مقترحات البحث الأشكال والخرائط الصور المحتويات

مقاتل من الصحراء

الفصـل السابع

تـرويض الشــركة

          عندما عُيِّنت ضابط مشروع صواريخ هوك عام 1972، لاحظت أن شركة ريثيون الأمريكية منتجة هذه الصواريخ، لا تختلف كثيراً عن شركة أرامكو aramco (شركة الزيت العربية الأمريكية) . فكما كانت شركة أرامكو تدير صناعتنا البترولية، آنذاك، أضحت ريثيون تدير دفاعنا الجوي. كان دخلُنا منوطاً بالأولى، وحمايتنا منوطة بالثانية. كانت الشركتان الأمريكيتان تتحكمان في قطاعات حيوية في المملكة. كانتا تمثلان صرحَيْن عملاقَيْن من الخبرة والثروة. ويرتبط الصرحان ارتباطاً وثيقاً بالحكومة الأمريكية، أمّا شؤونهما فتصرفها مجالس إدارة جبارة مقرها الولايات المتحدة. وفي المملكة، فالقليل من الناس هم الذين يستطيعون التحدث إلى ممثليهما حديث الند للند.

          جاءت ريثيون إلى المملكة عام 1966 لإدخال صواريـخ هوك، ولم تكن تخضع لرقابة سعودية، لأنه لم يكن في المملكة من السعوديين من يعرف سبل التعامل مع تلك التقنية البالغة التعقيد. فكانت ريثيون تورّد الصواريخ وقطع الغيار وتتولى الصيانة، وكان مهندسوها يتولون تشغيل مواقع الدفاع الجوي والصيانة الرئيسية لصواريخ الدفاع الجوي في جدّة، بل كانت الشركة تستقدم المدرِّبين بمعرفتها. وكانت تنفّذ العقد من دون رقابة منّا، أيّاً كان نوعها. وبعبارة أخرى كنا نعتمد اعتماداً كلياً على مهندسي ريثيون ومدربيها وإدارييها وفنييها من جميع التخصصات. واتخذت الشركة من جدّة مقراً لها، حيث يعيش منسوبوها في مجمع سكني يتكون من نحو 100 فيلاّ بُنيت على سفح هضبة على ساحل البحر كانت تعرف باسم شبه الجزيرة. ولم يكن يسمح للسعوديين بدخولها إلا بعد الحصول على تصريح مسبق من جلين جربس glen grubbs المدير العام لشركة ريثيون، وهو أمريكي شديد المراس جاد في تعامله. وكانت مدرسة الدفاع الجوي في الموقع نفسه، وقد عرفت بين سائقي سيارات الأجرة باسم مدرسة ريثيون، وكان هناك أيضاً مستشفى صغير يعرف بمستشفى ريثيون. وكان التسلسل القيادي في مصلحتهم إلى حدٍّ كبير، فجربس، ممثل الشركة يملك صلاحية الاتصال المباشر بالأمير سلطان، وبالملك في بعض الأمور. لكن إذا أراد أحد كبار الضباط السعوديين، كقائد مدرسة الدفاع الجوي مثلاً، مقابلة المدير العام لشركة ريثيون، فقد كان عليه أن يأتي إلى مقر الشركة ويطلب تحديد موعد لمقابلته.

          لم يكن ذلك الوضع يروق للملك فيصل. فقد كان - يرحمه الله - وطنياً غيوراً في وطنيته لا تلين له قناة. وبالمثل لم يكن الأمر ليروق للأمير سلطان. لذلك كانت التوجيهات الصادرة إليّ تقضي بالعمل على كبح جماح الشركة وتنظيم العلاقة بيننا وبينها على نحو أفضل. ولم يكن ذلك بالأمر الهين بالنسبة إلى ضابط برتبة نقيب في العشرينات من عمره، لكنني قمت به في متعة بالغة.

          وأدركت، بطبيعة الحال، أنه كان عليَّ قبل أن أفرض نفسي على الشركة، أن أتعلم الشيء الكثير. ولم يكن في وسعي الاصطدام مباشرة بمؤسسة بضخامة ريثيون وهي تؤدّي من هذا الدور الحيوي في حماية أمننا الوطني. لكنني تمكنت، في أول اجتماع مع جربس، أن أخطو خطوة جريئة في الاتجاه الصحيح.

          بدأت الحوار على النحو الآتي: "طُلب مني أن أتولى إدارة العلاقة مع شركتكم، فإذا كانت هناك أية مشكلة ترغبون في مناقشتها مع الحكومة السعودية، أرجو أن تتوجهوا بها إليَّ. وإذا لم أتمكن من حلِّها فسأرفعها إلى قائد الدفاع الجوي. وإذا لم يتمكن، هو الآخر، من حلِّها فسيرفعها بدوره إلى جهات أعلى وهكذا. وسأتولى هذه العلاقة لابد أن تكون المسؤولية في يد أحدنا". وتابعت قائلاً: ومن الآن فصاعداً، لن نجتمع في مكتبك، فإذا رغبت في مقابلتي فسوف تتم المقابلة في مكتبي".

          كانت الجملة الأخيرة هذه تنطوي علي قدرٍ كبير من الجسارة، إذ لم يكن لي مكتب، في ذلك الوقت. كنت أصرّف الأمور من حقيبة يدي. وكنت إذا احتجت إلى مكان لعقد اجتماع أدخل أول مكتب أصادفه.

          ولا أدَّعي أنني أمسكت بزمام الأمور منذ تلك اللحظة، فالعادات القديمة لا تتغير بسهولة. وليس من يقتلع نبتة كمن يجتث شجرة. ولم يكن مستغرباً أن تقاوم ريثيون وأن لا تستكين لعملية "ليِّ الذراع" على يد أمير صغير مثلى. واستغرق الأمر أربع سنوات أو خمساً من الشد والجذب، أتقدم خطوتين، وأتراجع خطوة قبل أن أحقق سيطرة حقيقية، بيد أنها لم تكن سوى بداية.

          وساعدني أمران على إنجاز تلك المهمة. أولهما، أن جلين جربس أدرك بحدسه أن ثمة تغييراً سيحدث لا محالة. فبدلاً من أن يحارب لتظل ريثيون مسيطرة، سعى إلى إقناع الشركة تدريجياً بالتعامل مع الواقع الجديد وإلى أن تصبح ريثيون شريكاً للحكومة السعودية، وانتهى الأمر بأنها أصبحت فعلاً شريكاً أصغر. أما الأمر الثاني، فقد تمكن جربس من الحصول على تأييد توم فيلبيس tom phillips، رئيس ريثيون في ذلك الوقت، للسياسة الجديدة.

          وقّعت المملكة عقد صفقة صواريخ هوك عام 1966. واستمر تنفيذه خمس سنوات، وكانت قيمته 112 مليوناً من الدولارات. وكان هذا مبلغاً باهظاً بمقاييس تلك الأيام، لكنه لم يكن ضخماً بالنظر إلى أنشطة الشركة وخدماتها الشاملة. كان توم فيلبيس بعيد النظر، فقد أدرك أنه العقد الأول: في سلسلة من العقود التي تمت بالفعل بين شركته والمملكة.

          وروى لي جلين جربس بعد ذلك إذ عملنا معاً لأكثر من عشرين سنة، أن توم فيليبس قال لمساعديه عندما عُرض عليه ذلك العقد الأول: "ليكن في علمكم، أيها السادة، أن المملكة العربية السعودية ستكون أكبر متعاقد معنا بعد الجيش الأمريكي. هذا ما أراه. وأرجو أن تعاملوا السعوديين من هذا المنطلق". وفي السنوات التي أعقبت ذلك، كان جربس يُستدعى للمثول أمام رئيس مجلس الإدارة كلما عاد إلى الولايات المتحدة فيسأله: "هل نقدم خدماتنا على الوجه الأكمل إلى هؤلاء الناس؟". ويكون الرد دائماً بالإيجاب. ولا شك في أنهم جَنَوْا كثيراً من الأرباح من المملكة خصوصاً في السنوات الأولى، إلا أننا ربحنا منهم الكثير أيضاً، ليس في ما يتعلق بالمعدات فحسب، ولكن، وهو الأهم، في ما يتعلق بالتدريب ونقل التكنولوجيا. ففي نهاية المطاف استطعنا، بفضل مساعدتهم، أن ننشئ شبكة دفاع جوي وفق أحدث ما توصلت إليه التقنية الحديثة في العالم، شبكة تغطي كل أنحاء المملكة. وهي بحق مبعث فخر لنا، بل لكل دولة في العالم تمتلك مثيلتها. يضاف إلى ذلك أنها تدار كلها بأيدٍ سعودية. تلك كانت ثمرة عَقْدٍ أو عقدين كاملين من الزمن في عملٍ دؤوب.

          ولا يسعني إلاّ أن أسجل بكل التقدير تلك الجهود التي خططت للعلاقة الجديدة بين المملكة وريثيون، وأخص بالذكر جهود فيل فالون phil phallon المفاوض الأول للشركة، وجلين جربس مديرها العام في المملكة. ولا يفوتني أن أنوه بجهود جيم لويس jim lewis، الرجل الذي تخصص في حل المشاكل. وكان قد بدأ عمله مساعداً للسيد جربس عام 1970 حين قابلته للمرة الأولى، وانتقل بعد ذلك إلى إيران أيام حكم الشاه ليرأس عمليات ريثيون هناك قبل أن يعود إلى المملكة عام 1977 ممثلاً رئيسياً لشركة ريثيون، وتولى هذا المنصب باقتدار حتى إحالته إلى التقاعد في نهاية عام 1993.

          وعلى النقيض من ممثلي الشركات الأخرى التي تعمل في المملكة، كان التعامل مع ريثيون أكثر يسراً، إذ كان في وسع ممثليها أن يتخذوا القرارات بأنفسهم من دون الرجوع إلى رؤسائهم في الولايات المتحدة، حتى لو كان الأمر يتعلق بعشرات الملايين من الدولارات. كان أهم أسباب نجاحها في التعامل معنا يكمن في أنّ المسؤولين فيها يعينون مديرين يملكـون صلاحيات حقيقية تمكنهم من اتخاذ القرارات ووضعها موضع التنفيذ.

سابق بداية الصفحة تالي