مقترحات البحث الأشكال والخرائط الصور المحتويات

مقاتل من الصحراء

في قلب العاصفة (تابع)

         أرجِّح أن صداماً عندما غزا الكويت كانت نيته أن يقتل أو يأسر أسرة الصباح، ولعل أحد مستشاريه أشار عليه بذلك قائلاً: "هل تريد الاستيلاء علي الكويت؟ إذاً تخلَّص من الأسرة الحاكمة، فيصبح البلد كـلَّه طوع بنانك، وعندئذٍ يمكنك أن تبقى فيه أو تنسحب منه، حسبما يروق لك". فعند زوال أسرة الصباح، لن يكون لولاء الناس مرتكزٌ، أو لشرعية الدولة رمْزٌ. فعندما استولى الجيش على السلطة في العراق عام 1958م، كان أول عمل قام به، هو قتل الملك فيصل الثاني، الذي كان لا يزال في مقتبل العمر، وأفراد عائلته جميعاً. مثلما عَمَدَ البلاشفة، أتباع لينين، إلى قتل القيصر نيقولا الثاني وعددٍ من أفراد أسرة رومانوف خلال الحرب الأهلية التي أعقبت الثورة الروسية عام 1917.

         بيد أنه إذا كانت نية صدّام هي فعلاً القضاء علي أسرة الصباح، فلا شك أنه لم يتبع الأسلوب الصحيح. لِمَ اختار أسلوب الهجوم بالمواجهة، ولماذا لم يلتف من الغرب فيسد عليهم منافذ الهرب؟ كان هذا هو السؤال الذي دار في خلدي. كان في وسعه، من وجهة نظري، أن ينجز تلك المهمة بفرقتين فقط: فِرقة تهاجم الكويت والأخرى تلتف لقطع طريقَيْ الخفجي والرقعي، وهما المخرجان الوحيدان المؤديان إلى خارج المدينة جنوباً إلى المملكة، كما تستولي في الوقت نفسه على المطار والقاعدتين الجويتين. كان في وسعه، بعد غزو الكويت أن يغلق حدودها فيحكم قبضته على الأسرة الحاكمة. لعل صداماً توقع قدراً أكبر من المقاومة، أو ظن أن الحكومة الكويتية لن تغادر البلاد، بل ستبقى لتقاوم الغزو. لكنّ ما حدث أخلف حساباته، فقد لجأ أمير الكويت و أمير ولي العهد و أفراد من الأسرة الحاكمة إلى المملكة يوم الغزو، قبل ساعة أو ساعتين فقط من وصول القوات الغازية. وكان ذلك قراراً حكيماً جاء في مصلحة الكويت إذ تمكنوا من إقامة حكومة في المنفى وتدعيم حركة المقاومة السرية في الكويت المحتلة.

         في يوم الغزو المشؤوم، كان ابن عمي وصديقي الحميم صاحب السمو الملكي الأمير محمد بن فهد ، أمير المنطقة الشرقية في المملكة، مسؤولاً بطريقة مباشرة عن تأمين سلامة صاحب السمو الشيخ جابر الأحمد الصباح أمير دولة الكويت وطبقاً لما رواه لي، فيما بعد، فقد ذهب بنفسه إلى الخفجي بناءً على تعليمات خادم الحرمين الشريفين، ليكون في رفقة الشيخ جابر في سيارة كان يقودها بنفسه أقلَّتهما إلى داخل المملكة. ولأن تلك القصة لم يَعْرِف عنها إلاّ القليل، فسأسردها هنا بشيءٍ من التفصيل.

         عَلِم الأمير محمد بالغزو العراقي في الساعات الأولى من صباح اليوم الثاني من أغسطس. وفي السادسة والنصف من صباح ذلك اليوم، تلقى مكالمة هاتفية من أحد ضباط مركز الحدود السعودي، شمالي مدينة الخفجي، يخبره أن سمو أمير الكويت موجود في المركز ويرغب في التحدث إليه، مما أدهش الأمير محمداً. ولكن اتضح له بعد قليل أن الشيخ جابراً يود الاتصال بخادم الحرمين الشريفين ولم يكن معه رقم هاتفه في جدّة. وما أن زوده محمد بالرقم، حتى أصبح أمير الكويت على اتصال مباشر مع الملك.

         اتصل الملك هاتفياً بالأمير محمد وأصدر إليه تعليماته بأن يَعْرِض على أمير الكويت أن يتوجّه جنوباً إلى الدمام، حيث يمكن ضمان أمنه وسلامته. فلم يكن من الحكمة أن يبقى في منطقة الحدود التي يمكن أن يجتاحها العراقيون في أية لحظة. قام الأمير محمد بتكرار الاتصال بأمير الكويت وظل يحاول إقناعه، على مدي ساعتين، بمغادرة الحدود، أو بالانتقال، على الأقل، إلي قصر الإمارة في الخفجي حتى يكون في وضع أكثر أمناً، وتكون اتصالاته أكثر يسراً. لكنّ الشيخ جابراً لم يستجب، وأصرّ على ألاّ يبرح مركز الحدود، إذ كان قد أرسل رُسُلَه إلى مدينة الكويت لاستطلاع الأمر، وبقي ينتظر عودتهم. كما كان سمو ولي العهد الشيخ سعد العبدالله السالم الصباح لا يزال وقتئذٍ في المدينة.

         وفي الحادية عشرة، أصدر الملك فهد توجيهاته إلى الأمير محمد ليذهب بنفسه إلى الخفجي، ويصطحب أمير الكويت إلى داخل المملكة. وعندما وصل محمد، بعد رحلة استغرقت ساعتين ونصف الساعة، كان وليُّ عهد الكويت وعدد من أعضاء الأسرة الحاكمة ومعظم الوزراء قد لحقوا بأميرهم. وناشد محمد سمو أمير الكويت أن يأتي معه من أجل الكويت وشعبها. ولـم يلبث محمد إلاّ قليلاً حتى تلقى مكالمة هاتفية أخرى من خادم الحرمين الشريفين، يستفسر فيها عن سبب بقاء أمير الكويت في الخفجي، ويستعجل حضوره إلى المملكة، غير أن سموه كان لا يزال ينتظر رُسُلَه الذين بعث بهم إلى الكويت.

         وأخيراً، وفي الرابعة بعد الظهر، اقتنع أمير الكويت بضرورة مغادرة المكان. وانطلقا نحو الدمام في سيارة قادها الأمير محمد وإلى جانبه أمير الكويت كان يوماً شديد الحرارة من أيام شهر أغسطس. بلغ فيه القيظ مداه، كما بلغ التعب والإرهاق من محمد أقصاه، فلم يكن قد ذاق للنوم طعماً طيلة 24 ساعة. أما الشيخ جابر فبدا متماسكاً رابط الجأش، لكنه لم يتحدث كثيراً. كان متأثراً بالأحداث السريعة المتلاحقة التي حفل بها ذلك اليوم. لقد كان الخطب جللاً. وأخيراً، تمكن محمد، الذي جَهِد في مغالبة النعاس وكاد أن يغفو وراء عجلة القيادة مرات عدة، من الوصول بالأمير سالماً إلى قصر الضيافة الملكي في الدمام. وأمر بتشديد الحراسة على القصر ومضاعفة عدد الحراس. ومكث معه ساعتين قبل أن ينطلق إلى منزله كي ينتزع قسطاً من النوم. لكنّ نومه لم يدم أكثر من ساعة، فقد تلقى مكالمة هاتفية من أحد المسئولين في حفر الباطن، يخبره فيها أن عدداً آخر من أسرة الصباح نجح في التسلل عبر الرقعي التي تعتبر المنفذ الثاني إلى المملكة.

         مكث سمو أمير الكويت وحاشيته في الدمام مدة أسبوعين. وبلغ عدد الضيوف من أسرة الصباح في اليوم الأول 150 فرداً تقريباً. وانضم إليهم على مدى الأسبوعين التاليين ما بين عشرة وعشرين فرداً كل يوم، معظمهم في حالة من الذهول. فقد لاذ بعضهم بالفرار وليس معهم إلاّ ما يستر أجسادهم من ثياب. وَلمَّا كان خادم الحرمين الشريفين حريصاً كل الحرص على راحة ضيوفه، فقد أصدر تعليماته بأن يُوَفَّر لهم كل ما يحتاجون إليه من مستلزماتٍ شخصية ومنزلية. وتم تحويل أحد المباني القريبة ليكون مستشفى صغيراً لتوفير الرعاية الصحية لهم.

         وكما تولى الأمير محمد رعاية أمير الكويت وحاشيته، تواصلت جهوده كذلك في رعاية الأعداد الغفيرة من اللاجئين إلى المنطقة الشرقية. فكان عليه أن يوفر لهم المسكن والأسرَّة والمفروشات والمكيفات والطعام والخدمات الصحية وما شابه ذلك. ولحسن الحظ، كان الوقت صيفاً ومباني المدارس والجامعات خالية من الطلبة، فاستُخدمت تلك المباني بالإضافة إلى المنشآت الرياضية والشقق الخالية مأوىً مؤقتاً لأولئك اللاجئين. وهبّتْ لجان المتطوعين في كل أنحاء المنطقة إلى تقديم شتى أنواع المساعدات إلى إخوانهم الكويتيين، بل إن بعض السعوديين أخلوا منازلهم للكويتيين، وانتقلوا للسكن مع أقربائهم. وآثر، فيما بعد، كثير من الكويتيين الذين لجأوا إلى المملكة التوجه إلى الرياض وجدّة وأبها ومدن أخرى في العالم العربي، وبقي نحو 110 آلافٍ منهم في المنطقة الشرقية خلال أيام الأزمة.

سابق بداية الصفحة تالي