إرشادات مقترحات البحث معلومات خط الزمن الفهارس الخرائط الصور الوثائق الأقسام

مقاتل من الصحراء
Home Page / الأقســام / موضوعات سياسية عسكرية / اليمن... الثورة والحرب (1962 ـ 1970)، حرب اليمن من وجهة النظر المصرية





ميناء الحديدة
ميناء صليف
إجراءات تأمين قاعدة الحديدة
أعمال المقاومة الملكية
أعمال قتال الجانبين على المحور الشرقي
أعمال قتال الجانبين في المنطقة الشمالية
أعمال قتال الجانبين، يوليه 1967
أعمال قتال الجانبين، يونيه 1967
التوزيع الجغرافي للقبائل
السيطرة على المحور الساحلي
العملية نسر
العملية اكتساح
العملية صقر
العملية قادر
القوات المصرية والجمهورية، يوليه 1967
القوات المصرية والجمهورية، يونيه 1967
القوات المصرية، نهاية أبريل 1966
القوات الجمهورية، مايو 1967
توزيع قوات الجمهوريين بمنطقة الجوف
تطهير صحن العقبة
تضاريس اليمن
عمليات الجانبين للسيطرة على المحور
عملية جبل اللوز
فتح وتطهير طريق السر
فتح طريق المطمة ـ الحميدات
قتال المنطقة الشمالية
قتال الجمهوريين لتأمين منطقة أرحب
قتال الجانبين للسيطرة على منطقة السوده
قتال الجانبين للسيطرة على المحور الأوسط
قتال الجانبين للسيطرة على المحور الشمالي
قتال الجانبين للسيطرة على طريق الحديدة
قتال الجانبين للسيطرة على ذيبين
قتال الجانبين بمنطقة الجوف
قتال الجانبين بالمنطقة الشمالية
قتال الجانبين بالمنطقة الشرقية
قتال الجانبين على المحور الأوسط
قتال الجانبين على المحور الشرقي
قتال الجانبين على المحور الشرقي 1962
قتال الجانبين في المنطقة المركزية
قتال الجانبين في المنطقة الغربية
قتال الجانبين في جبلي حرم ورازح
قتال الجانبين في قطاع جبل رازح
قتال قوات الجمهوريين للسيطرة على مأرب
قتال قوات الجمهوريين للسيطرة على الحزم

منطقة العمليات البحرية
مسرح الحرب اليمنية
المسرح اليمني
الجمهورية العربية اليمنية
القصف الجوي 1963
القصف الجوي 1964
القصف الجوي 1965
القصف الجوي يناير ـ مايو 1967
القصف الجوي يونيه ـ ديسمبر 1967
طرق التسلل



الفصل الأول

أولاً: الأوضاع العامة في اليمن قبل الثورة

يمكن الإلمام بالأوضاع العامة في اليمن قبل الثورة، بعدة مؤشرات، أبرزها: نظام الحكم، حالة الاقتصاد والخدمات، البنْية الاجتماعية، الأوضاع العسكرية، العزلة المفروضة على البلاد، وحركة المعارضة اليمنية.

1.    نظام الحكم في اليمن

خضع اليمن لحكم الإمامة الزيدي لأكثر من ألف عام، قبل قيام الثورة اليمنية في 26 سبتمبر 1962. والإمام، فضلاً عن كونه الحاكم الأوحد للبلاد، هو الزعيم الديني للمذهب الشيعي، الزيدي[1]، أحد المذهبين الرئيسيين في اليمن. وأبرز شروط الإمامة، أن يكون من أهل بيت رسول الله ـ عليه الصلاة والسلام ـ وهم في اليمن السادة الأشراف الهاشميون، ويقدرون بما يقرب من 30 ألف فرد، وهم وحدهم الذين من حقهم انتخاب الإمام. إلاّ أن بعض الأئمة (يحيى بن المنصور حميدالدين، وابنه أحمد) خرجوا عن هذه القاعدة، وعينوا أبناءهم أولياء للعهد، وأخذوا لهم البيعة في حياتهم.

اتسم نظام الحكم الإمامي بالمركزية الشديدة، إذ كانت البلاد، تخضع لسيطرة الإمام وإدارته، في كافة شؤون الدولة، صغيرها وكبيرها. وفي ظل هذه المركزية، كان يمكن أن يتوقف سير العمل فترة طويلة، إذا اعترى الإمام مرض أو عائق شخصي.

وفي ظل الطبيعة الدينية للحكم، كانت الشريعة الإسلامية، كما يفهمها الإمام ومعاونوه، هي دستور الدولة. كما لم يعرف نظام الإمامة اليمنية أي مظهر من مظاهر السلطة التشريعية، وإن عرفت البلاد سلطة تنفيذية من عدة وزارات وهمية، كان يتولاها إخوَة الإمام أحمد، وابنه محمد البدر.

أمّا السلطة القضائية، فكان الإمام يعين أفرادها من الفقهاء، الذين يطبقون الشريعة الإسلامية والأحكام الفقهية. وكان الإمام يستطيع نقض أي من أحكامهم، كما كانت الرشوة أمراً شائعاً بينهم.

ومن الناحية الإدارية، كانت البلاد مقسمة إلى 7 ألوية، هي، من الشمال إلى الجنوب، كما يلي: صعدة، حجة، صنعاء، الحديدة، البيضاء، آب، وتعز. وكان كل لواء مقسماً بين 4 و 6 أقضية، وكل قضاء بين 4 و 6 نواحٍ، ويستمر التقسيم حتى مستوى القرى. وكان يرأس كل لواء أمير، يمثل الإمام. أمّا على مستوى القضاء، فكان على رأس كل لواء عامل، يعيّنه الإمام أيضاً. وكان لزاماً على أمير اللواء، وعامل القضاء، الإبراق إلى الأمام، لاستشارته قبل اتخاذ أي قرار مهم.

واعتمد الإمام على السادة الأشراف، في شغل المناصب الرئيسية في الدولة. فكان منهم مستشارو الإمام ونوابه، وحكام معظم الوحدات الإدارية المختلفة في البلاد. كما كانوا هم القائمين على إدارة المحاكم، والإشراف على جمع الضرائب.

وعلى الرغم من أن السادة الهاشميين، كانوا يمثلون النخبة الحاكمة في اليمن، فقد اعتمد الإمام على فئة أخرى، هم القضاة. ولَقب القاضي في اليمن، يتجاوز المعنى المرتبط بالعدالة، إذ كان الإمام يسبغ هذا اللقب أحياناً على بعض معاونيه، ممن يتولون مناصب رئيسية، كالوظائف الدبلوماسية والعسكرية.

وكان طبيعياً، في مثل هذا النظام، ألا يُسمح بتكوين أحزاب سياسيـة، ونقابات مهنية أو عمالية‎. وعلى ذلك، لم يكن هناك أي نشاط سياسي، باستثناء ما كان يمارس منه سراً. وهو نشاط، كان الإمام يطارده بضراوة، مما دفع المعارضين إلى الهرب إلى خارج البلاد. فمنهم من ذهب إلى عدن ومصر، وآخرون إلى باكستان.

ولم يكن الإعلام أفضل حالاً، إذ كان في وضع غاية في التخلف. فلم يكن هناك سوى نشرتين، أو ثلاث دوريات، تصدرها وزارة الإرشاد مرتين شهرياً. كما كان هناك محطة إذاعة محدودة القدرة، تبث إرسالاً يقرب من ثلاث ساعات يومياً.

2.    حالة الاقتصاد والخدمات

شهد الاقتصاد اليمني تدهوراً عاماً، في عهد الإمام أحمد. ففي مجال الزراعة، التي تمثل المصدر الأساسي للدخل، تحولت اليمن إلى دولة مستوردة للحاصلات الغذائية، بدءاً من عام 1960، بعد أن كانت مصدرة لهذه الحاصلات. ويعود السبب في ذلك إلى تحوُّل الفلاحين إلى زراعة القات[2] الأكثر ربحاً، إضافة إلى سوء الإدارة الحكومية، والضرائب الباهظة على الإنتاج الزراعي، مما جعل دخل الفلاح من الزراعة، لا يزيد على 20% من جملة إنتاجه.

وعلى صعيد الصناعة، فإنه باستثناء مصنع للنسيج، تم إغلاقه، لم يكن في اليمن سوى صناعات يدوية بدائية، زاد تدهورها في سنوات الإمامة الأخيرة، لعدم قدرتها على منافسة المنتجات المستوردة. وفي ظل انعدام البنْية الأساسية، اللازمة للنشاط الاقتصادي، وعدم وجود ضمانات سياسية للاستثمار، لم يكن هناك فرصة لإقامة صناعة حديثة في اليمن.

وفي النواحي المالية، كانت ميزانية الدولة انعكاساً للمركزية الشديدة في نظام الحكم، إذ كان الإمام يدير ميزانية الدولة بصورة مباشرة، فاختلطت، عملياً، بأملاكه الشخصية، ولم يكن هناك أدنى رقابة على أوجُه إنفاقه. وظلت الأرقام المتعلقة بالدخل والإنفاق سراً، يعاقب بشدة كل من يبوح بها. كما لم يكن بالبلاد أي مؤسسة مالية، سوى المصرف السعودي الوطني، الذي أُنشئ عام 1959، وكان يمثل وكالة للصرف، أكثر منه مصرفاً حقيقياً. وقد أدى هذا الوضع إلى احتفاظ التجار باحتياطي رؤوس أموالهم في عدن، مما جعل التجارة اليمنية، تمثل استنزافاً للاقتصاد اليمني، بدلاً من التعجيل بنشاطه.

أمّا الخدمات، فكانت على مستوى غاية في التدني، في ظل نظام الإمامة. فالتعليم لا يحظى به، إلا قِلة قليلة من الشعب، والبنات محرومات منه تماماً. كما كانت العملية التعليمية نفسها غاية في التواضع، إذ كانت تعتمد على التلقين الشفهي، ومن ثم، على ذاكرة التلاميذ. وقد يقوم التلميذ الأكبر سناً بدور المعلم، عندما يكون الأخير تَعِباً، في الوقت الذي لم يكن فيه سوى مدرس واحد لكل مدرسة. ولم يكن التعليم الابتدائي إلزامياً، كما كان التعليم، الإعدادي والثانوي، غاية في الانحطاط. ولم يكن للتعليم من هدف، سوى تخريج موظفين مخلصين للإمام. أمّا التعليم الديني، فكان أفضل حالاً. إلاّ أنه كان يعتمد، مثل باقي أنواع التعليم ومستوياته، على تمويل الأوقاف، وهبات الإمام، دون أن يخصص له ميزانية محددة من أموال الدولة. وفي ظل هذه الأوضاع، وصلت نسبـة الأمِّية في اليمن إلى ما يزيد على 85%.

ولم تكن الخدمات الصحية في اليمن أسعد حالاً. فلم يكن في البلاد كلها، حتى قيام الثورة، سوى ثلاثة مستشفيات، واحد في صنعاء والثاني في تعز والثالث في الحديدة، فضلاً عن 25 طبيباً، أي بمعدل طبيب واحد لكل 180 ألف مواطن. كما كان عدد الممرضات، لا يتجاوز عدد أصابع اليد الواحدة. ومن ثم، لم يكن غريباً، أن تتراوح معدلات وفَيَات الأطفال ما بين 40 و50%، وأن تكون البلاد مرتعاً خصباً لكل أنواع الأوبئة والأمراض. ولم ينتهِ، تقصير نظام الإمامة عند إهمال الرعاية الطبية لأفراد الشعب، بل امتد إلى مقاومة دخول الخدمات الطبية المجانية إلى اليمن، حيث ظل يقيم العراقيل أمام عروض منظمة الصحة العالمية لتقديم خدماتها. وعندما وافقت الحكومة، في النهاية، على إقامة مركز صحي للمنظمة في صنعاء، عام 1957، عملت على ألا تمتد خدماته خارج العاصمة.

وفي مجال المواصلات، لم يكن في البلاد أي طرق مرصوفة لسير السيارات، سوى طريق الحديدة ـ صنعاء، الذي أتمه الصينيون، من دون مقابل، عام 1960. ولم تعرف البلاد أي موانئ صالحة لاستقبال السفن، حتى أتم السوفيت بناء ميناء الحديدة، عام 1961. وكانت شبكة البرق، التي تدهورت حالتها، من مخلفات الحكم التركي. كما لم تعرف اليمن شبكات المياه الصالحة للشرب، إلا شبكة محدودة القدرة، في تعز. كما لم يكن هناك أي شبكات للصرف الصحي، حتى في المدن الرئيسيـة. أمّا الكهرباء، فكانت متاحـة لِمَا لا يزيد على 3% من السكان بأسعار باهظة.

3.    الأبعاد السياسية للبنْية الاجتماعية

    ‌أ.    البعد الطبقي للمجتمع اليمني

يتكون المجتمع اليمني من ثلاث طبقات أساسية، واضحة المعالم، هي: العليا، والمتوسطة، والدنيا. وتتكون أولى هذه الطبقات، أساساً، من السادة الأشراف، الذين يستمدون مركزهم من انتسابهم، صدقاً أو ادعاءً، إلى أهل البيت. وهو ما جعلهم يمثّلون أهـل الحل والعقد، الذين من حقهم، وحدهم، انتخاب الإمام، الذي لا بد أن يكون واحداً منهم، وتولِّي كافة المناصب المرموقة في الدولة، والتي كانت تتحول، بدورها، إلى مزيد من القوة الاقتصادية، في ظل فساد الإدارة. وعلى ذلك، كان من بينهم كبار الملاك، كما كان بعض السادة الأشراف، يشتغلون بالتجارة.

ولمّا كان هؤلاء السادة، في جملتهم، غير منفتحين على العالم الخارجي، وغير ملمين بعلوم الإدارة الحديثة، فقد كانوا ضد أي إصلاح، يهدف إلى التحديث. لأن ذلك يعني انتقال الأدوار الرئيسية من أيديهم إلى أيدي الشباب، الذي تعلم في الخارج. وعلى ذلك، كان الحديث عن الإصلاح والتحديث، في ظل الإمامة، نوعاً من الحماقة.

ويعدّ القضاة ضمن الطبقة العليا للمجتمع اليمني، وإن كانوا في مرتبة أقلّ من السادة الأشراف. وكان أمام القضاة أيضاً فرصة واسعة للإثراء، وحيازة الأراضي، سواء قاموا بوظائف قضاة العدالة، أو بالوظائف العليا، في الإدارة والسلك الدبلوماسي. وظل القضاة، في عهد الإمامة، يقومون بدور كبير في الحكم، الذي قدَّموا له تبريراً مذهبياً قوياً[3].

ويدخل شيوخ القبائل، خاصة القوية منها، ضمن الطبقة العليا، إذ تعد القبيلة وحدة اجتماعية وسياسية وعسكرية مستقلة إلى درجة كبيرة، وهو ما جعل شيوخ القبائل من الفئات، التي تتمتع بالامتيازات، لِمَا لها من سلطة على قبائلها، من ناحية، ولكونها تمثل حلقة وسيطة في نظام استغلال الإمام للشعب اليمني، من ناحية أخرى. وقد كان دور شيوخ القبائل حاسماً، غير مرة، في تثبيت نظام الإمامة. إلاّ أنه في ظل الأوضاع السيئة السابقة لليمن، وقف بعض شيوخ القبائل، من أمثال الشيخ حسين الأحمر، شيخ مشايخ حاشد، في صفوف المعارضة، في السنوات الأخيرة للإمامة.

أمّا الطبقة المتوسطة، فهي خليط من التجار والمثقفين والضباط. وتتميز أولى فئات هذه الطبقة بأنها فئة عصرية، بحكم احتكاكها الطبيعي بالخارج. كما أن انتماءها الديني، يختلف عن انتماء الطبقة العليا. فبينما تعتنق الأخيرة المذهب الشيعي الزيدي، فإن فئة التجار، ومعظمهم من أصول جنوبية، تعتنق المذهب الشافعي. وكانوا دائماً في صفوف المعارضة للنظام الإمامي، بحكم انتمائهم الديني، من ناحية، والمناخ المثبط للتجارة، من ناحية أخرى.

كما تتميز الفئة الثانية في الطبقة المتوسطة، وهم المثقفون، بأنهم من أصول اجتماعية عديدة، وإن كان أغلبهم ينتمي إلى أصول من فئة التجار. وقد تبلور الموقف الفكري لهذه الفئة نتيجة الاحتكاك والتعليم في الخارج. وظلّ بعض المثقفين اليمنيين، مقيمين خارج البلاد. أمّا من عاد منهم، فقد أكدت المعاملة، التي تلقاها، مفاهيمه الفكرية، تجاه حتمية الثورة، بعد الاصطدام بالطبقة العليا، المعادية للإصلاح والتحديث.

أمّا الفئة الثالثة في تلك الطبقة، وهم الضباط، فقد كانت المؤسسة، التي ينتمون إليها، أقلّ مؤسسات الإمامة تبعية لسيطرة السادة الأشراف، وإن سيطر عليها كبار الضباط من الزيود. وقد أدى الاحتكاك والتعليم الخارجيان دوراً كبيراً في بلورة موقفهم الفكري، مثلهم في ذلك مثل المثقفين. وقد بدأ احتكاك العسكريين اليمنيين بالخارج منذ الثلاثينيات، في صورة بعثات لتلقّي العلم، في العراق، ثم مصر والاتحاد السوفيتي، ومجيء بعثات عسكرية من تلك البلاد، لتنظيم الجيش اليمني وتدريبه. وكانت نتيجة هذا الاحتكاك صدمة ثقافية كبيرة، لم يقتصر أثرها على الذين تعرضوا لها مباشرة، بل امتدت إلى غيرهم من الضباط، مما أدى إلى امتداد السخط على الإمامة، والرغبة في الثورة، إلى فئات واسعة، وخاصة صغار الضباط.

وفي أسفل السلم الاجتماعي، تأتي الطبقـة الدنيا للمجتمـع اليمني، والتي يدخل فيها العمال، الذين كانوا لا يمثلون أي ثقل عددي، في ظل الوضع المتردي للصناعة. كما يدخل في هذه الطبقة الفلاحون، الذين كانوا يمثلون ما يقرب من 80% من السكان، ويعيشون في حالة غاية في البؤس، خاصة أولئك الذين لا يملكون الأرض، ويمثلـون 75% من جملة الفلاحين. ويدخـل في هذه الطبقـة، أيضاً، الجنود، الذين كان بؤسهـم، لا يختلف كثيراً عن السواد الأعظم من الشعب، والرقيق، الذين ظلت تجارتهم قائمة في اليمن، حتى سقوط الإمامة.

    ‌ب.   التركيب الاجتماعي للشعب اليمني (القبائل ـ الحضر / المدن)

يمكن تقسيم المجتمع اليمني، من ناحية التركيب الاجتماعي، إلى فئتين متباينتين، هما: المجتمع الحضري، ويتركز في جنوب البلاد، والمجتمع القبلي، وينتشر في الشمال. فمنذ الحكم الأيوبي لليمن، خضع الجنوب لنظام إداري أكثر تقدماً. وحلّ الموظفون محل شيوخ القبائل، في دور الوسيط بين القبائل والدولة. وبذلك، فَقَدَ الجنوب كثيراً من صفاته القبلية بمرور الزمن، بينما ظل التماسك القبلي وعاداته وتقاليده، دون تغير، في الشمال. وقد ساعده على ذلك طبيعته الجغرافية، التي جعلته أصعب خضوعاً للمؤثرات الخارجية.

ويتسم المجتمع القبلي بالكره الشديد لمجتمع الحضر (المدن)، كرهٌ لم تقلّ حدّته عبْر السنين. وتعزو بعض المصادر هذا الكره إلى جدب مناطق الشمال، الذي مثّل دافعاً مهماً للسلوك العدواني، فضلاً عن إحساس هذه القبائل، أنها مُستغَلة من أهل الحضر. فعلى سبيل المثال، ترى قبائل الشمال، أن كل ما في صنعاء ملك لها، لأنها ترى أن ما في العاصمة من بضائع هو من نتاج أرضها، التي لم يدفع سكان المدينة الثمن الأوفى لها، وأن ما في العاصمة من أموال، تم ابتزازه من القبائل بوسائل شتى. والقبائل في هذا، لا تميز بين الإدارة الحكومية، المتمركزة في العاصمة، وأهل المدينة أنفسهم، فالكل، في نظرها، مشاركٌ في عملية الاستغلال. وقد أثار التفاوت الحضاري والاغتراب، الذي كان يشعر به القبلي تجاه سكان الحضر، مشاعر الحقد، التي تكنها القبائل تجاه سكان المدن.

وقد حاولت الإمامة مواجهة هذا الوضع بأساليب مختلفة. فتنوعت وسائلها للسيطرة على القبائل، من رشوة شيوخها، وتأليب القبائل بعضها على بعض، إلى الإكراه بالقوة. ولكن أكثر الوسائل فاعلية، كان أخذ الرهائن من أبناء شيوخ القبائل، لكبح أعمالهم العدائية. إلاّ أن ذلك لم يمنع الإمامة من استغلال كره القبائل للمدن، في أعمالها العقابية، كما فعل الإمام أحمد، عندما أباح نهب العاصمة للقبائل، التي ساندته ضد انقلاب عام 1948، الذي انتهى بمصرع والده، مكافأة للقبائل، وعقاباً للمدينة([4]).

    ‌ج.   البعد الطائفي

على الرغم من أن الأغلبية الساحقة من اليمنيين مسلمون، إلاّ أنهم ينقسمون، مذهبياً، إلى سنيين شوافع (شافعيين)، يتّبعون مذهب الإمام الشافعي، وشيعة زيود (زيديين)، ينتمون إلى الإمام زيد بن علي زين العابدين بن الحسين. ويمثل الشوافع ما يقرب من 60% من عدد السكان، بينما يمثل الزيود أقل من 40% من ذلك العدد. ويسكن الشوافع الجزء الجنوبي من اليمن، ويرون قصر الإمامة على الزيود عملاً غير شرعي. فإذا أضفنا إلى ذلك استئثار الزيود بالمناصب الرئيسية في الدولة، والتكوين الطبقي للشوافع، الذي يحصرهم في الطبقة المتوسطة (التجار والمثقفين)، فإن ذلك يعني، بالطبع، تعارضهم الفكري مع نظام الإمامة، ويفسر تأييدهم المطلق للثورة، ومشاركتهم فيها منذ البداية.

4.    الأوضاع العسكرية اليمنية

    ‌أ.    نشأة الجيش النظامي

يرجع بدء تكوين الجيش اليمني إلى ما بعد الحرب العالمية الأولى، حين رأي الإمام يحيى بن المنصور حميدالدين، ضرورة تكوين جيش نظامي، يسمح له بمد سلطانه إلى كل البلاد، بعد هزيمة الجيش التركي في تلك الحرب، وخروجه من اليمن[5]. ولمّا كان الوالي التركي، قد قرر تسليم أسلحة قواته إلى الإمام، بدلاً من البريطانيين، الذين هزموه، فقد وجدها الإمام فرصة طيبة، لتكوين ذلك الجيش، حتى يمكنه قمع ثورات القبائل المتمردة، من ناحية، وجمع الضرائب والزكاة، من ناحية أخرى[6].

ولتكوين هذا الجيش، استعان الإمام يحيى ببعض الضباط الأتراك، الذين قرروا البقاء في اليمن، وفرض التجنيد الإجباري على القبائل. ولتخريج ضباط الجيش الجديد، تأسست كلية التدريب العسكري (الكلية الحربية). إلاّ أن ذلك الجيش، تعرض لهزيمتين في الثلاثينيات، الأولى من القوات السعودية في الشمال، والثانية من القوات البريطانية في الجنوب. فعيَّن الإمام ضابطاً سورياً كبيراً، مشرفاً على الجيش، الذي أوصى بتسريح تلك القوات، التي تفشت فيها الفوضى والرشوة، وتكوين جيش جديد من أبناء القبائل، الذين لم يسبق لهم الخدمة العسكرية. كما أوصى بضرورة استخدام ضباط مؤهلين عسكرياً، لتدريب الجيش.

وقد اقتنع الإمام يحيى بفكرة إنشاء جيش جديد، إلاّ أنه لم يوافق على تسريح الجيش القديم، الذي بقي إلى جانب القوات الجديدة، التي سميت بـ "الجيش الدفاعي"، أو "ميليشيات الإمام". ولكن الإمام لم يكتفِ بهذين الجيشين، فشكل جيشاً ثالثاً من أبناء القبائل، الذين لا يرغبون في الخدمة العسكرية المستمرة في الجيش، أطلق عليه اسم "الجيش البراني". وكان يشترط على الجندي في هذا الجيش، شراء سلاحه وذخيرته. وعلى الرغم من تكوين هذه الجيوش الثلاثة، فقد ظل تدريبها، وكافة شؤونها، الإدارية والعسكرية، في غاية التواضع، فضلاً عن افتقارها إلى الأسلحة الحديثة.

    ‌ب.   البعثات العسكرية وتطوير الجيش

عقب توقيع المعاهدة اليمنية ـ الإيطالية، عام 1927، أحس البريطانيون في جنوب اليمن، بالقلق من أن يصبح للإيطاليين، الذين كانوا يحتلون إرتيريا في ذلك الوقت، موضع قدم في اليمن. ولمّا كانت بريطانيا تحتل العراق، آنذاك، فقد أوعزت إلى الحكومة العراقية بتوطيد علاقاتها السياسية باليمن. فعرض العراق استضافة شباب اليمن، في بعثات تعليمية في مدارسه ومعاهده. ووقعت اتفاقية في هذا الشأن، عام 1931، وبدأ إرسال البعثات التعليمية اليمنية إلى العراق. أمّا البعثات العسكرية، فقد أرسلت أولاها عام 1936، وضمت عشرة ضباط، برئاسة محيي الدين العنسي، أعقبتها بعثة ثانية في العام التالي. وكان من بين أفراد هاتين البعثتين، أحمد الثلايا وحسن العمري وعبدالله السلال[7].

وخلال فترة دراسة هؤلاء الضباط، في العراق، كان طبيعياً، أن يتعرفوا ويحتكوا بالأفكار العصرية والتقدمية، في كثير من الموضوعات، التي لم يعرفوها في اليمن، خاصة في مجالات السياسة والاقتصاد والاجتماع. كما كان عليهم، أن يتعرفوا تطورات التكنولوجيا والاختراعات الحديثة، فضلاً عن الخدمات العامة، التي تقدمها الحكومات إلى مواطنيها في المجتمعات الأخرى، مما شكل صدمة كبيرة لهم، مقارنة بأحوال اليمن، الذي لا يزال يعيش في ظلمات القرون الوسطى. ولذلك شارك هؤلاء الضباط في ثورات اليمن، بعد ذلك، ضد الحكم الإمامي، واستشهد عدد منهم. كما قاد أحدهم، وهو المقدم أحمد الثلايا، انقلاب عام 1955 الفاشل. بينما شارك العقيدان، عبدالله السلال وحسن العمري، في ثورة عام 1962.

وعقب عودة هؤلاء الضباط من العراق، تم توزيعهم على الوحدات، في كل من الجيش النظامي والدفاعي، أو في الخدمة الشخصية للإمام. وسرعان ما بدأ الإمام وأتباعه، يشكّون في ولاء هؤلاء الضباط، وباتوا يُنظر إليهم على أنهم أذناب الاستعمار الغربي، ضد الحاكم اليمني، مما أدى إلى تشتيتهم، بعد مدة قصيرة، فـي وظائف، لا تمتّ إلى تدريبهم بصِلة. وأصدر الإمام يحيى أوامره بعدم إرسال ضباط يمنيين للتدريب في الخارج، خوفاً من تفشي الأفكار الثورية والغربية، التي عاد بها هؤلاء الضباط من الخارج.

وفي أعقاب احتلال إيطاليا الحبشة، جددت المعاهدة اليمنية ـ الإيطالية، عام 1936، وأرسلت إيطاليا بعض الهدايا العسكرية إلى الإمام، كان من بينها دبابتان عتيقتان و 20 ألف بندقية و 4 مدافع مضادة للطائرات. فرأت بريطانيا ضرورة موازنة النشاط الإيطالي في اليمن، فأوعزت إلى الحكومة العراقية، مرة أخرى، بتدعيم علاقاتها العسكرية باليمن. فعرض العراق إرسال بعثات عسكرية لتدريب الجيش اليمني، مع تحمّل العراق كافة النفقات. ووصلت البعثة العسكرية العراقية إلى اليمن، عام 1940، وقامت بجهد كبير في تدريب الجيش اليمني. إلاّ أن المحصلة، لم تكن على قدر الجهد المبذول، لظروف البيئة اليمنية، وتشكُّك الإمام في نشاط البعثة. وبعد ثلاث سنوات، عادت البعثة العراقية، وإن أبقى الإمام أحد أفرادها، مدرباً في الجيش اليمني.

وعندما تولى الإمام أحمد الإمامة، خلفاً لأبيه، الذي قُتل في انقلاب 1948، استمرت القوات اليمنية الثلاث على حالها، دون أي تطوير، حتى قيام الثورة المصرية عام 1952، إذ التحق بالكلية الحربية المصرية عشرة من طلبة البعثة التعليمية اليمنية في القاهرة. وكان قد سبقهم إليها خمسة طلاب آخرون. وبعد تخرج هؤلاء الضباط، وعودتهم إلى اليمن، حاولوا المشاركة في تطوير الجيش اليمني، إلا أن الأوضاع السائدة في البلاد، وعدم رغبة الإمام في تحديث الجيش، خوفاً من أن ينقلب عليه، حَالاَ دون تحقيق التطوير المطلوب. وعلى ذلك، تحوّل هؤلاء الضباط إلى خلايا ثورية، داخل الجيش اليمني، بعد الإحباط، الذي أحسوا به تجاه الأوضاع اليمنية، فكان أحدهم أيضاً، وهو محمد قائد سيف، أحد قادة انقلاب عام 1955.

وبناءً على طلب الإمام أحمد، وصلت إلى اليمن بعثة عسكرية مصرية، عام 1954، برئاسة النقيب أحمد كمال أبو الفتوح. ولكنها سرعان ما سُحبت على إثر محاولة انقلاب عام 1955، بعد أن شكّ الإمام أحمد في وجود علاقة بين أفرادها وقادة الانقلاب، خاصة أن أحد المتورطين، وهو الضابط محمد قائد سيف، كان معيَّناً لمرافقة البعثة العسكرية المصرية، منذ وصولها إلى اليمن، وقد تمكن سيف من الهرب إلى عدن، بمساعدة بعض ضباط البعثة العسكرية المصرية.

وعقب توقيع اتفاقية الدفاع المشترك بين مصر واليمن والسعودية، في أبريل عام 1956، عادت العلاقات قوية بين مصر واليمن، مما جعل الرئيس جمال عبدالناصر، يرسل إلى صنعاء بعثة تعليمية عسكرية، من خمسة ضباط وبعض ضباط الصف، في فبراير عام 1957، برئاسة العقيد حسن فكري الحسيني. ثم انضم إليهم في العام نفسه العقيد أحمد أبو زيد، وعدد آخر من الضباط وضباط الصف المصريين. ولكن الإمام أحمد، الذي لم يتخلص من هواجسه تجاه البعثة العسكرية المصرية السابقة، وضع البعثة الجديدة، في البداية، في منطقة الزيدية، شبه المهجورة، على بعد عدة كيلومترات من الحديدة. إلاّ أنه نتيجة لاتصالات القاهرة مع الإمام، تم نقل تلك البعثة إلى صنعاء، حيث ساعدت على تنظيم وفتح الكلية الحربية، عام 1957، ووضع أسُس التدريب والتعليم بها، في هذا الوقت، فُتحت في صنعاء مدرسة للتدريب على الأسلحة السوفيتية، التي زود الاتحاد السوفيتي اليمن بها، عام 1956، تحت إشراف الخبراء السوفيت، وسميت مدرسة الأسلحة.

وقد أدى عقد الاتحاد الكونفيدرالي، بين كل من الجمهورية العربية المتحدة (مصر وسورية) واليمن، في مارس 1958، إلى زيادة توثيق الروابط العسكرية بين مصر واليمن. وعقب سفر الإمام أحمد إلى روما، عام 1959، للعلاج، وتولِّي ابنه الأمير محمد البدر مسؤولية الحكم، استقدم من مصر أعداداً إضافية من العسكريين، تزيد على العدد المقرر للبعثة العسكرية، إضافة إلى أعداد أخرى من الخبراء المصريين المدنيين، فأغضب هذا التصرف الإمام، وكان أحد العوامل، التي عجلت بعودته إلى اليمن، قبل أن يستكمل علاجه. وفور وصوله، أعاد إلى مصر كل الذين زادوا على العدد المقرر للبعثة.

وإزاء تردّي العلاقات المصرية ـ اليمنية، بعد مهاجمة الإمام للقوانين الاشتراكية في الجمهورية العربية المتحدة، وانضمامه إلى حملة الهجوم الشرسة على مصر، ورئيسها، بعد انفصال شطرَي الوحدة، قرر الرئيس جمال عبدالناصر سحب البعثة العسكرية المصرية. فقام الإمام بإحلال بعثة عسكرية أردنية، بدلاً منها. وقد حاولت الأخيرة تغيير أسلوب التدريب، إلا أنه لم يكتب لها النجاح.

وعلى صعيد الطيران، عرضت الحكومة الإيطالية على الإمام إرسال بعثة إلى إيطاليا، من 10 عسكريين يمنيين، لتعلّم الطيران، على أن تتحمل إيطاليا نصف نفقات تدريبهم. وقد وافق الإمام، بعد تردد، وجرى اختيار العدد المطلوب من الجيش والكلية الحربية، وسافروا في 31 يوليه عام 1954، وعادوا إلى اليمن بعد ثلاث سنوات من التدريب في إيطاليا، وكان أول ما قاموا به، هو مطالبتهم الإمام بفتح كلية للطيران. وأقيم أول استعراض للطيران في صنعاء، حضره الإمام وأعيان اليمن. وركب الطياران اليمنيان، أحمد الكبسي وأحمد السراجي، إحدى الطائرتين الألمانيتين، الوحيدتين، اللتين كان يملكهما الإمام. ولكن عند تحليقها فوق القسم الجنوبي من صنعاء، انفجرت الطائرة بمن فيها. وكانت النتيجة إلغاء مشروع الطيران نهائياً، وتم توزيع أعضاء بعثة الطيران على بعض المصالح الحكومية، مثل إدارة البريد[8].

    ‌ج.   تسليح الجيش اليمني[9]

نظراً إلى عدم ثبات السياسة الخارجية للأئمة، وإلى ظروف اليمن الخاصة، وتنظيم قواته المسلحة، فقد اقتصر تسليح الجيش اليمني، بعد الحرب العالمية الأولى، وحتى بداية الحرب العالمية الثانية، على أربعة مصــادر رئيسية، هي:

        (1)   مخلفات أسلحة جيش الاحتلال التركي في اليمن، التي رفض الوالي التركي تسليمها للبريطانيين، على إثر هزيمة الأتراك في الحرب العالمية الأولى، وفضّل تسليم جميع الأسلحة، التي يمتلكها، بما فيها الموجودة كاحتياطي في المستودعات، إلى الإمام. وعلى الرغم من بدائية هذه الأسلحة، إلاّ أنها أغنت الإمام يحيى عن شراء أسلحة أخرى، ومكّنته من تسليح جيشه النظامي، وقمع القبائل المتمردة.

        (2)   صفقة الأسلحة النمساوية، التي عقدت في الثلاثينيات، من طريق وسيط يهودي يمني، يدعي إسرائيل الصبيري، لشراء مجموعة من الأسلحة الصغيرة، وعدد من الدبابات يراوح ما بين 20 و30 دبابة. إلاّ أنه تم إهمال الدبابات، لعدم وجود السائقين المهَرة، والصيانة اللازمة، إضافة إلى الحالة السيئة للطرق في اليمن.

        (3)   الصفقة الألمانية، التي تمّت بواسطة وسيط سوري، يدعي زكي كرام، واشتملت على 15 ألف بندقية "ماوزر"، ذات خزينة، تسَع خمس طلقات.

        (4)   الأسلحة المهداة، والمشتراة بشروط ميسرة، من إيطاليا، التي أصبحت، منذ توقيع اتفاقية التعاون بينها وبين اليمن، عام 1927، وحتى هزيمة إيطاليا في الحرب العالمية الثانية، المصدر الرئيسي لتسليح اليمن.

وكان الإمام حريصاً على وضع كافة الأسلحة والذخائر والمعَدات، التي يحصل عليها في أماكن مؤمنة، تحت سيطرته شخصياً، مثل مخازن قصر غمدان في صنعاء، وكهوف جبال نقم وشهارة وحجة. وقد تعرض كثير من تلك الأسلحة والمعَدات للتلف، نتيجة لرداءة المخازن، وسوء التخزين. ولما ازدادت مشاكل الصيانة وتلف المعَدات، اشترى الإمام يحيى ورشة صيانة من إيطاليا، لصيانة الأسلحة، وتصنيع ذخيرة الأسلحة الصغيرة. وعُيِّن لإدارتها عشرون مهندساً إيطالياً. وإضافة إلى أعمال الإصلاح والمعَدات، كانت الورشة تتولى إصلاح العربات أيضاً[10].

وفي عام 1956، حصلت اليمن، من الاتحاد السوفيتي، على أكبر صفقة سلاح في تاريخ جيشها، إذ اشتملت على 95 دبابة تي 34 T-34، و100 عربة مدرعة 4 × 4، وعدد من مدافع الميدان من عيارَي 122 مم و57 مم، وهاونات من عيارَي 120 مم و 82 مم، إضافة إلى البنادق من عيار 62و7 مم والرشاشات المضادة للطائرات عيار 7, 12 مم. فضلاً عن 20 طائرة مقاتلة قاذفة مروحية، من نوع أليوشن 10، وطائرتين عموديتين[11].

وقد كانت تلك الصفقة إضافةً كَمية إلى القدرات العسكرية اليمنية، أكثر منها إضافة نوعية إلى القدرات القتالية، لأن ضعف المستوى، الثقافي والعلمي، لأفراد القوات اليمنية، لم يمكنهم من استيعاب تلك الأسلحة وصيانتها خلال فترة زمنية مقبولة.

     ‌د.     تنظيم الجيش اليمني، حتى قيام ثورة عام 1962

        (1)    القيادة العليا

كان الإمام هو القائد الأعلى للقوات اليمنية، فضلاً عن كونه وزير الدفاع. ويتبعه مباشرة ثلاثة جيوش هي[12]: الجيش النظامي، والجيش الدفاعي، والجيش البراني.

        (2)    الجيش النظامي "المظفر"

              (‌أ)   كان يقود ذلك الجيش ضابط برتبة زعيم (عميد)، ويسمى أمير الجيش المظفر. ويتألف هذا الجيش من متطوعين ومجندين، إجبارياً، ويتم اختيارهم بالاقتراع من بين أبناء القبائل والعشائر، من سكان المنطقتين الوسطى والجنوبية. ويستمر الجندي، يؤدي خدمته العسكرية، حتى يبلغ سن الإحالة إلى التقاعد، فيتقدم بطلب تسريحه، الذي يُقبل عادة، بشرط أن تُرشح قبيلته بدلاً منه.

              (‌ب)  وكانت قيادة الجيش النظامي، تتكون من الشعَب التالية:

الشعبة الأولى، تختص بإصدار الأوامر إلى الوحدات، بالتحرك من المناطق الخارجية وإليها، بعد اعتماد الأوامر من أمير الجيش.

الشعبة الثانية، وتختص بالتسليح وشؤون الفارين من الجيش.

الشعبة الثالثة، وتختص بالنواحي المالية للجيش.

              (‌ج)  بلغ تعداد الجيش النظامي، 30 ألف مقاتل، وكان يتشكل من الوحدات التالية:

·  7 ألوية مشاة: أطلق على أحدها اسم "اللواء الوطني"، وكان قد تم تشكيله في العام السابق لثورة عام 1962، وأشرف على تدريبه الضباط اليمنيون، الذين تخرجوا في الكلية الحربية في صنعاء.

·  لواء مدفعية.

·  فوج مشــاة: أنشئ بعد وصول البعثة العراقية إلى اليمن، وأشرف الضباط العراقيون على تدريبه، وقاده المقدم أحمد الثلايا، حتى عام 1955م.

·  فوج البــدر: تم تشكيله عام 1958، بعد وصول البعثة العسكرية المصرية، وتولّيها مهمة تدريبه. وكان يتبع، مباشرة، للأمير محمد البدر، وليّ العهد. وكان أكثر القوات تنظيماً، وأفضلها تدريباً وتسليحاً. وكان الوحدة الوحيدة في الجيش اليمني، التي لها وزن، من الناحية العسكرية والكفاءة القتالية. وقد بلغ عدده 10 آلاف مقاتل. وعيِّن العقيد عبدالله السلال، الذي كان أحد العناصر الرئيسية في ثورة عام 1962م، قائداً لهذا الفوج.

        (3)    الجيش الدفاعي (ميليشيات الإمام)

أنشئ هذا الجيش بغرض تعميم التدريب العسكري، وأن يكون احتياطياً للجيش النظامي. ويتألف من الأفراد، الذين بلغوا سن التجنيد، ولم يتم تجنيدهم في الجيش النظامي. وكان أفراده يستدعون دفعة واحدة، وفي وقت محدد، للتجنيد لمدة أربع سنوات متتالية. وكان التدريب يستغرق أربعة أشهر، ثم يعود المجندون إلى قراهم، حتى تستدعيهم الحكومة مرة أخرى. وكان معظم أفراد هذا الجيش من سكان المنطقة الوسطى. وكان عدد أفراده يقرب من 15 ألف مقاتل.

وكان لكل من الجيشَـيْن، النظامي والدفاعي، قيادته وأسلحته ومعسكراته الخاصة به. كما كان لكل منهما أمير، يتبع وزير الدفاع مباشرة. ويتفق الجيشان في تنظيم وحداتهما كما يلي:

              (‌أ)   اللواء أو الألاي، يتكون من 4 أفواج، وقائده برتبة عقيد.

              (‌ب)  الفوج يتكون من 4 سرايا، وقائده برتبة مقدم.

              (‌ج)  السرية تتكون من 4 فصائل، وقائدها برتبة رئيس (نقيب).

              (‌د)   الفصيل(الفصيلة) تتكون من 3 حضائر (جماعات) مشاة وحضيرة (جماعة) رشاش، وقائده برتبة آمر الفصيل.

 (هـ)  الحضيرة (الجماعة) تتكون من 9 أفراد، وقائدها برتبة عريف.

        (4)    الجيش البراني

كان هذا الجيش، يتشكل من قبائل المنطقة الشمالية، وأساساً من قبيلتَي حاشد وبكيل. ولهذا السبب، أُعفيت قبائل تلك المنطقة من التجنيد بنوعيه، النظامي والدفاعي، اكتفاءً بالخدمة العسكرية في هذا الجيش. وقد كان الإمام يعتمد عليه في الأزمات والاضطرابات، كما كان أفراد حرسه الخاص يُختارون منه. ولم يكن لذلك الجيش، الذي بلغ 20 ألف مقاتل، قائد عام، مثل الجيشين الآخرين، بل كان يتبع الإمام مباشرة. وكان عمله يتم بأحد أسلوبين:

              (‌أ)   الأول هو: استدعاء الإمام أفراداً من هذا الجيش، لقمع تمرد إحدى القبائل، وينتهي عملهم بالقضاء على التمرد، ثم يعودون إلى قبائلهم.

              (‌ب)  والثاني هو: تجميع بعض أفراد ذلك الجيش، بناء على طلب أحد مشايخ القبائل، لمهمة نهب الأهالي والقرى في بعض المناطق، والضغط عليهم لدفع الزكاة إلى الحكومة، أو إجبارهم على تنفيذ أوامرها.

5.    سياسة العزلة المفروضة على اليمن

حاول كل من الإمام يحيى وابنه أحمد، من بعده، فرض سياسة العزلة على اليمن. وإن كان ذلك الهدف، لم يتحقق تماماً في ظل مؤثرات القرن العشرين، فإنهما استطاعا، من دون شك، تقليل تسرب هذه المؤثرات إلى اليمن إلى درجة كبيرة.

وقد أرجعت بعض المصادر نهج هذه السياسة إلى سببين أساسيين:

    ‌أ.    دروس التاريخ القاسية مع الأجانب، سواء العثمانيين أو البريطانيين، الذين ظلوا يحتلون الجنوب، حتى بعد قيام الثورة.

    ‌ب.   حرص أُسرة حميدالدين على الحفاظ على حكمها، بعيداً عن التأثير الأجنبي، الذي كان يؤلب القبائل عليها.

وقد رأينا موقف الجنوب، الرافض للإمامة الزيدية، وموقف قبائل الشمال، المعادي لكل حكومة مركزية، مما دعا الأئمة إلى تكريس جزء كبير من جهدهم ووقتهم، لتثبيت سيطرتهم على تلك القبائل. كما رأى الأئمة في فرض العزلة مانعاً لاحتكاك اليمنيين بالخارج، لأن هذا الاتصال قد يدفعهم إلى محاولة تغيير الأوضاع المتخلفة في البلاد، وهو ما يهدد نظام الإمامة.

واستمر حرص الإمام أحمد على سياسة العزلة، إلاّ أن عوامل جديدة، ظهرت خلال فترة حكمه، أثرت في تلك السياسة، أهمها ثورة يوليه المصرية عام 1952، فضلاً عن ثورة الاتصالات والحرب الباردة. ولمّا كان الإمام غير قادر على مقاومة هذه المتغيرات، فقد حاول التكيف معها، وهي محاولة ساعدت، في النهاية، على القضاء على حكم الإمامة.

وقد زاد انتشار "الراديو الترانزستور" في اليمن، والحملات، التي كانت تبثها الإذاعة المصرية على النظام الملكي والإقطاع، من جرعة التأثير المصرية، التي كانت محصورة، قبل الثورة، في المؤثرات الثقافية وحدها. فاتخذت أبعاداً سياسية جديدة، خاصة بعد تأثر زعماء المعارضة بها، ومنح مصر حق اللجوء السياسي لأحرار اليمن.

وقد امتد الوعي، بتأثير الثورة المصرية، إلى الإمام أحمد نفسه، الذي أبدى استياءه بكل ما تفعله الثورة المصرية. وأمر بمنع أجهزة "الراديو" في مقاهي مدن اليمن، وألاّ يسمح بدخولها البلاد، وعلّل ذلك بأن دخولها لم يكن وراءه إلا الفساد. ولكن الأجهزة المهربة غمرت كل المدن، وكثيراً من القرى.

وقد دفع الإمامَ إخفاقه في عزل شعبه عن تأثير الثورة المصرية، إلى تحسين علاقاته بها، خاصة أن القاهرة، وإن أبدت تعاطفاً مع حركة المعارضة، إلاّ أنها لم تشجع، في ذلك الوقت، فكرة قلب نظام الحكم. ويرى بعض المصادر، أن الأمير محمداً البدر، ربما يكون له دور في دفع أبيه إلى التقارب مع مصر. وعلى ذلك، أبدى الإمام استعداده لهذا التقارب، على ألا تمكن القاهرة زعماء المعارضة اليمنية، المقيمين بها، من شن الحملات على نظام الإمامة.

ولم تكن الدوافع الداخلية، وحدها، خلف الاقتراب المشروط من مصر. إذ كان الإمام، منذ بداية الخمسينيات، يشعر بالقلق تجاه السياسة البريطانية، الرامية إلى إقامة اتحاد لمحميات الجنوب العربي. وكان يخشى تهديد هذا الاتحاد لسلامة اليمن الإقليمية، على أساس أنه، ككيان شافعي، سيمثل بؤرة جذب للعناصر الشافعية، الساخطة، في جنوب اليمن، من ناحية، وسيقطع الطريق على مطالبته بضم مقاطعات الجنوب اليمني المحتل، من ناحية أخرى. وعلى ذلك، فقد كان عليه أن يطلب المساعدة، لمواجهة هذا الخطر الجديد. وقد اتجه الإمام، في البداية، إلى الغرب، إلاّ أنه لاقى الإخفاق، نتيجة للتأثير البريطاني. ومن ثمّ، فرضت عليه تلك الظروف الاتجاه إلى مصر، التي كانت سياستها، المعادية للاستعمار والأحلاف الغربية، قد بدأت تتبلور.

وظل التعاون محدوداً، في البداية، بين مصر الناصرية واليمن. فاقتصر على قبول الطلاب اليمنيين (المدنيين والعسكريين) بالكليات والمدارس المصرية، وإرسال البعثات التعليمية، مع زيادة المنح، التي تقّدمها مصر إلى الطلبة اليمنيين في القاهرة[13]. إلاّ أنه، في عام 1954، طلب الإمام بعثة عسكرية مصرية، تم إرسالها، فعلاً، ومعها بعثة من ضباط الشرطة. وعندما حدث انقلاب الثلايا، عام 1955، ضد الإمام أحمد، عكست البعثة موقف الحكومة المصرية، غير الميال إلى التدخل في شؤون اليمن. كما حرص الرئيس جمال عبدالناصر على إرسال حسين الشافعي، عضو مجلس الثورة، في ذلك الوقت، للتهنئة بنجاة الإمام، وتأكيد الموقف المصري من عدم التدخل في الشؤون الداخلية لليمن. وفي ذروة المعركة المصرية ضد الأحلاف الأجنبية، قبلت مصر والمملكة العربية السعودية انضمام اليمن إلى اتفاقية الدفاع المشترك، في أبريل 1956 (انظر ملحق اتفاقية الدفاع المشترك بين حكومة جمهورية مصر والمملكة العربية السعودية والمملكة المتوكلية اليمنية).

وقد شجعت صفقة الأسلحة التشيكية، التي عقدتها مصر، عام 1955، الإمام على توثيق علاقاته بالاتحاد السوفيتي، لمساندته في موقفه تجاه بريطانيا، وقد انتهى الأمر بعقد معاهدة صداقة بين الجمهورية العربية اليمنية والاتحاد السوفيتي، في نهاية أكتوبر 1955[14] (انظر ملحق معاهدة الصداقة بين اتحاد الجمهوريات السوفيتية الاشتراكية والمملكة اليمنية). وفي العام التالي، زار الأمير محمد البدر الاتحاد السوفيتي، وتعاقد على شراء أسلحة للجيش اليمني، بدأ وصولها في أكتوبر 1956. وفي عام 1957، وصلت بعثة عسكرية سوفيتية، لتدريب اليمنيين على استخدام تلك الأسلحة. كما أُرسلت بعثة عسكرية مصرية جديدة، للمساهمة في تدريب اليمنيين. وبعد أن أُنشئت الكلية الحربية في صنعاء، تولت البعثة المصرية التدريب فيها.

ولتقوية موقفه ضد بريطانيا في الجنوب، واحتواء المعارضة، التي بدأت تتزايد، داخل اليمن وخارجها، والحد من نشاطها الخارجي، طلب الإمام الانضمام إلى الوحدة المصرية ـ السورية عام 1958، بعد أن رأى شعبية مصر ورئيسها، تتزايد داخل اليمن، بفضل إذاعة صوت العرب. وعلى ذلك، انضم الإمام إلى الاتحاد، في الوقت الذي اشترط فيه تجميد نشاط المعارضة اليمنية في بلدَي الوحدة. أمّا الرئيس جمال عبدالناصر، فقد برر قبوله الاتحاد مع اليمن، بأن ذلك قد يفتح طريق الحضارة إلى تلك البلاد، ويخفف الضغط على العناصر الوطنية (انظر ملحق ميثاق الإتحاد بين الجمهورية العربية المتحدة والمملكة والمملكة المتوكلية اليمنية).

وقد ساعد سفر الإمام إلى روما للعلاج، عام 1959، وتولِّي البدر مسؤولية الحكم، على تزايد النفوذ المصري في اليمن بشكل ملحوظ، خاصة بعد تزايد أعداد العسكريين المصريين، أكثر مما تحدد للبعثة العسكرية، بناء على طلب الأمير محمد البدر. وقد أقلق هذا الأمر الإمام، وجعله يعيد إلى مصر الأعداد الزائدة من الضباط وضباط الصف، فور رجوعه إلى اليمن، في أواخر صيف عام 1959.

لم ينتهِ موقف الإمام، الغاضب من مصر، عند حد إنهاء مهمة أولئك الضباط، بل سار على درب القطيعة، بالهجوم على مصر وقوانينها الاشتراكية، في يوليه 1961، بقصيدة شعرية شهيرة، ثم انضم إلى أعداء الوحدة، في حملتهم الشرسة على مصر ورئيسها، في أعقاب الانفصال السوري. وإزاء هذا الموقف، لم يجد الرئيس عبدالناصر بداً من سحب البعثة العسكرية المصرية، في سبتمبر 1961، وإنهاء الاتحاد بين البلدين، في ديسمبر من العام نفسه، كما سمح لحركة المعارضة اليمنية في مصر بشن حملاتها ضد نظام الإمامة، في الصحافة والإذاعة المصريتين. وجاء هذا المنعطف الخطير في علاقة البلدين، في الوقت الذي كانت حركة المعارضة اليمنية، قد وصلت فيه إلى القناعة التامة بضرورة تفجير الثورة ضد نظام الإمامة.

6.    حركة المعارضة اليمنية

في ظل تطور حركة المعارضة اليمنية، فإنه يمكن تقسيمها إلى معارضة محافظة، وأخرى تقدمية. وقد استندت المعارضة المحافظة، أساساً، إلى السادة الأشراف، وبعض أُسرة حميدالدين. وانحصرت معارضتهم في التقليد، الذي سنَّه الإمام يحيى، بإعلان ابنه وليّاً للعهد في حياته، لأن ذلك يباعد بينهم وبين أيلولة الإمامة إلى أي منهم. أمّا امتداد هذا النوع من المعارضة إلى أُسرة حميدالدين نفسها، فيرجـع إلى أن أفراد هذه الأُسـرة، وإن كانوا لا يعارضون اختيار الإمام من آل حميدالدين، إلاّ أن إعلان الإمام ولاية العهد لأحد أبنائه، يباعد بين إخوته وباقي أمراء الأُسرة، من تلك الإمامة.

أمّا المعارضة التقدمية، فكانت تستند، أساساً، إلى فئات التجار والمثقفين والعسكريين (الطبقة المتوسطة)، وهي ترجع إلى منتصف الثلاثينيات. وكانت تعتمد، في تحقيق أهدافها، في البداية، على تسرب أعضائها إلى جهاز الحكم، لضربه من الداخل، مع توعية الجماهير القبلية، والحفاظ على قنوات اتصال مع الخارج، لكسب المساندة والتأييد. وإزاء فشل المعارضة في الداخل، نتيجة لإرهاب الإمامة، اتخذت حركة المعارضة التقدمية (الأحرار) من عدن مركزاً لها، في أوائل الأربعينيات. وقد أدى هذا التطور إلى مزيد من الانتشار والقوة لقضيتها، الأمر الذي أقلق الإمام يحيى، في ذلك الوقت، فأرسل وليّ عهده، الأمير أحمد (الإمام أحمد، فيما بعد)، إلى عدن، ليدخل في حوار معهم. ثم حدث تطور مثير للمعارضة، بمجيء الأمير سيف الإسلام إبراهيم، الابن التاسع للإمام يحيى، إلى عدن، وإعلان انضمامه إلى الأحرار، مما أحدث هزة عنيفة لحكم الإمام.

وقد حاولت المعارضة الاتصال بالملك عبدالعزيز، عام 1946، للحصول على مساندته وتأييده، إلاّ أنها أخفقت، لتمسك الملك بمعاهدته مع الإمام يحيى، من ناحية، ولقيام جريدة الأحرار في عدن بالهجوم على النظام الملكي عامة، في إطار حملتها على الإمام يحيى والوضع القائم في اليمن، من ناحية أخرى. وفي الوقت الذي فشل فيه الأحرار مع الملك عبدالعزيز، فقد كللت جهودهم بالنجاح مع الإخوان المسلمين، في مصر، بعد الاتصال الذي تم مع حسن البنّا في المملكة العربية السعودية. وعلى ذلك، ساند الإخوان المعارضة اليمنية، بما كانت تنشره صحافتهم، في ذلك الوقت.

وقد حاول الأحرار دفع الجامعة العربية إلى التدخل لمساندتهم في صراعهم مع الإمام، فأرسل الأمير إبراهيم بن يحيى برقية إلى الجامعة، يرجو تدخلها لحل مشكلة اليمن، قبل أن يفلت الزمام من أيـدي المخلصيـن، ويحدث ما لا تحمد عقباه. إلاّ أن هذه المحاولة كان نصيبها الإخفاق.

وفي عام 1948، ائتلفت حركة الأحرار مع قطاع من المعارضة المحافظة، للإطاحة بالإمام يحيى، وتنصيب عبدالله الوزير إماماً دستورياً للبلاد. وقد نجح الائتلاف في تحقيق أولى خطواته نحو الهدف، وهو قتل الإمام يحيى والاستيلاء على السلطة. إلاّ أن الانقلاب الجديد، لم ينجح في الحصول على مباركة القبائل، بعد السيطرة على صنعاء، الأمر الذي يعود إلى جهود وليّ العهد في استغلال مقتل والده، لاستثارة قبائل الشمال، الزيدية، بعد أن صور لها أن اغتيال الإمام تم في إطار مؤامرة استعمارية، سوف تؤدي إلى ضياع اليمن، وانحلال الدين. وحتى يضمن القضاء على الانقلاب، أباح للقبائل سلب العاصمة ونهْبها، فاكتسحتها القبائل المؤيدة، وعاثت فيها فساداً وتخريباً، أسبوعاً كاملاً.

وبعد إخفاق الانقلاب، ساد البلاد موجة من القتل والإرهاب، مما أوقف نشاط المعارضة بعض الوقت، وألجأ بعض المعارضين إلى الخارج. وقد عمل الأحرار، في تلك المرحلة، على بث الفرقة داخل أُسرة حميدالدين، بتأييد تعيين الأمير محمد البدر وليّاً للعهد، الأمر الذي كان يرضي الإمام أحمد، ويثير حفيظة أخيه، الأمير الحسن. و كان البدر، في نظر الأحرار، أفضل المرشحين لولاية العهد، لتوجهاته الإصلاحية. وأدى الخلاف بين الإمام أحمد وأخيه، الأمير الحسن، حول ولاية العهد، إلى شبه إبعاد للأخير خارج البلاد، ليمثل اليمن في الأمم المتحدة. كما أدى إلى خلاف موازٍ مع السادة الأشراف، الطامحين إلى الإمامة. وفي هذا المناخ، جرت المحاولة الانقلابية الأولى، في عهد الإمام أحمد، عام 1955.

وقد استند هذا الانقلاب، إلى القوى المعارضة نفسها، المحافظة والتقدمية، والتي كان يتزعمها، هذه المرة، قطاع من أُسرة حميدالدين، يمثله الأمير عبدالله، شقيق الإمام (ذو الميول الغربية، الذي كان قد تأثر ببعض الأفكار التقدمية، أثناء تمثيله لبلاده في الأمم المتحدة). ومن ناحية أخرى، انتهت المفاضلة بفريق من الضباط والشباب المستنير، إلى ترجيح كفة الأمير عبدالله، لتولّي الإمامة، بدلاً من البدر، خاصة أن الأول، أبدى استعداده للتخلص من الإمام، وهو أمر كان خارج قدرة البدر.

وعلى ذلك، جرى الاتفاق، بين الأمير عبدالله والمقدم أحمد الثلايا، على القيام بانقلاب، في أول فرصة، يكون هدفه تنحية الإمام، وتنصيب أخيه. وقد سنحت الفرصة، عندما وقع احتكاك بين الجنود وأهالي قرية شمال مدينة تعز. ونجح القائمون بالانقلاب في محاصرة الإمام، واستكتابه تنازلاً لأخيه عبدالله. إلا أن الإمام، نجح في التخلص من الأَسر، وقاد معركة ناجحة ضد الانقلاب، بعد أن رشا بعض جنوده، في الوقت الذي اتصل فيــه البدر، من الحديدة، بالقبائل الزيدية، وحشدها للقضاء على الانقلاب، الذي انتهى بالفشل.

وقد أدى انقلاب 1955، إلى مزيد من التفكك في أُسرة حميدالدين، بعد أن أعدم الإمام اثنين من إخوته، هما عبدالله والعباس. وأوضحت نتائج ذلك الانقلاب، لزعماء المعارضة التقدمية، عقم الإصلاح، في ظل حكم الإمامة. وبذا، أمسى طريق الثورة على نظام الإمامة نفسها، هو الطريق الوحيد للتغيير، أمام المعارضة. فعلى الرغم من وعود الإمام بالإصلاح، عقب محاولة الانقلاب الأخيرة، إلا أنه سرعان ما تنكّر لكل تلك الوعود، وأغلق بنفسه، وللمرة الأخيرة، كل الطرق أمام المعارضة الإصلاحية. ومن ثمّ، بدأ الصراع السياسي داخل اليمن يأخذ بعداً جديداً، تمثل في تبنِّي حركة المعارضة التقدمية موقفاً ثورياً، يهدف إلى القضاء على نظام الإمامة نفسه، واستبدال النظام الجمهوري به.

ولم تنخدع حركة المعارضة بوعود البدر، الذي برز دوره، بعد عام 1955، لأنها رأت في تلك الوعود نوعاً من الانتهازية السياسية، لكسب القوى التقدمية، ضد معارضة بعض المحافظين.

وقد أدى التحول الجديد في موقف المعارضة التقدمية، إلى تباعدها عن المعارضة المحافظة، وسقوط التحالف، الذي انتهى بانقلابين فاشلين عامَي 1948، 1955. إلاّ أنه بدءاً بعام 1959، بدأت المعارضة التقدمية، تكتسب أنصاراً جدداً، إذ أمست تلك المعارضة غير مقتصرة على المثقفين والتجار والعسكريين، بل اتخذت طابعاً شعبياً، لم يقتصر على المدن وحدها، بل امتد ليشمل بعض قبائل الشمال الزيدي.

ففي الفترة، التي سافر فيها الإمام للعلاج في إيطاليا (أبريل ـ أغسطس 1959)، تصرف البدر كحاكم فعلي، وأسرف في وعود الإصلاح والتقارب مع مصر، مما أدى إلى استثارة أعداء الإصلاح عليه، وأضعف موقفه. فتفجرت متناقضات اليمن، خلال تلك الأشهر القليلة، فحدث بعض الاضطرابات، واضطر البدر إلى الاستعانة ببعض القبائل القوية لمساندته، وأجزل لها العطاء، فتجمع ما يقرب من 50 ألف من رجال القبائل حول صنعاء، مما زاد الموقف تعقيداً، ودفع الإمام إلى قطع رحلة العلاج، والعودة إلى اليمن، لمواجهة الموقف بحسمه المعروف.

إلاّ أن الاضرابات القبلية، استمرت بعد عودة الإمام، وإعدامه بعض مشايخ القبائل، واسترداده الأموال، التي أخذوها من البدر. ونتيجة لتزايد تلك الاضطرابات، ومشاركة أكبر تجمّعيْن قبليين فيها (حاشد وبكيل)، اللذين كان يعتمد عليهما الإمام، اضطر الأخير إلى استخدام الجيش في قمع تلك الانتفاضات. وشهد عام 1960 مزيداً من الاضطرابات، وأعمال العصيان المدني، إذ تمردت قبائل بكيل، مرة أخرى، في شهر أبريل، نتيجة لزيادة الضرائب، على الرغم من مرور عدة سنوات، اتسمت بالجفاف في المناطق الشمالية، وانضمت إليها قبائل خولان. وعندما استدعى الإمام مشايخها للتفاوض، رفضوا الحضور، معلِّلين ذلك بغدر الإمام بالشيخ حسين الأحمر وابنه، الذي لم يمّحِ من ذاكرتهم. وكان رفض المشايخ الحضور للقاء الإمام، علامة واضحة على هبوط هيبته بين القبائل الزيدية.

كما شمل التذمر والاستياء أفراد الجيش، نتيجة لتأخر صرف رواتبهم، من ناحية، ومعايشتهم سوء الحالة في البلاد، التي يعانيها السواد الأعظم من الشعب، من ناحية أخرى.

وسرعان ما امتد التذمر إلى معظم فئات الشعب اليمني، التي اتخذت موقفاً معارضاً للإمام وأسرته، بعد الضربة، التي أنزلتها القبائل الزيدية الشمالية بهيبة الإمام ومكانته. وشكلت أعمال المقاومة المسلحة، عام 1961، التعبير الجديد عن سخط الشعب، وكرهه لأُسرة حميدالدين. فألقيت القنابل والمتفجرات في قصر الإمام في تعز، وفي منازل بعض أعضاء الحكومة. وفي مارس من العام نفسه، جرت محاولة اغتيال الإمام في مستشفى الحديدة، حيث أصيب بجروح بالغة، ظل يعانيها حتى وفاته.

وأمام المعارضة المتزايدة، قرر الإمام أحمد حسم قضية ولاية العهد، لمصلحة ابنه محمد البدر، بعد أن رأى تزايد دعم العناصر المحافظة لأخيه الحسن. وفي أكتوبر عام 1961، ألقى الإمام خطاباً، عبْر إذاعة صنعاء، أعلن فيه، رسمياً، تنصيب الأمير محمد البدر وليّاً للعهد. وأدى هذا الإعلان إلى رد فعل قوي من أنصار الحسن، الذين رأوا في تعيين الإمام لابنه وليّاً للعهد، أمراً غير شرعي، ويناقض أعراف المذهب الزيدي وقواعده، القاضية بانتخاب الإمام من قِبل مجلس العلماء. وهكذا، نجح الإمام أحمد في تأليب كافة فئات الشعب اليمني عليه، في سنوات حكمه الأخيرة، ولم يستثنِ من ذلك حتى أفراد أُسرته.

 


[1]   نسبة إلى الإمام زيد بن علي زين العابدين بن الحسين بن علي بن أبي طالب. كما كان المذهب الثاني هو المذهب الشافعي، نسبة إلى الإمام أبي عبدالله محمد بن إدريس الشافعي، أحد الأئمة السنيين الأربعة.

[2]   القات: نبات مخدر، يزرع في اليمن بموافقة الدولة، ويتعاطاه معظم اليمنيين، من طريق المضغ.

[3]  كان الإمام يسبغ لقب القاضي على بعض معاونيه، ممن يتولون مناصب رفيعة في السلك الدبلوماسي، أو في الإدارة، إضافة إلى قضاة العدالة.

[4]  أسفرت إباحة صنعاء للقبائل، في مارس 1948، عن أسبوع من القتل والسلب والنهب والتخريب. لقي، خلاله، أكثر من 5 آلاف شخص مصرعهم.

[5]  لم يكن الإمام يحيى يسيطر، في البداية، إلاّ على الشمال الزيدي.

[6]  المصادر الرسمية المصرية.

[7]  لمّا كانت بريطانيا في نزاع مع الإمام يحيى حول الحدود الجنوبية لليمن، فقد استخدمت العراق بالوكالة لموازنة الاقتراب الإيطالي من اليمن.

[8]  المصادر الرسمية المصرية.

[9]  المصادر الرسمية المصرية.

[10]  المصادر الرسمية المصرية.

[11]  المصادر الرسمية المصرية.

[12]  المصادر الرسمية المصرية. كانت تسمية تلك القوات جيوشاً مبالغة ومفارقة معاً، نظراً إلى الحالة المتواضعة جداً، التي كانت عليها تلك القوات، سواء من حيث العدد، أو التنظيم، أو التدريب أو التسليح، أو حتى المظهر.

[13]   ساعد البدر هذه الدفعة على دخول الكلية الحربية، وهي الدفعة التي تخرجت عام 1955، وشارك بعض أفرادها في الثورة، عام 1962.

[14]   لم تكن هذه أولى المعاهدات بين اليمن والاتحاد السوفيتي. فقد سبق ذلك عقد معاهدة بين البلدين، عام 1928.