مقترحات البحث الأشكال والخرائط الصور المحتويات

مقاتل من الصحراء

في قلب العاصفة (تابع)

         في العشرين من أغسطس، أي بعد يومين من رجوعي إلى الرياض عقب جولتي الميدانية الأولى، عدت إلى الجبهة مرة أخرى بصحبة صاحب السمو الملكي الأمير عبدالله بن عبد العزيز ولي العهد نائب رئيس مجلس الوزراء ورئيس الحرس الوطني الذي أراد أن يرى بنفسه الموقف على الطبيعة.

         كان الأمير عبدالله أول من بادر إلى زيارة القوات في الميدان من بين كبار أعضاء العائلة المالكة. واستغرقت زيارة سموه من العشرين حتى الثاني والعشرين من أغسطس. وكانت تلك المرة الأولى التي تنضوي فيها وحدات من الحرس الوطني والقوات البرية السعودية تحت قيادة واحدة. كما كانت المرة الأولى التي أصحب سموه فيها قائداً للقوات المشتركة ومسرح العمليات في جولة تفقدية.

         وكما ذكرت، كان الموقف في المنطقة الشمالية أفضل بكثير منه في المنطقة الشرقية. فالقوات في الشمال كانت في حالة جيدة، لأنها لم تقطع سوى 40 كيلومتراً في تحركها من مدينة الملك خالد العسكرية إلى مواقعها الدفاعية، ولديها إمكانية الحصول على حاجتها من الوقود والذخيرة، مع سهولة الوصول إلى مستودعات التموين وورش الإصلاح. أما المشكلة الأساسية، فكانت في المنطقة الشرقية. كانت الأولوية القصوى عندي هي العمل على رفع الروح المعنوية لأفراد الألوية التي انتقلت من أقصى شبه الجزيرة إلى أقصاها على وجه السرعة، وتعيش الآن حالة من الشظف في الصحراء والعواصف الرملية ودرجات الحرارة المتفاوتة ونقص في الإمدادات والتموين. كانت شدة الطلب للثلج أمراً دفعني إلى الاتصال بأمير الخفجي لإرسال عدة شاحنات محملة بالثلج بأقصى سرعة ممكنة.

         كنَّا في أَمَسِّ الحاجة إلى التمويل الفوري، فاتصلت هاتفياً بالأمير سلطان ورجوته أن يرسل بعض المبالغ العاجلة. وأوضحت لسموه أنني لم أشأ أن أطلب هذه الأموال من خلال القنوات العسكرية نظراً إلى ضيق الوقت. وكم كانت استجابة سموه خير معين لي في ذلك الوقت العصيب! إذ تمكنت من إعطاء قائد كل لواء 50 ألف ريـال لحساب المصروفات النثرية، يضيفها إلى مخصصات التموين لتحسين الطعام وشراء الكميات اللازمة من الثلج كل يوم. وأعطيت كذلك ستة ملايين ريال لكل من قائدَيْ المنطقتين الشرقية والشمالية كمعونة عاجلة. وكان لهذه الإجراءات الفورية التي تم اتخاذها لراحة الجنود أثرها البالغ في رفع معنوياتهم. وتناولت وجبة مع أفراد إحدى الوحدات تحت خيمة معلقة بين شاحنتين لتوفير مساحة كافية من الظل. ومع أن الرياح كانت تزمجر من حولنا مثيرة دوامات رملية كثيفة، إلاّ أنها لم تثبط عزائمنا أو تنل من معنوياتنا قِيد أُنملة.

         لم يكن كل ما تم اتخاذه بصفة فورية، سوى إجراءات مؤقتة لسد بعض الثغرات. فقد كان واضحاً أنه تلزم إقامة قاعدتَيْ إمدادات وتموين أماميتين: واحدة في الشرق والأخرى في الشمال. وأنه يجب تشييدهما تحت الأرض لتكون محتوياتهما بعيدة عن أيّ أضرار تنجم عن القصف الجوي أو المدفعي أو الصاروخي من جانب المعتدي. لذلك، أصدرت التعليمات بالبدء فوراً بالحفر والتجهيز. ففي الشرق، وتحديداً إلى الشمال من قرية النعيرية، تمتد سلسلة من التلال على بعد 60 كيلومتراً تقريباً من الحدود تصلح موقعاً لهذه القاعدة، إذ كان من الممكن حفر الكهوف في بطون هذه المرتفعات لتخزين الوقود والذخائر بأنواعها وغيرهما من مواد الإمدادات والتموين. وبدأ العمل فوراً في هذا الموقع، وتدفقت الحمولات دون انقطاع. وفي بادئ الأمر، كان كل شيء تحت الخيام: الطعام والوقود والمياه والذخيرة. وأمضيت تلك الأيام القليلة الأولى موجِّهاً اهتمامي إلى إنجاز ترتيبات الإمدادات والتموين، إلى جانب الإجراءات الإدارية اللازمة.

         وكان نقل المياه في الصحراء إلى هذا العدد الكبير من الرجال أمراً شاقاً، مما جعلني أفكر في جعله أشد مشقة لـصدام . فأصدرت أوامري بتحديد كل آبار المياه في الصحراء، واستعنت في ذلك بخبراء من وزارة الزراعة. كنت أريد التأكد من تدمير تلك الآبار إذا تقدم صدّام وأجبرنا على الانسحاب. فإن كان هذا هو الثمن الذي علينا أن ندفعه لوقف تقدم صدّام فلا مانع من دفعه. وكان سكان الخفجي أنفسهم، الذين يزيد عددهم على 15 ألف نسمة، يعتمدون في إمدادات المياه على محطة للتحلية. وسألت نفسي: هل ندمر هذه المحطة أيضاً إذا أقدم العراقيون على غزونا؟ كان ذلك قراراً صعباً، ولكنْ لم يكن هناك بد من الإقدام عليه.

         وماذا نفعل إذا أقدم العراقيون على استخدام الغازات السامة؟ لقد استخدمها صدّام من قبل ضد إيران، كما استخدمها ضد شعبه في العراق وانتابني القلق إزاء تجهيز قواتنا بالملابس والأقنعة الواقية. فقد تم تزويد بعض الوحدات في المنطقة الشمالية بالأقنعة دون الوحدات الأخرى التي كانت لا تزال في الخلف. وللأسف، عند فحص الأقنعة الموجودة في المخازن تبين عدم صلاحية بعض مرشحاتها، وأنه لا بد من تغييرها. ويبدو أنه من النادر حقاً في الحرب، أن تسير كل الأمور حسبما خُطِّط لها.

         في تلك المرحلة، كان لديَّ أقل من 8000 رجل في حالة استعداد قتالي للدفاع عن الحدود الشمالية الطويلة. لذلك، قمت بنشر الكتيبتين الجاهزتين كقوات ساترة، بينما جرت الجهود، على قدم وساق، لإعداد وحدات ثقيلة في الخلف.

         أشار عليَّ بعض ضباط أركاني بإنشاء حقول ألغام أمام مواقعنا الدفاعية، لإيقاف أيّ تقدم عراقي، وقَدَّموا إليَّ خرائط بالمواقع المقترحة لهذه الحقول. وكان الأمريكيون يوافقونهم في هذا الرأي، إذ يُعتبر إنشاء حقول الألغام عادة إِجراءً منطقياً في العمليات الدفاعية، وجزءً لا يتجزأ من الإجراءات الدفاعية الواجب اتخاذها لأية قوة، مهما صغر حجمها. لكنني رفضت رفضاً باتاً، واتضح لي، بعد ذلك، أنّ رفض هذا الاقتراح كان من أفضل القرارات التي اتخذتها. إذ لم أشأ أن يُبْتَلَى سكان هذه المناطق بالألغام التي لم تنفجر، كما ابتُلي بها سكان الصحراء الغربية بعد الحرب العالمية الثانية، وكما حدث أيضاً بعد حرب فوكلاند falkland . وكان المنطق الذي بَنَيْتُ عليه هذا القرار هو: إذا أفلحتْ الجهود السياسية، التي كانت قائمة في ذلك الوقت مع العراق في إقناع صدّام بالانسحاب من الكويت فإن عملية تطهير المنطقة من الألغام لن تتم بلا خسائر في صفوف قواتي. أمّا إذا فشلت الجهود الدبلوماسية في إجلاء صدّام بالحُسْنَى، وَاضْطُرَّتْ قوات التحالف إلى الهجوم لتحرير الكويت فإن حقول ألغامنا التي زرعناها بأيدينا ستتحول إلى هاجسٍ مخيف وعائق رهيب يعرقل تقدمنا. كما أن عمليات التطهير قبل العمليات الهجومية قد تؤدي إلى كشف نوايانا للمعتدي.

         كان الاستثناء الوحيد لهذا القرار في قطاع القوات المصرية، إذ ألحَّ عَليَّ قائدها في السماح له بإنشاء حقل ألغام بعرض بضع مئات من الأمتار على الطريق المؤدية إلى الرقعي لعرقلة أي تقدم عراقي نحو المملكة. وافقت على ذلك، لأسباب اقتنعت بها، شريطة أن تقوم القوات المصرية بإزالة جميع الألغام قبل إخلاء المنطقة، وعندما يحين الوقت، تتقدم هذه القوات نفسها من ذلك القطاع وهي في طريقها لتحرير الكويت .

         ولعل أهم ما خلصت إليه في جولتي الميدانية الأولى في الجبهة، أن الحماقة، كل الحماقة، أن نحاول الدفاع عن الحدود نفسها، أي أن يكون الخط الأمامي للدفاعات الرئيسية على الحدود مباشرة. فهذا العمل بمثابة الحكم بالإعدام على كل المدافعين عنها، لأنها ستكون في مرمى الأسلحة العراقية المختلفة، مثل الهاونات والمدافع وراجمات الصواريخ.

         كان لا بد من تعديل الخطط الدفاعية التي وضعتْها قيادة القوات البرية. فالألوية السعودية قوات تكتيكية، وليست حرساً للحدود، لذلك لا ينبغي نشرها على الحدود مباشرة. فالأصوب سحبها إلى الخلف، بعيداً عن مرمى مدفعية صدّام وإنشاء منطقة أمن لتكون هناك مساحة كافية تُمكِّن قواتنا الجوية من التدخل لإعاقة تقدم القوات المعتدية دون التأثير في قواتنا. ( كنت قلقاً في شأن التنسيق بين قواتي وقوات حرس الحدود التابعة لوزارة الداخلية التي تعمل في النقاط المنتشرة على طول الحدود وتبعد كل واحدة منها عن الأخرى مسافة 20 كيلو متراً. كان لا بد من بقاء تلك القوات لإثبات سيادتنا على الأرض، وفي الوقت نفسه كنت أريد التأكد من أنها تستطيع عند انسحابنا أن تنسحب معنا أيضاً، حماية لها وحفاظاً على أرواح أفرادها ).

         لذلك، قررت إنشاء خط دفاعي عند "رأس مشعاب" وإلى الغرب، على بعد 40 كيلومتراً من الحدود الشمالية. وأصبحت المنطقة الواقعة شمالي هذا الخط وحتى الحدود الدولية تشكل "منطقة قتل" للقوات المعتدية، فالصحراء أعتبرها عاملاً مساعداً في مصلحتنا وأكبر مصدر قوة لنا، لأنها توفر العمق الذي نريده. فإذا تقدم العراقيون نحونا ستطول خطوط إمدادهم ومن ثَم يسهل علينا قطعها وتدميرها. اتخذت قراري هذا في اليوم الثامن عشر من أغسطس، وَوُضِعَ موضع التنفيذ بعد ذلك بيومين.

         كان الدفاع عن مدينة الخفجي التي لا تبعد عن الحدود سوى عشرة كيلو مترات، أمراً صعباً، سواء أهاجمها العراقيون بحشود كبيرة، أم لم يهاجموها. إذ كان في قدرتهم تدميرها بنيران مدفعيتهم وصواريخهم من الجانب الآخر للحدود متى أرادوا ذلك. وكنت أدرك أن وضع أية قوات عسكرية داخل المدينة سوف يعطي العراقيين ذريعة لقصفها. لذلك، أعلنت مدينة الخفجي "مدينة ميتة" ولم نشأ إثارة حالة من الفوضى والذعر بإخلاء المدنيين في ذلك الوقت، لكنْ كان علينا أن نضع خطة طوارئ لإجلاء السكان في اللحظة التي يُقْدِم فيها صدّام على الهجوم. وقد أَعَدّتْ سلطات الدفاع المدني، بمساعدة أمير المنطقة الشرقية واشتراك قائد المنطقة، خطة لإجلاء السكان براً وبحراً. بيد أن السكان اقتنعوا من تلقاء أنفسهم، ودون أن نبلغهم رسمياً بخطتنا، أنّ الأسلم لهم مغادرة المدينة.

         وعلى الرغم من انشغالي بهذه الأمور كلها، قمنا بإعادة التجميع للقوات المتيسرة، وقتئذٍ، بعد تقييم الموقف مع اللواء الركن عبد الرحمن محمد العلكمي ، قائد المنطقة الشمالية، واللواء الركن صالح المُحيَّا قائد المنطقة الشرقية. وأثلج صدري، حقاً، أن يعمل معي مثل هذين الضابطين في مسرح العمليات.

         عدت إلى الرياض بعد أن أصبحت الحقيقة المُرة أكثر وضوحاً في ذهني. فالبلاد تواجه خطراً محدقاً لا شك فيه، ولم يكن هذا الاحتمال ليدور في خلدي قبل نشوب الأزمة، أي قبل ثلاثة أسابيع فقط. كنت أشعر بثقل المسئولية الملقاة على عاتقي كلما تذكرت المصاعب التي عليَّ أن أواجهها، والمهام التي عليَّ أن أُنجزها. وكما ذكرت في تقريري الذي رفعته إلى سمو الأمير سلطان، كان عليَّ أن:

* أعمل علي رفع مستوى الكفاءة القتالية للقوات في مواقعها الجديدة.
* أُكثف من تدريباتها القتالية، وأمدّها بجميع الاحتياجات.
* أضع خطة دفاعية محكمة، وأُنشئ قيادة ذات كفاءة وفعالية.
* أتعامل مع القوات الشقيقة والصديقة التي بدأتْ وقتئذٍ تتدفق إلي المملكة

         ولبرهة من الزمن، تخيلت نفسي جالساً في مسرح أُطفئت أنواره، أَنْتَظِر رفع الستار لمتابعة أحداث مسرحية مأساوية تزخر بالعنف والدماء وقسوة المجهول. فما من أحد يدري من سيُكتَب له البقاء، وما ستسفر عنه أحداث الفصل الأخير!

سابق بداية الصفحة تالي