إرشادات مقترحات البحث معلومات خط الزمن الفهارس الخرائط الصور الوثائق الأقسام

مقاتل من الصحراء
Home Page / الأقســام / موضوعات سياسية عسكرية / القضية الفلسطينية ونشأة إسرائيل، وحرب عام 1948





معارك المالكية
معركة مشمار هايردن
العملية مافيت لابوليش
العملية نخشون

أوضاع الألوية الإسرائيلية
أوضاع المحور العرضي
أوضاع القوات المصرية
أهداف القوات العربية
محصلة الجولة الأولى
مشروع لجنة بيل
مسرح عمليات فلسطين
أعمال القتال المصري ـ الإسرائيلي
معركة وادي الأردن
معركة نجبا
معركة نيتسانيم
معركة مشمار هاعيمك
معركة أسدود
معركة اللطرون (الهجوم الأول)
معركة اللطرون (الهجوم الثاني)
معركة العسلوج
معركة القدس
معركة بئروت يتسحاق
معركة جلؤون
معركة جنين
معركة يد مردخاي
معركة جيشر
الأوضاع المصرية والإسرائيلية
الموقف في نهاية الفترة الأولى
المستوطنات الإسرائيلية في فلسطين
الاتجاهات التعبوية لمسرح العمليات
الاستيلاء على مستعمرات عتصيون
الاستيلاء على صفد وتخومها
الاستيلاء على عكا
التنفيذ الفعلي للعملية يؤاف
التقسيمات العثمانية في سورية
الحدود في مؤتمر الصلح
الخطة الأصلية للعملية يؤاف
العملية هاهار
العملية ميسباريم
العملية أساف
العملية مكابي
العملية بن عامي (تأمين الجليل)
العملية باروش
العملية حوريف (حوريب)
العملية داني
العملية يبوس
العملية حيرام
العملية ديكيل
العملية يفتاح (تأمين الجليل)
العملية شاميتز
العملية عوفدا
القتال في المحور الشرقي
القتال في جيب الفالوجا
اتجاهات الجيوش العربية
اتفاقية سايكس/ بيكو
تقدم القوات المصرية في فلسطين
تقسيم فلسطين
تقسيم فلسطين الأمم المتحدة
دخول الفيلق الأردني القدس
حدود فلسطين تحت الانتداب
سورية في العصر الإسلامي
سورية في العصر البيزنطي
سورية في العصر اليوناني
سورية في عهد الأشوريين
طريق تل أبيب ـ القدس
كنعان قبل قيام إسرائيل
فلسطين في عهد الملوك



أمن البحـــر الأحمــر

رابعاً: تسويات ما بعد الحرب

1. إتفاقية فيصل/ وايزمان

بتوقف القتال وإعلان الهدنة يوم 11 نوفمبر 1918 انتهت الحرب العالمية الأولى، وبدأت مرحلة جديدة شهد العالم فيها مزيداً من الصراع السياسي بين الدول الكبرى المنتصرة على اقتسام الأسلاب وكانت فلسطين وشعبها العربي من أولى ضحايا هذه الحرب.

وقد اقترحت الحكومة البريطانية على الملك حسين أن يرسل مندوباً عنه إلى مؤتمر الصلح، وأوعزت إليه ـ عن طريق مستشاره البريطاني الكولنيل "توماس لورنس" ـ أن يكون ابنه الأمير فيصل مندوبه أمام المؤتمر. فأرسل الملك إلى ابنه، الذي كان آنذاك في حلب، يأمره بالسفر سريعاً إلى أوروبا.

وبعد قضاء أسبوعين في فرنسا لم يلق فيهما إلا استقبالاً فاتراً، توجه الأمير فيصل وبصحبته الكولونيل لورنس إلى إنجلترا يوم 18 ديسمبر 1918. وبالرغم من الاستقبال الرسمي الحافل الذي لاقاه في لندن، فقد كان عليه أن يواجه بخبرته السياسية المحدودة ثلاثاً من أعتى القوى الإستعمارية المحنكة، وهي الحكومة الفرنسية والحكومة البريطانية والمنظمة الصهيونية، فقد كانت الأولى مصممة على وضع سورية (بما فيها منطقة لبنان) تحت الإنتداب الفرنسي، وأن تجعل فلسطين منطقة دولية طبقاً لاتفاقية سايكس/ بيكو، كما كانت الثانية تعمل على جعل فلسطين منطقة نفوذ لها بفرض الانتداب البريطاني عليها، بينما كانت المنظمة الصهيونية من ناحية ثالثة مصممة على تنفيذ مشروعها في فلسطين استناداً إلى تصريح بلفور.

وعندما بدأت اتصالات الأمير فيصل الأولى في العاصمة البريطانية كان "جورج كلمنصو" رئيس وزراء فرنسا في لندن يتفاوض مع "لويد جورج" رئيس الوزراء البريطاني حول توزيع الأسلاب. وأدرك الأمير فيصل أن فرنسا تقف منه موقفاً عدائياً، فهي تعارض قبوله عضواً في مؤتمرالصلح من ناحية، كما تعارض في تعيينه رئيساً على الإدارة الشرقية لبلاد العدو المحتلة التي انشئت في سورية بعد طرد الأتراك منها من ناحية ثانية، كما أدرك أن اتفاقية سايكس/ بيكو أصبحت حقيقة واقعة.

ولم يقتصر الأمر في لندن على الموقف الفرنسي المعادي للأمير فيصل، والذي سيطيح بأحلامه في سورية، فقد كان زعماء الحركة الصهيونية أيضاً يضغطون على الحكومة البريطانية لاتخاذ خطوات عملية في مؤتمر الصلح لإنشاء الوطن القومي في فلسطين، وعلى ذلك سعت الخارجية البريطانية إلى الحصول على قرار صريح من الأمير فيصل بالموافقة على تصريح بلفور واتخاذ التدابير اللازمة لتنفيذه، ومن ثم أشارت عليه بالاجتماع بالدكتور حاييم وايزمان لهذا الغرض، وأوضحت الحكومة البريطانية له بجلاء أن تحقيق المطالب العربية يتوقف على اتفاقه مع الصهيونيين، في الوقت الذي أفهمه فيه المستشارون البريطانيون أن عدم توصله إلى اتفاق مع الصهيونيين يسئ إلى علاقاته مع الحكومة البريطانية التي كان حريصاً على رضائها لمساندته في مواجهة الفرنسيين الرافضين له.

ومن ناحية أخرى حاول الصهيونيهن إقناع الأمير فيصل بأنهم لا يهدفون إلى إقامة حكومة يهودية في فلسطين، وأن تنفيذ وعد بلفور لا يتعارض مع مطالب العرب القومية. وأن فلسطين ستشهد رخاءاً مادياً كبيراً نتيجة لمشروعات التنمية الاقتصادية التي سيقوم بها يهود أوروبا والولايات المتحدة، وأنهم في مقابل اعتراف فيصل بتصريح بلفور سيقومون بتأييد المطالب العربية القومية، وبذل نفوذهم الكبير في الأوساط الدولية لتحقيقها.

وإزاء هذه الضغوط والإغراءات أذعن الأمير فيصل للمطالب البريطانية، فقد كان خوفه من أطماع فرنسا في سورية أقوى من خوفه من أطماع الصهاينة في فلسطين. واستقر الرأي على أن يصدر هذا الاعتراف في شكل أتفاقية مكتوبة وقعها الأمير فيصل نيابة عن العرب والدكتور وايزمان نيابة عن المنظمة الصهيونية في الثالث من يناير 1919. (اُنظر ملحق اتفاقية فيصل ـ وايزمن (3 يناير 1919))

وهكذا أبرم فيصل أتفاقية خطيرة لم يفوضه أحد فيها، عصفت بمبدأ الوحدة العربية، وخرجت عن قرارات المؤتمرات الوطنية في سورية وفلسطين، ففي هذه الاتفاقية قرر الأمير صراحة موافقته على تصريح بلفور (المادة الثالثة)، وسجل وعده باتخاذ الوسائل السريعة الكفيلة بتنفيذ هذا التصريح وفي مقدمتها فتح أبواب فلسطين للهجرة والاستيطان الصهيوني (المادة الرابعة)، ثم ألزم العرب بتنسيق خططهم مع الصهيونيين أمام مؤتمر الصلح في فرساي، فيما يختص بالمسائل التي تناولتها هذه الاتفاقية (المادة الثامنة)، وهو ما يعني الا تتعارض المطالب العربية مع المطالب الصهيونية.

ويبدو أن الأمير فيصل هاله ما وقع عليه في هذه الاتفاقية التي كتبها لورنس باللغة الانجليزية، فأضاف عليها بخط يده باللغة العربية تحفظاً جاء نصه:

"يجب على أن أوافق على المواد المذكورة أعلاه بشرط أن يحصل العرب على استقلالهم كما طلبت بمذكرتي المؤرخة في الرابع من شهر يناير 1919، المرسلة إلى وزارة خارجية حكومة بريطانيا العظمى، ولكن إذا وقع أقل تعديل أو تحويل فيجب ألا أكون عندها مقيداً بأية كلمة وردت في هذه الاتفاقية التي يجب اعتبارها ملغاة لا شأن ولا قيمة قانونية لها، ويجب ألا أكون مسؤولاً بأية طريقة مهما كانت.

وبالرغم من أن التحفظ الأخير ينسف الاتفاقية من الناحية القانونية، نظراً لأن البريطانيين وحلفاءهم أخلوا بتعهداتهم تجاه العرب والتي عُلق عليها التحفظ السابق، فقد كانت تلك الاتفاقية كسباً كبيراً للصهيونيين. فقد قرر وايزمان أن وجود هذه الاتفاقية في يده قبل أن يمثل أمام مؤتمر الصلح، كان سبباً كافياً جعل الدول الكبرى تقف موقفاً إيجابياً من الأماني الصهيونية.

2. مؤتمر الصلح في باريس

أ. المشاركة العربية والصهيونية في المؤتمر

عقد مؤتمر الصلح في باريس وحضر الأمير فيصل جلسته الافتتاحية يوم 18 يناير 1919 على رأس وفد عربي ضعيف ممثلاً للحجاز (بعد أن تخلت فرنسا عن تحفظها تجاه ذلك التمثيل). وفي يوم 29 من نفس الشهر قدم الأمير فيصل مذكرة موجزة أمام المؤتمر حدد فيها المطالب العربية بشأن الاستقلال، وفي اليوم التالي قرر المؤتمر فصل سورية والعراق وفلسطين والجزيرة العربية فصلاً تاماً عن تركيا واستفتاء أهل البلاد في تقرير مصير أوطانها، واختيار دولة منتدبة عليها لإدارة شؤونها حتى تصل إلى مرتبة الاستقلال، وهو ما كان يعني تأجيل استقلال هذه الدول.

ووُجهت الدعوة للأمير فيصل لإلقاء كلمته في اجتماع المجلس الأعلى للحلفاء الذي عقد في وزارة الخارجية الفرنسية يوم 6 فبراير 1919، فقدم مذكرة للمجلس وألقى كلمة استغرقت 20 دقيقة طرح فيها القضايا المصيرية لشعوب المشرق العربي طرحاً هزيلاً لم يعترض فيه أو في مذكرته على تصريح بلفور، فقد قيده في هذا الشأن اتفاقيته السابقة مع وايزمان (التي وافق فيها على ذلك التصريح). كما طالب الأمير بوضع العراق وفلسطين تحت انتداب إحدى الدول الكبرى، وتكلم عن الأخيرة كأنها أقليم منفصل عن سورية. وفي عرضه للقضية العربية طالب الأمير فيصل بالوحدة والاستقلال العربي الذي وعدت به بريطانيا على أساس أن العرب يقبلون مؤقتاً فرض وصاية احدى الدول العظمى، إذا ما كان هناك نص على إنشاء حكومة محلية نيابية. وفي رده على إستفسارات الرئيس ولسن بعد الانتهاء من كلمته، أكد الأمير فيصل على أنه من الأفضل للبلاد العربية أن تكون دولة مستقلة موحدة، واقترح إيفاد لجنة تحقيق دولية يعينها مؤتمر الصلح تزور سورية وفلسطين ولبنان لاستطلاع رأي أهل البلاد في الوضع السياسي الذي يريدونه حتى يستطيع المؤتمر أن يضع تسوية عادلة لهذه المنطقة العربية. (اُنظر ملحق مذكرة الأمير فيصل إلى المجلس الأعلى للحلفاء في مؤتمر الصلح بباريس (6 من فبراير 1919))

وفي 23 فبراير استمع المجلس الأعلى للحلفاء إلى وجهة النظر الصهيونية التي مثلها خمسة من أقطاب الحركة الصهيونية كان على رأسهم الدكتور حاييم وايزمان وتركزت كلمات أعضاء الوفد الصهيوني على المطالبة بإنشاء وطن قومي يهودي يتطور مع الزمن ليصبح كومنولث يتمتع بالاستقلال الذاتي وأن يشمل هذا الوطن فلسطين وشرق الأردن وجنوب لبنان وشطراً من سورية وهو ما أطلق عليه وايزمان "فلسطين التاريخية". وإستندوا في مطالبهم على تصريح بلفور وموافقة حلفاء بريطانيا على ذلك التصريح الذي طلبوا إدراجه في معاهدة الصلح. كما طالبوا أن تكون بريطانيا العظمى هي الدولة المنتدبة على فلسطين طبقاً للحدود التي أشاروا إليها، وقدموا للمجلس خريطة بها. (اُنظر خريطة الحدود في مؤتمر الصلح)

وعندما استفسر وزير الخارجية الأمريكية من وايزمان بعد إلقاء كلمته عما يقصده من عبارة "الوطن القومي لليهود"، أجاب الأخير "أنه إنشاء إدارة تنبثق من الظروف الطبيعية لفلسطين، وفي الوقت نفسه تحافظ على مصالح غير اليهود، وأنه بمضي الزمن وبفضل الهجرة اليهودية تصبح فلسطين يهودية، كما أن انجلترا انجليزية". وفي نهاية كلماتهم قدم الوفد الصهيوني مذكرة في شكل مشروعات قرارات أرفقوا بها مذكرات فرعية لشرح وتوضيح ما جاء في المذكرة الرئيسية. (اُنظر ملحق مذكرة المنظمة الصهيونية إلى المجلس الأعلى لمؤتمر الصلح (23 من فبراير 1917))

ب. لجنة كنج ـ كرين

وعلى ضوء تعارض المصالح الذي ظهر خلال مؤتمر الصلح – سواء بالنسبة للدول الاستعمارية (فرنسا وبريطانيا) أو بالنسبة للعرب والحركة الصهيونية. عقد مجلس الأربعة (بريطانيا وفرنسا والولايات المتحدة وإيطاليا) جلسة بتاريخ 25 مارس، وافقت فيها تلك الدول ـ تحت ضغط الرئيس الأمريكي ـ على إرسال لجنة (تمثل فيها كل من الدول الأربعة بعضوين) إلى البلدان العربية المتنازع عليها لتقصي رغبة أهلها، إلا أنه سرعان ما تراجعت فرنسا عن موافقتها ولحقت بها بريطانيا بعد أن فشلت محاولتها لاستبعاد فلسطين من نشاط اللجنة، ووقفت إيطاليا موقفاً سلبياً حتى لا تسئ إلى حليفتيها، إلا أن الرئيس الأمريكي أصر على إرسال اللجنة حتى لو تشكلت من العضوين الأمريكيين فقط، وهو ما حدث فعلاً، مما جعل تلك اللجنة تعرف باسم "لجنة كنج ـ كرين" نسبة إلى عضويها "هنري كنج" و"شارل كرين".

ووصلت تلك اللجنة إلى يافا في العاشر من يونيه 1919. وبعد أن طافت بكل من فلسطين وسورية ولبنان وكليكيه واستمعت إلى كافة طوائف الشعب في كل منها توجهت إلى الأستانة لتكتب تقريرها بعد جولتها التي استمرت 43 يوماً تلقت فيها من الأهلين والهيئات 1863 عريضة. وقدمت اللجنة صورة من تقريرها المؤرخ في 28 أغسطس إلى الأمانة العامة لوفد الولايات المتحدة في مؤتمر الصلح، في الوقت الذي تم فيه تسليم أصل التقرير إلى الرئيس ولسن في واشنطن.

وطالبت اللجنة في تقريرها بالوحدة الإقليمية لسورية بحيث تشمل فلسطين ولبنان، مع منح الأخيرة الحكم الذاتي داخل إطار الوحدة السورية، وقررت اللجنة أن سورية ـ التي تشمل فلسطين ـ لا ترحب بالانتداب، وإن كانت ترحب بالمعونة الخارجية من الولايات المتحدة أو بريطانيا. وبالنسبة للمشكلة الصهيونية، طالبت اللجنة بالحد من الأطماع الصهيونية في فلسطين، وقرر عضواً اللجنة أنهما استهلا دراسة المشكلة وهما مشبعان بالتحيز للصهيونية غير أن حقائق الموقف التي لمساها في فلسطين والمبادئ العامة التي أعلنها الحلفاء جعلتهما يوصيان بتحجيم المطامع الصهيونية في ظل الشعور العدائي ضدها الذي يمتد إلى كل سكان سورية وليس فلسطين وحدها، خاصة وأن اليهود في الأخيرة لا يمثلون أكثر من عشرة في المائة من سكان هذا البلد الذي اتفقت كلمة المسلمين والمسيحيين فيه على مقاومة الصهيونية، كما قررت اللجنة أنه لا يمكن إقامة حكومة يهودية في فلسطين دون إهدار الحقوق المدنية والدينية لغير اليهود فيها، وأن جميع الموظفين البريطانيين الذين التقت بهم اللجنة يعتقدون أن البرنامج الصهيوني لا يمكن تنفيذه إلا بقوة مسلحة لا تقل عن 50 ألف جندي، وهو ما يوضح ما في البرنامج الصهيوني من إجحاف بغير اليهود، فضلاً عن أن مطالبة الصهيونيين بفلسطين مبنية على كونهم احتلوها منذ ألفي عام، وهذه دعوى لا تستوجب الاهتمام والإكتراث.

وانتهت اللجنة فيما يخص فلسطين إلى التوصيات التالية:

(1) وجوب تحديد الهجرة اليهودية إلى فلسطين "والعدول تماماً عن الخطة التي تهدف إلى جعل فلسطين حكومة (دولة ) يهودية ".

(2) ضم فلسطين إلى سورية المتحدة مثل باقي الأقسام الأخرى.

(3) وضع الأماكن المقدسة تحت إدارة لجنة دينية دولية يكون لليهود عضو فيها.

وقوبل التقرير السابق بمعارضة شديدة من الحكومتين الفرنسية والبريطانية، كما اتخذ الرئيس الأمريكي موقفاً سلبياً تجاه التقرير وتوصياته، وهو ما تُرجعه بعض المصادر إلى ما تعرض له الرئيس الأمريكي من ضغط صهيوني بعد عودته للولايات وقبل تلقيه تقرير اللجنة. بينما ترجعه مصادر أخرى إلى إنشغال الرئيس ولسن بصراعه مع الكونجرس الأمريكي بشأن انضمام الولايات المتحدة الأمريكية إلى عُصبة الأمم عندما عرض عليه ذلك التقرير، إلا أنه يمكن القول أن كل هذه الاسباب كانت وراء سلبية الرئيس ولسن في ظل التقرير الذي قدمه قسم المخابرات الملحق على الوفد الأمريكي للاسترشاد به، فقد أوصى ذلك التقرير بفصل فلسطين عن البلاد العربية المجاورة، ووضعها تحت الإنتداب البريطاني مع دعوة يهود العالم للاستيطان فيها، أما الاماكن المقدسة فقد أوصى تقرير المخابرات بوضعها تحت حماية عصبة الأمم (التي كان سيجري إنشاؤها) والدولة المنتدبة، (اُنظر ملحق توصيات قسم المخابرات الملحق بالوفد الأمريكي لدى مؤتمر الصلح مقدمة للرئيس ولسون (21 يناير 1919)). وهكذا بقي تقرير لجنة "كنج ـ كرين" مجرد مشورة غير ملزمة.

وفي 28 أبريل 1919 أقر مؤتمر الصلح المنعقد في باريس ميثاق عصبة الأمم، وضُمِّن هذا الميثاق في معاهدة فرساي في 28 يونيه من نفس العام، وتناولت المادة الثامنة من ذلك الميثاق "نظام الإنتداب بإشراف عصبة الأمم". وهو نظام استعماري جديد اُقترح كمخرج للتناقض بين مبدأ حق تقرير المصير الذي اُعلنته دول الحلفاء أثناء الحرب وسعيها لضمان مصالحها الاستعمارية في مؤتمر الصلح بعد الحرب، وحددت المادة 22 من ذلك الميثاق المستقبل السياسي لبلدان المشرق العربي بعد الحرب حيث حددت لها انتداباً من الدرجة الأولى يقتصر على "إسداء المشورة الإدارية والفنية"، وقد شكلت تلك المادة الأساس القانوني والدولي الذي استند إليه "مؤتمر سان ريمو" أولاً، ثم معاهدتا "سيفر" و"لوزان" بعد ذلك في فرض الانتداب البريطاني علىفلسطين والعراق والانتداب الفرنسي على سورية ولبنان. (اُنظر ملحق Article 22 of the Covenant of the League of Nations)

3. الإنتداب الفرنسي والبريطاني على بلدان المشرق العربي

أ. الاتفاق العسكري وفصل فلسطين عن سورية

نتيجة للصراع بين فرنسا وبريطانيا على أسلاب الحرب أصبح الموقف في مؤتمر الصلح خلال صيف عام 1919 يهدد بوقوع أزمة سياسية عنيفة بين حلفاء الأمس، خاصة بعد تقرير لجنة كنج ـ كرين. فقد خشي رئيس الوزراء الفرنسي أن تخرج بلاده صفر اليدين من المشرق العربي، ورأى أنه إذا كان لا بدّ من تنسيق سياسة بلاده مع بريطانيا، فعلى الأخيرة أن تعترف بما تدعيه فرنسا لنفسها من حقوق في سورية استناداً إلى اتفاقية سايكس/ بيكو. وأمام الالحاح الفرنسي استأنفت بريطانيا وفرنسا مباحثاتهما لتحديد الوضع النهائي للبلدين في المشرق العربي.

وأسفرت المباحثات التي دارت بين كلمنصو ولويد جورج عن التوصل إلى اتفاق عسكري بين الحكومتين في 15 سبتمبر 1919 أجرى تعديلات جوهرية على اتفاقية سايكس/ بيكو. وكان أهم المبادئ التي تضمنها هذا الاتفاق العسكري هي:

(1) اعتراف فرنسا بفلسطين منطقة نفوذ بريطاني ووضعها كلها تحت الإنتداب البريطاني.

(2) إبقاء منطقة شرق الأردن تحت الاحتلال البريطاني.

(3) احلال الجيش الفرنسي محل الجيش البريطاني في سورية ولبنان وكليكيا، مع ترك دمشق وحمص وحماه وبعلبك خارج منطقة الاحتلال.

وكان على الدولتين بعد ذلك تضمين هذا الاتفاق معاهدة الصلح مع تركيا حتى يمكنهما وضعه موضع التنفيذ، إلا أنه على أثر تسرب أنباء هذا الاتفاق اشتعل الموقف في سورية وأعلن السوريون تمسكهم بفلسطين وأقبلوا على معسكرات التدريب العسكري يتدربون على القتال تحت إشراف الضباط الوطنيين الذين أحيلوا إلى التقاعد، واستجاب الأمير زيد (الابن الأصغر للملك حسين والذي كان ينوب عن أخية الأمير فيصل في حكم سورية أثناء غياب الأخير في باريس) لرأي الحكومة العربية التي شكلها أخوه في دمشق بعدم الإنفراد بالعمل في هذه المرحلة الخطيرة، فدعا المؤتمر السوري إلى الاجتماع في 22 نوفمبر 1919، وأصدر المؤتمر في 24 من نفس الشهر قراراً أعلن فيه تمسكه بالاستقلال التام لسورية بحدودها التي أقرها المؤتمر يوم 2 يوليه وسلمها إلى لجنة كنج/ كرين، وأعلن المؤتمر أنه لا يقبل تفتيت دولة سورية بأي حال من الأحوال، إلا أن الأمير فيصل خيب ظن الشعب السوري بتوقيعه اتفاق مع الفرنسيين في السادس من يناير 1920 وافق فيه ضمنياً على فصل فلسطين عن سورية، كما وافق صراحة على فصل لبنان أيضاً ووضعه تحت الإنتداب الفرنسي، أما سورية نفسها فقد أقر أن تكون هي الأخرى تحت الانتداب الفرنسي وإن لم يرد ذلك صراحة في الاتفاق الذي أبرمه.

على أثر الإتفاق الأخير تزايدت النقمة الشعبية على الأمير فيصل الذي اتهمته الجماهير العربية بالتفريط، وتعالت الأصوات في سورية وفلسطين تطالب الزعماء بأن يأخذ العرب أمورهم بأيديهم لوضع القوى الاستعمارية أمام الأمر الواقع، واستقر الرأي أن يعلن المؤتمر السوري العام استقلال سورية بحدودها الطبيعية بما فيها لبنان وفلسطين استقلالاً تاماً، ومبايعة فيصل ملكاً دستورياً عليها، وهو ما تم فعلاً، في اجتماع المؤتمر يوم 7 مارس. وفي اليوم التالي جرت البيعة في دار البلدية في دمشق.

وبالرغم من أن القرارات السابقة كانت تعبيرا عن الإرادة الشعبية وتصويراً لأهداف الحركة القومية العربية في الاستقلال والوحدة، وتحدياً للاستعمار والصهيونية، إلا أنها لم تؤد إلى تغيير الموقف على أرض الواقع، فقد رفضت بريطانيا وفرنسا القرارات العربية السابقة، وظلت الأولى تحتل فلسطين والعراق، كما ظلت الثانية تحتل المناطق الساحلية في سورية ولبنان.

ب. مؤتمر سان ريمو

بالرغم من رفض بريطانيا وفرنسا لقرارات المؤتمر السوري يومي 7،8 مارس، فقد رأت الدولتان في التطورات السابقة دافعاً إلى سرعة تسوية تفاصيل المسائل المعلقة بينهما وتقنينها، فسارعت الدولتان إلى عقد المجلس الأعلى للحلفاء في سان ريمو بإيطاليا في 19 أبريل 1920، وخلال اجتماعات هذا المجلس تقرر رسمياً ندب فرنسا على سورية ولبنان، كما تقرر ندب بريطانيا على فلسطين والعراق الذي ضم عليه منطقة الموصل وبادرت بريطانيا بإبلاغ هذه القرارات إلى الملك فيصل، ثم سارعت بإعلان قرار انتدابها على فلسطين (الذي تضمن تنفيذ وعد بلفور) على الشعب الفلسطيني قبل أن يستكمل هذا القرار شكله القانوني في معاهدتي الصلح مع الحكومة التركية (معاهدة سيفر ثم معاهدة لوزان).

وقد أدى هذا الإعلان إلى موجة عارمة من السخط على بريطانيا وإعلان كافة التجمعات الإسلامية والمسيحية في البلاد رفضها للهجرة اليهودية واحتجاجها لدى الإدارة العسكرية في القدس على قرار المجلس الأعلى للحلفاء الذي يخالف مطالبهم التي قدموها إلى لجنة كنج/ كرين.

إلا أن كل الاحتجاجات السابقة لم يكن لها أدنى صدى لدى الحكومة البريطانية، فقد مضت المؤامرة الاستعمارية في طريقها المرسوم للقضاء على عروبة فلسطين وتهويدها. وكانت أولى هذه الخطوات بعد وضعها تحت الإنتداب هي تعيين الوزير الصهيوني "هربرت صموئيل" مندوباً سامياً لبريطانيا في فلسطين بعد أن تم تحويل الإدارة العسكرية في القدس إلى إدارة مدنية اعتباراً من أول يوليه 1920.

وحاولت الحكومة البريطانية تهدئة الشعب العربي في فلسطين بعد الإضطرابات التي حدثت في البلاد في أعقاب إعلان الانتداب البريطاني عليها متضمناً وعد بلفور، فأصدر ونستون تشرشل وزير المستعمرات الكتاب الأبيض الأول في يونيه 1922 لتوضيح السياسة البريطانية تجاه فلسطين، إلا أن هذا الكتاب أكد على نية الحكومة البريطانية لوضع وعد بلفور موضع التنفيذ، كما أكد على ضرورة فتح فلسطين للهجرة اليهودية وهو ما شكره عليه حاييم وايزمان في خطابه إليه بتاريخ 18 يونيه من نفس العام. (اُنظر ملحق الكتاب الأبيض الذي أصدره وزير المستعمرات البريطانية "مستر تشرشل" في يونيه 1922) و(ملحق خطاب وايزمان إلى تشرشل في 18 يونيه سنة 1922 ردا على الكتاب الأبيض)

ج. معاهدتا سيفر ولوزان

حرصت الحكومة البريطانية على إعطاء وضعها في فلسطين وإجراءات تهويدها الصبغة القانونية الدولية، خاصة أن أهداف انتدابها على فلسطين تختلف عن انتدابها على البلدان الأخرى، وقد تمت أولى هذه الخطوات بقرارات مؤتمر سان ريمو التي وضعت فلسطين تحت الإنتداب البريطاني مع وضع تصريح بلفور موضع التنفيذ.

إلا أن المركز القانوني لفلسطين كجزء من الدولة العثمانية كان يحول دون أخذ هذه القرارات شكلها القانوني، لذلك حرصت بريطانيا على تضمين معاهدة سيفر ـ التي فُرضت على الحكومة التركية في 10 أغسطس عام 1920 ـ اعترافاً بسلخ فلسطين وسائر الأقطار العربية عنها. وقد حرصت بريطانيا عند صياغة مواد الإنتداب على فلسطين أن تجيء هذه الصياغة محققة لأهداف الانتداب في تهويد فلسطين، ففي الوقت الذي نصت فيه المادة 94 من معاهدة سيفر على الاعتراف بكل من سورية والعراق كدولة مستقلة بشرط أن تُمد بالمشورة والمعاونة الإدارية من قبل دولة منتدبة إلى أن تصبح قادرة على حكم نفسها بنفسها طبقاً للمادة 22 من ميثاق عصبة الأمم، فقد نصت المادة 95 من تلك المعاهدة على أن يُعهد بإدارة فلسطين ـ طبقاً لأحكام المادة 22 نفسها ـ إلى دولة منتدبة تختارها الدول الكبرى المتحالفة، "وأن تكون هذه الدولة المنتدبة مسؤولة عن تنفيذ تصريح بلفور الذي أصدرته الحكومة البريطانية في الأصل بتاريخ 2 نوفمبر 1917، وأقرته دول الحلفاء الأخرى من أجل إنشاء وطن قومي في فلسطين للشعب اليهودي".

كما نصت المادة 96 من نفس المعاهدة على أن "تضع الدول الكبرى المتحالفة شروط الانتدابات الخاصة بسورية والعراق وفلسطين، ثم تعرضها على عصبة الأمم للموافقة عليها".

إلا أن معاهدة سيفر ـ التي فرضت صلحاً جائراً على الدولة العثمانية ـ لم تستمر طويلاً، فقد استفزت تلك المعاهدة أحرار تركيا الذين صحت عزيمتهم على الكفاح ضد الحكومة العثمانية والحلفاء ومعاهدة سيفر على حد سواء، وقادوا في تركيا حركة وطنية بزعامة مصطفى كمال أتاتورك وشكلوا المجلس الوطني في أنقره عام 1920. وقرر ذلك المجلس بطلان كافة المعاهدات والإتفاقيات التي ارتبطت بها الحكومة العثمانية بعد احتلال الحلفاء للأستانة في 10 مارس 1920. وبذلك عُدت معاهدة سيفر ملغاة في نظر أحرار تركيا الذين شنوا حرباً ضد القوات اليونانية وأجبروها على الجلاء عن أزمير في سبتمبر 1922، بعد أن وقفت إنجلترا وفرنسا موقفاً محايداً. وفي 19 أكتوبر من نفس العام دخلت قوات المجلس الوطني الأستانة وأعلنت الجمهورية التركية بعد هروب السلطان محمد السادس في 17 نوفمبر 1922. وبذلك أصبحت حكومة المجلس الوطني الحكومة الشرعية الوحيدة في تركيا.

وخلال هذه الأحداث التي تعاقبت بسرعة كانت بريطانيا وفرنسا وإيطاليا قد دعت الدول التي شاركت في الحرب على الجبهة التركية إلى مؤتمر للصلح في لوزان (بسويسرا).

وخلال ذلك المؤتمر استطاعت الحكومة التركية الجديدة محو عار معاهدة سيفر واستردت الأقاليم التي نُزعت منها في الأناضول، إلا أنها تنازلت عن جميع حقوقها في الأقطار العربية التي سلخت عنها حسبما جاء بالمادة السادسة عشرة من معاهدة لوزان التي تم توقيعها في 24 يوليه 1923، وهكذا تم تقنين التآمر الدولي على فلسطين، وبقي أن تصادق عصبة الأمم على هذا التآمر في صك الانتداب.


 



[1] عند اندلاع الحرب العالمية الأولى تشكلت لجنة سرية في دمشق من عرب سورية والرافدين والجزيرة العربية، ووضعت هذه اللجنة برنامجاً لاستقلال البلاد العربية والتعاون مع الحلفاء، وأرسل هذا البرنامج إلى الشريف حسين وترك له إذا ما وافق عليه أن يتفاوض مع بريطانيا بشأن تنفيذه في مقابل مساندة العرب لها في الميدان.

[2] الشرق الأدنى تعبير دبلوماسي أطلقته وزارة الخارجية البريطانية على المنطقة التي تشمل، حالياً، تركيا وسورية ولبنان وفلسطين وشرق الأردن ومصر.

[3] كان عدد سكان فلسطين طبقا للاحصاء العثماني عام 1914 قد بلغ 272 689 نسمة، منهم ما لا يزيد عن 60 ألف يهودي. كما كان هناك 54 مستعمرة يهودية لا يعمل منها سوي 35 مستعمرة يسكنها ما يقرب من 12 ألف مستوطن من جملة اليهود في فلسطين.

[4] كان هربرت صموئيل من غلاة الصهاينة الأنجليز الذين دعوا إلى المشروع الصهيوني في فلسطين وحاول إقناع وزير الخارجية البريطانية به قبل دخول تركيا الحرب واتصال وايزمان به، ثم أصبح فيما بعد أول حاكم لفلسطين في ظل الانتداب البريطاني عليها ليمهد الأرض فيها لغرس المشروع الصهيوني.

[5] يوضح الطلب البريطاني مدى قوة النفوذ والتأثير الذين كانا لليهود على مسرح السياسة الدولية حتى في هذا التاريخ المبكر للحركة الصهيونية.

[6] كان إدوين منتاجو يهوديا يؤمن بالاندماج في المجتمع الذي يعيش فيه، كما كان يرى أن إثارة موضوع القومية اليهودية قد يثير مشاكل في الهند التي تتعدد فيها الديانات.

[7] كانت الحكومة البريطانية قد سبق لها عرض الموضوع على الرئيس الأمريكي في سبتمبر 1917، إلا أن الأخير أوضح للحكومة البريطانية أن الوقت غير ملائم لمثل ذلك التصريح، وقد فسرت الحكومة البريطانية ذلك على أنه موافقة على المبدأ ولكن الاعتراض منصب على التوقيت.

[8] العَرَّاب : كلمة غير عربية. معناها، عند النصارى، الكفيل والضامن. وتجوزوا في المعنى، حتى اتَّسع ليتضمن معنى النصير والمزكي والحليف والظهير.