إرشادات مقترحات البحث معلومات خط الزمن الفهارس الخرائط الصور الوثائق الأقسام

مقاتل من الصحراء
Home Page / الأقســام / موضوعات سياسية عسكرية / اليمن... الثورة والحرب (1962 ـ 1970)، حرب اليمن من وجهة النظر المصرية





ميناء الحديدة
ميناء صليف
إجراءات تأمين قاعدة الحديدة
أعمال المقاومة الملكية
أعمال قتال الجانبين على المحور الشرقي
أعمال قتال الجانبين في المنطقة الشمالية
أعمال قتال الجانبين، يوليه 1967
أعمال قتال الجانبين، يونيه 1967
التوزيع الجغرافي للقبائل
السيطرة على المحور الساحلي
العملية نسر
العملية اكتساح
العملية صقر
العملية قادر
القوات المصرية والجمهورية، يوليه 1967
القوات المصرية والجمهورية، يونيه 1967
القوات المصرية، نهاية أبريل 1966
القوات الجمهورية، مايو 1967
توزيع قوات الجمهوريين بمنطقة الجوف
تطهير صحن العقبة
تضاريس اليمن
عمليات الجانبين للسيطرة على المحور
عملية جبل اللوز
فتح وتطهير طريق السر
فتح طريق المطمة ـ الحميدات
قتال المنطقة الشمالية
قتال الجمهوريين لتأمين منطقة أرحب
قتال الجانبين للسيطرة على منطقة السوده
قتال الجانبين للسيطرة على المحور الأوسط
قتال الجانبين للسيطرة على المحور الشمالي
قتال الجانبين للسيطرة على طريق الحديدة
قتال الجانبين للسيطرة على ذيبين
قتال الجانبين بمنطقة الجوف
قتال الجانبين بالمنطقة الشمالية
قتال الجانبين بالمنطقة الشرقية
قتال الجانبين على المحور الأوسط
قتال الجانبين على المحور الشرقي
قتال الجانبين على المحور الشرقي 1962
قتال الجانبين في المنطقة المركزية
قتال الجانبين في المنطقة الغربية
قتال الجانبين في جبلي حرم ورازح
قتال الجانبين في قطاع جبل رازح
قتال قوات الجمهوريين للسيطرة على مأرب
قتال قوات الجمهوريين للسيطرة على الحزم

منطقة العمليات البحرية
مسرح الحرب اليمنية
المسرح اليمني
الجمهورية العربية اليمنية
القصف الجوي 1963
القصف الجوي 1964
القصف الجوي 1965
القصف الجوي يناير ـ مايو 1967
القصف الجوي يونيه ـ ديسمبر 1967
طرق التسلل



الفصل الثاني

مواقف الأطراف اليمنية من الثورة

أولاً: موقف فصائل المعارضة لأسرة حميدالدين

1.    الإعداد للثورة

لم يكن معظم فئات المعارضة اليمنية هي وحدها، التي راهنت على الأمير محمد البدر، بل إن القيادة السياسية المصرية ساندته، منذ البداية. وعندما بدأ بعض فصائل المعارضة اليمنية، تنفضّ من حول البدر، بعد موقفه المتخاذل، عند عودة الإمام من إيطاليا، ظلت القيادة المصرية على موقفها من وليّ العهد. حتى عندما ساءت العلاقة بين القيادة السياسية المصرية والإمام، بعد أحداث التأميم والانفصال السوري، لم تفقد القيادة المصرية أملها في البدر، فقد كانت، حتى ذلك الوقت، ترى صعوبة قيام ثورة منظمة ضد نظام الإمامة، في ظل تلك الأوضاع التي كان اليمن يعيشها.

وكانت فصائل المعارضة التقدمية من العسكريين، هم وحدهم، الذين فقدوا ثقتهم، مبكراً، بإمكانية تحقيق الإصلاح في ظل الإمامة، بعد محاولة الانقلاب الفاشلة، عام 1955. إلاّ أنه حتى نوفمبر عام 1961، لم تكن تلك الفصائل قد نظمت صفوفها، أو نسقت جهودها مع فصائل المعارضة التقدمية المدنية، التي كانت تنتشر داخل المدن الرئيسية في اليمن (صنعاء وتعز والحديدة)، وبلاد المنفى (مصر وعدن). غير أنه مع إعلان الرئيس جمال عبدالناصر إلغاء الاتحاد بين الجمهورية العربية المتحدة واليمن، في ديسمبر 1961، بدأت الفصائل العسكرية للمعارضة التقدمية، تنظم صفوفها، وتشكل تنظيم الضباط الأحرار، الذي كان في معظمه من صغار الضباط، الذين تخرجوا في الكلية الحربية المصرية، عامَي 1954 و 1955، أو على يد البعثة العسكرية المصرية في الكلية الحربية بصنعاء، بعد ذلك. ويوضح الملحق الرقم (10) أسماء وأعداد وتوزيع القاعدة التأسيسية للضباط الأحرار، الذين نجحوا في ضم مجموعات أخرى أعلى رتبة. وقد  تشكل التنظيم من مجموعة خلايا صغيرة، ينظم عملها لجنة قيادية، تنتخب دورياً (انظر ملحق الهيكل التنظيمي للضباط الأحرار عند قيام الثورة).

وخلال عام 1962، حتى قيام الثورة، بدأ الضباط الأحرار اتصالاتهم مع الشخصيات العسكرية الوطنية، الراغبة في التغيير، أمثال الزعيم حمود الجائفي، والزعيم عبدالله السلال، والعقيد حسن العمري، والمقدم عبدالله جزيلان وغيرهم. كما انفتحوا على الشخصيات البارزة في فصائل المعارضة التقدمية الأخرى، سواء في صنعاء وتعز والحديدة، أو في مدن المنفى، كالقاهرة وعدن (من أمثال عبدالغني مطهر، وعبدالقوي حاييم، والقاضي عبدالسلام صبره، ومحمد علي الأحمدي، والنقيب محمد قائد سيف، وعلي محمد سعيد، ومحمد علي عثمان، والطيّار عبدالرحيم عبدالله وغيرهم).

وفي صيف ذلك العام، جرى اتصالان بالرئيس جمال عبدالناصر، طلباً للمساندة المصرية، ودعم الثورة، عند قيامها. الأول، بواسطة الضباط الأحرار مباشرة، من طريق السفارة المصرية في اليمن. والثاني، بواسطة الدكتور عبدالرحمن البيضاني وعبدالغني المطهر والنقيب محمد قائد سيف، من طريق أنور السادات في القاهرة. وكان من رأي الضباط الأحرار وحلفائهم من المعارضة التقدمية، أنه في ضوء نتائج محاولتَي الانقلاب الفاشلتين، عامَي 1948، 1955، فلا أمل لنجاح الثورة واستمرارها، بعد الاستيلاء على السلطة، إلاّ بدعم سياسي وعسكري عربي قوي. وكانت مصر (الجمهورية العربية المتحدة، في ذلك الوقت)  بثقلها السياسي والعسكري، ودعمها المعروف لحركات التحرر، هي الدولة المرشحة، في نظر الثوار، لتقديم ذلك الدعم، في الوقت الذي كان فيه السادات، يؤكد للرئيس جمال عبدالناصر قدرة الثوار على السيطرة على الأوضاع الداخلية في اليمن، وأن قيادة الثورة، لا يلزمها إلاّ التأييد السياسي، ومعاونة عسكرية رمزية.

وخلال هذين الاتصالين مع الرئيس جمال عبدالناصر، من أجل الدعم المطلوب للثورة، كان رد الرئيس المصري إيجابياً، على الرغم من أنه، حتى ذلك الوقت، لم يكن قد فقد الأمل تماماً في قدرة البدر على الإصلاح، لو أتيحت له الفرصة. وعلى كلٍّ، كان الرئيس عبدالناصر يتحرك في غير اتجاه، لدعم حركة التحرر والإصلاح في اليمن، بالبدر كان أم بالثوار، فنجاح أي السبيلين، في تقديره، كان سيؤدي إلى تحقيق الظروف الملائمة، لضرب آخر قلاع الاستعمار البريطاني في اليمن الجنوبي، الذي استخدم في العدوان على مصر عام 1956.

ورداً على طلب الدعم من القيادة السياسية المصرية، تلقّى تنظيم الضباط الأحرار برقية من الرئيس جمال عبدالناصر تقول: "نفذوا، وسأفي بالتزاماتي. نبارك العمل الوطني، ونحن على استعداد لتقديم العون، في حينه، حسب ظروف وإمكانيات مصر".

وخلال صيف عام 1962، جرت جهود مكثفة من الضباط الأحرار، وحلفائهم من أقطاب المعارضة التقدمية، لتأمين احتياجات الثورة من الأسلحة والذخائر، التي كان الإمام يفرض رقابة مشددة على مخازنها. فاشترى بعض التجار الوطنيين الأسلحة وخزّنوها. كما نجح الضباط الوطنيون في تهريب بعض الذخائر الحيوية، مثل ذخائر الدبابات والمدفعية.

وفي تلك الفترة، حدّد تنظيم الضباط الأحرار أهداف الثورة الستة، التي أُعلنت في أول بياناته. ولكن ضيق الوقت، وقِلة الخبرة، لم يسمحا للضباط الأحرار بوضع خطط أو برامج تفصيلية، لكيفية تحقيق هذه الأهداف، بعد الاستيلاء على السلطة.

وكما حدث للثورة المصرية، عام 1952، تطلب الموقف اليمني، وصغر سن الضباط الأحرار، شخصية عسكرية بارزة، ومعروفة، وتحظى باحترامهم، لتتصدر الثورة، ويلتف جميع أفراد الشعب من حولها. وقد وقع الاختيار، في البداية، على الزعيم (العميد) حمود الجائفي، الأب الروحي للضباط، الذي كان يشغل، في ذلك الوقت، منصب مدير ميناء الحديدة. واتصل المقدم عبدالله جزيلان، مدير الكلية الحربية، في ذلك الوقت، بالجائفي، عقب وفاة الإمام أحمد، حتى يحضر إلى صنعاء، حين قيام الثورة، ليكون على رأسها. وبعد استعراض ردود الفعل المحتملة، من القوى الخارجية والداخلية، المؤثرة في الثورة، وافق الجائفي على العرض، الذي حمله جزيلان، بعد أن أكد له الأخير أن الرئيس جمال عبدالناصر، وعد بتقديم الدعم المعنوي والمادي إلى الثورة، عند قيامها، وأن وعداً مماثلاً، صدر من أنور السادات، عضو مجلس الرئاسة المصري.

2.        تفجير الثورة

كان الضباط الأحرار، وحلفاؤهم من المعارضة التقدمية، حتى وفاة الإمام أحمد، يوم 18 سبتمبر 1962، يخططون لتفجير الثورة من مدينة تعز، التي كانت  مقر الإمامة، في ذلك الوقت. ولكن على إثر تنصيب البدر إماماً، بعد وفاة أبيه، وانتقال مركز الإمامة إلى صنعاء، تحوّل اهتمام الثوار إلى العاصمة، مع استمرار التنسيق مع خلاياهم، في كل من مدينتَي تعز والحديّدة.

 وخلال الأسبوع السابق للثورة، ترابطت أسرة حميدالدين، عقب تنصيب البدر، الذي حاول احتواء الخلاف مع عمه، سيف الإسلام الحسن، فأرسل إليه في "نيويورك" برقية، يعرض عليه فيها منصب النائب الأوحد للإمام، ورئيس مجلس الشورى، الذي ينوي تشكيله من عشرين عضواً من أسرة حميدالدين، وعشرين آخرين من ذوي الرأي، من كبار المشايخ (انظر ملحق برقية الإمام محمد البدر إلى عمه الأمير سيف الإسلام الحسن).

وفي خطاب العرش، الذي ألقاه يوم عشرين سبتمبر، أعلن الإمام الجديد، أنه "سيحافظ على سيادة القانون، وسيساعد المضطهدين، وسيضع أسُس العدالة". كما وعد الشعب بأنه سيصدر القوانين، التي يصبح المواطنون، بموجبها، متساوين في الحقوق والواجبات، ولن يفضل أي مواطن على غيره من المواطنين، إلاّ إذا كان نافعاً للوطن أكثر من غيره. وفي ميدان السياسة الخارجية، أوضح الإمام البدر، أن اليمن سيستمر في سياسة الحياد الإيجابي، وسيبقى وفياً لمبادئ الأمم المتحدة، وميثاق جامعة الدول العربية، ومبادئ باندونج، وسيسعى من أجل الوحدة العربية.

وفي الأيام الأولى لحكمه، أصدر الإمام البدر عدة مراسيم، تستهدف تعزيز مركزه، والتخفيف من حدّة المعارضة المتصاعدة. فطبقاً للمرسومَيْن الأولَيْن، احتفظ الوزراء وكبار قادة الجيش بمناصبهم. وبذلك، ضمن مساندة الجهاز الحكومي له. وفي المرسوم الثالث، أعلن الإمام العفو العام عن كل المشاركين في الأحداث السياسية السابقة، التي أدت بمرتكبيها إلى السجن، أو الهرب خارج البلاد. كما ألغى المرسوم الرابع نظام الرهائن، بينما أسقط المرسوم الخامس جميع بقايا الضرائب، التي لم تصل إلى خزينة الدولة حتى عام 1960، باستثناء القروض والسلفيات. في الوقت الذي نص فيه المرسوم السادس على رفع مرتبات ضباط الجيش وجنوده، فضلاً عن المساعدات التي تقدم إلى القبائل.

وعلى إثر ذلك، أعلن مشايخ كبرى القبائل اليمنية، وممثلو الأسَر الإقطاعية، وأقطاب حركتَي المعارضة المحافظة والأحرار القدامى، وعلماء الدين، تأييدهم ومساندتهم للإمام البدر، الذي علقوا عليه الآمال في الإصلاح، بعد استلامه للسلطة. إلاّ أن البدر سرعان ما انقلب على عقبَيه، وكأنه قرر الكفّ عن القيام بدور الحاكم المستنير، بمجرد إعلان القوى السياسية التقليدية مساندتها له. فأعلن عزمه على مواصلة سياسة والده، والتعاون مع عمه الحسن، وهدّد من يعترضون سبيله.

وعلى الجانب الآخر، انقسم تنظيم الضباط، تجاه توقيت تفجير الثورة، بعد موت الإمام أحمد، إلى ثلاثة فرقاء، كان الأول منها، يطالب بالتحرك الفوري ضد الإمام الجديد، قبل مجيء عمه، الأمير سيف الإسلام الحسن، من الخارج، خشية أن تتجمع قوى الاثنين ضد الثورة. بينما كان الفريق الثاني، يرى الانتظار حتى يصل الأمير الحسن من الخارج، حتى يتم القضاء على رؤوس أسرة حميدالدين مرة واحدة.  أمّا الفريق الثالث، فكان يرى عدم التعجيل بالثورة، قبل الإعداد الكافي لها. ولكن تطور الأحداث، فرض على الثوار الأخذ بالرأي الأول. فعلى إثر اكتشاف الضباط، أن البدر بدأ يشعر أن هناك شيئاً ما، يُدَبَّر ضده، قرّر تنظيم الضباط، وأقطاب المعارضة التقدمية، الإسراع في تفجير الثورة، قبل أن ينكّل الإمام بهم[1].

فأُعلنت حالة الطوارئ في الكلية الحربية، التي كان معظم ضباطها ضمن تشكيل الضباط الأحرار. وانصرف الجميع إلى تجهيز الأسلحة والدبابات والعربات المدرعة، وتم نقل ذخائر الدبابات، التي كان قد سبق تهريبها، إلى فوج البدر، الذي كان سيقع عليه العبء الرئيسي في التحرك العسكري ضد الإمام.

وبعد توزيع الأسلحة والذخيرة على الضباط، عُقد، في الكلية الحربية، مؤتمر عام، في الساعة التاسعة مساء، حضره جميع الضباط الأحرار في صنعاء، وعدد من الضباط وضباط الصف الوطنيين، المشاركين في الثورة من خارج التنظيم، بغرض توزيع المهام، طبقاً لخطة الثورة، التي كان مفروضاً أن تبدأ عقب اغتيال البدر، بعد فضّ اجتماع مجلس الوزراء، الذي كان منعقداً في ذلك المساء، بواسطة أحد ضباط التنظيم، الذي يعمل ضمن حرس الإمام. غير أن اجتماع مجلس الوزراء انتهى، وعاد البدر سالماً إلى قصره، بعد فشل مهمة النقيب حسين السكري، نتيجة لتعثر خروج الرصاص من مدفعه الرشاش.

وإزاء هذه المفاجأة، التي أُبلغت إلى قيادة التنظيم في الكلية الحربية، قرر التنظيم التحرك، على الفور، للسيطرة على الموقف، قبل أن يسبقه الإمام، الذي قرر، خلال اجتماع مجلس الوزراء الأخير، سحب الأسلحة من الوحدات، واعتقال ستة عشر عضواً من الضباط الأحرار.

وفي الساعة الحادية عشرة من مساء ذلك اليوم، تحركت القوات المشاركة في الثورة، للقيام بمهامها، طبقاً للخطة. وكان على تلك القوات السيطرة على المراكز الحيوية في العاصمة، التي كانت تضم قصر البشاير (قصر الإمام)، ودار الإذاعة، ومركز المواصلات الهاتفية، وقصر السلاح (الذي يوجد فيه مخازن الأسلحة والذخائر والوقود)، إضافة إلى مراكز الأمن. بينما بقي بعض ضباط التنظيم داخل الكلية الحربية، التي اتخذت مركزاً للقيادة والسيطرة على وحدات الثورة.

وقد سقط قصر البشاير في أيدي الثوار، صباح يوم 26 سبتمبر، بعد حصاره طول الليل، وتبادل إطلاق النار مع حرسه. إلاّ أن الإمام نجح في الهرب، ليلاً، مع بعض حراسه، متوجهاً إلى مدينة "عمران"، ومنها إلى "حجة"، معقل أنصار الإمامة، قبل الثورة.

كما تمكنت القوة، التي توجهت إلى دار الإذاعة، من احتلالها، بعد مقاومة فردية من قائد الحرس، الذي تم إعدامه، بعد نجاح الثورة.

أمّا قصر السلاح، فقد حوصر، إلاّ أن قائده، الذي كان الإمام قد اتصل به قبل هروبه، رفض تسليم الذخائر للثوار، الذين  كانوا في أمس الحاجة إليها، لاستكمال مهامهم، بعد أن أشرفت ذخيرتهم على النفاد. ولم يرضخ لطلب الثوار، إلاّ بعد أن تلقّى أمراً كتابياً بذلك، من العميد عبدالله السلال، قائد حرس الإمام، قبل الثورة.

ولم تلقَ القوة، التي توجهت إلى مركز الهاتف، أي مقاومة، فأمكن السيطرة عليه بسهولة.

ومع صباح يوم 26 سبتمبر، كانت المناطق الحيوية في العاصمة خاضعة للسيطرة التامة. وأعلنت إذاعة صنعاء، في السابعة صباحاً، قيام الثورة، وبدأت تذيع أولى بيانات قيادتها، التي أعلنت فيها الجمهورية، ومبادئ الثورة، والخطوط العريضة لسياسة القيادة الجديدة، في المجال الداخلي والعربي والدولي (انظر ملحق البيان الأول للثورة).

وفي الوقت الذي كان يجرى فيه إذاعة أولى بيانات قيادة الثورة، كانت تلك القيادة تبحث عن قائد، يتصدر ثورتها أمام الشعب اليمني والعالم الخارجي، بعد تراجع العميد حمود الجائفي عن تلك الصدارة، عشية قيام الثورة، على إثر تفسير خاطئ لبرقية تعزية أمريكية في وفاة الإمام[2].

وعلى ذلك، اتجهت أنظار قيادة التنظيم إلى العميد عبدالله السلال قائد حرس الإمام، الذي سبق أن أبدى استعداده لتصدر الثورة بعد قيامها، عندما عرض عليه الأمر، قبل الثورة بشهر. ولكن موافقته، كانت مشروطة بمعرفة كل أفراد التنظيم وتفصيلات خطة الثورة، مما أثار مخاوف قيادة تنظيم الضباط، وجعلها تتصل بالعميد حمود الجائفي، بعد وفاة الإمام أحمد. غير أنه بعد قيام الثورة، سقطت تحفظات الثوار والسلال، على السواء. فتم الاتصال به، ليلة الثورة، للحضور إلى مقر قيادتها في الكلية الحربية، ولكنه لم يصل إليها، إلاّ في الصباح، بعد أن تعذر عليه الوصول ليلاً، بسبب إطلاق النيران في العاصمة.

وفور وصوله، أصدر العميد السلال أوامره إلى قائد قصر السلاح بتسليم الذخائر إلى قوات الثورة، على نحو ما سبق ذكره، وهو أمرٌ كان له أهمية كبيرة، في ذلك الوقت، بعد أن أشرفت  ذخائر الثوار على النفاد.

وبقرار من مجلس قيادة الثورة، أُعلنت حالة الطوارئ في البلاد، وأُغلقت الموانئ والمطارات، وتمّت السيطرة على مقارّ المؤسسات والمصالح الحكومية، كما تم اعتقال أفراد أسرة حميدالدين وأعوانهم، وأُعدم بعضٌ منهم.

ولم يقتصر نشاط الضباط الأحرار على العاصمة، صنعاء. ففي تعز، حيث نجح التنظيم في ضم عدد كبير من الضباط والقادة العسكريين إلى الثورة، خلال الشهور السابقة، كان المناخ مهيأً لتأييد الثورة، فور قيامها. فعندما أُبلغ قائد القوات في المدينة، صباح يوم 26 سبتمبر، بقيام الثورة، وعد بتأييدها، إذا تأكد من مقتل الإمام وإعلان الجمهورية. وعندما استمع لإذاعة العاصمة، تعلن دفن البدر تحت أنقاض قصره، الذي دكته دبابات الثوار ومدافعهم، أعلن تأييده للثورة. وبذا، تمّت السيطرة على المدينة وتأمينها، دون أن تطلق طلقة واحدة.

وفي "الحديدة"، تمت السيطرة على المدينة و الميناء، بعد أن ألقى ضباط التنظيم القبض على نائب الإمام وأعوانه في كل اللواء. في الوقت الذي وضعت فيه دوريات متحركة على طريق الحديدة ـ صنعاء.

وفي "حجة"، معقل الإمامة، التي اتجه إليها البدر، نجح أحد ضباط التنظيم في إطلاق المعتقلين السياسيين من سجنها الرهيب، وكان فيهم العديد من شيوخ القبائل والضباط والجنود، الذين سجنوا في عهد الإمام أحمد، ولم يطلقهم خليفته بعد. كما تمكن القائد الجديد، الذي عينته قيادة التنظيم، ليلة الثورة، من السيطرة على المدينة والقبض على أعوان البدر، بمساعدة القوة، التي شكّلها من أهالي المدينة والمسجونين السياسيين، الذين تم الإفراج عنهم.

وهكذا، تمّت السيطرة على المدن الرئيسية في اليمن، التي كان فيها قوات عسكرية. وقوبلت الثورة في تلك المناطق بالفرح والتأييد المطلق.

وعلى الرغم من إذاعة وفاة الإمام المخلوع تحت الأنقاض، فإن المراقبين المحايدين، تشككوا في صدق هذا الخبر، لعدم ظهور جثة البدر وعرضها على الشعب. كما أكّد أول الأجانب، الذين غادروا اليمن، بعد الإطاحة بالإمامة، أن الشعب كله ملتفّ حول الثورة، ويخرج في مَسيرات، في صنعاء وتعز، تعبيراً عن فرحته وتأييده.

وكان هناك حماس كبير بين التجمعات اليمنية المختلفة، الموجودة في المنفى. فتدفقت أعداد كبيرة منهم، تتسابق في العودة إلى الجمهورية الجديدة، حتى وصلت أعدادهم حدّاً، أصبح يمثل عبئاً إضافياً على مشكلة البطالة، القائمة بالفعل، مما دفع الحكومة إلى توجيه نداء، من خلال إذاعة صنعاء، تطلب فيه من اليمنيين المغتربين تأجيل عودتهم إلى الوطن بعض الوقت.

وخلال الأيام الأولى للثورة، أعلن العميد السلال احترام حكومة الثورة للاتفاقيات والمعاهدات الدولية، التي وقعتها الحكومات السابقة، وخص بالذكر معاهدتَي عام 1934، مع كل من المملكة العربية السعودية وبريطانيا، حتى لا يثير مخاوفهما تجاه النظام الجديد في اليمن. وحتى منتصف ديسمبر، بلغ عدد الدول، التي اعترفت بالنظام الجمهوري، 39 دولة، ليس بينها بريطانيا والولايات المتحدة الأمريكية من الغرب، والمملكة العربية السعودية والأردن والمغرب من الدول العربية. وكانت مصر والاتحاد السوفيتي هما أولى الدول، التي اعترفت بالنظام الجديد في اليمن.

ولكن النظام الجمهوري الوليد، بدأ، بعد أقلّ من أسبوع من قيام الثورة، يواجه المشاكل من الداخل والخارج، على السواء. فعلى الصعيد الداخلي، إضافة إلى مخلفات النظام السابق، شهد مجلس قيادة الثورة والحكومة صراعاً على السلطة، وخلافاً بين السلال والبيضاني.  فضلاً عن خلاف الأخير مع المقدم عبدالله جزيلان، منذ البداية، بسبب استغلال البيضاني صِلاته بالقيادة السياسية المصرية، لفرض نفسه وآرائه على مجلس قيادة الثورة، وهـو ما اضطـر الثوار إلى قبوله مرغمين، حتى لا يفقدوا الدعم المصري، الذي صور البيضاني لهم أنه مرهـون به.

وعلى الصعيد الخارجي، بدأ تمرد بعض قبائل المنطقتَيْن، الشرقية والشمالية، تحت إغراء أمراء أسرة حميدالدين، الذين نجحوا في الهرب، أو كانوا في الخارج، بعد أن مكّنهم الدعم السعودي من شراء ولاء هذه القبائل. ولم يقتصر الأمر على القبائل، بل إن أغلب وحدات الجيش اليمني، الذي ورثته الثورة من عهد الإمامة، بدأت تذوب وتتحلل، نتيجة لترك الجنود وحداتهم وانضمامهم إلى قبائلهم، كلما خرجوا لأداء إحدى المهام ضد القبائل المتمردة.

وعلى ذلك، انفرط عقد الجيش، وأصبح  موقف القوات اليمنية، خلال الأشهر الأولى للجمهورية، كما يلي:

    ‌أ.    الجيش النظامي

تفككت معظم وحدات هذا الجيش، بعد الثورة، نتيجة لسوء الظروف المعيشية، والاحتكاكات الطائفية، والمشاكل السياسية. فانخرط عدد كبير منه في الحرس الوطني، تحت قيادة الهادي عيسى، نائب وزير الدفاع، وانضم بضع مئات من جنوده إلى الملكيين، خاصة من فوج البدر، بينما عاد الباقي إلى قبائلهم. أما غالبية ضباط هذا الجيش، فقد ظلت على ولائها للجمهورية.

    ‌ب.   الجيش الدفاعي

تفكك هذا الجيش تماماً، بعد الثورة، وانضم أفراده، إمّا إلى قبائلهم، أو إلى الجيش الجمهوري الجديد، الذي بدأ  تشكيله وتدريبه، بعد التفكك الذي أصاب الجيوش القديمة.

    ‌ج.   الحرس الوطني

تشكلت وحدات هذا الحرس، أساساً، من بقايا وحدات الجيشين، النظامي والدفاعي، فضلاً عن متطوعي الجنوب والمغتربين، الذين تدفقوا إلى اليمن، بعد الثورة.

    ‌د.    الجيش البراني (القبلي)

تلاشى هذا الجيش تماماً، لتغيّر ولاء قبائله، التي افتقدت ما يغريها بالقتال من أجل الجمهورية. واستبدلت به جيوش قبلية أخرى أكثر ولاءً، ظلت تساند الجمهورية، وتقاتل من أجلها، تحت قيادة شيوخها، مثل جيش حاشد، والحدا، ولحق بهما بعض القبائل الأخرى، فيما بعد.

ومما سبق، يتضح أن قيادة الثورة لم يكن لديها من الوسائل، خلال أشهرها الأولى الحاسمة، ما يُمكنها من فرض السلطة المركزية للجمهورية على قبائل المناطق الحدودية، الشمالية والشرقية، المتمردة، التي ظلت، حتى في عهد الإمامة، تتمتع بقدر كبير من الاستقلال. وهو ما جعل مشايخ القبائل، في تلك المناطق، يعتقدون أن من حقهم عقد الاتفاقات لمصلحة قبائلهم، بغض النظر عن مدى ملاءمة تلك الاتفاقات مع المصلحة الوطنية العامة.

وعلى ذلك، لم يكن أمام قيادة الثورة اليمنية، إلاّ أن تطلب تكثيف الدعم العسكري المصري، الذي كان مقدراً، في البداية، أن يكون دعماً رمزياً، بعد أن تكشفت أبعاد الدعم العسكري، السعودي والأردني، للملكيين، ولجوء بعض طياري البلدين بطائراتهم إلى مصر، بدءاً من 2 أكتوبر 1962.

أرسل مجلس قيادة الثورة اليمنية برقية إلى الرئيس جمال عبدالناصر، في 3 أكتوبر، يؤكد فيها تمسكه باتفاقية الدفاع المشترك، التي عُقدت بين مصر والمملكة العربية السعودية واليمن، عام 1956، وعزمه على الالتزام بنصوص تلك الاتفاقية مستقبلاً.

وخلال زيارة السادات إلى اليمن، في الفترة من 12 إلى 14 أكتوبر 1962، تم توقيع اتفاقية التعاون العسكري بين مصر واليمن، لمدة خمس سنوات، تتجدد تلقائياً. وكانت تلك الاتفاقية تطبيقاً لاتفاقية الدفاع المشترك، عام 1956  (انظر ملحق اتفاقية الدفاع المشترك بين حكومة جمهورية مصر والمملكة العربية السعودية والمملكة المتوكلية اليمنية)، وامتداداً لها.

بدأت البعثة العسكرية المصرية، التي عادت إلى اليمن، بعد الثورة، بإعادة تنظيم القوات المسلحة للجمهورية اليمنية على أسُس جديدة، طبقاً لما هو معمول به في القوات المسلحة المصرية، بينما استُغلت ـ في الوقت نفسه ـ وحدات الجيش اليمني، التي لم تتفكك، في الأعمــال الدفاعيــة عن المدن والمناطق الحيوية.

3.    تشكيل مؤسسات الثورة

تشكلت مؤسسات الحكم الجمهورية، في البداية، من ثلاث مؤسسات، هي: مجلس قيادة الثورة، ومجلس الرئاسة، ومجلس الوزراء. ولكن في أواخر أكتوبر 1962، أُلغي مجلس الرئاسة، وأنشئ مجلس الدفاع الوطني.

وقد شُكل المجلس الأول في أعقاب تفجير الثورة مباشرة. وكان عدد أعضائه، في البداية، ثمانية ضباط، برئاسة العميد عبدالله السلال، الذي أصبح أيضاً القائد العام للقوات المسلحة. وقد ضم هذا المجلس خليطاً من الضباط الأحرار والضباط الوطنيين القدامى.

أمّا مجلس الرئاسة، فقد شُكل من خمس شخصيات مدنية، وطنية، برئاسة الشيخ محمد علي عثمــان. بينما شُكل مجلس الوزراء من 19 وزيراً، منهم ثلاثة من العسكريين، برئاسة العميد عبدالله السلال.

وقد مثّلت الشخصيات، التي تضمنها تشكيل المجالس الثلاثة، مختلف الفصائل اليمنية المعارضة لأسرة حميدالدين. وهو ما كان يعكس رغبة الثوار في تأكيد أن القضاء على الإمامة، إنما حدث لمصلحة جميع القوى الوطنية، المعارضة لحكم هذه الأسرة، وأن الجيش، لا ينوي احتكار السلطة وحده، في ظل النظام الجمهوري الجديد.

ولكن سرعان ما عُدِّل تشكيل مجلس قيادة الثورة، في 30 سبتمبر، بعد حضور الدكتور عبدالرحمن البيضاني والقاضي محمد الزبيري، من القاهرة، يوم 28 سبتمبر. فبسبب ضغط البيضاني، أضيف أحد عشر عضواً من شخصيات المعارضة التقدمية، الذين قاموا بأدوار بارزة في الإعداد للثورة، كما جرى تعديل مماثل لمجلس الوزراء، يوم 30 أكتوبر. وفي إطار هذين التعديلين، أصبح البيضاني نائباً لرئيس مجلس الثورة والوزراء، ونائباً للقائد العام للقوات المسلحة. وقد ترك تصرف البيضاني انطباعاً سلبياً لدى قيادة الثورة، التي قدّرت أن القيادة المصرية، بدأت تتدخل في شؤون اليمن الداخلية، قبل أن تضع قدمها في البلاد.

وفي 31 أكتوبر، أُعلن أول دستور للجمهورية العربية اليمنية. وهو دستور يرتكز على مجلس قيادة الثورة، في أعمال السيادة[3] (انظر ملحق إعلان دستوري من مجلس قيادة الثورة للجمهورية العربية اليمنية)، وعلى مجلس الوزراء، في أعمال السلطة التنفيذية، إلى جانب المؤتمر الوطني، الذي يجمع هذين المجلسين، مع تحديد فترة انتقالية، مدتها خمس سنوات، يتم خلالها وضع قانون للانتخابات، يُنتخب بموجبه المجلس النيابي، الذي سيصوت على الدستور النهائي، ويَنْتَخِب رئيس الجمهورية، بعد الفترة الانتقالية.

وطبقاً لذلك الدستور، أصبح العميد عبدالله السلال أول رئيسٍ للجمهورية. كما نص الإعلان الدستوري على تشكيل مجلس للدفاع الأعلى، من بعض شيوخ القبائل، للنظر في شؤون أمن الدولة. وخلال فترات عدم انعقاد المجلس، يتولى كل شيخ مهمة المحافظة على أمن منطقته، بصفته محافظاً من قبل مجلس قيادة الثورة.

ثانياً: تطور موقف أسرة حميدالدين

جاء أول رد فعل من أسرة حميدالدين تجاه الثورة، من جانب الأمير سيف الإسلام الحسن، الذي كان في نيويورك، ممثلاً لبلاده في الأمم المتحدة. فلدى علمه بالخبر، الذي طيرته وكالات الأنباء، عن وفاة الإمام تحت أنقاض قصره، طبقاً لما أذاعه راديو صنعاء، أعلن الحسن حقه الشرعي في وراثة الإمامة، مصرحاً أن مؤيدي الثورة، يمثلون قطاعاً صغيراً من الضباط، وأنه يتوقع أن تلقَى دعواه تأييداً من القبائل والشعب اليمني عامة.

وغادر الأمير الحسن نيويورك إلى المملكة العربية السعودية، حيث انضم إليه عدد من أفراد أسرة حميدالدين، الذين تمكنوا من الهرب. واعترفوا به إماماً، باستثناء الأمير قاسم، ابن أخيه، الذي أيّد الجمهورية، واعترف بها. وفي الخامس من أكتوبر، شكّل الأمير الحسن حكومة في المنفى، اعترفت بها المفوضيات اليمنية، في كل من لندن وبون وعَمان. واتخذ من نجران قاعدة لنشاطه[4].

أمّا الإمام المخلوع، الذي نجح في الهرب، فحاول، في البداية، أن يتخذ له قاعدة للمقاومة، داخل اليمن. وبدأ تلك المحاولة بالتوجه إلى عمران، مع مجموعة من أنصاره، بغرض الاستيلاء على ثكنات الجيش. إلاّ أن الموالين للثورة من حامية المدينة، قضوا على تلك المحاولة، فاتجه البدر إلى حجة، ذات التاريخ الطويل في حماية الإمامة، ليتخذها قاعدة لتجميع القبائل الزيدية ضد الثورة، كما فعل أبوه، عام 1948. بيد أن الموقف كان مختلفاً، فقد وجد أن حاميتها، قد أعلنت الولاء للجمهورية، فحاول محاصرتها واقتحامها، بما تجمّع لديه من الأنصار، خلال رحلة هروبه، غير أنه باء بالفشل، بعد أن قاتل أهل المدينة والمسجونون السياسيون، الذين أُفرج عنهم، بمشاركة حامية حجة، البدر وأنصاره.

وعلى ذلك، اتجه الإمام المخلوع إلى الحدود السعودية، بعد أن فقد كل الأمل في إيجاد قاعدة داخلية للمقاومة، ورأى ردود فعل القبائل تجاهه، التي تراوحت بين العداء والفتور. فلم تكن القبائل، في هذه المرحلة، مستعدة للقتال من أجل الإمامة، بعد أن فقد الإمام منصبه، فضلاً عن عدم امتلاكه ما يدفعه إليها، مقابل القتال من أجله. ولم تكن قبائل حاشد وبكيل، قد نسيت المعاملة الوحشية، التي تلقتها من أبيه، عام 1959، ولا إعدامه شيخ مشايخ حاشد وابنه.

عَبَر البدر الحدود السعودية، في طريقه إلى جيزان، إلاّ أنه غيّر خط سيره، بعد ذلك، إلى نجران، شمال الحدود اليمنية ـ  السعودية، حيث كان أمراء أسرة حميدالدين، يظاهرون عمه الحسن، في ذلك الوقت. وبوصول البدر، واجه المعسكر الملكي مشكلة عسيرة، إذ كان الأمير الحسن، قد أعلن نفسه إماماً، وحصل على تأييد أغلب أمراء أسرة حميدالدين، ولكن البدر كان الإمام الشرعي. وقد انعكست هذه المشكلة على الإذاعة السعودية في مكة، التي أعلنت، يوم 13 أكتوبر، أن البدر ما زال على قيد الحياة، وأنه اعترف بالحسن إماماً. غير أن الإذاعة أعلنت، في 17 من الشهر نفسه، تخلي الحسن عن الإمامة للبدر، مما يشير إلى توصل الملكيين إلى حل لهذه المشكلة على نحوٍ، قبل بموجبه الحسن والأمراء، الذين ساندوه، استمرار البدر إماماً، حفاظاً على الشرعية، وإظهاراً لوحدة معسكرهم، مع تشكيل مجلس للوزراء من أمراء الأسرة، برئاسة الأمير الحسن.

وبعد أن حُسم الخلاف حول الإمامة في معسكر الملكيين، واطمأن البدر بدعم ملك المملكة العربية السعودية وحكومتها لبيت حميدالدين، عاد إلى اليمن، مرة أخرى، واتخذ له مقراً دائماً في بعض كهوف جبل قارة (ضمن سلسلة المرتفعات المركزية العليا)، الذي يبعد حوالي 70 كم جنوب غرب "صعدة ". بينما اتخذ الأمير الحسن مقره الدائم في أحد الكهوف، بالقرب من مدينة أملح، ويبعد حوالي 35 كم شرق  المــدينة نفسها.

أما باقي أمراء الأسرة، فقد انتشر أغلبهم بين قبائل المنطقتيْن، الشرقية والشمالية لليمن، بعد أن زُوّدوا بالأموال السعودية، لإغراء قبائل هاتين المنطقتين بالقتال في صفوف الملكيين. فذهب الأمير عبدالله بن الحسين إلى الجوف، والأمير محمد بن إسماعيل إلى مناطق قبائل بكيل. كما ذهب الأمير عبدالله بن الحسن إلى منطقة خولان، وأخوه الأمير حسن إلى منطقة مأرب.

وأصبحت منطقة نجران قاعدة لتجمع الملكيين ونشاطهم، السياسي والعسكري. وعُيّن الأمير محمد بن الحسين مشرفاً على ذلك النشاط في تلك المنطقة، فشيّد المعسكرات، ونَظّم الإمدادات. وأصبحت منطقة نجران، تمثل مركز الاتصال الفعلي بين الإمام المخلوع ورئيس وزرائه.

وعلى عكس الجمهوريين، الذين أعلنوا الخطوط العريضة لبرنامجهم السياسي، في إعلان مبادئ الثورة، صباح 26 سبتمبر والدستور المؤقت، يوم 31 أكتوبر، لم يكن الملكيون واعين، في تلك المرحلة، لإعلان برنامج إصلاحي، يقوّي مركزهم داخل اليمن. كما لم يكن لهم، في ذلك الوقت، إستراتيجية واضحة المعالم، لكيفية عودتهم إلى الحكم، باستثناء تحديد الهدف الإستراتيجي، الذي تلخّص في الإطباق على صنعاء من كافة المحاور، الشمالية والشرقية، التي يمكن الملكيين أن يعملوا فيها، مع تصفية المواقع الأخرى، التي يسيطر عليها الجمهوريون، خلال تلك العملية.

ولمّا كان هدف الملكيين الإطباق على صنعاء، يتطلب حشد قوة ملائمة لتحقيق ذلك الهدف، فقد نشط[5] أمراء أسرة حميدالدين في عدة اتجاهات، هي:.

1.    شراء ولاء القبائل للإمامة بالأموال. وهي أسرع الطرق، التي كان يلجأ إليها الأئمة في الماضي، لقلب ميزان القوى في مصلحتهم، كلما أعياهم الأمر.

2.    تشجيع اليمنيين، المقيمين بالمملكة العربية السعودية، على التطوع للقتال من أجل قضيتهم، بالإغراءات المادية. وهو أمرٌ باركته الحكومة السعودية، وتحملت نفقاته.

3.    الاستعانة بالمرتزقة الأجانب، وهو ما ساعدت عليه، وموّلته أجهزة المخابرات، السعودية والبريطانية.

وكان الاتجاه الأول، هو أسرع الاتجاهات، التي ظهرت نتائجها خلال شهر أكتوبر 1962. الأمر الذي ساعد عليه انتشار أمراء بيت حميدالدين بين قبائل المنطقتين، الشمالية والشرقية، مسلحين بالمساعدات المالية السعودية. وهذا الانقلاب في موقف بعض قبائل هاتين المنطقتين، يحتاج إلى وقفة، لتفسيره في ظل موقف تلك القبائل، المعادي لحكم أسرة حميدالدين، في سنواته الأخيرة، فضلاً عن موقفها السلبي من البدر، خلال رحلة هروبه، وهو ما دفعه إلى التوجه نحو المملكة العربية السعودية.

ثالثاً: تطور موقف القبائل اليمنية

انقسمت القبائل اليمنية، تجاه الثورة، إلى فريقين رئيسيين:

الأول: مؤيد للثورة، ومناصر لها، ومدافع عنها. ويشمل غالبية القبائل اليمنية.

والثاني: معارض للثورة، ومناهض لها. ويمثل بعض قبائل المنطقتين، الشمالية والشرقية، علاوة على بعض الجيوب القبلية، شمال شرق صنعاء.

وحتى الذين عارضوا نظام الحكم الجديد، لم تكن معارضتهم نابعة من اعتراضهم على مبادئ الثورة، أو برنامجها للإصلاح. إنما جاءت تلك المعارضة انطلاقاً من عدة أسباب أخرى، نوجزها في ما يلي:

1.    جعلت حالة الفقر الشديد، الغالبة على قبائل الشمال والشرق، وجدب مناطقها، هذه القبائل فريسة سهلة للإغراءات المادية، التي تدفقت إليها من الدعم السعودي لأسرة حميدالدين. وعندما حاول المصريون أن ينهجوا النهج عينه، كانت النتيجة الوحيدة لذلك، هي ظاهرة ترجُّح ولاء هذه القبائل بين  الجمهوريين والملكيين، بطريقة شبه منتظمة، للحصول على أكبر قدر من المكاسب، بعد أن جعلت تلك القبائل أرزاقها في سلاحها.

2.    التخلف وتدني الوعي، الاجتماعي والسياسي، وعدم إدراك تلك القبائل لمفاهيم الإصلاح والثورة والجمهورية، دفعت بعض القبائل إلى التعاون مع الملكيين.

3.    أخطاء الجمهوريين، وسوء معاملة ممثلي النظام الجديد، من الضباط، لبعض الزعامات القبلية، ومحاولة إبعادها عن المشاركة في السلطة، دفعت بها إلى مناوأة الحكم الجمهوري وممثليه.

4.    الآثار الجانبية للتدخل العسكري المصري في اليمن، والذي صورته دعاية الملكيين على أنه نوع من الغزو والاحتلال الأجنبي، فضلاً عن أخطاء بعض القيادات المصرية، التي حاولت، في البداية، تهميش دور الزعامات القبلية، نتيجة لعدم فهْمها طبيعة المجتمع اليمني، بصفة عامة، والقبلي، بصفة خاصة.

5.    نظرة شيوخ بعض القبائل إلى الرئيس عبدالله السلال نظرة قبلية متدنية، ورأوا في وجوده على رأس السلطة الجديدة تقليلاً من قدْرِها.

وبدءاً من الأسبوع الثاني من أكتوبر، بدأت تظهر نتائج انقلاب تلك القبائل على الجمهورية. ففي الشرق، سقطت مدينة مأرب في أيدي قبيلة عبيدة، تحت قيادة الأمير حسن بن الحسن، بعد اكتساح الحامية، الصغيرة في المدينة. كما سقطت حريب، التي احتلها أحمد السياغي، أحد أعوان البدر. وفي الشمال الشرقي، سيطرت قبائل الجوف على مدينة الحزم، بقيادة الأمير عبدالله بن الحسين. وفي الشمال، قام بعض البطون، الخارجة من قبائل حاشد، التي نجح الملكيون في استقطابها، بعدة هجمات للسيطرة على مدينة صعدة، أيام 12 و 23 و 28 نوفمبر، ولكن الحامية الجمهورية للمدينة، نجحت في صد تلك الهجمات. وظلت المدينة صامدة حتى وصلها الدعم العسكري المصري، في 30 نوفمبر. أمّا على المحور الساحلي، فقد سقطت حرض، بعد اجتياح القبائل لحاميتها الصغيرة، إلاّ أنه تم استردادها في نوفمبر 1962.

ومع بدء تدفق القوات المصرية إلى اليمن، بدءاً من 5 أكتوبر، واتخاذها أوضاعها الدفاعية، لتأمين الثورة، نشطت قبائل المنطقتين، الشمالية والشرقية، في عمليات تلغيم الطرق وقطعها، مما كان يجبر القيادة المصرية على القيام بأعمال قتال، برية وجوية، لتأمين تحركات وحداتها، وهو ما شكل استنزافاً لجهودها وقواتها. وقد أغرى تطرّف بعض المواقع المصرية ـ الجمهورية في منطقتَي صعدة وصرواح، وقِلة عدد جنودها، في البداية، القبائل المحيطة بهاتين المنطقتين بحصار القوات الجمهورية والمصرية فيهما، وشنّ الهجمات عليها، مما اقتضى تعزيز هذه القوات وإمدادها جواً، حتى تم فتح الطريق إليها، فيما بعد[6].



[1]   ساهم موقف القاهرة تجاه الثورة اليمنية بعد وفاة الإمام أحمد في تردد بعض ضباط التنظيم ومطالبتهم بالإنتظار حتى يتضح موقف البدر بعد توليه السلطة. وكان الرئيس عبدالناصر قد فقد الثقة بقدرة تنظيم الضباط والمعارضة التقدمية على تفجير الثورة، نتيجة إبلاغه بعدة مواعيد للتنفيذ من طريق البيضاني، إلاّ أن الضباط لم يتحركوا فيها، مما جعله يلوم البيضاني على توريطه لمصر، بما كان يكتبه ويذيعه في وسائل الإعلام المصرية للحض على الثورة، ومنَعه من الإذاعة والكتابة. وتأهّب الرئيس المصري لفتح صفحة جديدة مع الإمام البدر، بعد أن طوى صفحة الثوار. فأرسل له برقية نشرتها جريدة "الأهرام" في 22 سبتمبر، يعزيه فيها ويتمنى له التوفيق في خدمة الشعب اليمني، الأمر الذي جعل بعض الضباط يتصورون أن مصر تخلت عن دعم الثورة.

[2]   أوضح العميد حمود الجائفي للضباط أنه تلقى برقية تعزيه في وفاة الإمام أحمد، بصفته مديراً لميناء الحديدة، من قائد البارجة الأمريكية، الذي تعرف به عندما كانت تلك البارجة في زيارة للميناء. وأنه يفسر هذه البرقية بأنها تحذير أمريكي من القيام بثورة ضد الإمام الجديد.

[3]   حُلَّ مجلس الرئاسة (السيادة) في إطار التعديلات التي تمت يوم 30 أكتوبر وإصدار الإعلان الدستوري يوم 31 أكتوبر في اليوم التالي.

[4]   كان الأمير الحسن قد قابل الملك سعود، بعد عودته من نيويورك، الذي وعده بالمساندة، وسمح له بإتخاذ نجران مقراً وقاعدة لنشاطه.

[5]   المصادر الرسمية المصرية.

[6]   المصادر الرسمية المصرية.