مقترحات البحث الأشكال والخرائط الصور المحتويات

مقاتل من الصحراء

ترويض الشركة (تابع)

          اعترض نشوب حرب أكتوبر 1973 عملي بصفتي ضابط مشروع. وهي الحرب التي رأيت فيها محاولة شجاعة لاسترداد الأراضي العربية التي اغتصبت عام 1967، ولإجبار إسرائيل على الجلوس إلى مائدة المفاوضات. شنت مصر وسوريا هجومين متزامنين عبر قناة السويس وعلى مرتفعات الجولان. وفي بداية الأمر، حققت القوات العربية نجاحاً باهراً أفقد إسرائيل اتزانها، إلا أن القوات المصرية، وبعد أن عبرت قناة السويس وحطمت خط بارليف - وتلك معجزة عسكرية في حد ذاتها- لم تتقدم إلى ممرات سيناء ( كنت من بين المراقبين الذين اعتقدوا بأنها كانت وقفة عملياتية تمهيدا لتطوير الهجوم ). ونتيجة لذلك، تمكنت إسرائيل من أن تلقي بثقلها على الجبهة السورية، وأجبرت القوات السورية على الانسحاب من هضبة الجولان، وتقدمت في اتجاه دمشق وبعد فوات الأوان، انتقلت الوحدات المدرعة المصرية ( النسق الثاني ) من وضع الدفاع إلى وضع الهجوم شرق القناة، لكن الإسرائيليين كانوا قد أصبحوا على استعداد تام للتعامل معها بعد أن أدوا مهمتهم على الجبهة السورية. وكان للدعم الهائل الذي تلقته إسرائيل من الولايات المتحدة أكبر الأثر في تدعيم موقفها، إذ كانت الدبابات والمدافع والمعدات الأخرى تنقل إلى ميدان ال معركة مباشرة عبر جسر جوي من القواعد الأمريكية في ألمانيا بل من قاعدة كيلي kelly الجوية في ولاية تكساس ولو أن الاتحاد السوفيتي انتهز هذه الفرصة وبادر إلى الهجوم على الولايات المتحدة في ذلك الوقت لَوَضَعَ القيادة الأمريكية في وضع عسكري حَرِج.

          كان قرار الرئيس محمد أنور السادات بدفع النسق الثاني إلى المعركة لتطوير الهجوم قراراً سياسياً وليس عسكرياً. فقد وقفت القيادات العليا لجيشه، بلا استثناء، ضد هذه الفكرة، لأنها تعرِّض الضفة الغربية للقناة لهجوم إسرائيلي، وتعني أيضاً تطوير الهجوم على أرض تتدرج في الارتفاع كلما اتجهنا شرقاً، وتُعرِّض القوات للهجمات الجوية الإسرائيلية لخروجها من مظلة صواريخ الدفاع الجوي أرض - جو. وإزاء هذا الموقف، حاول اللواء سعد مأمون، قائد الجيش الثاني الميداني، معارضة أوامر السادات في بداية الأمر، لكنه أصيب بنوبة قلبية حادة لَمَّا رأى إصرار الرئيس على خطته التي كانت ترمي إلى تخفيف الضغط عن الجبهة السورية. وكان من نتائج هذا الخطأ الجسيم أن فقد الجيش المصري اتزانه. ولا يخفى على أَحدٍ ما حدث بعد ذلك.

          وهكذا تحول الانتصار العربي المبدئي إلى وضع حرِج، بيد أن الجيوش العربية حاربت ببسالة عام 1973 خلافاً لما حدث عام 1967، وأثبتت للعالم أجمع أنها أتقنت فنون الحرب الحديثة. لكن النتيجة النهائية للحرب لم تحقق ما كان العرب يأملون فيه.

          كانت المملكة حريصة على أن يكون لها دور في تلك الحرب. فقررت إرسال لواء من تبوك لتعزيز الدفاعات السورية في سعْسع ، وهي نقطة على الطريق المؤدية من الجولان إلى دمشق حيث توقف الزحف الإسرائيلي. ووقع الاختيار على اللواء محمد بديره ، وهو من أكثر ضباطنا خبرة في التكتيكات العسكرية، لقيادة اللواء الذي كان مسلحاً بصواريخ tow المضادة للدبابات والمحملة على عربات جيب، وكان سلاحاً جديداً وفعالاً في ذلك الوقت. كنت واحداً من ستة ضباط أُرسلوا إلى تبوك، لتجهيز كتيبة الدفاع الجوي العضوية التي كانت جزءاً أساسياً من اللواء ( كان مخططاً أن تتكون الكتيبة من سريتي مدافـع مضادة للطائرات وسرية صواريخ هوك ). تمنيت أن أذهب إلى سعْسع لقيادة سرية هوك، لكن اللواء بديره قرر أن يأخذ مدافع مضادة للطائرات عيار 40 مم. ولَمَّا لم أكن مُدرَّباً على استخدام تلك المدافـع، لم يكن لي نصيب في الذهاب إلى سعْسع في صحبة اللواء. وقد استغرقت إجراءات تجهيز اللواء وقتاً غير قليل. وبينما اللواء في طريقه إلى دمشق كانت الحرب قد وضعت أوزارها أو تكاد. وبقي هناك أكثر من سنتين لمساندة السوريين في الدفاع عن جبهتهم.

          كنّا نتابع أخبار الحرب من تبوك بكل اهتمام، إذ كانت لنا من قبل تجربة غير سارة مع البيانات العسكرية في حرب 1967. لذلك، كنّا ننظر بعين الريبة هذه المرة إلى البيانات المصرية والسورية. ولكنني، عندما عكفت على دراسة تفاصيل تلك الحرب، أُعجبت باستخدام القوات المصرية الكفء لصواريخ أرض- جو القصيرة المدى، sam-6 المتحركة، و sam-7 المحمولة على الكتف، وكذلك استخدامها المتمكِّن للمدفعية المضادة للطائرات، ومنها مدافع شيلكا shelka ذات الأربع سبطانات ( مواسير ) من عيار 23 مم المزودة بالرادار. فقد سببت هذه المدافع إرباكاً كبيراً للقوات الجوية الإسرائيلية التي كان الإسرائيليون يحيطونها بهالة كبيرة من الدعاية، وما فتئوا يسمونها الذراع الطويلة لإسرائيل. وبدلاً من أن تضع مصر الطائرة في مواجهة الطائرة، تمكنت باستخدام هذا السلاح الجديد من أن تضع الصاروخ في مواجهة الطائرة. وكان ذلك ناتجاً من قرار اتُّخِذَ في شهر يونيه عام 1969 بفصل قوات الدفاع الجوي عن سلاح المدفعية وجعلها قوة مستقلة تساندها شبكة إنذار مبكر اقتداءً بالنموذج السوفيتي. كما نجحت مصر أيضاً، باستخدامها صواريخ مالوتكا malotka المحمولة المضادة للدبابات، في تحويل المعركة البرية إلى مواجهة بين الصاروخ والدبابة.

          ومما خلصت إليه من نتائج حرب أكتوبر، زاد اهتمامي، بل ولَعي، بالقدرة الهائلة للصواريخ. أدركتُ أننا في حاجة إلى دفاع جوي أكثر من حاجتنا إلى طائرات للدفاع عن مجالنا الجوي الشاسع. وكنت واثقاً من أن الولايات المتحدة الأمريكية سوف تفرض حداً أعلى ( سقفاً أعلى ) على مبيعات المقاتلات الاعتراضية للمملكة بدافع طمأنة إسرائيل، وأنها ستوعز إلى بريطانيا وفرنسا أن تحذوَا حذوها. فلن تسمح أية دولة غربية أن تمتلك المملكة قوات جوية مؤثرة. ولم يكن متوقعاً أن تضع القيود نفسها على أسلحة الدفاع الجوي التي يمكن أن نحصل عليها. فإذا كان هناك حدّ أعلى لعدد الطائرات التي يمكن أن نمتلكها، فلن يكون هناك حد أعلى لعدد سرايا الدفاع الجوي التي يمكن أن نحصل عليها. لذلك، كان طريق الدفاع الجوي هو الطريق الذي علينا أن نسلكه. وكانت قناعتي بهذا الأمر لا تقبل الجدل، فاستقرت، منذ ذلك الحين، فكرة في رأسي شغلتني لسنوات عدة تالية، كما سيتضح للقارئ فيما بعد.

          يدور صراع سجال لا تتوقف رحاه بين منتجي الصواريخ ومنتجي الطائرات المقاتلة، إذ يحاول كل طرف أن يتفوق على الآخر. فلا يكاد يظهر صاروخ قادر على إسقاط طائرة على مدى 40 أو 50 كيلومتراً مثلاً، حتى تُتَّخذ الإجراءات في مجال صناعة الطائرات لتحييد ذلك الصاروخ. لذا، أصبح صاروخ هوك الأساسي الذي حصلنا عليه عام 1966 نوعاً قديماً في عام 1973. وحتى نواكب التطورات السريعة في صناعة الصواريخ، كان علينا أن نمتلك صاروخ هوك المطَّور الذي كانت إمكاناته تفوق إمكانات صاروخ هوك الأساسي. وكان من ضمن مسؤولياتي، بصفتي ضابط مشروع هوك أن أتابع هذه التطورات وأستعد للمفاوضات، التي لا مفر منها مع شركة ريثيون، المصنِّع الوحيد لهذه الصواريخ، فور أن نعقد العزم على تحديث أنظمتنا الدفاعية.

          قبل أن نشرع في المفاوضات الفعلية، تم الاتفاق على قيام بعض الضباط السعوديين بزيارة عمل إلى الولايات المتحدة. وشمل برنامج الزيارة مقابلة ممثلي ريثيون للتزود بالمعلومات عن نظام صواريخ هوك المطوَّر، ومشاهدة المعدات الأخرى، وزيارة المصانع التي تنتجها. أُسندت إليّ رئاسة الفريق السعودي، وبدأتْ رحلتنا بعد حرب 1973 بقليل واستمرت شهرين ونصف الشهر. كانت هذه الرحلة بالغة الأهمية بالنسبة إليّ.

          عوملنا بقدر كبير من الحفاوة والتكريم منذ بداية مهمتنا، فكان في استقبالنا رئيس مجلس إدارة شركة ريثيون السيد آدمز، adams المنحدر من نسل جـون كوينسي آدمز john quincy adamsالرئيس السادس للولايات المتحـدة الأمريكية. وأقيم على شرفنا احتفال مناسب في مقر الشركة في مدينة لكسنجتون lexington قرب بوسطن boston. بدأنا بزيارة قسم أنظمة الصواريخ في أندوفر andover القريبة، ثم توجهنا إلى هنتسفيل huntsville لمشاهدة البرامج التطبيقية (software) ومرافق الصيانة لصواريخ هوك المطوَّر. بعد ذلك، سافرنا إلى مواقع الاختبار في ألاباما وإلباسو حيث زرت المواقع التي كنتُ أعرفها من قبل، بما في ذلك الميدان الذي رأيت فيه للمرة الأولى صاروخ هوك الأساسي أثناء إطلاقه. كان يرافقني ضمن الفريق السعودي النقيب صالح محمد الحجاج، الذي كان يعمل ضابط اتصال مع شركة ريثيون ( تقاعد برتبة عميد ولا يزال من أعز أصدقائي ) والنقيب محمد سعيد الكيال. وهو ضابط دفاع جوي أصبح بعد ذلك من أقرب مساعديّ في عملي العسكري، وهو يتقن اللغة الإنجليزية، إذ أمضى بضع سنوات في مدرسة في بريطانيا، والتحق بساندهيرست قبل أن ألتحق بها بسنتين. وعمل أيضاً قائداً لقسم اللغة الإنجليزية في مدرسة الدفاع الجوي، وكان وقتها برتبة ملازم أول. وفي ذلك القسم، كان الأفراد الذين وقع عليهم الاختيار للتدريب على صواريخ هوك يتلقون برنامجاً في تعليم اللغة الإنجليزية قبل أن ينتقلوا إلى التدريب الفعلي. وكان أول لقاء لي مع الكيال في تلك المدرسة عام 1969 ونشأت بيننا صداقة حميمة منذ ذلك الزمان.

          كنت والكيال، عند زيارتنا للولايات المتحدة عام 1973، لا نزال ضابطيْن في مقتبل العمر، ولم تكن لدينا خبرة في مقابلة الشخصيات البارزة. ووجدنا أنفسنا، دون سابق إعداد، نتعامل مع كثير من الجنرالات والمديرين والإداريين وكبار المسؤولين الحكوميين الذين كان بينهم جوزيف سيسكو joseph sisco ، مساعد وزير الخارجية لشؤون الشرق الأدنى. جاءت ذروة الإثارة في رحلتنا عندما رتب لنا السيد آدمز، رئيس شركة ريثيون، وكان من الشخصيات المرموقة في واشنطن زيارة لأليوت ريتشاردسون elliott richardson، وزير الدفاع في حكومة الرئيس نيكسون nixon.

          كانت تلكَ الزيارة أكبر من أن تخطر لي ببال. فكيف لي وأنا لا أزال أحبو في ميدان العمل العسكري مقابلة وزير دفاع أقوى دولة في العالم بأسره، الولايات المتحدة الأمريكية؟ أقابله في إطار إجراءات المفاوضات لإبرام عقد مهم سيغير وجه الدفاع الجوي في المملكة ويعزز استعدادها العسكري.

          ومن أغرب ما حدث، أنه عند دخولنا مكتب أليوت ريتشاردسون، طُلب إلى السيد آدمز أن يبقى في غرفة الانتظار. كان آدمز يتوقع أن يدخل معي. ولاحظت إستياءه من ذلك الموقف. كان الشرر يتطاير من عينيه. كان صديقاً لريتشاردسون، وأظنه عاتبه لهذا الموقف عتاباً شديداً بعد ذلك. وإلى جانب أن آدمز شخصية مميزة بصفته مدير إحدى كبريات الشركات الأمريكية، كان يحظى باحترام كبير في المملكة إثر مجاملة لطيفة قدمها إلى الملك فيصل عام 1966. فقد حدث أن كان الملك فيصل يزور مدينة نيويورك وفي صحبته الأمير سلطان في شهر يونيه من ذلك العام، لكن عمدة المدينة، في محاولة منه لإرضاء الناخبين اليهود، رفض إقامة مأدبة عشاء للملك. وظهر آدمز في الميدان فجمع كبار رجال الأعمال من أنحاء الولايات المتحدة ونظم للملك استقبالاً حافلاً لم يحظَ بمثله أي زعيم دولة زار مدينة نيويورك، وتوطدت العلاقات بينهما بسبب ذلك. وكان تصرفه معي أيضاً في غاية اللطف والأدب. ولك أن تتخيل كيف جلس ينتظرني حتى انتهت مقابلتي مع ريتشاردسون، ثم انصرفنا معاً من البنتاجون.

          ولم تخلُ زيارتي لريتشاردسون من مواقف حرجة. فلم يكن لديّ تفويض بإجراء اتصالات عالية المستوى. وفي الواقع، لم يكن لديّ تصريح بمقابلة شخصيات رسمية في الحكومة الأمريكية. فأثناء حكم الملك فيصل، لم يكن يُسمح لنا بمقابلة مسئول أجنبي كبير من دون أن يُحاط الملك علماً بذلك. ولَمّا كنّا أول وفد عسكري يزور الولايات المتحدة الأمريكية بعد حظر النفط، الذي فرضه الملك فيصل إبَّان حرب أكتوبر، لم يكن مستبعداً أن يُظهر الشعب الأمريكي بعض مشاعر العداء لنا، وكان ذلك كله يتطلب معالجة بكياسة وحكمة.

          اتصلت بوالدي أطلب منه النصيحة والتوجيه، وأخبرته أن زيارتي لريتشاردسون ستكون للمجاملة الخالصة، وأني مضطر إلى القيام بها لأن ترتيبها أُعد من قبل. فقال لي: "لا مانع.. ولكن لا تتعهد بشيء، وتجنب الصحافة ".

          أدركت أن أليوت ريتشاردسون قد أعَدّ لي قائمة طويلة من الأسئلة. كان رجلاً طويل القامة، نحيلاً، وتشع نظراته ذكاءً وحدّة، نظرات محامٍ في نيويورك. بدا واضحاً أنه يضعني في اختبار خاص، كما بدا واضحاً أيضاً أنه شغوف بمعرفة كل شيء عن المملكة، وعن الملك فيصل بوجه خاص، بعد أن أحدث هزة كبيرة في الولايات المتحدة بسياسته المستقلة وقراره حظر النفط ومساندته لكل من مصر وسوريا إبَّان حرب أكتوبر.

          كان يجلس معنا، خلال المقابلة، عدد من مساعدي ريتشاردسون وقد انكبوا على تسجيل ملاحظاتهم على إجاباتي. ووقع بصري على الكيال، فإذا به، هو الآخر، منهمك، حتى لا يتفوق عليه أحدً، في تسجيل الملاحظات. كان يسجل في أوراق أخرجها من حقيبته، ويا لها من حقيبة! كانت محشوَّة بالوثائق السرية المتعلقة بمباحثاتنا في شأن صواريخ هوك المطوّر. كنت أوْكلت إليه مهمة الاحتفاظ بها، وحذرته، ممازحاً، أنه سيقدم إلى محاكمة عسكرية إذا ضاعت منه. ويبدو أن الكيال أخذ ذلك التحذير مأخذ الجد، فكانت تلك الحقيبة الثقيلة لا تفارقه أبداً. كان يحملها أنَّى ذهب حتى تقوّس ظهره، فبدا وكأنه قد بلغ من الكبر عتيّاً.

          فاجأني ريتشاردسون بسؤال سياسي حساس. أراد أن يعرف رأيي حول إسرائيل والفلسطينيين، فأجبته: "إن وجهة نظر جلالة الملك فيصل معروفة لكم جيداً، ولست في صدد التعليق عليها". وأضفت: "وما أنا إلاّ نقيب، وليس مسموحاً للنقباء التحدث في السياسة". أوقفته تلك الكلمات عند هذا الحد، كما أنقذتني من التعرض لأي عتابٍ أو لوم من الملك فيصل الذي كانت ستصل إليه لا محالة، كل مقولة أدليت بها.

          كانت تلك الزيارة إلى الولايات المتحدة نقطة تحول مهمة في حياتي. لقد أذكت طموحي بعد أن انتقلت إلى مستوى أعلى على مسرح الأحداث، وعرفت المنهج الذي يفكر به القادة الأمريكيون. كنت حريصاً على الإبداع في عملي، وكنت أشعر أن العقد الذي أوْكِلتْ إليَّ مهمة التفاوض في شأنه سيدفع مستقبلي العملي إلى آفاق رحبة جديدة.

          كانت المفاوضات مع ريثيون، في الأشهر الثلاثة أو الأربعة التي تلت ذلك، صعبة ومعقَّدة. حفلت بالخلاف تارة وبالشجار تارة أخرى، ولكن الأمر انتهى ونحن على وفاق تام. ووُقِّع عقد صواريخ هوك المطوَّر في الرياض في الثامن من أبريل عام 1974، وقعه عن الجانب السعودي، الأمير سلطان. ولم يكن الوصول إلى تلك المرحلة أمراً سهلاً، فقد وجدت لزاماً عليَّ أن أتعلم الكثير من التفاصيل الفنية المتعلقة بنظام هوك، ونفقات إنتاجه، والجوانب القانونية في العقد، بفقراته الكثيرة وملاحقه المتعددة، وكان عليَّ، إن أردت تعديل شرط في إحدى الفقرات، أن أبذُل الكثير من الدراسة والسهر. كنت أعمل بمفردي، بينما كان في وسع الشركة أن تستدعي الخبراء من كل حدب وصوب، فوجدت نفسي محتاجاً إلى من يساعدني ويشير عليَّ.

          وظَّفت أَربعة من المسؤولين السابقين في الحكومة الأمريكية ممن كانت لديهم خبرة كاملة بنظام هوك، أحدهم ضابط صف يدعى بورن bourn ( وكان يعمل مع ريثيون في المملكة )، أمّا الثلاثة الباقون فمدنيون. وكانوا كلهم مخلصين في نصائحهم ولم ينحازوا إلى الشركة في أي شكل من الأشكال.

          كما تمكنتُ في ذلك الوقت من الاستعانة بزميل آخر كفءٍ، إلى جانب الكيال، هو النقيب عبدالله رشاد جستنيه الذي كان قد أمضى سنتين ونصف السنة في بوسطن بين عامي 1969 و1971 بصفته أول ضابط اتصال من الدفاع الجوي السعودي مع شركة ريثيون. وتخرج في تلك الفترة مهندساً، واكتسب قدراً كبيراً من الخبرة في مجال الإلكترونيات. وعُيِّن بعد عودته إلى المملكة، نظراً إلى كفاءته الفنية، مساعداً لقائد مركز الصيانة والإمداد الفني في جدة ( كان اسمه آنذاك الصيانة الرئيسية ). وكان أول لقاء لي معه في ذلك المكان. كنت أعمل قائداً لميدان الرماية، إضافة إلى عملي كضابط مشروع، إذ كنت أنظم رماية سرايا الدفاع الجوي في أنحاء المملكة. وكانت مهمة جستنيه هي التأكد من صلاحية جميع الأنظمة في ميدان الرماية في جدّة، إضافة إلي تأمين قطع الغيار التي تحتاج إليها الوحدات. كنّا نتقابل كثيراً كلما زرت جدّة في أوائل السبعينات وكنت أقدر فيه خبراته المتميزة.

          وعندما كنت في صدد تشكيل لجنة فنية استشارية، ونحن نُعد العدة لمفاوضات صواريخ هوك المطور، وقع اختياري على جستنيه. وكنت في حاجة أيضاً، بالإضافة إلي الفنيين المتخصصين، إلي أناس لهم باع في شؤون إبرام العقود وذوي خبراتٍ في مجال الأعمال والتمويل والشؤون الدولية. عَيَّن الأمير سلطان لمساعدتي في هذا الأمر ثلاثة ضباط كانوا يعملون في برنامج سلاح الصيانة، هم: العقيد ناصر عبد العزيز العرفج، والعقيد على  محمد الخليفة، الحاصلان على درجة الدكتوراه في العلوم السياسية، والعقيد أحمد عبدالله المالك، الحاصل على درجة الدكتوراه في الاقتصاد ( ترقّى الأول والثاني إلى رتبة لواء، والثالث إلى رتبة عميد بعد ذلك ). ثم عَيَّن الأمير سلطان ثلاثة من المدنيين المتميزين الأكفاء هم الدكتور غازي عبد الرحمن القصيبي، الذي أصبح فيما بعد وزيراً للصناعة، وهو الآن سفير خادم الحرمين الشريفين لدى بريطانيا، والدكتور محمد الملحم، الذي أصبح بعد ذلك وزير دولة، والدكتور محمد عمر مدني، من وزارة الخارجية ( كان يخدم ضمن أركاني أثناء حرب الخليج ). وكان لخبرة الدكتور مدني بالقانون الدولي أكبر الأثر في نجاح مهمة اللجنة. كنت أضطر في بعض الأحيان إلى أن أطلب من هؤلاء الرجال أن يواصلوا العمل حتى وقت متأخر من الليل، لمراجعة متطلباتنا وصياغة مواقفنا. وكان هذا الفريق القوى المتكامل هو سلاحي الذي واجهتُ به مفاوضي شركة ريثيون.

          تعلمت بعض الحيل أثناء إجراء المفاوضات، منها أن للانطباعات الأولى أهميتها الكبرى، إذ تحدد نقاط قوتك ونقاط ضعفك. فمن العوامل الإيجابية في نجاح المفاوضات أن تبهر الفريق الذي أمامك، وتمسك بزمام المبادرة. ولا بد من أن يدرك الفريق الآخر إلى طاولة المفاوضات أنك رجل له ثقله وأنك تحظى بالدعم الكامل من بلدك وأنك تخفي في جعبتك الكثير والمثير. ومن المفيد، من وجهة نظري، أن تهتم بالشكليات أثناء العمل، وهي في كُل حال طبيعتي في أداء الأعمال، إذ إنني أعطي المظهر دائماً أهمية الجوهر نفسه. حدث في أوائل عام 1974، أثناء عثرة في المفاوضات، أن اقتضى الأمر سفري إلى الولايات المتحدة لمقابلة رئيس شركة ريثيون. وقررت إثر وصولي إلى نيويورك أن أستأجر طائرة إلى بوسطن إذ كنت أعرف أن رئيس الشركة سيكون في استقبالي، وكنت أرغب في أن أتركَ لديه انطباعا باهراً. ولم يكن معنا ما يكفي من المال، فاستيقظ أحد أصدقائي مبكراً وظل يتحدث بالهاتف إلى شركات تأجير الطائرات نحو ساعة، حتى حصل على أدنى سعر واستطاع أن يوفر لنا 1000 دولار.

          لم يكن التقتير من طبعي، فلما حان هبوطنا في بوسطن سألت صديقي: ( كـم عدد طاقم الطائرة؟ ). فأجاب: ( الطيار والملاح والمضيف فقط ). فقلت له: ( أكرم الثلاثة وأجزل لهم العطاء ).

          كان من شأن هذا السخاء أن يذهب بكل الجهود المضنية التي قام بها صديقي في التفاوض مع شركات تأجير الطائرات في الصباح، ولكننا حققنا هدفنا، فوصلنا وصولاً لائقاً، وودّعنا الطاقم وداعاً رائعاً على مشهد من الوفد الرفيع المستوى من شركة ريثيون الذي كان في استقبالنا.

          ولو أمعنّا النظر في تلك الأحداث، لاكتشفنا أن قيمتها، في المدى الطويل، لم تقتصر فقط على الأسلحة المتقدِّمة التي حصلنا عليها من ريثيون ( على الرغم من أنها كلفتنا 264 مليوناً من الدولارات )، بل إن قيمتها الحقيقية في تلك التنازلات الإضافية التي استطعت أن انتزعها من الشركة. فعلى سبيل المثال كان موظفو ريثيون من الأمريكيين وأسرهم يشغلون، في تلك الأيام، المجمع السكنى للدفاع الجوي في جدّة. وكان الضباط السعوديون يسكنون خارج المجمَّع، ويضطرون إلى الحضور إليه كل يوم من أماكن إقامتهم. وكان هذا وضعاً معكوساً، من وجهة نظري. لم أكن لأحتمل أن يسكن ضابط سعودي برتبة رائد في شقة مستأجرة من غرفتين في أطراف المدينة، بينما ينعم موظفو ريثيون بالعيش الرغيد في المجمَّع. كان لا بد من أن ينتقل أبناء بلدي إلى المجمَّع، ليعيشوا هناك إلى جانب موظفي ريثيون. ورفضت أن أوقع العقد بالأحرف الأولى إلا بعد موافقة الشركة على تسليم 40 فيلاّ، من مجموع 100 فيلاّ كانت تشغلها، إلى الضباط السعوديين. وعلى الرغم من أن كثيراً من زملائي في وزارة الدفاع كانوا يطلبون إليَّ ألاَّ أُحَمِّل الأمر أكثر مما يحتمل، لأن موضوع الفيلاّت في نظرهم أمرٌ ثانويٌ، إلا أنني كنت أعد ذلك أمراً لا يقبل النقاش أبداً. تمسكت بموقفي ولم أتزحزح. كان صراعاً مريراً مع الشركة، لكن مسؤوليها اضطروا إلى الموافقة في نهاية المطاف. واستطعت أن أحصل منهم على مزيد من الفيلاّت في العقد التالي، حتى أصبح المجمَّع سعودياً بكامله وفيه الآن من 800 إلى 900 وحدة سكنية.

          وقد أضفتُ بنداً إلى العقد، بناء على اقتراح أحد أعضاء اللجنة، وكان اقتراحاً سديداً بالفعل، مؤداه أن تتولى الخطوط الجوية السعودية كل عمليات الشحن والنقل المترتبة على تنفيذ بنود هذا العقد. وصممتُ أيضاً على أن تتولى بمعرفتها مهمة الترتيب مع شركة ناقلة أخرى لتحل محلها إذا عجزت عن القيام بالمهمة. وأسرعت إليها لأحصل على تأييدها. وقد قابل مديروها هذه الخطوة بكل التقدير. وقاوم مفاوضو ريثيون هذا البند بكل ما أوتوا من قوة، إلا أنهم وافقوا عليه في النهاية. وبعد ذلك بسنتين، تحول ذلك البند إلى مرسوم ملكي يطبَّق الآن في كل تعاقدات المملكة.

          كانت صفقة صواريخ هوك المطوّر، أول مشروع كبير أُشرِف على تنفيذه، وقد فتح أمامي آفاق التعامل مع وزارات الدفاع والصناعات الحربية في الخارج. علمتني أن أفكر في أمور كبيرة، وأن أتعامل مع ميزانيات ضخمة. والأهم من ذلك كله، أنها أرست الأسس التي انطلق منها الدفاع الجوي السعودي.

          في تلك الأيام، كان هناك مكتب للمشاريع في قيادة الدفاع الجوي يشرف على كل ضباط المشاريع، وكنت واحداً منهم. ولكن بعد إتمام عقد صواريخ هوك المطوّر، الذي كان عقداً ناجحاً في كل المقاييس، أصبح وضعي مميزاً مما أقْنع قائد الدفاع الجوي، العقيد محمد الحمّاد ( رئيس هيئة الأركان العامة حالياً ) بتعييني مديراً لمكتب المشاريع. فاقترحت أن يسمى "مكتب تخطيط ومشاريع الدفاع الجوي"، وتوسعتْ تبعاً لذلك مهامه، وأصبح قاعدة انطلاق لي. وكان الدرس الأساسي الذي تعلمته من صفقة ريثيون أنه في قوة مثل الدفاع الجوي تستخدم تقنية عالية حديثة، وتعتمد اعتماداً كبيراً على مُصَنِّعِين ومدربين أجانب، تصبح العقود أداة حاسمة للتحكم في زمام الأمور. فمن خلال العقود يمكن السيطرة على الشركات ومن ثَم التحكم في النظام كليةً. كان هذا مخططاً تعهدته بالعناية والرعاية حتى اكتمل في جلسات عقدتُها في ساعات متأخرة من الليل، مع زملائي، واستغرق ذلك منّا شهوراً عدة. كنا نستعير غرفة الاجتماعات الخاصة بجلين جربس لنتدارس فيها بعد انتهاء أوقات العمل.

          على هذا الأساس، تم إنشاء المكتب الجديد في يونيه من عام 1974 في مدينة جدّة، ليكون قريباً من مقر شركة ريثيون. كنت قد رُقِّيت للتو إلى رتبة رائد وعُينت مديراً للمكتب، وعُين الكيال مساعداً لي. وضغطت على جلين جربس ليتخلى لنا عن غرفة في إحدى الفيلاّت الخاصة بالشركة اتخذتها مكتباً لي. وبعد ذلك حصلنا على مكتب آخر انتقل إليه الكيال، ثم وظفنا مترجِماً وناسخ آلة كاتبة.

          كان لابد أن أكون والكيال على درجـة عالية من الكفاءة ليحوز مكتب التخطيط والمشاريع الثقة والتقدير وليمارس صلاحياته على الشركة. وتطلب ذلك جهداً جهيداً، إذ كانت الشركة تستخدم عدداً كبيراً من العاملين، الأمر الذي يجعل مسايرتها عملاً ليس باليسير.

          قَررت بعد فترة أنه لنمارس صلاحياتنا الحقيقية، لا بد أن يكون مكتبنا في قيادة الدفاع الجوي في الرياض، قريباً من وزارة الدفاع، وليس في جدّة قرب شركة ريثيون. كما دعت الحاجة إلى زيادة عدد العاملين معي، وبدأت أبحث عن الأشخاص المناسبين من بين ضباط الدفاع الجوي، ووقع اختياري على عبدالله جستنيه، وهو ذو كفاءة فنية عالية، وجدت منه العون كله أثناء مفاوضات صواريخ هوك المطوّر. وأذكر أنني زرت يوماً مدرسة الدفاع الجوي لأتحدث مع قائدها العقيد حسين صابر محمد، وهو رجل هادئ يتميز بقدر عال من الذكاء والقدرات الفائقة، وحضر الحوار جستنيه وعدد آخر من زملائنا حيث عُقد اللقاء في غرفة اجتماعات صغيرة.

          قلت للعقيد صابر: "إنني في حاجة إلى ضابط ليخدم معي في المكتب الجديد لتخطيط ومشاريع الدفاع الجوي". كنت في تلك الأيام أحمل في جيبي دائماً مفكرة صغيرة أدون فيها أسماء ضباط الدفاع الجوي الذين أقابلهم خلال عملي. وفي الوقت الذي كنت أطرح فيه السؤال كنت أقلب في مفكرتي، واقتربت منه وأشرت إلى اسم معين وقلت له: "ما رأيك في هذا الرجل؟". فأجاب على الفور: "لقد أحسنت الاختيار فعلاً".

          انصرف العقيد صابر وبقية الزملاء عَقِب اللقاء إلى مباشرة أعمالهم، وبقيت أنا مع جستنيه. خلعت سترتي العسكرية ووضعتها على مقعد قريب وشمرت عن ساعدي وقلت له: "أريد التحدث معك في بعض الأمور المهمة". وشرحت له وظائف المكتب الجديد، ثم أضفت: "إنني اخترت الرجل الذي سيعمل معي في الرياض". فأجاب: "أرجو لك التوفيق". فقلت له: "إنه أنت، أقصدُك أنت، أريدكَ أن تنضم إلينا، وأريد ردك في غضون ثلاثة أيام".

          لاحظت أن جستنيه لم يكن سعيداً تماماً لهذا الاختيار. كانت أسرته وأصدقاؤه يقطنون في جدّة حيث نشأ فيها وترعرع. ولعلّ هذا ما يدفعه إلى عدم الترحيب بوظيفة في الرياض، وسط البلاد، بعيداً عن البحر. لكنه سألني بابتسامة ساخرة: "وما هي الإجابة التي تتوقعها منى". فأجبته: "أريدك أن توافق". فقال: "إذاً لست في حاجة إلى ثلاثة أيام".

          وانتقلنا إلى الرياض، وبدأنا ننظم القسم الجديد. لم يكن معي هناك سوى جستنيه وموظف مدني اسمه محمد عيطه، ولا يزال في مكتب المشاريع في جدّة حتى الآن، أما الكيال فبقي في جدّة ليدير مكتبنا هناك.

          لم تحظَ سلطات قسم التخطيط والمشاريع بقبول من جميع العاملين في الدفاع الجوي. ففي بداية الأمر، عند انتقالنا إلى الرياض، كان مكتبي صغيراً للغاية، طوله مترين وعرضه متراً ونصف المتر. وكانت الغرفة المجاورة أكبر بعض الشيء، وتستخدم قاعة اجتماعات. كان أول ما طلبته من جستنيه هو أن يحول غرفة الاجتماعات إلى مكتب لي. واستقر هو في غرفة صغيرة مجاورة، كانت تستخدم مخزناً. كنت أريد أن يدرك الجميع أن قيادة الدفاع الجوي أصبح فيها قسم للتخطيط والمشاريع. بدأنا نوسع مكاتبنا على حساب المكاتب المجاورة في لطف وكياسة، فكنا إما أن نقنعهم بترك مكاتبهم لنا بالحسنى، أو نعمل على تدبير أماكن بديلة لهم.

          عند توقيع عقد صواريخ هوك مع شركة ريثيون عام 1966، وقعت الشركة عقداً آخر لصيانة جميع مرافق الدفاع الجوي في المملكة. وبعد ذلك بسنوات عدة، تحول عقد الصيانة من شركة ريثيون إلى شركة "دلة"، وكانت شركة حديثة التأسيس، يمتلكها ويديرها السيد صالح عبدالله كامل. وكان هذا التحول مبنياً على توجيه من الملك فيصل، سبق أن أشرت إليه، يقضي بأن تتعاقد المملكة في حالة المشروعات الكبيرة مع كل شركة بشكل مباشر بدلاً من السماح للشركات الأجنبية بالتعاقد من الباطن ( عقوداً فرعية ). وقضت توجيهاته أيضاً بأن تُعطَى الأولوية للشركات السعودية، إذا كانت قادرة على إنجاز المهمة. وبناءً على ذلك، طُرحت عملية صيانة مرافق الدفاع الجوي في مناقصة عامة أُرسيت على شركة دلة التي تقدمت بالسعر الأدنى.

          بلغت قيمة عقد الصيانة المبرم مع ريثيون 30 مليوناً من الدولارات، وكان العرض الذي قدمته دلة يزيد على خمسة ملايين دولار بقليل. يضاف إلى ذلك أن ريثيون كانت تتمتع بمرونة أكبر في الإنفاق، إذ لم تكن تخضع للنظام المالي المعمول به للمشتريات الداخلية. ولعل انعدام المرونة كان سبباً في عدم نجاح شركة دلة في السنة الأولى، مما دفع بعض الناس إلى المطالبة بإعادة التعاقد مع شركة ريثيون. لكنني، بمرور الوقت، استطعت إقناع الحكومة بأن تعطي دلة صفقة أكثر عدلاً، تنطوي على قدرٍ أكبر من المرونة مع زيادة في قيمة العقد. وعلى الرغم من ذلك، كانت قيمة عقد دلة أقل من نصف قيمة عقد ريثيون. وأصبح صالح كامل نتيجة ذلك من أكبر المقاولين في المملكة، إن لم يكن في العالم العربي كله. وكان أول عميل لشركة دلـة هو الدفاع الجوي الملكـي السعودي. وهذه حقيقة يسعدني أن السيد صالح كامل يعترف بها في كل الأوقات.

          عندما بدأ قسم التخطيط والمشاريع، وجدنا أنفسنا نتعامل مع شركتين فقط، هما ريثيون ودلة. ولكن سرعان ما دب النشاط في القسم في الرياض وجدّة، حيث أصبحنا نعمل ليلاً ونهاراً. وكان لإنشاء القسم دور كبير في اجتذاب العروض من شركات متعددة، وبدأنا نتلقى الدعوات من أصحاب العروض لزيارة مصانعهم ومقارّ شركاتهم في كل أنحاء العالم.

          بالتدريج، أصبحت أهدافنا أكثر تحديداً وأكثر طموحاً. كنّا نرغب في تحمل مسئولية بناء الدفاع الجوي، ووضع أنظمة جديدة للشراء، واختيار مواقع دفاع جوي جديدة ومسحها ومعاينتها على الطبيعة، وبناء المرافق الجديدة، وتركيب المعدات. كنّا نرغب في أن نضع الرجل السعودي المناسب في المكان المناسب، وأن نتأكد من اكتساب الأفراد السعوديين الخبرات والتقنية الحديثة، حتى يستطيعوا، في نهاية الأمر، أن يتولوا بأنفسهم مسئولية صيانة المعدات، ومهمة التدريس في مدرسة الدفاع الجوي. كنا نرغب في أن نكون قناة الاتصال الوحيدة وهمزة الوصل الرئيسية بين الشركة والمملكة، فننقل طلبات الشركة إلى المسؤولين السعوديين وطلبات هؤلاء المسؤولين إلى الشركة، وألاَّ يكون هناك اتصال إلاَّ وفقاً للتسلسل القيادي. كان هذا هو النمط الذي أردته ولم أرتضِ سواه، إذ كان هو الأنموذج القائم بالفعل في معظم الدول.

          وكان مكتب الإمداد التابع لقسم تخطيط ومشاريع الدفاع الجوي، إحدى وسائل السيطرة في أيدينا. كانت مهمة هذا المكتب هي تسلم جميع المعدات والمستلزمات من الشركات بموجب شهادات قبول، ومن ثَم تخزينها، ليقوم بتوزيعها بعد ذلك على وحدات ومجموعات الدفاع الجوي في أرجاء البلاد. وأصبحت عملية التسليم والتسلم بهذا الأسلوب مركزية وتخضع لقدر أكبر من الرقابة وتحديد المسؤولية.

          تمكنت، في ضوء هذه المستجدات كلها، أن أقلب الموازين في علاقتنا بشركة ريثيون. أصبح وضعاً طبيعياً أن يأتي إلينا ممثلو الشركة بدلاً من أن نذهب إليهم. كنت كثيراً ما أقول لزملائي: "أليس الدفاع الجوي هو "الزبون" وهم الذين يقدمون الخدمة؟ نحن لا نطلب منهم معروفاً أو قرضاً، إنهم لا يقدمون إلينا شيئاً بلا مقابل. هم يقدمون الخدمة. ونحن نُوفّي إليهم حقهم كاملاً غير منقوص. هذه بلدنا ولا بد أن يأتوا هم إلينا". لم يكن التعامل معي بالأمر الذي يروق لشركة ريثيون، لكن هذا الأمر لم يكن يعنيني في قليل أو كثير، فلست مرشحاً في انتخابات يريد أن يكسب أصواتاً، لم أكن أسعى إلى كسب ود ريثيون، لكنني كنت أريد منهم أن يحترمونا، وأن يقيموا وزناً لنا ولبلادنا، وكان ذلك هو ما انتهى إليه الأمر في نهاية المطاف. ونصحني كثير من الناس بأن أكون حريصاً ودبلوماسياً في تعاملي مع ريثيون، وحاولت فعلاً أن أخفف من وطأة التغيرات التي كنت عازماً على تحقيقها، وذلك باتباع أسلوب التدرج، فلم يكن في وسعي أن أضع الشركة أمام تحد صارخ، وأصرّ على تغيير الأوضاع بين عشية وضحاها. لم يكن هناك بد من أن أعمل على تغيير الأوضاع القائمة رويداً رويداً.

          وكان أسلوبي في ذلك يقوم على اكتساب المزيد من العلم والمعرفة، لاستيعاب طبيعة العمل استيعاباً تاماً، قبل أن أفرض قيادتي. وكنت أرى أن دور الشركة لا يقتصر على تزويدنا بالعتاد الحربي بل يتعدَّاه إلى تزويدنا بالمعرفة التقنية. كان علينا أن نتعلم منهم كل ما نستطيع، ولكن دون تضحية بمستوى قدرات دفاعنا الجوي الذي كان لا يزال في بداياته الأولى. وكانت البلاد بوجـه عام، في السبعينات، لا تزال تتلمّس طريقها في كل الجوانب المتعلقة بالنمو التطور التقني. ولم يكن من الحكمة في شيء، بغض النظر عن الأنفة والاعتزاز اللذين يملآن جوانح أنفسنا، أن نحاول الجري قبل أن نتعلم المشي.

          وبعد عام من إنشاء قسم تخطيط ومشاريع الدفاع الجوي، اقتضى الأمر التفاوض من جديد مع شركة ريثيون في شأن عقد أكبر من سابقه، وهو ما سمي بـ "العقد الثلاثي"، وكانت قيمته تزيد بقليل على مليار دولار. وكما يظهر من تسميته كان نظام "الثلاثي" يضيف وحدة نيران ثالثة ( أي فصيل ضرب ) إلى سرية صواريخ هوك، مما يحقق قدراً أكبر من الانتشار أو تنويع التشكيلات. كان هدفي في كل مرحلة الحصول على أحدث أنواع الأسلحة مهما بلغ تعقيدها، وفي الوقت نفسه الترتيب لإتمام أكبر قدر ممكن من التدريب على تلك الأسلحة حتى يبلغ أبناء شعبنا قمة الإتقان في استخدامها، فيتحقق لنا الاعتماد الذاتي ويقل اعتمادنا على الآخرين.

          لن أثقل على القارئ بالتفاصيل الفنية، ولكن يكفي هنا أن أشير إلى أن مفاوضات "العقد الثلاثي" بدأت في نهاية عام 1974، وتم توقيع العقد عام 1976 بعد عامين ونصف العام من العمل المُضني. وفي ذلك الوقت، كانت وزارة الدفاع قد استحدثت إدارة المشتريات الخارجية التي يعمل فيها خبراء قانونيون إلى جانب خبراء آخرين يعملون على صياغة البنود والشروط المتعلقة بعقود الدفاع بغية حماية المصالح الوطنية للمملكة.

          بذلتُ في إتمام ذلك العقد جهداً كبيراً، ويذكر زميلي عبدالله جستنيه أننا كنّا نبدأ جلساتنا في العاشرة صباحاً ولا نبرح غرفة الاجتماعات إلا في العاشرة مساء، وكنا نقتات ببعض الساندويتشات التي يخرج أحدنا لشرائها.

          وعندما أنشأتُ قسم التخطيط والمشاريع، كان جلين جربس لا يزال الممثل الرئيسي لشركة ريثيون في المملكة، وعملنا معاً عن قرب وبشكل ودي. وأذكر أنني طلبت منه مرة أن تستمر الشركة في الالتزام بما جاء في العقد لمدة ستة أشهر أخرى. وكان العقد قد انتهى ولم توقع المملكة بعد عقداً جديداً. ووافقت الشركة. على ذلك. كانت كلمتي ضماناً كافياً لهم. فبعد توقيع عقد "هوك الثلاثي"، وهو عقد ضخم ومعقد، أصبحت المملكة هي أكبر متعاقد مع الشركة خارج الولايات المتحدة. وبناءً على ذلك، تمت ترقية جلين جربس واستدعاؤه إلى أندوفر ليدير مكتباً جديداً يتولى شؤون برنامج التسليح في المملكة، فأصبح بذلك مديراً لكل مشاريع ريثيون في المملكة.

          وفي تلك الأثناء، واجه برنامج هوك المطوّر كثيراً من المشاكل، مما ألقى بظلال قاتمة على مفاوضات برنامج هوك الثلاثي. كانت المشكلة، في بساطة شديدة، هي أن مهندسي ريثيون واجهتهم صعوبات كبيرة في تحويل صواريخ هوك الأساسي إلى صواريخ هوك المطوّر، إذ كان الأمر يتطلب تفكيك النظام القديم وتعديله وإضافة قطع إلكترونية جديدة إليه. وشعرت بقلق بالغ عندما علمت بأن عملية التحويل هذه كانت تتم ببطء، وأنها لم تكن تسير حسب الجدول الزمني المرسوم لها. إذ أفقدتنا عملية التحويل هذه، إلى حدٍّ كبير، قدرتنا على الدفاع الجوي الإقليمي، فقد تم تفكيك النظام القديم، ولم يحل محله نظام جديد. كانت ريثيون في حاجة إلى وجود شخص في المملكة يتميز بالقدرة على حل المشاكل، وخبير بمعالجة الأمور سريعاً قبل أن تقع الكارثة.

          كان جيم لويس هو ذلك الخبير، وهو رجل جدير بالاحترام فعلاً، وكان موجوداً في طهران لإدارة برنامج ريثيون في إيران. استدعاه فيل فالون، أحد كبار المديرين التنفيذيين في شركة ريثيون، إلى الولايات المتحدة بناءً على حَثٍّ منّي، وطلب إليه الانتقال إلى المملكة والتعامل مع المشكلة القائمة. قَبِلَ الرجل التحدي ووصل إلى المملكة، بعد ذلك بأيام، للعمل بصفته مديراً للعمليات، وكان ذلك في أغسطس عام 1977. وعندما وصل لويس أوقف كل شيء وبدأ بوضع جدول زمني جديد بالتعاون مع فريق المهندسين الذي شكله في الولايات المتحدة. كاد صبري ينفد، فقد أمضى لويس بضعة أسابيع في إعداد الجدول الزمني الجديد. وبعد أن فرغ من إعداده، عرضه عليَّ فلم يعجبني. كنت أريد أن تتم العملية في وقت أقل، لكنه قال لي: "ليعلم الأمير أنني لن أقدم خطة زمنية، إلاَّ إذا كنت واثقاً من أنني قادر على تنفيذها، ملتزم بتوقيتاتها".

          أخيراً حضر لويس إلى مكتبي يحمل جدولاً زمنياً موقعاً ومؤرخاً، فسألته: "أليس في إمكانكم إنجاز العمل في وقت أقل؟". فأجاب قائلاً: "مستحيل". فقلت له: "لا بد أن تحاول. لا بد من وضع المعدات في مواقعها في أقرب وقت". ولكنه اعترض قائلاً: "لن أعد بشيء لا أستطيع الوفاء به. إنني أعرف إمكاناتي جيداً. ومعي طاقم من المساعدين هنا، نحن نعرف الأشياء التي نحتاج إليها. وهذا أقصى ما في وسعنا". فقلت له: "هل هذا أقصى ما في وسعك فعلاً؟". فأجاب: "هو كذلك دون أدنى شك". أمسكت بقلمي ووقعت على الجدول. كانت مدة العمل حسب الجدول سنة ونصف السنة، لكنه أنجز المهمة قبل الموعد بستة أسابيع. تم التحول إلى نظام هوك المطوّر، لكنه كلف ريثيون ما لم تكن تتوقع. وعندما أُطيح بالشاه عام 1979، وسادت منطقة الخليج حالة الاضطراب والقلق، كانت أنظمتنا على أعلى قدر من الاستعداد. وعندما اندلعت الحرب العراقية-الإيرانية في السنة التالية، كانت وحداتنا ومعداتنا جاهزة للاستخدام إذا ما اقتضت الحاجة. أثبتت لنا الأيام أن الجهود الحديثة والتدريب المحموم والحرص الدؤوب على إتمام برامج التسليح، كان لها جميعاً ما يبررها.

          وحظي جيم لويس، ذلك الرجل الكفء، بثقتي الكاملة. تفاوضنا مراراً، وتغلبنا على الكثير من الصعاب، وإن لم يخلُ الأمر أحياناً من بعض الخلافات في شأن النفقات. كان كل منا يشعر أحياناً أن الآخر يبخسه حقه. فهو يشعر أن شركته تستحق أموالاً أكثر مقابل خدماتها، وأنا أشعر أن المملكة تستحق خدمات أفضل مقابل أموالها. كنا معاً نجد متعة كبيرة في التغلب على كل مشكلة تعترضنا.

          بحلول منتصف السبعينات، أصبحت جميع عقود الدفاع الجوي التي تبرمها الحكومة تتم من طريق قسم التخطيط والمشاريع الذي كنت أرأسه. كنت أدير جميع مشاريع الدفاع الجوي من الألف إلى الياء، كنت أضم إلى فريقي ضباطاً أختارهم وأدربهم على فنون التفاوض والفنون الأخرى، بينما الآلاف من الشباب السعودي قد انخرطوا في مدرسة الدفاع الجوي . وفي عام 1976، تمكنت من تدبير بعثة لعبدالله جستنيه إلى أريزونا arizona في الولايات المتحدة لدراسة الماجستير ثم الدكتوراة في إدارة التكنولوجيا الصناعية. كانت دراسة تتعلق بأمور التخطيط ونقل التكنولوجيا، وهي جوانب مهمة في مجال الدفاع الجوي. واستدعى ذلك أن يبقى جستنيه بعيداً عن المملكة ست سنوات. وحل محله المقدم أحمد لافي العبلاني ، وهو من ضباط الدفاع الجوي المقتدرين، وكان قد حضر دورة دراسية في الولايات المتحدة عن صواريخ هوك المطوّر عام 1975.

          كانت علاقة المملكة بشركة ريثيون، التي كانت دعامة النجاح بالنسبة إليّ، ناجحة في كل المقاييس. كان من المفيد حقاً لكلا الطرفين أنني جعلت الشركة تعلم يقيناً أنها لم تكن تتعامل مع دولة يستخف بها، بل هي تتعامل مع صورة جديدة للمملكة تختلف تماماً عن صورتها القديمة التي كانت عليها عند بداية العلاقة بينهما في الستينيات. أصبحت المملكة دولة حديثة تخطو في مضمار التقدم بخطى ثابتة حثيثة. أصبحت المملكة بلداً يحفل بحمَلَة شهادات الدكتوراة، وبالحاسبات الآلية، وبمستويات الأداء العالية. ويحفل بالمفاوضين المتمرسين، وفيه وزارة دفاع على أعلى درجة من الكفاءة والتنظيم، وعلى قمتها رجل يتميز بالدقة والنظام. رجل بنى أنظمة الوزارة على أسس راسخة قوية. إنه صاحب السمو الملكي الأمير سلطان بن عبد العزيز. أصبحت بلادنا جديرة بالاحترام. وأصبحنا قادرين على مراقبة أداء الشركة التي كان لها الباع الأطول عبر السنين في مساعدتنا على بناء قوات دفاعنا الجوي وتحديثها.

سابق بداية الصفحة تالي