إرشادات مقترحات البحث معلومات خط الزمن الفهارس الخرائط الصور الوثائق الأقسام

مقاتل من الصحراء
Home Page / الأقســام / موضوعات سياسية / مشكلة الصحراء الغربية (البوليساريو)





أماكن الاستعمار الفرنسي والإسباني
الحدود المغربية "المغرب الكبير"
الحرب الجزائرية ـ المغربية

ولايات المغرب العربي
الأهمية الاقتصادية للصحراء الغربية
المدن ومراكز التوطن الرئيسية
التقسيم الإداري والجغرافي
الدولة البربرية بشمال أفريقيا
الحدود التقريبية للمغرب العربي
الفتوحات الإسلامية من 22 – 64 هـ
الفتوحات الإسلامية من 69 – 92 هـ
توزيع المجموعات القبلية
تقسيم الصحراء الغربية
حدود موريتانيا والصحراء الغربية



الأكــــراد

مبحث تمهيدي

التطور التاريخي لوضع الصحراء الغربية

بنهاية القرن الرابع عشر وبداية القرن الخامس عشر، قامت أوروبا بمحاولات استكشافية استهدفت مناطق عديدة في العالم، وخاصة في أفريقيا، بحثاً عن مناطق يوجد بها مواد أولية وأسواق لترويج بضائعها، إلا أن هذه الحملات سرعان ما تحولت إلى أطماع استعمارية أدت إلى استخدام القوة العسكرية في الاستيلاء على المناطق ذات الأهمية الحيوية ونهب ثرواتها الطبيعية،وكان من نتائج هذه الحملات ظهور مستعمرات جديدة على امتداد المحيط الأطلسي، حيث تسابقت الدول الاستعمارية على تقسيم مناطق النفوذ في شمال وشمال غرب أفريقيا، وكان الاستعمار البرتغالي أول من وصل إلى سواحل الصحراء، وبدأ يتوغل في الجنوب حتى وصل إلى عمق الصحراء الغربية عام 1436، وأطلقوا على إقليم الصحراء الغربية اسم وادي الذهب Roi Doouro وأقاموا بها عدة مراكز متناثرة، اتخذوا منها نقاط للانطلاق من أجل تجارة الرقيق، ونقلوا، بالفعل، أعداداً كبيرة من رقيق صنهاجة. وقـد شارك الأسبان البرتغاليين، فيما بعد، في إنشاء بعض المراكز الساحلية. غير أن هذه المراكز اندثرت، عندما ظهرت مواقع أخرى أكثر ملاءمة للإقامة والاستقرار، قرب مصاب الأنهار، في غربي أفريقيا؛ ولذلك، لم تجذب المنطقة انتباه الاستعمار الأوروبي، إلاّ في نهاية القرن التاسع عشر، وكانت الصحراء الغربية بحكم موقعها الإستراتيجي منطقة اتصال حيوية بين أفريقيا وأوروبا، ولذلك زادت أهميتها الاقتصادية، ومن خلال التنافس الاستعماري اضطر البرتغاليون إلى التخلي عن الصحراء الغربية لصالح أسبانيا.

وقد شهد أواخر القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين صراعات بين الدول الاستعمارية بهدف فرض السيادة على دول شمال أفريقيا، وفي مؤتمر برلين عام 1884 تم تقسيم أفريقيا بين الدول الاستعمارية، ولقد أكد هذا التقسيم سيطرة أسبانيا على الصحراء الغربية، إلا أن موقف القبائل الصحراوية من الاستعمار الأسباني كان متشدداً، حيث زاد الكفاح المسلح، ومع تفاقم الأوضاع والصعوبات التي واجهها الاستعمار الأسباني والفرنسي، تم إجراء العديد من المعاهدات بينهما بهدف ترسيخ نفوذهما في المنطقة، وسيطرت أسبانيا خلال هذه المعاهدات على معظم مناطق إقليم الصحراء الغربية. ومنذ منتصف القرن العشرين اشتد الكفاح المسلح، حيث تكون جيش التحرير المغربي، وخلاله بدأ تقلص منطقة النفوذ الأسبانية، والتي اقتصرت على إيفني والصحراء الأسبانية ـ سابقاً ـ بقسميها الساقية الحمراء ووادي الذهب، إلا أنها في الوقت ذاته قد عمدت إلى اتخاذ خطوات تدعم فصل الصحراء عن المغرب، وعلى الرغم من أن أسبانيا قد اضطرت إلى التسليم لسكان الصحراء بحق تقرير مصيرهم، إلا أنها ظلت تسعى إلى أن يمنح الإقليم حكماً ذاتياً على أن تستمر محتفظة بسيطرتها الاقتصادية، حيث أدى ذلك إلى زيادة عمق المشكلة وتنامي حدة التوتر بين كل من المغرب وموريتانيا والجزائر، والذي وصل في إحدى مراحله إلى صراع مسلح بسبب أهمية الصحراء الغربية لكل القوى الإقليمية المحيطة بها.

أولاً: الفتح الإسلامي للمغرب الأقصى

قبل الرسالة المحمدية كان العرب الكنعانيون قد دخلوا المغرب منذ عام 480 قبل الميلاد، حيث ازداد امتزاجهم مع سكان هذه المناطق من البربر القدماء، ومع بعث الرسالة المحمدية تم إرساء نظام متكامل وضحت خلاله المعالم الأساسية للأمة العربية الإسلامية، فانطلقت الفتوحات الإسلامية، حيث أنزل المسلمون الهزيمة بالبيزنطيين، وبعد تمام فتح فلسطين تقدم عمرو بن العاص لفتح مصر عام 18هـ/639م ، ودخل رفح والعريش وبئر العبد، ثم انتهى إلى الفرما، وهي ميناء صغير على بحر الروم ـ البحر المتوسط حالياً ـ ثم اتجه للقنطرة ومنها إلى بلبيس، ثم اتجه بعد ذلك إلى رأس الدلتا حيث كان يقع جنوبها حصن بابليون واستولى عليه، ثم قرر عمرو بن العاص بعد ذلك المسير إلى الإسكندرية عاصمة مصر البيزنطية، وبدخوله الإسكندرية وتسليمها في عام 20هـ/641م. تم نقل عاصمة البلاد من الإسكندرية إلى موقع الفسطاط عند رأس الدلتا، بناءاً على أوامر عمر بن الخطاب. وبعد أن وقع عمرو بن العاص معاهدة الإسكندرية التي اكتمل بها فتح مصر في 16 شوال 21هـ/ 17 سبتمبر 642م، تقدم عمرو بن العاص لفتح برقة، واستمر تقدمه حيث فتح طرابلس عام 23هـ/ 644م.

وبذلك امتدت حدود الدولة الإسلامية غرباً حتى حدود ولاية إفريقية البيزنطية، كما تم ضم إقليم طرابلس إلى ولاية مصر، وتوقفت الفتوحات الإسلامية في المغرب بعض الوقت، حتى استقرت الأوضاع لمعاوية بن أبي سفيان وقيام الخلافة الأموية في دمشق عام 40هـ/ 661م، وبتولي أمر مصر عقبة بن عامر بن قيس عام 44هـ/ 664هـ، تم إعادة فتح برقة وطرابلس (اُنظر خريطة الفتوحات الإسلامية من 22 – 64 هـ)، وخلال الفترة من 50-55هـ/ 670-675م، حيث تولى عقبة بن نافع الفهري فتح المغرب بعد أن ولاه معاوية بن أبي سفيان، وتقدم إلى ولاية أفريقية وأنشأ فيها قاعدة سُميت القيروان ـ أي المعسكر ـ وبذلك أصبحت ولاية أفريقية[1] يسكنها جماعة عربية وجماعات بربرية إسلامية مستعربة، ولم يكن ممكناً لدولة الخلافة أن تتخلى عن هذه الولاية الجديدة والتي أصبحت رابع الأمصار[2] الإسلامية بعد الكوفة والبصرة والفسطاط.

خلال الفترة من عام 62-64هـ/ 681-683م، قام عقبة بن نافع بأكبر حملة قام بها قائد عربي على المغرب، حيث اقتحم مناطق البربر في جبال الأوراس حتى وصل إلى طنجة، وتقدم حتى دخل مدينة نارودانت وعبر نهر السوس وبلغ شاطئ الأطلسي، حيث بلغ نهاية بلاد المغرب. إلا أنه استشهد ومن بقي من جنوده عام 64هـ/ 683م، وكان لاستشهاده وما أبدى من بسالة صدى عظيم في المغرب، فعز الإسلام في نظر من لم يكن قد أسلم من البربر، حيث نشر عقبة بن نافع الإسلام باستشهاده أكثر من نشره إياه في حياته. وخلال الفترة من عام 69-71هـ/ 688-690م، تمكن زهير بن قيس البلوي من العودة إلى القيروان والانتقام لمقتل عقبة بن نافع، إلا أنه استشهد على يد الروم بالقرب من طرابلس. وخلال الفترة من عام 71-85هـ/ 690-704م، تمكن حسان بن النعمان الغساني من القضاء على الروم في ولاية إفريقية وسواحل المغرب، حيث قام بتدمير قرطاجنة وأنشأ ميناء تونس عام 84هـ/ 703م ، والتي كانت ثاني مدينة كبرى ينشئها العرب في المغرب، إلا أنه مع قيام ثورة الكاهنة زعيمة قبيلة جراوة الصهانجة في المغرب الأوسط، والتي تمكنت من هزيمة حسان وأرغمته على التراجع إلى برقة، ولكنه سرعان ما استطاع أن يعيد سيطرته على القيروان ووضع أسس النظام الإداري لولاية المغرب الكبير والتي تبدأ من برقة وحتى طنجة وساحل الأطلسي. وخلال الفترة من عام 85-92هـ/ 704-711م، تمكن موسى بن نصير من استكمال فتح المغرب، حيث وصل إلى بلاد السوس وأنشأ به ولاية سجلماسة، وبذلك كان فتح المغرب من أعظم الفتوحات الإسلامية التي قام بها عرب الأجيال الأولى، حيث استمرت قرابة سبعون عاماً، بذل فيها العرب جهوداً كبيرة لنشر الإسلام، وانضم برابرة المغرب عن بكرة أبيهم إلى الإسلام، وقسم العرب المغرب إلى أقسام، وجعلوا على رأس كل قسم عائلة من العرب، ونصبوا عليها أميراً، وأُطلق عليهم الأبطال المغاور. ولقد شيد العرب الفاتحون طرق المواصلات الصحراوية في الساقية الحمراء، والتي مكنت قوافل المسلمين من الانسياب إلى مجاهل أفريقيا، وقامت آنذاك دولة المرابطين، حيث استقطبت الدعوة الإسلامية سكان جميع الصحراء، وتوسع المرابطون واتجهوا شمالاً وأسسوا مملكة ضمت المغرب بأكمله، واتخذوا مراكش عاصمة لهم. (اُنظر خريطة الفتوحات الإسلامية من 69 – 92 هـ)

بانقسام المغرب في عصر الولاة إلى أربع مناطق كبرى، شملت ولاية إفريقية ثلاثة أقاليم، هي: طرابلس وبرقة والقيروان، حيث بدأ عصر الولاة في إفريقية من إنشاء القيروان وحتى قيام دولة الأغالبة عام 184هـ/ 800م. أما بالنسبة للمغرب الأوسط، فلقد استمر حتى عام 164هـ/781م حيث قامت فيه دولة بني رستم الخارجية في النصف الشرقي من المغرب الأوسط. وفي المغرب الأقصى بدأ عصر الولاة حوالي عام 90هـ/709م، وهي السنة التي قامت فيها دولة الأدارسة (اُنظر خريطة ولايات المغرب العربي). وفي عام 155هـ/772م، قامت دولة بني مدرار في سجلماسة، ويُعد عصر الولاة من أهم عصور تاريخ المغرب الإسلامي، إذ وقعت خلاله صراعات متعددة بين العرب والبلدانيين، وهم عرب الفتح، حيث أنشئوا جاليات عربية مغربية نازعت ولاة بني أمية الحكم، وكذلك بين العرب والبربر، وأيضاً بين أهل السنة والخوارج. ولقد بلغت هذه الصراعات ذروتها في الفتنة الكبرى التي بدأت عام 122هـ/740م، حين اختلطت عناصر السكان بعضها ببعض أثناء المعارك، وبذلت الدولة العباسية كل جهدها، مما أدى في النهاية إلى انتصار أهل السنة، وكانت هذه السنية هي الأساس القوي، الذي قامت عليه عروبة المغرب.

وفي عام 297هـ/909م، نشأت الدولة الفاطمية في المغرب ، حيث حاولت إقامة دولة جديدة ذات تنظيماً واسعاً للدعوة الشيعية الإسماعيلية، مما أدى إلى معارك عديدة بين السنية المالكية والشيعية الإسماعيلية على أرض ولاية إفريقية، انتهت بنزوح الخلافة الفاطمية من المغرب وانتقالها إلى مصر في عام 362هـ/973م. ولقد واجه المغرب بعد ذلك أعقد فترات الاضطراب، حيث أنشأ البربر أول دولة إسلامية لهم بعد أن استعربوا وأسلموا (اُنظر خريطة الدولة البربرية بشمال أفريقيا)، وكانت هذه الدولة هي دولة قبيلة التي استمرت تحكم المغرب الأوسط حتى عام 442هـ/1050م، حيث بدأ تدفق العرب من مصر إلى المغرب مرة أخرى. وخلال الفترة من 448-541هـ/ 1056-1146م نشأت دولة المرابطين في الصحراء الفاصلة بين المغرب الأقصى وحوض السنغال، وكانت القبائل التي أنشأتها مغربية، ومن أهمها قبائل صنهاجة الصحراء . وبانهيار دولة المرابطين بدأ قيام دولة الموحدين، والتي مرت بأربع مراحل أساسية هي:

المرحلة الأولى: الاستيلاء على مراكش عام 540هـ/1145م.

المرحلة الثانية: الاستيلاء على شمال المغرب عام 542هـ/1147م.

المرحلة الثالثة: فتح المغرب الأوسط والدخول للجزائر عام 548هـ/1153م.

المرحلة الرابعة: السيطرة على ولاية إفريقية ومدينة طرابلس عام 555هـ/1160م.

وبعد أن بدأ الصدع يحدق بالدولة الموحدية، تمكنت الدولة المرينية من بسط سلطانها على شمال المغرب كله حتى سبتة وطنجة ، وانقسم المغرب بذلك إلى أربع دول، هي: دولة الموحدون في جنوب المغرب ومركزهم مراكش، ودولة بني مرين في شمال المغرب الأقصى ومركزهم فاس ، ثم دولة بني زياد في شرقي المغرب الأوسط ومركزهم تلمسان، والدولة الحفصية في ولاية إفريقية. ولم تتوقف الحروب بين دول المغرب الأربع طوال القرن الثامن الهجري/ الرابع عشر الميلادي، مما أدى إلى إضعاف هذه الدول جميعاً. (اُنظر خريطة الحدود التقريبية للمغرب العربي)

ثانياً: الحملة الصليبية على المغرب العربي

كان ضعف الدولة الأموية في الأندلس، بعد حكم استمر سبعة قرون، من العوامل التي شجعت أوروبا على بدء حملتها الصليبية على الدولة الإسلامية، حيث أدى تفكك أقاليم المغرب، وكذلك سقوط الخلافة الإسلامية في الأندلس إلى انطلاق الاستعمار الأوروبي، حيث كان البرتغاليون هم المستكشفون الأوائل للمغرب، حيث أصبحت سواحل الصحراء المغربية ميداناً للمنافسة بين الأساطيل الأسبانية والبرتغالية ، وكانت الدول الأوروبية تطمع في فتح المغرب بهدف إقامة المبادلات التجارية، حيث كان للسواحل الصحراوية دوراً مهماً في التجارة مع السودان، لكونها الممرات والمسالك الوحيدة التي كانت تمر خلالها هذه التجارة، فأصبحت بذلك المغرب العربي مفتوحة للتدخلات الخارجية، حيث سعت كل الدول الاستعمارية الأوروبية إلى كسب صداقة المغرب والانفراد به متظاهرة بالدفاع عن سيادة السلطان واستقلال البلاد، إلا أن أسبانيا كانت تهتم أكثر من غيرها بالمغرب، نظراً لما يشكله من تهديد لسواحلها. وبسبب عوامل الضعف والتفكك التي أصابت البلاد المغربية في نهاية القرن الخامس عشر، أصبحت سواحل الصحراء المغربية ميداناً للمنافسة بين الأساطيل الأسبانية والبرتغالية، وتدخلت الكنيسة في العديد من المنازعات وُقِعَت خلالها عدة معاهدات بين الجانبين لتحديد مجال توسعها. ومع فقد البرتغاليون لاهتمامهم بالمنطقة، بدأت تزداد الأطماع التوسعية الأسبانية وغزوها سواحل المغرب الجنوبية، إلا أنه في عام 1524، فقدت أسبانيا السيطرة على قلعة سانتا كروز Santa Cruz[3]، حيث استولى عليها سلطان المغرب.

مع زيادة الاهتمام الفرنسي بسواحل أفريقيا الغربية، خشيت أسبانيا من أن تتمكن فرنسا خلال توسعها الوصول عبر صحراء المغرب إلى الساحل الأطلسي وتنشأ قواعد حربية ومراكز تجارية تؤثر على الأهمية الإستراتيجية والاقتصادية للمناطق التي تسيطر عليها أسبانيا، ولذلك كان هناك إصرار أسباني في الحصول على منطقة الجنوب المغربي طبقاً لاتفاقية عام 1860 بين المغرب وأسبانيا، والتي يتعهد فيها ملك المغرب بالتنازل إلى الأبد لأسبانيا عن الأراضي الكافية لإنشاء مركز لصيد الأسماك بالقرب من سانتا كروز بساحل المحيط الأطلسي. وكذلك بدأ تزايد شعور أسبانيا بالخطر الذي أصبح يهدد مصالحها في جزر كانارياس، وخاصة مع ظهور التجار البريطانيون في المنطقة، وكذلك زاد عدد الرعايا البريطانيين الذين أقاموا في الموانئ المغربية، حيث وصلت نسبتهم في عام 1858م إلى 40% من عدد الأجانب المقيمين في البلاد، ومن ثم زادت أهمية موانئ وسواحل المغرب الغربية بالنسبة لبريطانيا، سواء من الناحية الاقتصادية أو السياسية. أما فرنسا فإن نفوذها السياسي والعسكري بدأ يزداد في الجزائر، وخاصة بعد أن استخدمتها مركزاً للانطلاق منه للقارة الأفريقية، وأمام هذا التوغل والتنامي الاقتصادي البريطاني من الغرب والضغط العسكري والسياسي الفرنسي على المغرب من الشرق، وجدت أسبانيا أنها قد تُجبر على إخلاء قواعدها في شمال المغرب، وخاصة في حجر باديس وأمام الحسيمة وفي سبتة ومليلة. ونظراً لأن هذا الوجود يرجع إلى أواخر القرن الخامس عشر، وكان استمراره ذا تكلفة مادية عالية لأسبانيا، لذلك كان هناك تفكير أسباني في ترك أو بيع هذه القواعد، إلا أن أهمية سبتة الإستراتيجية جعلت أسبانيا تتراجع عن هذا التفكير ، إضافة إلى روح العداء المستحكم مع المغاربة، التي كانت سبباً في العديد من الحوادث الخاصة بالخطوط الملاحية، التي كانت تهَاجَم من كلا الجانبين.

بدأ التوتر يزداد بين الجانبين المغربي والأسباني منذ عام 1858، خاصة بعد أن طالبت أسبانيا المغرب بتعويضات عن إحدى السفن التي هاجمها بعض المغاربة في مناطق الريف، مع أن المغرب استجابت للمطالب الأسبانية، إلا أنها حرّكت أسطولها إلى طنجة، كما عزّزت قواعدها العسكرية في شمال المغرب، حيث تم احتواء الأزمة في أغسطس 1859. إلا أن زيادة حدة الحوادث حول سبتة، أدت إلى إنشاء أسبانيا مراكز عسكرية جديدة أمام سبتة وفي داخل الأراضي المغربية، مما زاد من حدة التوتر ومعدل هجوم المغاربة على القوات الأسبانية. وأصبح الموقف يمهد إلى صدام بين الجانبين، مستنداً إلى المقومات المعنوية والدينية، واتخذ من شكل الحرب والجهاد بين الصليب والهلال إطاراً عاماً له. وأعدت أسبانيا قواتها، وكاد الموقف يتحول إلى صراع مسلح بين بريطانيا وأسبانيا، خاصة بعد أن حرّكت بريطانيا أسطولها لمنع أسبانيا من احتلال طنجة، بينما وجدت فرنسا أن مصلحتها الحيوية تحتم عليها عدم التدخل ضد أسبانيا. ولقد أدى ذلك إلى تنامي شعور معادٍ لدى أسبانيا ضد المغاربة، وأصبح هناك شبه تأييد من الرأي العام الأوروبي لعمليات أسبانيا العسكرية في الأراضي المغربية.

وبعد أن أعدت أسبانيا قواتها، التي بلغت حوالي 44 ألف مقاتل، ودعمتها بحوالي أربعة عشر سفن حربية، قامت بمهاجمة شمال المغرب، وتمكنت القوات الأسبانية من خلال هذه الهجوم القضاء على مقاومة المغاربة أمام سبتة، كما حاصر الأسطول الأسباني السواحل المغربية ودمر ما تبقى من الأسطول المغربي. ومع توقف الصراع المسلح أصرت أسبانيا خلال عملية الصلح في 16 مارس 1860 على أن تدفع المغرب غرامة مالية قدرها 11 مليون ريال، وكذلك اشترطت على توسيع أراضي القواعد الأسبانية في سبتة ومليلة، والتنازل عن جزء من الأراضي المغربية بالقرب من إيفني، وتم التوقيع على معاهدة بين أسبانيا والمغرب في 20 نوفمبر 1861، ووصل المغرب بهذه المعاهدة إلى نقطة تحول خطيرة، حيث أصبح من الصعب العودة إلى سياسة الانعزال، حيث بدأ زيادة النشاط التجاري والسياسي لكل من أسبانيا وبريطانيا وفرنسا في المنطقة، كما بدأ يتضح اهتمام أوروبا بالصحراء الغربية في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، من خلال رحلات المستكشفون الفرنسيون وتوغلهم في أفريقيا الوسطى عام 1871 ، حيث فكر الأوربيون في عبور الصحراء الكبرى للاتصال بالأسواق الأفريقية والحصول على المواد الخام الاستوائية منها، ورغم فشل كل المحاولات التي قام بها المستكشفون، إلا أنها كانت تدل على رغبة جامحة في التغلب على الصحراء والوصول إلى عمق أفريقيا، حيث ظهرت بعض مشروعات إنشاء خطوط سكك حديدية عبر الصحراء، وظهر المغرب الأقصى في ذاك الوقت على أنه يفوق في أهميته الصحراء الغربية، خاصة وأنه كان يسيطر على جزء هام من تجارة القارة الأفريقية.

وفي عام 1883، أسست الشركة الأفريقية للمستعمرات ، وتمكنت من امتلاك حوالي 500 كم على الساحل، ما بين رأس بوجادور في الشمال حتى الرأس الأبيض في الجنوب، وبنت فيها مركزين تجاريين، كما تعهدت القبائل، التي باعت الأراضي لأسبانيا، بعدم السماح لإقامة أي مراكز تجارية أخرى باستثناء ما أقامته أسبانيا. وخلال هذه المرحلة كانت هناك محاولات متتابعة للشركات الأسبانية، للاستقرار في المنطقة التي امتلكتها، إلا أنها لم تتمكن من ذلك. وفي 26 ديسمبر 1884م، اتبعت الحكومة الأسبانية أسلوباً جديداً لإضفاء الشرعية على سياستها تجاه المنطقة، وإحكام قبضتها على الصحراء، حيث أعلنت رسمياً عن فرض حمايتها على الشاطئ الغربي الأفريقي بين خطي العرض 20ه و27ه، أي المنطقة المحصورة بين الرأس الأبيض وحتى رأس بوجادور، وبذلك التحديد تكون أسبانيا قد اقتصرت في حمايتها على هذه المنطقة، ولم تشمل أي مناطق شمالها تلافياً الاقتراب من "المخزن"[4] وخوفاً من بريطانيا. كذلك ابتعدت عن جنوب المنطقة حيث كان الفرنسيون قد بدأوا في الوجود هناك. وفي إطار تأكيد السيادة الأسبانية على المنطقة، صدر مرسوم أسباني ملكي في 6 أبريل 1887م يحدد عمق المساحة التي امتلكتها أسبانيا بحوالي 150 ميلاً داخل الصحراء، وكان ذلك بسبب عجز الشركات الأسبانية التجارية من التغلغل في الصحراء الغربية، وكذلك عجزت عن إقامة علاقات ودية تعاونية مع الشيخ ماء العينين[5]، الذي وضحت أهميته ومكانته من عام 1890.

     وبدأت كل من فرنسا وأسبانيا في التفكير الجدي حول إنهاء خلافاتهما، حتى يمكنهما مواجهة الأطماع البريطانية، الخاصة بمطالبة "المخزن" المغربي بساحل طرفاية. ولذلك بدأت المفاوضات في العاصمة الفرنسية باريس، بين كل من أسبانيا وفرنسا، بشأن غينيا والصحراء الغربية، ونتج عن هذه المفاوضات اتفاق باريس في 26 يونيه 1900، حيث جرى خلاله اقتسام الصحراء الغربية (اُنظر ملحق اتفاقية تحديد الممتلكات الفرنسية والإسبانية في أفريقيا الغربية، في ساحل الصحراء وساحل غينيا، الموقعة في باريس، بتاريخ 26 يونيه 1900)، وبموجب هذا الاتفاق سيطرت أسبانيا على وادي الذهب، وعملت فرنسا بعد ذلك على التقرب من بريطانيا، حيث استمرت المباحثات بينهما قرابة العامين، وفي 8 أبريل 1904 جرى توقيع اتفاق بين الجانبين هدف إلى إنهاء النزاعات الاستعمارية بما يحقق تعزيز الموقف الفرنسي في المغرب ويطمئن بريطانيا على موقفها في مصر، وكذلك تعهد الجانبان الفرنسي والبريطاني على مساعدة أسبانيا في توسيع نفوذها في المناطق شمال وادي الذهب . وفي 3 أكتوبر 1904 اتفق كل من فرنسا وأسبانيا سراً على تحديد مناطق النفوذ الأسبانية والفرنسية ، حيث انفتح المجال أمامهما لفرض سيطرتهما الكاملة على المغرب، ولم تواجه فرنسا أية معارضة إلا من ألمانيا، والتي عملت على ألا تسيطر فرنسا على مساحات كبيرة من المغرب.

وتضمن ذلك الاتفاق، كثيراً من الفقرات السِّرِّية، التي لم تعرف نصوصها، إلاّ بعد سنوات، وعلى وجه التحديد في 8 نوفمبر 1911 عندما نشرتها جريدة "لو ماتان" الفرنسية. وكانت هذه الفقرات، تتكون من إحدى عشرة فقرة سِرية، يمكن إيجازها على النحو الآتي:

ثالثاً: ردود الفعل المغربية تجاه السياسة الاستعمارية ومحاولات فرض السيطرة

مع تزايد حدة الموقف بين فرنسا وألمانيا، عُقد مؤتمر الجزيرة الخضراء في 16 يناير 1906، وحضره معظم الدول الأوروبية . ورغم أنه خلال المؤتمر تم التأكيد على سيادة المغرب واستقلال السلطان، إلا أن الحقيقة كانت فقد المغرب لاستقلاله والجزء الأكبر من سيادته ، وتم الاعتراف لأسبانيا وفرنسا بوضع خاص في المغرب، وأصبح المخزن يواجه الأطماع التوسعية لفرنسا وأسبانيا على حدوده الشرقية والشمالية والجنوبية، وكان لفرض أوروبا لقرارات مؤتمر الجزيرة على المغرب تأثيراً واضحاً على الرأي العام، حيث كانت قرارات المؤتمر إجحافاً بحقوق البلاد ، وإذا كان المولى عبدالعزيز قد حاول أن يخفف من وطأة قرارات المؤتمر، إلا أنه فشل في الوقت الذي كانت ثورات الروجي والريسولي تهدد سلطانه وحكمه سياسياً وعسكرياً، وأدى ذلك إلى خروج كثير من المناطق عن طاعته، وأصبحت شبه مستقلة، وكذلك خرج العديد من الأسر الإقطاعية عن سلطان المخزن، وبدأ المغاربة ينظرون إلى كل أجنبي في البلاد على أنه عميل ودخيل يمهد إلى ضياع استقلال البلاد، مما أدى إلى زيادة حوادث قتل الأجانب خاصة الفرنسيين، وسرعان ما قررت الحكومة الفرنسية في 23 مارس 1907 احتلال مدينة وجدة، وكذلك عمدت إلى زيادة سلطاتها في شرق المغرب وإبعاد المغرب عن إقليم موريتانيا ، ولم تعارض الدول الأوروبية احتلال فرنسا لوجدة، إلا أن هذه العملية أثارت المغاربة، وأثارت المخزن نفسه، وحاول السلطان عبدالعزيز أن يحتوي الموقف وأن يصل إلى تفاهم مع الفرنسيين، لكن التهديد الفرنسي أجبره على الخضوع لفرنسا، إلا أن هذا الموقف أدى إلى إثارة روح المقاومة المغربية وبدأت الاضطرابات تظهر جنوب البلاد، كما وقفت قبائل الجنوب في مواجهة سلطان البلاد.

تجمعت القبائل حول مراكش، ووجهت إنذارها إلى المولى عبدالحفيظ نائب السلطان في المدينة، تطالبه بطرد الأجانب. وهددت هذه القبائل بالعصيان والخروج على طاعة المخزن في فاس. وكانت المفاوضات بين القبائل الثائرة والمولى عبدالحفيظ، هي التي هيأت الأوضاع لتولي المولى عبدالحفيظ زعامة الثورة، والوصول إلى عرش السلطنة. وكان الشيخ ماء العينين قد حضر إلى المغرب من موريتانيا، وأخذ في المناداة بالجهاد ضد الاحتلال الفرنسي، مما ساعد على انتشار روح الثورة في كل أنحاء البلاد، حتى وصلت إلى الدار البيضاء. وباقتراب رجال القبائل من المدينة، طالبوا رفع خط السكك الحديدية وإيقاف أعمال البناء في الميناء، ومغادرة الأجانب للمدينة فوراً، وحينما تباطأ العمال في تنفيذ هذه المطالب، خرّب رجال القبائل خط السكك الحديدية يوم 30 يوليه 1907م، كما وقع اشتباك بين الجانبين قتل فيه ثمانية أجانب، منهم خمسة فرنسيون. واتخذت فرنسا من هذه الأعمال ذريعة لتدخلها العسكري، حيث قررت تحريك قوتها البحرية إلى الدار البيضاء واحتلالها، بالاشتراك مع أسبانيا. وقد أدى ذلك إلى زيادة حدة التوتر والاصطدام، بين القوات الفرنسية والمغاربة، بمشاركة من جنود المخزن.

مع زيادة حدة الصراع المسلح بين الجانبين، وجدت القوات الفرنسية والأسبانية نفسها محاصرة في الدار البيضاء، خاصة وأن القبائل المحيطة بالمدينة بدأت تستعد للجهاد، ولذلك قامت القوات الفرنسية بتوسيع دائرة الصراع، وتمكنت من احتلال قلعة مديونة. ومع زيادة حدة الصراع، ووضوح عجز المولى عبدالعزيز في مواجهة الضغط الاستعماري الأوروبي، إضافة إلي الصعوبات التي واجهته، والتي تمثلت في ضعف إمكانياته المالية وموافقته على قرارات مؤتمر الجزيرة، وكذلك قيام فرنسا باحتلال وجدة والدار البيضاء والشاوية. ولقد أدت هذه التطورات إلي فقد المولى عبدالعزيز السيطرة على الحكم . كما أعلن المولى عبدالحفيظ نفسه سلطاناً على المغرب، لكي يجاهد من أجل الاحتفاظ باستقلال البلاد[6]، حيث تم تولية المولى عبدالحفيظ السلطة في 16 أغسطس 1907 وبموافقة أعيان وعلماء وأشراف مدينة مراكش. وقد أظهر المولى عبدالحفيظ موافقته مع سياسة الجهاد والنضال، استناداً على الزعامات العربية الموجودة في جنوب المغرب. وبدأ الصراع بين الأخوين، واعتمد خلاله المولى عبدالعزيز على فرنسا، التي قدمت له كل العون والنصح حتى يتمكن من الاحتفاظ بعرشه. ولذلك اضطر إلى الموافقة على المطالب الفرنسية، سواء من حيث تعديل الحدود أم التعاون مع القوات الفرنسية، لإنشاء قوات تسيطر على مدينتي فاس وطنجة. وفقد بذلك المولى عبدالعزيز ما تبقى من سلطة وسمعة داخل البلاد، حيث أخذ أنصاره في الابتعاد عنه، واندلعت الثورة في مدينة فاس نفسها في أواخر شهر ديسمبر 1907.

وانتشرت بذلك الثورة في كافة الأراضي المغربية، بسبب توغل النفوذ الفرنسي العسكري والسياسي والاقتصادي في البلاد. كما كان لاضطراب الأوضاع المالية وانتشار الفوضى وعجز المولى عبدالعزيز، من العوامل التي حتّمت اختيار حاكمٍ جديدٍ. فقد اجتمع أشراف مدينة فاس في 3 يناير 1908 في المسجد الكبير، مع رؤساء القبائل المجاورة، وأعلنوا أن المولى عبدالعزيز لم يمتثل لقواعد الشرع، عند استيلاء الفرنسيين بالاستيلاء على عدة مدن، من دون أن يؤدي مهامه الأساسية وهي الدفاع عن استقلال البلاد. ولذلك أُعلن في الاجتماع عزل المولى عبدالعزيز، ومبايعة المولى عبدالحفيظ ، على أن يسعى إلى مقاومة معاهدة الجزيرة، التي توافق الأمة عليها. وكذلك عليه أن يعمل على استرجاع ما تم استقطاعه من الأراضي المغربية. كما اشترطوا عليه أنه إذا دعت الضرورة إلى إقامة وحدة، فليكن ذلك مع كافة الممالك المسلمة المستقلة، وإذا وجب مفاوضة الأجانب في أمور سلمية أو تجارية، فلا يتم عقد أية اتفاقات معهم، إلا بعد موافقة الأمة. وبذلك كانت بيعة فاس للمولى عبدالحفيظ مشتملة على شروط متعلقة باستقلال المغرب وسلامة أراضيه. كما شملت على تقييد السلطة دستورياً، والخضوع لمبدأ الشورى.

وقد أكدت هذه البيعة رفض الاعتراف بقرارات مؤتمر الجزيرة، كما أوضحت الأسلوب الواجب اتباعه مع الدول العربية والإسلامية، بدلاً من أن يدور المغرب بمفرده في فلك السياسة الأوروبية. ولذلك عمل المولى عبدالحفيظ، منذ توليه السلطة، على الاحتفاظ بشخصية خاصة متميزة حيال الدول العربية المجاورة، وكذلك الدول الإسلامية، وكان ذلك يمثل انتشار وقوة حركة الجامعة الإسلامية في المغرب الأقصى في ذلك الوقت ، كما نظر العلماء والفقهاء وعامة الشعب إلى سياسة المولى عبدالحفيظ، على أنها يمكن أن تخلص المغرب من الأخطار التي تهدده، وفي الوقت ذاته تتميز باتجاه وحدوي أصيل.

اتصل أهل مدينة فاس بالقبائل المحيطة بمدينتهم، لإعلان ولائهم للمولى عبدالحفيظ، كما شكلوا لجنة ثورية من العلماء والوجهاء للإشراف على حركة الجهاد، التي تم إعلانها، كما كونوا قوة عسكرية تقدمت شرقاً في اتجاه مدينة تازا لمواجهة القوات الفرنسية. ونجح بذلك المولى عبدالحفيظ في دخول مدينة فاس، عاصمة المغرب الشمالية في 6 يونيه 1908، رغم المقاومة المسلحة التي أبداها المولى عبدالعزيز والمساعدات الفرنسية التي قُدمت إليه. وقد كانت الثورة التي تزعمها المولى عبدالحفيظ بمثابة مواجهة مباشرة، ضد التدخل الأجنبي في المغرب، خاصة التدخل الفرنسي، ومع ذلك تباينت المواقف الفرنسية تجاه أحداث المغرب، حيث عدّ بعض الناس الانقسام الداخلي في المغرب ذريعة لزيادة التدخل الفرنسي، بينما اعتبرها البعض تهديداً للمصالح الفرنسية، خاصة أن حركة المولى عبدالحفيظ تعارض بقوة قرارات مؤتمر الجزيرة، وإذا كان بعض الفرنسيين طالبوا مواجهة حركة مولى عبدالحفيظ، وزيادة حجم القوات الفرنسية في الدار البيضاء ووجدة، إلا أن عناصر أخرى قد عمدت إلي تأييد المولى عبدالحفيظ وحركته بصفته سلطاناً شرعياً، كذلك حاولت قطاعات أخرى استغلال هذا الانقسام الداخلي في عمليات تهريب الأسلحة والذخائر إلى الحركة الثورية. ويتضح بذلك وجود انقسام في الرأي الفرنسي بشأن المغرب، ولذلك أعلنت فرنسا حيادها تجاه الصراع الداخلي، ولكنها أصرت على ضرورة تطبيق قرارات مؤتمر الجزيرة، خاصة فيما يتعلق بتنظيم وتشكيل القوات اللازمة لتحقيق الاستقرار والأمن والنظام في الإقليم. وكذلك كان الموقف لكل من بريطانيا وأسبانيا، حيث أعلنتا أنه إذا كان المولى عبدالعزيز هو صاحب الحق الشرعي في الحكم، فإن ذلك لا يمنعهما من التعامل مع المولى عبدالحفيظ على أساس أنه صاحب الحق الفعلي، في ممارسة الحكم.

بعد أن نجح المولى عبدالحفيظ في الوصول للسلطة، والسيطرة على مقاليد الحكم، كان عليه أن يسعى لتحقيق مطالب الرأي العام المغربي. ولذلك كان عليه أن يكون ثورياً وشعبياً ويستمر في جهاده، حتى يتمكن من تحقيق المهمة التي ألقيت على عاتقه. إلا أن الإمكانيات المادية التي توفرت لديه كانت محدودة، ولا تمكنه من تنفيذ البرنامج الذي كلفه به الرأي العام في المغرب . أما من الناحية السياسية، فقد أصبح يمثل عرش المغرب وبشكل يجبره على احترام الحقوق والتمسك بها واحترام تعهداته والوفاء بها. وقد حاول المولى عبدالحفيظ أن يكسب تأييد الدول الأوروبية، وكذلك دعم الرأي العام العالمي لحركته، إلا أنه وجد رفضاً قاطعاً من بريطانيا وأسبانيا وفرنسا، حيث استندوا إلى عدم رغبتهم في التدخل لاحتواء المشكلات والنزعات الداخلية، وأمام الضغوط الخارجية وانعدام الموارد الداخلية، اضطر المولى عبدالحفيظ إلى بدء مفوضات دبلوماسية مع فرنسا للوصول إلى اعتراف بشرعية حكمه، وفي الوقت ذاته إرضاء الأماني القومية لإجلاء القوات الأجنبية الموجودة بالمغرب. إلا أن هذه الجهود الدبلوماسية قد فشلت بسبب الشروط المجحفة التي كانت تفرضها فرنسا عليه، حيث كانت هذه الشروط إجبار للمولى عبدالحفيظ على الاختيار إما بالاستسلام أو الجهاد، ونظراً للإمكانيات المحدودة للمقاومة وعدم وجود تأييد أو دعم خارجي خاصة من ألمانيا، اضطر المولى عبدالحفيظ إلى التعهد بتأمين سلامة الرعايا الأجانب، كذلك اعترف بالمعاهدات التي عُقدت بين أسلافه وبين الدول الأوروبية، كما اعترف بميثاق الجزيرة ، وقد توسطت ألمانيا في المفاوضات على أساس قيام المغرب بتعويض فرنسا وأسبانيا مالياً عن عملياتهم الحربية، وكذلك تعويض الرعايا الأجانب عن خسائرهم، وبقبول المولى عبدالحفيظ بهذه الشروط، اعترفت الدول الأوروبية في نهاية ديسمبر 1908 بالمولى عبدالحفيظ سلطاناً على المغرب.

واضطر المولى عبدالحفيظ إلى الدخول في مفاوضات مع فرنسا، لإجلاء القوات الفرنسية من بعض المدن المغربية، خاصة من مدينتي الشاوية ووجدة، وكذلك لتسوية الديون المالية، واستمرت هذه المفاوضات خلال شهري فبراير ومارس 1909، واقترحت فرنسا سحب قواتها من المغرب تدريجياً، ولكن على أساس احتفاظها ببعض المراكز حول مدينة الدار البيضاء، وكذلك احتفاظها بالقوات شبه العسكرية ـ قوات القوم ـ التي أعدتها فرنسا ويقودها ضباط فرنسيون. كذلك أصرت فرنسا على ضرورة عدم تدخل المخزن وتأييده للزعيم ماء العينين وقادة الصحراء وموريتانيا، الذين أعلنوا جهادهم ضد القوات الفرنسية في الجنوب ، وكذلك طلبت فرنسا تعيين مفوضين سامين، أحدهما فرنسي والآخر مغربي، لمنطقة الحدود الجزائرية. وتحت الضغط الفرنسي وافق المغرب عل الاتفاقية، التي وُقعت في مارس 1910. وبعد التوقيع على هذه الاتفاقية أصرت أسبانيا على أن تدخل في مفاوضات مع المغرب، انتهت في 17 نوفمبر 1910، ومن خلالها تم تعيين مفوض مغربي يتعاون مع مفوض أسباني للسيطرة على القوات المغربية، التي تم تشكيلها ويقودها ضباط أسبانيون، كما تعهد السلطان بتسليم سانتا كروز إلي أسبانيا. وهكذا كانت هذه الاتفاقيات، التي تمت بين الدول الاستعمارية بعضها البعض، وكذلك بينها وبين المغرب، بمثابة وسائل ضغط استعمارية أدت إلي زيادة النفوذ الأجنبي في البلاد، ودفعت بالمغرب إلى الثورة، في الوقت الذي تمكنت الدول الاستعمارية من السيطرة الكاملة على المغرب.

ازداد تفاقم الأوضاع في المغرب، حين عجز المولى عبدالحفيظ عن المقاومة نتيجة لاشتداد الأزمة المالية، وكذلك سيطرة البعثة العسكرية الفرنسية على القوات المغربية ، إضافة إلى السياسة المالية التي اتبعها المولى عبدالحفيظ، ودفعت البلاد إلى الثورة ضد الاستعمار وضد السلطان، حيث شكلت قبائل بني مطير والشراردة حلفاً ضد المخزن في عام 1911. وعلى الرغم من المحاولات التي قام بها المولى عبدالحفيظ لاحتواء هذه القبائل، إلا أن العديد من القبائل كانت قد انضمت إلى الثورة، ووضح عجز المولى عبدالحفيظ في السيطرة على الموقف، خاصة وأنه كان يعتمد على ضباط فرنسيين لقيادة قواته، مما كان يثير روح الثورة والجهاد في نفوس المغاربة. وقد أدى تطور القتال بين الجانبين إلى تمكن الثوار من إتمام حصارهم لمدينة فاس ـ العاصمة ـ كما دخلوا مدينة مكناس، وأعلنوا المولى زين سلطاناً على المغرب. وكانت هذه الأحداث بمثابة فرصة مناسبة لفرنسا للتدخل ومساعدة المخزن، والمحافظة على سيادة السلطان. ولذلك تحركت القوات الفرنسية صوب العاصمة بعد أن استنجد المولى عبدالحفيظ بها، وتمكنت من دخول مدينة فاس يوم 21 مايو 1911، ووجدت أسبانيا أن هذه الأحداث مناسبة، فاختلقت بعض الحوادث بالقرب من مدينة العرائش حيث تمكنت يوم 9 يونيه 1911 من دخول مدينتي القصر الكبير والعرائش.

ازداد الموقف الأوروبي توتراً بسبب التدخل الفرنسي العسكري في المغرب الأقصى، خاصة مع زحف القوات الفرنسية على فاس ونزول القوات الأسبانية في العرائش، مما كان يؤكد تقسيم المغرب إلى مناطق نفوذ. وكانت ألمانيا، في الوقت ذاته، تبدي اهتمامها بالإقليم الجنوبي من المغرب، الذي يضم وادي السوس. ولذلك حركت ألمانيا إحدى قطعها البحرية نحو ميناء أغادير لحماية مصالحها، ووضح بذلك أن ألمانيا تحاول السيطرة على جنوب المغرب، كخطوة أولى ونتيجة طبيعية لدخول القوات الفرنسية إلى فاس . وقد أدت هذه التطورات إلى توتر العلاقات الدولية، وظهرت خلالها بوادر صدام مسلح عالمي، إلا أنه أمكن إجراء مفاوضات في برلين يوم 9 يوليه 1911 ، استمرت حتى بداية نوفمبر، اتفقت خلالها فرنسا وألمانيا على عدم عرقلة ألمانيا لمشروع الحماية الفرنسية. وقد أدى هذا الاتفاق إلى اضطرار المولى عبدالحفيظ التوقيع على معاهدة 30 مارس 1912 مع فرنسا ، وهي المعاهدة التي أثبتت سيادة فرنسا على المغرب، وحولتها إلى محمية فرنسية. وقد أحدث هذا التوقيع توتراً شاملاً داخل البلاد، حيث عُدّ استسلاماً وخيانة من السلطان ضد البلاد والإسلام.

مع رفض المخزن للحماية الفرنسية، وكذلك رفض المولى عبدالحفيظ التعاون مع الفرنسيين، تم تنصيب مولاي يوسف خلفاً له في 14 أغسطس 1912 . وكانت الفترة التالية لإعلان الحماية الفرنسية على المغرب الأقصى، هي فترة كفاح مسلح قامت بها العناصر الوطنية في جميع أنحاء المغرب، وحين أُعلنت الحرب العالمية الأولى عام 1914، كانت فرنسا قد تمكنت من فرض سيطرتها على البلاد، سواء في الجزائر أو المغرب ، ورغم أن فرنسا لجأت إلى التهدئة ، إلا أن رجال الجامعة الإسلامية قد نشطوا مع بداية الحرب العالمية الأولى، وتمكنت بعض العناصر الألمانية من الاتصال بقادة المغرب الأقصى. كما اتصلوا بالسلطان السابق المولى عبدالعزيز، وكذلك بالمولى عبدالحفيظ، كما اتصلوا بهبة الله ابن ماء العينين. إلا أن فرنسا تمكنت من السيطرة على الأوضاع، وشهدت السنوات التالية لنهاية الحرب العالمية الأولى عمليات تصفية للنفوذ والمصالح الألمانية في المغرب، لصالح فرنسا.

سعت أسبانيا إلى مد سيطرتها صوب الداخل، حيث كانت تحتل بعض النقاط والموانئ الساحلية، إلا أنها كانت غير قادرة على مد سلطاتها الفعلية على مناطق قبائل الريف المعروفة باسم الأمازيغ[7]، ولقد شعر الأمير عبدالكريم الخطابي، وهو زعيم أكبر وأشهر قبائل الريف ـ قبيلة بنو رياغل ـ بالأهمية الاقتصادية للمناطق التي تسكنها قبائل الأمازيغ، واختار عبدالكريم أسبانيا دولة يتعاون معها لصالح الطرفين، مع تمسكه بحريته وسيادته، إلا أن الخلافات التي دبت بين الطرفين أدت إلى أن تفرض أسبانيا سيطرتها الفعلية على الإقليم، من خلال الحملات العسكرية، حيث تقدمت القوات الأسبانية في شهر أغسطس 1920 تجاه مناطق الريف، ولكنها وجدت مقاومة عنيفة من قبائل الريف. وبوفاة الشيخ عبدالكريم الخطابي، خلفه في قيادة القبيلة والثورة ابنه محمد عبدالكريم، الذي استمر في تدعيم قواته وسلطته، ومد نطاق دولته الثورية في منطقة الجبال . ولم يتراجع الأمير محمد عبدالكريم في استخدام الشدة والحزم ضد بعض القبائل الجبلية ـ الريفية ـ خاصة من تعاون منهم مع الأسبان. وهكذا أصبح محمد عبدالكريم الخطابي رئيساً لدولة وزعيماً لشعب، وقائداً لثورة. وأعلن هدفه في تحرير الريف والجبال، كما أعلن موافقته على ترك سبتة ومليلة لسيطرة الأسبان . ومع تزايد حدة القتال بين أسبانيا وثورة محمد عبدالكريم، أخذ الصراع يتسع لتشارك فيه القوات الفرنسية ضد ثورة الريف، وبذلك تضاربت المصالح والاتجاهات بين القوى الوطنية والقوى الاستعمارية في المنطقة، ووضح صعوبة التفاهم بين فرنسا وبين قادة الريف. كما أن فرنسا لم تقبل استمرار محمد عبدالكريم الخطابي في ثورته، وتهديد نفوذها في شمال أفريقيا. ومع شعور فرنسا بخطورة ثورة الريف عليها، وعلى مستعمراتها في شمال أفريقيا، قررت سرعة القضاء عليها، وحاول الأمير محمد عبدالله الخطابي أن يتوصل إلى اتفاق مع فرنسا للاعتراف باستقلال الريف، إلا أن محاولته باءت بالفشل، فبدأ الريفيون هجومهم على فرنسا منذ منتصف عام 1925.

وعلى الرغم من العمليات العسكرية البطولية التي خاضها الريفيون، إلا أن الفرنسيين اغتنموا فرصة توقف العمليات خلال فصل الشتاء، وتمكنوا من استمالة القبائل الموالية للأمير محمد عبدالكريم، حيث بدأت بعض هذه القبائل في الانفضاض من حوله. ولذلك لجأ الأمير محمد عبدالكريم إلى المفاوضات والصلح مع كل من فرنسا وأسبانيا، في أبريل 1926 ، إلا أن هذه المفاوضات فشلت على الرغم من استعداد الأمير محمد عبدالكريم للتنازل والانسحاب. وبدأت القوات الفرنسية والأسبانية هجومهما، وطلب محمد عبدالكريم وقف العمليات واستسلم للقوات الفرنسية، واستمر الزحف الأسباني حتى استُكمل احتلال الريف بأكمله. وفي صيف 1926 نشأت حركة الجامعة المغربية في الرباط، كذلك تأسس اتحاد الطلبة، وفي 27 أبريل من العام نفسه، تقرر دمج الحركتين تحت مسمى "حزب الاستقلال". وأخذ طابع الحركة اتجاهاً تقدمياً ديموقراطياً، إلا أنه لم ينفصل عن المبادئ الروحية الإسلامية . وفي عام 1932 أصبح للحركة العديد من المؤيدين، ورفضت فرنسا بحث فكرة التفاوض مع الوطنيين، الذين يقودهم حزب الاستقلال، مع أن مطالبهم في بداية الحركة كانت تتمثل في تنفيذ معاهدة الحماية المعلنة عام 1912 . وبدأ العمل الوطني يأخذ طابعه الجماهيري بعد أن رفضت فرنسا قيام السلطان محمد الخامس بالصلاة في جامعة القرويين، التي كانت معقلاً من معاقل الحركة الوطنية التي كانت تأخذ النضال السياسي أسلوباً لها، ولكن هذا الأسلوب كان دائماً ما يشوبه الاضطرابات الدامية، بسبب النهج الاستعماري الفرنسي الذي كانت تتبعه فرنسا لإبعاد البربر عن المسلمين من خلال القوانين التي كانت تصدرها لتأكيد الفصل بين السلطات .

بدأت الاضطرابات تنتشر في البلاد منذ عام 1937، حيث بدأ ينتشر إصدار الصحافة المغربية، وتشكيل الأحزاب الوطنية المناهضة للاستعمار، ومنها كان حزب الإصلاح برئاسة عبدالخالق الطريس، وحزب الوحدة والاستقلال برئاسة محمد المكي الناصري، واللجنة التنفيذية برئاسة أحمد بلافريج. وكانت الحرب العالمية الثانية، التي شهدت انهيار فرنسا أمام ألمانيا، حيث نزلت القوات الأمريكية في مراكش عام 1942، وما تبع ذلك من ترحيب السلطان محمد الخامس بالرئيس الأمريكي روزفلت ، مما أدى إلى المطالبة بالاستقلال التام. وفي 11 يناير 1944، انعقد المؤتمر الوطني، الذي جعل الاستقلال هدفه الأول، كما أعلن ولاءه للأسرة الحاكمة، حيث طالب بتطبيق نظام الملكية الدستورية، وبمنح الحريات الديمقراطية لأفراد الشعب، كما استبدل الحزب بلقب السلطان لقب الملك، الذي سُمي منذ ذلك التاريخ "الملك محمد الخامس" . وتبدد الأمل في نفوس الوطنيين في المغرب بسبب عدم تمكن الحلفاء من تخفيف قبضة فرنسا على بلادهم، حيث اجتمعت الأحزاب الوطنية المغربية يوم 11 يناير 1944، وأعلنت ميثاقها، الذي تضمن أهداف المغرب الآتية:

1.     المطالبة بالاستقلال التام ووحدة الأراضي المغربية.

2.     إقرار الملكية الدستورية كنظام للحكم.

3.     التعاون بين الملك والشعب على تحرير البلاد وتحقيق الإصلاح.

وبذلك يكون قرار الوطنيين في المغرب، أن نظام الحماية لا يمكن أن يحقق طموحهم، وأن الاستقلال هو السبيل الوحيد. وزاد نشاط محمد الخامس، كذلك زادت حدة الاضطرابات الداخلية قام خلالها الفرنسيون بمذبحة كبيرة في الدار البيضاء، قُتل فيها أكثر من أربعة آلاف مواطن مغربي، واعتقل زعماء الأحزاب وأعلنوا حلها، كما اعتقل الملك محمد الخامس وأفراد أسرته، وأُبعد إلى مدغشقر. ومع استمرار الأحوال المضطربة في المغرب، وتحت ضغط الرأي العام الدولي، تراجعت فرنسا عن موقفها وأعادت الملك إلى عرشه بعد عامين من الصراع المرير، وعاد الملك بعد أن صدر تصريح مشترك بينه وبين فرنسا في 6 نوفمبر 1955، اعترفت فيه فرنسا باستقلال مراكش. وفي 2 مارس 1956 جرى التوقيع على اتفاقية تضمنت إلغاء الحماية والاعتراف باستقلال مراكش ووحدة الأراضي المغربية (اُنظر ملحق وثيقة الاستقلال الموقعة بتاريخ 2 مارس 1956، البيان المشترك بين المغرب وفرنسا). كذلك صدر في 6 أبريل 1956 بيان أسباني مغربي مماثل، استعاد خلاله المغرب حريته السياسية (اُنظر ملحق بيان استقلال المغرب بتاريخ 6 أبريل 1956، صادر من أسبانيا والمغرب)، واتخذت مراكش "المغرب" اسماً رسمياً للدولة.

رابعاً: رد فعل سكان الصحراء الغربية تجاه الاستعمار

بعد إعلان استقلال المغرب، حدد حزب الاستقلال الأراضي التي ما زالت تحت الاحتلال بالآتي:

1.     أراضٍ استمرت أسبانيا تسيطر عليها، تمثلت في مدينتي مليلة وسبتة في الشمال على البحر المتوسط، والجزر الجعفرية بمحاذاة الحسيمة وإقليم طرفاية، وهو يقع داخل الصحراء الغربية جنوب المنطقة، التي كانت تحت النفوذ الفرنسي، وإقليم إيفني، وإقليم الساقية الحمراء، ووادي الذهب جنوب طرفاية.

2.     أراضٍ استمرت فرنسا تسيطر عليها، وهي موريتانيا، التي تمتد من وادي الذهب إلى حدود السنغال، وأراضٍ في التخوم الشرقية ضمتها فرنسا إلى الجزائر وقت الاحتلال، وكذلك جزء تحت الحكم الدولي وهي طنجة التي كانت خاضعة لإدارة مختلطة تكونها مجموعة من الدول الغربية. (اُنظر شكل أماكن الاستعمار الفرنسي والأسباني)

وقد طالبت الحركة الوطنية، بعد توقيع معاهدتي الاستقلال مع فرنسا وأسبانيا، باستكمال استقلال المغرب، وكان رد فعل السلطات الاستعمارية سريعاً، حيث عقدت كل من فرنسا وأسبانيا اتفاقاً يتعلق بإقرار الحدود بين منطقتي الصحراء الغربية، التي تقع تحت نفوذ كل منها، وعملتا على فصل الصحراء عن المغرب وعن أفريقيا الغربية. إلا أنه مع عدم استكمال استقلال المغرب، توجهت عدة وحدات من جيش التحرير خلال عام 1956 إلى الصحراء الغربية، وانضمت إليها القبائل الصحراوية، وبذلك أصبح هذا الجيش يتكون من عناصر تنتمي لمختلف مناطق المغرب، من الريف والأطلسي وتافيلات والشاوية ودكالة والساقية الحمراء، ووادي الذهب وغيرها، مكوناً بذلك صورة من الإجماع الشعبي على استمرار الكفاح لإتمام التحرير والوحدة. وقد استقرت هذه القوات في باستيك، وأقا، وطاطا، وأصبحت هذه المناطق مراكز لتدريب الجيش، وتنظيم العمليات العسكرية، ونقط انطلاق القوات لخوض المعارك ضد الاستعمار، خاصة الأسباني .

لم يرغب جيش التحرير بدء عمليات الكفاح المسلح ضد الاستعمار الأسباني، في كل من مناطق أُيت باعمران والصحراء الغربية، بل فضل، أولاً، تحييد أسبانيا أثناء مواجهته القوات الفرنسية في صحراء تندوف وموريتانيا، لهذا طلب جيش التحرير من سكان إيفني وأيت باعمران إيجاد نوع من الهدنة مع أسبانيا، حتى يتم تحرير المناطق الأخرى، خاصة وأن أسبانيا كانت لا تعارض تحركات جيش التحرير بسبب تأزم العلاقات الفرنسية الأسبانية. كما أن أسبانيا فتحت مناطقها لأفراد المقاومة اللاجئين إليها، خوفاً من القمع الفرنسي. إلا أنه بعد تركيز الجيش وتجمعه، ووضوح قوته، بدأ توسيع دائرة المعارك لتشمل القوات الأسبانية والفرنسية، كذلك بدأت العمليات في كل من أيت باعمران ووادي الذهب والساقية الحمراء، خاصة بعد أن غيّرت أسبانيا مواقفها السياسية تجاه جيش التحرير، حيث بدأت تحد من تحركات وحداته، كما سمحت للجيش الفرنسي بشن عمليات عسكرية داخل مناطق نفوذها.

خامساً: معارك جيش التحرير ضد الوجود الفرنسي بالصحراء الغربية

بدأ جيش التحرير عملياته بالتوغل داخل الأراضي المستعمرة، ومهاجمة مراكز القوات الفرنسية في الصحراء الشرقية، التي كانت مسرح العمليات الأولى. فقد هاجمت قوات جيش التحرير في يونيه 1956 مركز أم العشار الفرنسي ـ ويبعد 130 كم من شمال تندوف ـ ودُمر المركز وقُتل قائده. وكانت هذه العملية بمثابة فتح جبهة جديدة ضد القوات الفرنسية بغرض تشتيت جهودها، كما كان ذلك مساندة للثورة الجزائرية، حيث عزّزت فرنسا قواتها في تندوف، في الوقت الذي كانت فرنسا تركز جهودها ضد الثورة الجزائرية. وفي أكتوبر 1956 توترت الأوضاع في الجنوب، حين تحركت القوات البرية الفرنسية صوب الجنوب من مختلف مناطق المغرب، فخرجت المظاهرات الشعبية، وأعلن إضراب شامل في أغادير، وحاصرت قبائل الجنوب الطرق، التي تمر منها القوات الفرنسية وشلت الحركة. وفي 12 يناير 1957 نفّذ جيش التحرير هجمات متعددة داخل موريتانيا، نتج عنها خسائر بشرية في الجانبين، وعلى الرغم من عدم تمكن جيش التحرير من تحقيق مهمته، إلا أنه كسب تأييداً سياسياً، خاصة من الحكومة الموريتانية. ولأن العمليات العسكرية لجيش التحرير، كانت تتسم بطابع التحدي وتتخذ الأسلوب الانتحاري، فقد أدى إلى ذلك إلى اتخاذ فرنسا عدة إجراءات ضد جيش التحرير، منها إدماج مدينة تندوف بالمناطق التي تحتلها بالجزائر، كذلك سارعت فرنسا للاتفاق مع أسبانيا على سرعة القضاء على مراكز جيش التحرير في الصحراء الغربية. وظهرت بوادر هذا الاتفاق خلال المعارك التي دارت شمال موريتانيا، حيث توغلت القوات الجوية والبرية الفرنسية داخل وادي الذهب، لتتبع جيش التحرير. كما اعترضت القوات الأسبانية وحدات جيش التحرير عند عودتها من شمال موريتانيا وسحبت أسلحتهم. ويعد هذا الموقف بداية لتوتر العلاقات بين جيش التحرير والجيش الأسباني، وبداية للتحالف الفرنسي الأسباني، الذي عجّل بانفجار العلاقات بين جيش التحرير والأسبان. فقد اتفق الجانبان الفرنسي والأسباني على خطة عمل مشتركة لمواجهة جيش التحرير وصد هجماته، وعقدت اتفاقية تضمنت الآتي :

1.     منع تسرب أفراد جيش التحرير إلى داخل الصحراء الغربية.

2.     فرض حصار اقتصادي في الحدود بين الشمال المستقل، والمنطقة التي تحتلها أسبانيا.

3.     الدفاع المشترك عن الصحراء، والعمل على عدم دمجها في المغرب.

4.     استغلال مشترك للمعادن الموجودة بالصحراء الغربية والشرقية.

5.     تعزيز قوات الجيش الأسباني بقوات فرنسية لمواجهة تحركات جيش التحرير.

واستمرت حملات الجيش الفرنسي جنوب وادي الذهب، بهدف تدمير جيش التحرير، الذي اضطر إلى تجميع قواته في عدة مراكز شمال الصحراء الغربية. وعلى الرغم من الصعوبات التي واجهها، فإنه لم يتوقف عن مهاجمة القوات الفرنسية، حتى أمكنه معاودة هجوم مركز أم لعشار في 6 أغسطس 1957، رغم قوة الحراسة على هذا المركز، وكان الهجوم رداً عملياً لدحض الادعاء الفرنسي، بعدم وجود خطر يهدد المنطقة.

سادساً: معارك جيش التحرير ضد الوجود الأسباني بالصحراء الغربية

بعد أن أخفقت الاتصالات مع أسبانيا، وتمادت القوات الاستعمارية في استخدام قواتها العسكرية، تحمّل جيش التحرير مسؤوليته في استكمال تحرير الأراضي المغربية، بمشاركة فعالة لمواطني باعمران. وكانت أسبانيا قد بدأت بحشد قواتها، بداية من سبتمبر 1957، في كل من مناطق الداخلة والعيون وطرفاية وإيفني. كما شنت القوات الأسبانية هجوماً على قبيلة أصبويا بأيت باعمران، وفرضت قيوداً على القبائل، ومنعت دخولهم أو خروجهم إلى هذه المناطق. كما تركّز الهجوم الأسباني على مركز حزب الاستقلال بمدينة العيون في 11 سبتمبر 1957، حيث اعتقلوا العديد من أفراد القبائل ومزّقوا العلم المغربي، فثارت الجماهير المغربية، يتزعمها الشيخ الأغطف ابن الشيخ ماء العينين. وخلال هذه الثورة الشعبية بدأ الكفاح المسلح منطلقاً من آيات باعمران اعتماداً على المتطوعين، وهاجمت وحدات جيش التحرير يوم 13 نوفمبر 1957 ثمانية عشر مركزاً أسبانياً، وحققت العديد من الانتصارات، رغم اختلال ميزان القوى لصالح القوات الأسبانية. ونتج عن ذلك تنسيق بين القوات الفرنسية والأسبانية، لتنفيذ خطة ـ عملية الإعمار ـ للاشتراك في تطهير الصحراء من جيش التحرير. وتمكنت القوتان، الفرنسية والأسبانية، من هزيمة جيش التحرير وإجباره على التراجع لإعادة تنظيم قواته عسكرياً وسياسياً، حيث تمكن بعد ذلك من شن هجمات متعددة ضد القوات الفرنسية على الحدود الشرقية، واستطاع أن يفرض وجوده في منطقة تندوف.

وقد واجه جيش التحرير المغربي الهجمات الاستعمارية الموسعة، على الرغم من ضعف إمكانياته، متشبثاً بالمبادئ التي التزم بها، حيث كان مطلبه الأساسي الاستقلال ووحدة الأراضي المغربية. وقد ثبت خلال هذه المرحلة مدى ارتباط الشمال المغربي بجنوبه، ومدى التماسك بين قبائل الصحراء وحركات المقاومة، ومع تضافر جهود القوات الفرنسية والأسبانية، أمكن إيقاف أعمال قتال جيش التحرير، كما شرعت فرنسا في إنشاء ما سُمي بالمنطقة المشتركة للأقاليم الصحراوية. إلا أنه في 23 نوفمبر 1957، نشب قتال واسع النطاق بين القوات الأسبانية وقوات جيش التحرير على قطاع إيفني جنوب مراكش. وفي أول ديسمبر دعمت أسبانيا قواتها البحرية في المياه المغربية، وتوجهت مباشرة إلى إيفني، وأعلنت أسبانيا في تصريح لها أنها تعتزم استمرار فرض سيطرتها على الساقية الحمراء ووادي الذهب، وفي أوائل عام 1958 أعلنت أسبانيا أنها قررت ضم إيفني إلى جزر الخالدات الأسبانية . وفي 10 يناير 1958 صدر قانون أسباني لإنشاء إقليم الصحراء منفصلاً عن إيفني، على أن يتولى إدارة إقليم الصحراء المقيم العام التابع لرئاسة الحكومة، كما أصبح الإقليم ممثلاً في البرلمان الأسباني بثلاث نواب، وبهذا القانون تكون أسبانيا قد أعلنت دمج إقليم الصحراء الغربية ضمن الأراضي الأسبانية، ولذلك تجدد كفاح جيش التحرير المغربي، حتى تمكن من تحرير معظم الصحراء الغربية وطرد القوات الأسبانية منها، وتمكن من السيطرة على كافة مناطقها باستثناء المنطقة الساحلية ومنطقة الداخلة ـ العاصمة ـ إلا أنه من خلال التنسيق العسكري الفرنسي ـ الأسباني أمكن استرداد الأراضي المحررة، ولتخفيف حدة التوتر دعت أسبانيا المغرب لمفاوضات مباشرة لإنهاء الصراع المسلح، وأسفرت هذه المفاوضات عن تنازل أسبانيا للمغرب عن منطقة طرفاية والمنطقة المحيطة بسيدي إيفني في إطار معاهدة سنترا والتي تم التوقيع عليها بين المغرب وأسبانيا في 8 مارس 1958، في حين تمسكت فرنسا بموريتانيا. ولقد هدفت أسبانيا من هذه المعاهدة إيقاف المقاومة الشعبية المغربية ضد الوجود الأسباني، وكذلك إحراج فرنسا المسيطرة على الطرف الآخر من الصحراء وموريتانيا.

وظلت أسبانيا تتمسك بمنطقتي إيفني والصحراء الغربية، كما كانت المغرب تطالب بهما. ولكن في الوقت ذاته انشغل المغرب بالمطالبة بإقليم موريتانيا نفسه، إذ كان المغرب يرى أنه من خلال ضم موريتانيا، يمكنه ضم الصحراء الغربية.

 



[1] بعد الفتح الإسلامي للمغرب تم تقسيمه إلى أربع ولايات كبرى، الأولى تُعرف بولاية أفريقية وتضم طرابلس وقرطاجنة والقيروان وصفاقص، بينما كانت الولايات الأخرى هي المغرب الأوسط والمغرب الأقصى وولاية سجلماسة.

[2] المِصْرَ: المدينة الكبيرة التي قام فيها الدور والأسواق وغيرها من المرافق العامة.

[3] سانتا كروز: هي قلعة بناها البرتغاليون عام 1478م على الساحل الأفريقي مواجهة لجزر كانارياس، وكانت تضم فنارة ومركز تجاري، تنازل عنها البرتغاليون لأسبانيا عام 1505م، وفي عام 1524م استولت عليها القبائل العربية.

[4] المخزن: ويعني بها في المغرب السلطة المكلفة بمهمة الجباية، أي الحكومة، بينما في تونس تعني القبائل المجندة للخدمة العسكرية.

[5] الشيخ ماء العينين: هو شيخ عائلة دينية نافذة في الصحراء الغربية في نهاية القرن التاسع عشر، ناضل بالاشتراك مع الحكام المغاربة سياسياً وعسكرياً ضد الوجود الفرنسي في موريتانيا وجنوب المغرب.

[6] المولى عبدالحفيظ هو نائب المولى عبدالعزيز في مراكش عاصمة الجنوب، وفي الوقت ذاته أخيه، وكان يتمتع بنفوذ كبير، ولقد وجد تعيينه سلطناً على المغرب تأييداً عاماً من الشعب، حيث كان لا يوافق على سياسة أخيه، ولا يوافق على التواجد الأجنبي في المغرب، كذلك كان للمولى عبدالحفيظ علاقات ودية واضحة مع الشيخ ماء العينين المجاهد الكبير في موريتانيا وجنوب المغرب.

[7] الأمازيغ: هم البربر الذين هاجروا من آسيا الوسطى ابتداء من الألف الثاني قبل الميلاد باتجاه البحر المتوسط، ثم انتقلوا إلى أفريقيا الشمالية، ومنذ القرن السابع اعتنقوا الإسلام واندمجوا في العالم العربي، إلا أنهم ما زالوا يحتفظون بلغتهم الأمازيغية الخاصة، وهم يشكلوا بعض قبائل الصحراء الغربية والطوارق وجزء من سكان المغرب.