، والولايات المتحدة تحصل على ما تريده هي، وليس ما يريده مجلس الأمن".

·    "إننا لا نستطيع أن نقول كلمة الانسحاب، في هذه اللحظة، بينما الجيوش الأمريكية تواجهنا، والحرب قد تقع في ظرف ساعات. وإذا قلت شيئاً عن انسحاب عراقي، دون أن يكون في مقابله شيء عن انسحاب أمريكي، فإن كل ما أكون قد حققته، في هذه الساعة، هو أن أعطي للأمريكان فرصة، لخلق بلبلة نفسية، تمكنهم من الانتصار علينا".

وقال بيريز دى كويلار، وهو يستأذن، وينهض قائماً: "إنني لم آخذ منكم شيئاً". وردّ عليه الرئيس صدام حسين قائلاً: "لو أنك راجعت حديثنا، وفكرت فيه، لوجدت أنك أخذت أشياء كثيرة". وردّ عليه دى كويلار: "إنني أشعر أن السيف خرج من غمده. والسيف مشهر على رأس العالَم، وليس على رأسي فقط".

خيمت أجواء الحرب على عواصم العالم مع اقتراب الموعد النهائي الذي حدده مجلس الأمن لانسحاب القوات العراقية من الكويت، بعد إعلان الأمين العام للأمم المتحدة، بيريز دى كويلار فشل مهمته في إقناع الرئيس العراقي بتنفيذ القرارات الدولية. وفي غياب أية مؤشرات إلى استجابة العراق لهذه القرارات، وضعت قوات التحالف الدولية في الخليج في حالة تأهب لساعة الصفر.

ثالثاً: محاولات الفرصة الأخيرة

وفي 14 يناير 1991، وفي محاولة عربية أخيرة، أعلن الرئيس اليمني علي عبدالله صالح، مبادرة سلام يمنية، نقلتها إلى بغداد بعثة ضمت نائب الرئيس اليمني، حيدر أبو بكر العطاس. تشمل المبادرة على النقاط الست التالية:

1.  تنسحب القوات العراقية من الكويت.

2.  تحل قوات عربية ودولية في المنطقة المتنازع عليها بين العراق والكويت تحت إشراف الجامعة العربية والأمم المتحدة.

3.  تنسحب القوات الأجنبية الموجودة في المنطقة بمجرد قبول العراق لمبدأ الانسحاب من الكويت.

4.  يلتزم مجلس الأمن الدولي بتنفيذ قراراته في شأن النزاع العربي ـ الإسرائيلي، من خلال، التعجيل بعقد المؤتمر الدولي للسلام في الشرق الأوسط.

5.  تتعهد الدول التي لها قوات بمنطقة الخليج والجزيرة العربية بعدم استخدام القوة ضد العراق.

6.  ينتهي الحصار الاقتصادي المفروض على العراق بمجرد قبول أطراف النزاع لهذه المقترحات.

وفي الوقت نفسه، أعلن البيت الأبيض مساندته التامة لكل خطط وجهود السلام الأخيرة لإنهاء الأزمة "لكنه لا ينصح أي شخص بالتوجه إلى بغداد بعد 15 يناير الجاري.

وفي 15 يناير 1991، وقبل انتهاء المهلة بساعات، حاولت فرنسا بذل جهد أخير، في صورة مبادرة قدمتها إلى مجلس الأمن ترتكز على:

·    إعلان العراق، من دون تأخير، عزمه على الانسحاب من الكويت استناداً إلى جدول زمني، مبرمج ومباشر، على أن يبدأ سريعاً ومكثفاً، من الفور.

·    يتم ربط الأزمة العراقية ـ الكويتية مع النزاع العربي ـ الإسرائيلي، في وقت لاحق، وفي الوقت المناسب، بعد تنفيذ العراق كل قرارات مجلس الأمن المتعلقة بالكويت.

وعلى الرغم من تأييد بعض الدول الغربية، ومن بينها ألمانيا وبلجيكا وإيطاليا، للمبادرة الفرنسية، إلاّ أن وزير الخارجية الفرنسي، رولان دوما، أعلن أنه لم يصدر أي مؤشر ملموس عن العراق لقبوله المبادرة، قبل 12 ساعة من انتهاء المهلة.

رابعاً: ساعة بدء العمليات

في مساء 25 ديسمبر 1990، سُئل الجنرال نورمان شوارتزكوف عن الموعد، الذي يوصي به، بعد انتهاء موعد قرار مجلس الأمن، وهو 15 يناير 1991. فحدَّد الساعة الثالثة، من صباح 17 يناير، أي الساعة السابعة، مساء 16 يناير، بتوقيت واشنطن، أي بعد 19 ساعة فقط من انقضاء موعد الأمم المتحدة؛ فستكون هذه ليلة غير مقمرة، وهذا عامل حاسم، بالنسبة إلى قاذفات الشبح المقاتلة، من نوع (F-117 A). التي لن تُرى بالعين المجردة، إضافة إلى أن هذه الطائرات مجهزة للعمل من دون أن تلتقطها شاشات أجهزة الرادار العراقية. إضافة إلى أن الأرصاد الجوية، تشير إلى أن الجو سيكون صافياً. وقال القائد الأمريكي، إنه حين يبدأ الهجوم، سيغيّر اسم العملية من "درع الصحراء"إلى "عاصفة الصحراء".

وبادر كولين باول إلى إعادة صياغة الأمر التحذيري، المؤلَّف من صفحتَين، طالباً أن يكون شوارتزكوف جاهزاً لبدء "عاصفة الصحراء"، الساعة الثالثة، من صباح 17 يناير. وأرسل الأمر، باليد، إلى عدد من المسؤولين في البنتاجون، لمراجعته. ثم أُعدَّت صورة نهائية، ترسَل حين يعطي الرئيس جورج بوش تصريحه النهائي.          

وفي الساعة العاشرة والنصف، من صباح الثلاثاء، 15 يناير 1991، اجتمع الرئيس الأمريكي جورج بوش، بمجلسه الداخلي: دان كويل وجيمس بيكر وريتشارد تشيني وبرينت سكوكروفت وكولين باول وجون سنونو وروبرت جيتس. وكان أمام الرئيس بوش مشروع توجيه الأمن القومي، السري جداً، الذي يتألف من صفحتَين.

وكان المشروع قد عُدِّل، ليتضمن شرطَين. فأصبح، الآن، يصرح بتنفيذ عملية "عاصفة الصحراء":

1. ألاّ يكون هناك تقدم دبلوماسي، في اللحظة الأخيرة.

2. وأن يكون الكونجرس قد أحيط علماً به إحاطة سليمة.

وعرض التوجيه، أساساً، حجج الإدارة لشن الهجوم سريعاً، عقب التاريخ المحدَّد. وذكرت أن سياسة الولايات المتحدة الأمريكية، هي دفع العراق إلى ترْك الكويت. وأن كل الوسائل السلمية، بما فيها الدبلوماسية، والعقوبات الاقتصادية وقرارات الأمم المتحدة، قد فشلت في إقناع العراق بالانسحاب، وأن الانتظار قد يكون مدمراً للمصالح الأمريكية، لأن العراق يواصل إرسال قوات إضافية إلى مسرح العمليات في الكويت، ويواصل نهبها واضطهاد شعبها، ولا بدّ من مهاجمة الجيش العراقي، دفاعاً عن القوات الأمريكية وقوات التحالف. كما أوصى التوجيه بتقليل الخسائر والأضرار المدنية في العراق، إلى أدنى حد، مع حماية القوات الصديقة، وضرورة حماية الأماكن الإسلامية المقدسة. ووقع الرئيس بوش التوجيه، الذي تُرك، عمداً، من دون تأريخ، على أن يضاف التاريخ والموعد، عند استيفاء الشرطَين. وصرح بوش لتشيني بتوقيع أمر تنفيذي رسمي، وإرساله إلى شوارتزكوف، في اليوم نفسه.

وفي صباح 16 يناير 1991، استدعى جيمس بيكر السفير السعودي إلى واشنطن، الأمير بندر بن سلطان، إلى وزارة الخارجية، ليخبره بأن العملية ستبدأ تلك الليلة، السابعة مساء هنا، الثالثة صباحاً، في المملكة العربية السعودية. ومن الفور، اتصل الأمير بندر، بعد انتهاء مقابلته بيكر، بالملك فهد. وأخذا يتحدثان بضع لحظات. ثم قال السفير، وكأنه تذكر الأمر، للتو: "إن صديقنا القديم سليمان، سيصل في الساعة الثالثة صباحاً. وهو مريض، وسأقوم بنقله، وسيصل إلى هناك، في الثالثة صباحاً". فعرف الملك فهد ساعة الصفر. وهكذا، بدأت "عاصفة الصحراء".



[1] يذكر محمد حسنين هيكل "أن وزير الخارجية الأمريكي جيمس بيكر، أخرج مظروفاً، من ملف كان يحمله معه، ثم قال إن الرئيس جورج بوش طلب أن أسلمك هذا الخطاب لكي تسلمه بدورك إلى رئيسك. وتناول طارق عزيز المظروف، وأراد أن يضعه أمه على المائدة، ولكن جيمس بيكر طلب إليه أن يقرأه. وقال طارق عزيز: فهمت أن الخطاب موجه من رئيسك إلى رئيسي، فهل يحق لي أن أقرأه؟ وقال بيكر بصوت حول قدر ما يستطيع أن يجعل نبراته محايدة "إنني أقترح أن تقرأه لأن ما سوف نتحدث عنه اليوم متصل بما فيه".

[2] ذكر هيكل أن النسبة في مجلس النواب كانت 250 ضد 130.

[3] يقول محمد حسنين هيكل في كتابه، "حرب الخليج ـ أوهام القوة والنصر"، ص523. أن هذا اللقاء تم في 12 يناير في حين تذكر "موسوعة حرب الخليج ـ اليوميات ، الوثائق ، الحقائق"، ج 1، ص 299، أن دي كويلار وصل إلى بغداد، بعد ظهر يوم 12 يناير، قادما من عمّان، التي وصلها مساء 11 يناير، وأجرى مباحثات مع الملك حسين فور وصوله. ويقول جون كوولي، في كتابه، "الحصاد ـ حرب أمريكا الطويلة في الشرق الأوسط"، ص 367، أن دي كويلار التقى كلاً من الرئيس الفرنسي ووزير خارجية يوغسلافيا، في 11 يناير 1991، في باريس، وكذلك عاهل الأردن، الملك حسين مساء ذلك اليوم، في عمّان.

[4] المقصود هو يوم السبت، 5 يناير 1991، حيث طلب الرئيس الأمريكي، جورج بوش، من الأمين العام للأمم المتحدة، بيريز دي كويلار، في لقاء تم بينهما في كامب ديفيد، أن يقوم بزيارة منطقة الخليج، ولكن دي كويلار طلب تأجيل الزيارة إلى ما بعد انتهاء محادثات جنيف بين جيمس بيكر، وطارق عزيز المزمع عقدها في 9 يناير 1991، حتى لا يعكر أجواء المحادثات.