مقترحات البحث الأشكال والخرائط الصور المحتويات

مقاتل من الصحراء

تحليق الصقور (تابع)

          تلقيت في عام 1971، وكنت لا أزال قائد سرية الصواريخ في تبوك، مكالمة هاتفية من سمو الأمير تركي بن عبد العزيز. كان، وقتها، نائباً لوزير الدفاع ويتمتع بمحبة منسوبي القوات المسلحة وتقديرهم. أمرني بالتوجه إلى الرياض فوراً للانضمام إلى فريق المفاوضات الدائرة للتعاقد مع شركة نورثروب northrop، التي تصنع الطائرات في الولايات المتحدة الأمريكية لتزويدنا بطائرات موجهة تعمل بلا طيار. وتُسمى تلك الطائرات درونز dornes وتُستخدم هدفاً للتدريب في الدفاع الجوي. كان الدافع إلى تلك المكالمة الهاتفية أمريْن: أولهما أن الملك فيصلاً كان قد أصدر توجيهاته بأن يتم التعاقد مباشرة، في ما يتعلق بنظم الأسلحة الرئيسية، مع الشركات المصنعة. كنا قبل ذلك نوقع عقداً شاملاً مع إحدى الشركات مثل شركة ريثيون raytheon ، التي تصنع صواريخ هوك، ثم تقوم الشركة من جانبها بالتعاقد مع شركات أخرى لتوريد كثير من الأجزاء اللازمة لنشر السلاح وتركيبه في شكله النهائي ( مَيْدَنَته ). وقد يشمل ذلك إنشاء مواقع الدفاع الجوي والتموين والتخزين والإسكان والأهداف الجوية. ولكن، طبقاً لتوجيهات الملك فيصل التي كانت تستهدف الترشيد والكفاءة، كان على المملكة أن تقوم بهذه المهمة بنفسها للحصول على العناصر الإضافية اللازمة للسلاح. وكانت صفقة الطائرات الموجَّهة بلا طيار، التي كنّا في صدد التعاقد في شأنها مع شركة نورثروب، مثالا على التوجه الجديد في سياسة شراء أنظمة الأسلحة.

          أمّا السبب الثاني لاستدعائي إلى الرياض، فهو أني كنت الضابط الوحيد في المملكة بأسرها الذي كان على شيء من الخبرة المباشرة بذلك النوع من الطائرات. فقد تعاملت معها أثناء التدريب الوظيفي ( التدريب على رأس العمل ) في ميدان الرماية ماك جريجور في تكساس كنت أمضيت ثلاثة أشهر مفتشاً مساعداً في الجيش الأمريكي في تلك الصحراء، التي لا تكاد ترى فيها عوجاً ولا أمتاً، أعمل في برج المراقبة لتقييم البطاريات الأمريكية وهي تطلق صواريخها على الأهداف الجوية، وكـانت بعض هذه البطاريات قد أتت من قواعدها في ميامي miami حيث كانت منصوبة تجاه كوبا.

          كنت راغباً في البقاء في تبوك، لذلك رجوت الأمير "تركي" أن يعفيني من تلك المهمة، لكنه لم يوافق. قَدِمتُ إلى الرياض وشكَّلت فريق مفاوضات من ضابطين ومسؤول مالي. واجتمعنا إلى ممثلي شركة نورثروب في مبنى وزارة الدفاع. وتمكنّا خلال ثمانية أشهر من إبرام صفقة حظيت بموافقة الأمير تركي. ولفت نظر المسؤولين أسلوبي في التفاوض، واستطعنا أن نحصل على أسعار مخفَّضة من نورثروب. كان عقداً صغيراً لكنه كـان جدّ مهم لي شخصياً ولمستقبلي العملي. كان عقداً أكسبني مهارة التفاوض.

          كان النظام في تلك الأيام يقضي بتعيين "ضابط مشروع" لكل عقد من عقود الدفاع. فكان لكل نظام من نظم الأسلحة ضابط مشروع خاص به، مهمته الاتصال بالشركة الأجنبية ومراقبة تنفيذ بنود العقد وقبول المعدات والإشراف على تدريب قواتنا على ذلك السلاح الجديد. ومن هنا، كان موقع ضابط مشروع لنظام سلاحٍ رئيسي ينطوي على قدرٍ كبير من السلطة والمسؤولية. وسبقني إلى هذا الموقع ابن عمي الأمير عبد الرحمن الفيصل الذي تخرج في ساندهيرست قبلي بست سنوات ( حيث كان كابتن فريق المبارزة ) وتخَصَّصَ في المدرعات. كان ضابط مشروع الدبابات الخفيفة amx- 30 التي اشتريناها من فرنسا.

          وسعدت عندما علمت عام 1972، على أثر نجاحي في المفاوضات مع شركة نورثروب، أنني عُينت ضابط مشروع لعقد الطائرات الموجَّهة من الشركة نفسها، وعقد صواريخ هوك من ريثيون.

          لقد تبدلت الأحوال. مضت أيام تبوك. وأصبح لزاماً عليَّ وأنا لا أزال ضابطاً ميدانياً شاباً، أن أتعلم أسس الإدارة المكتبية. لقد أوكلت إليَّ وأنا في هذه السن المبكرة مسؤولية علاقاتنا بشركة ريثيون، تلك الشركة الأمريكية العملاقة التي دلفنا من بابها إلى عصر الصواريخ، والتي كنّا نعتمد عليها اعتماداً كلياً - بعد الله - في الدفاع عن مجالنا الجوي. كانت "ريثيون" هي فارس الميدان في كل الأمور ولـم يكن لنا في الأمر شيء. كنا في حاجة إلى رجل يضع الأمر كـاملاً في أيدي السعوديين. وانطلق طموحي من عقاله.

          عندما تدخل مكتب أحد الضباط، قد تجد اسمه منقوشاً على لوحة فوق مكتبه، وعلى الوجه الآخر منها في مواجهته عبارة يضعها نصب عينيه. وغالباً ما تكـون آية أو بعض آية من القرآن الكريم، أو قولاً مأثوراً، أو حكمة متوارثة. أما أنا، فاخترت بيتاً للشاعر التونسي أبي القاسم الشابي يقول فيه:

ومن يتهيب صعود الجبال

 

يعش أبد الدهر بين الحفر

ظل هذا البيت منقوشاً على لوحة اسمي فوق مكتبي منذ بداية تعييني في الرياض وحتى إحالتي إلى التقاعد من الخدمة العسكرية. وكانت تلك اللوحة هي الشيء الوحيد الذي حملته معي بعد أن حُلَّت قيادة القوات المشتركة عقب حرب الخليج.

سابق بداية الصفحة تالي