مقترحات البحث الأشكال والخرائط الصور المحتويات

مقاتل من الصحراء

الفصل الأول

في قلب العاصفة

         كانت عاصفة رملية شديدة. كـأن يداً خفية تغرف الرمال الساخنة وتذروها في وجوهنا، فتلسعنا كالسياط. دوامات هائلة من الرمال تتصاعد صوب السماء ثم لا تلبث أن تـرتد نحو الأرض، عندما تغير الرياح اتجاهها، فتصفع الحاجب الزجاجي لعربة القيادة التي كانت تقُلنا. ثم تستقر الرمال عروقاً غليظة على نهر الطريق. كان صخب الأفكار في رأسي لا يقلّ عن صخب الطبيعة من حولي.

         كنّا نتجه نحو الكويت على الطريق الساحلية في المنطقة الشرقية للمملكة العربية السعودية. وإلى يمين الطريق كانت ثمة أراض سبخة تنعكس عليها أشعة الشمس الحارقة، فترسل لمعاناً حاداً يبهر العين ويجعلها تبدو للناظر إليها كأنَّها امتداد طبيعي لمياه الخليج. وكنّا قد مررنا للتوّ بمدينة الخفجي، ولم يتبق من رحلتنا سوى ثمانية كيلومترات لنصل إلى مركز حدود سعودي، هو المنفذ الرئيسي من المملكة إلى الكويت الشقيقة على تلك الطريق الساحلية. كان الازدحام دوماً أمراً مألوفاً في هذا المركز، لكنَّ دهشتي لا توصف ذلك اليوم حين شاهدت تلك الجموع الغفيرة من البشر ينتحبون ويتصايحون ويحتشدون حول مكاتب الجوازات والجمارك هرباً من القيظ والغبار .. وصدّام حسين.

         كانت الطريق الممتدة خلف مركز الحدود والمتجهة نحو الكويت تغصُّ بصفوفٍ متراصة من السيارات المتلاصقة تمتد على مدى البصر. لم يكن لأحد أن يحيط بتلك الصورة كاملة إلاّ من طائرة عمودية. وأية صورة كانت! صورة تنطق بالفوضى والذعر والاضطراب! وعندما اقتربنا من المنطقة، تراءت لنا الكثبان الرملية والأراضي السبخة مُرَقَّطَةً بالسيارات التي هجرها أصحابها، وكان معظمها غائصاً في الأرض الرخوة الناعمة. فعندما عجز أصحابها عن السير على الطريق الممهدة، انحرفوا نحو الصحراء يتسابقون للنجاة في اتجاه الجنوب. وبعد أن نفد الوقود أو غاصت سياراتهم، حملوا ما استطاعوا من متاعهم، ومشوا صوب الحدود ومن خلفهم نساؤهم وأطفالهم، حتى أضناهم التعب وبلغ الإرهاق منهم مداه، فاضطروا إلى التخلي عن أحمالهم، من حقائب مكدسة بمقتنياتهم ولوازم النوم وصناديق المعلبات وأجهزة الراديو والمسجلات والأكياس البلاستيكية وأشياء أخرى، حتى بدت المنطقة كلها كأنها مسرح لرحلة خلوية تعج بالهرج والمرج، دهمها مطر غزير.

         كان حرس الحدود يتولون جمع أولئك التائهين في الصحراء وتقديم العون إليهم، وإرشادهم إلى الطريق المؤدية إلى المملكة. أقاموا عدداً من الخيام الكبيرة لإيوائهم، وقدّموا الطعام والشراب إلى أسَرٍ خوت بطونها وزاغت أبصارها. وخلال ذلك كله، كانت تجري محاولة متعثرة لتسجيل أسماء هذا الطوفان الجارف من اللاجئين.

         رأيت هذا المشهد في أغسطس عام 1990 م، بعد مضي أسبوعين على غزو صدّام حسين الكويت وكان خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبد العزيز آل سعود ، قد وافق على تعييني قائداً للقوات المشتركة ومسرح العمليات في العاشر من الشهر نفسه. وكانت تلك زيارتي الميدانية الأولى لتفقد القوات، وتقييم التهديد الخطير الذي كان علينا أن نواجهه ونتصدى له.

         كنت أتساءل، يا تُرى كم يبلغ عدد العملاء العراقيين الذين اندسوا وسط ذلك الطوفان البشري من الكويتيين الذين لاذوا بالفرار من ديارهم، والذين يقدر عددهم بعشرات الآلاف؟ كان هذا الأمر يمثل كابوساً أمنياً ينبغي أن نحسب له ألف حساب. وبات واضحاً ضرورة أن نُحْكم عملية فرز القادمين والتحقق من هوياتهم.

         ولأسباب لم أستطع فهمها، لم يُقْدِم صدّام على إغلاق الحدود الكويتية - السعودية، واستمرت الموجات البشرية تعبر تلك الحدود. فهل كانت تلك سياسة متعمدة من جانبه لتفريغ الكويت من أهلها؟ على كل حال، لم يمضِ وقت طويل، حتى وجدنا أنفسنا مواجَهين بتوفير أماكن لإيواء 360 ألفاً من أشقائنا الكويتيين. لقد سمح صدّام بالخروج من الكويت لكل من أراد أن يخرج، بمن في ذلك القادة العسكريون وكبار موظفي الدولة. وقـد أدهشني حقاً أمران: أولهما، إتاحة الفرصة لمثل تلك الشخصيات المهمة للرحيل من البلاد. وثانيهما، فَشَلُ العراقيين في الاستيلاء على القاعدتين الجويتين في الكويت خلال الأربع والعشرين ساعة الأولى من الغزو، مما أتاح الفرصة أمام الطائرات الكويتية للإقلاع منهما حتى بعد سقوط العاصمة بوقت طويل. وما زال هذان الأمران يشكّلان لغزاً محيراً حتى يومنا هذا. وتمكنت نحو 40 طائرة كويتية، وعدد من الزوارق البحرية، والجزء الأكبر من أحد ألوية الجيش الكويتي من الوصول إلى المملكة بسلام.

         ألقيتُ نظرة خاطفة، عند مركز الحدود شمال الخفجي، على هذا السيل المتدفق من مواطني الكويت المدنيين. وبينما كنت أجول ببصري بين ذلك الحشد البائس، وهو يدور حول مكاتب الجوازات والجمارك، أدركت أنني أشهد منظراً مأساوياً يعكس إلى حدٍّ بعيد حقيقة العالم الذي نعيش فيه. فلـم يكن هؤلاء البائسون إلاَّ أناساً عاديين، أخرجهم الخوف من ديارهم، وكل همهم النجاة بأنفسهم وأهليهم من سعير الحرب التي لا تبقي ولا تذر. هؤلاء هم الكويتيون، الذين كانوا حتى الأمس آمنين في بلادهم واثقين بأنفسهم. ها هم قد تحولوا، بين عشية وضحاها، إلى لاجئين. وسألت نفسي: هل سنكون نحن في المملكة العربية السعودية الضحية التالية؟

سابق بداية الصفحة تالي