مقترحات البحث الأشكال والخرائط الصور المحتويات

مقاتل من الصحراء

في قلب العاصفة (تابع)

          بعد أن أمضيت يوماً في المنطقة الشرقية، واستمعت في مركز العمليات في مدينة الملك فهد العسكرية إلى تقرير قدّمه، اللواء الركن صالح علي المُحيَّا، قائد المنطقة، وضباط أركانه، انتقلت بالطائرة فوق شاطئ الخليج إلى رأس مشعاب، وهو ميناء صغير فيه مهبط جوي ويبعد 40 كيلومتراً عن الحدود الكويتية. وانطلقت من رأس مشعاب تُقِلُّني عربة القيادة لأقف بنفسي على حقيقة الموقف عند الحدود، ولأتفقد قواتي.

          قواتي! أين هي قواتي تلك؟ كانت تنتظرني مفاجأة مفزعة. كانت دفاعاتنا عن الحدود الشمالية للمملكة غير قادرة على الصمود أمام الجحافل العراقية. فعندما كُنّا نُقّيم التهديدات المُحْتملة ضد منطقتنا الشرقية قبل الأزمة، أسقطنا من حساباتنا احتمال تعرضنا لتهديدات برية من الدول العربية المجاورة الواقعة شمال المملكة. ولكننا، لم نستبعد، بطبيعة الحال، احتمال حدوث تهديدات جوية أو بحرية أو صاروخية أو إرهابية من الجانب الآخر للخليج. وكنّا على أتم الاستعداد لمجابهة مثل تلك الأخطار. لهذا السبب، كنا نحتفظ بأعداد محدودة من القوات البرية في الجزءين الشمالي والشرقي من المملكة. وبهدف توفير إسناد عسكري عاجل عند الطوارئ، أنشأنا بنْية أساسية عسكرية قوية على شكل "مدن عسكرية" تم تشييدها في مواقع إستراتيجية حول المملكة. وتُعَدّمدينة الملك خالد العسكرية في حفر الباطن من أكبر تلك المدن. وهي تقع عند ملتقى حدود المملكة والعراق والكويت، ويجري بين جنباتها وادي الباطن الذي كان يستخدم في الماضي كطريق اقتراب طبيعي للغزوات التي كانت تُشن ضد الجزيرة العربية من جهة الشمال. ويقال أن وادي الباطن كان، في العصر الجليدي، واحداً من أكبر أنهار قارة آسيا لكنه جفَّ، لسوء حظنا منذ نحو 10 آلاف عام لانقطاع الأمطار الغزيرة.

          كانت توجد وحدات صغيرة الحجم من المشاة والمدرعات والقوات الجوية متمركزة بشكل دائم في مدينة الملك خالد العسكرية. بيد أن هذه المدينة العسكرية، التي أُنشِئتْ على أحدث طراز، يمكنها أن تستوعب عشرات الآلاف من القوات إذا ما دعت الحاجة. ومن المدن العسكرية الأخرى مدينة الملك فيصل العسكرية في خميس مشيط في الجنوب، ومدينة الملك عبدالعزيز العسكرية في تبوك في الشمال الغربي. وتُعد هذه المدن بمجمعاتها السكنية الكبيرة ومكاتبها ومستودعاتها ومخازنها ومستشفياتها ومدارسها مدناً حقيقية، بل هي أنموذج معاصر حقاً للقلاع الصحراوية التي شَيَّدَهَا حكام الجزيرة العربية الأقدمون للدفاع عن حدودهم.

          لم يولِ جهاز استخباراتنا أو هيئة الأركان العامة العراق كبير الاهتمام قبل أزمة الخليج. إذ لم يكن في منظور أحد، في ظل تلك الظروف السياسية التي كانت سائدة في السبعينات والثمانينات، أن تتعرض المملكة إلى خطر من ذلك الاتجاه. كان أمراً مستبعداً تماماً أن يتحول العراق ( ذلك البلد العربي الشقيق الذي بذلت له المملكة كل العون في حربه الطويلة مع إيران ) إلى عدوٍ لدود. لقد غاب عن الذين ينتقدون المملكة أنها أُخذت على حين غرّة، أن أحداً مهما شطح به الخيال، لم يكن ليتصور أن العراق قد يغزو المملكة، أو أن تصبح الكويت تلك الدولة الصغيرة الصديقة التي تجمعنا بها عضوية مجلس التعاون لدول الخليج العربية ، مَعْبَراً للعدوان علي حدودنا بعد احتلال العراق لها، وهلاّ سأل هؤلاء اللائمون أنفسهم: أثمة دفاعات على حدود فرنسا مع بلجيكا؟!

          لهذه الأسباب، لم تكن لدينا قوات في المنطقة الشرقية وعلى مقربة من الحدود، إلاّ لواء الملك عبد العزيز الآلي الثاني من الحرس الوطني السعودي. وكانت مواقعه في مرمى المدفعية العراقية تماماً. كما كانت توجد إلى الغرب في المنطقة الشمالية، في مدينة الملك خالد العسكرية، قوة صغيرة من دول مجلس التعاون الخليجي، عُرِفَتْ بقوة "درع الجزيرة". وهي قوة لها قدرة قتالية محدودة، إذ كانت تتكون من مجموعة لواء من القوات البرية السعودية، وعدد من سرايا وكتائب متفرقة من الدول الأخرى أعضاء مجلس التعاون الخليجي، وقد هرعت إثر الغزو إلى اتخاذ المواقع الدفاعية.

          وفي مدينة الملك خالد العسكرية أيضاً، كانت قد وصلت قوة عسكرية مغربية قوامها 962 رجلاً، بالإضافة إلى فوج من القوات الخاصة المصرية. وكانت هاتان الوحدتان طليعة القوات العربية الشقيقة التي بادرت إلى الوصول إلى المملكة لتقديم العون إلينا بعد أيام قليلة من الغزو العراقي. وعندما زرت القوة المغربية، بدا للوهلة الأولى أن المغاربة كانوا مجموعة من المقاتلين الأشداء، صَقَلتْهُم حربهم الطويلة مع جبهة البوليساريو. لكن تلك المجموعة كانت لا تزال في معسكرها، انتظاراً لوصول وحدات الإسناد.

          وتعزيزاً لهذا الخط الدفاعي، تدفقت الوحدات السعودية من جميع أنحاء المملكة. إذ أسرع اللواء الثامن الآلي من القوات البرية الملكية السعودية إلى التحرك من تبوك في الشمال الغربي، من طريق القصيم، وقطع ما يزيد على 1000 كيلومترٍ، بينما انطلق اللواء العاشر الآلي من خميس مشيط في الجنوب، واجتاز مسافة مماثلة. ولا شك أن كل عسكري سيقدّر ذلك الجهد الهائل الذي بذلته تلك القوات لتجتاز هذه المسافات الشاسعة عبر المملكة تحت وطأة قيظ شهر أغسطس. تحركت القوات طبقاً للأولويات الصحيحة: الوحدات المقاتلة أولاّ، ثم تلتها وحدات الإسناد الإداري. وأدى ذلك إلى حدوث بعض المصاعب في الإمدادات والتموين والصيانة والإصلاح.

          عندما قمت بزيارة تفقدية لهذين اللواءين، كان بعض وحداتهما قد وصلت إلى الجبهة فعلاّ وتقوم بتجهيز مواقعها الدفاعية. أما بقية الوحدات فكانت لا تزال على الطريق في أرتال ممتدة عدة كيلومترات. وفي مثل هذه الرحلة الطويلة إلى الجبهة، لا بد من إعادة تزويد العربات بالوقود، وإصلاح ما تعطل منها، وإعطاء الجنود، الذين أعياهم التعب، قسطاً من الراحة، وتزويدهم بالمياه العذبة والوجبات الساخنة. ويعني هذا الانتشار السريع لمواجهة التهديد العراقي من اتجاه الكويت أن على قواتنا التي هرعت من تبوك وخميس مشيط قطع الرحلة دون نقاط لتوزيع المياه، أو محطات للتزود بالوقود، أو مستودعات للتموين، أو ورش لإصلاح العربات. وذكرت في تقريري الذي رفعته إلى صاحب السمو الملكي الأمير سلطان بن عبد العزيز، النائب الثاني لرئيس مجلس الوزراء ووزير الدفاع والطيران والمفتش العام، أننا في صدد وضع الخطط الدفاعية واتخاذ الترتيبات القتالية بدءاً من الصفر، إذ كنّا نواجه موقفاً لم نعهده من قبل.

          زرت الألوية الثلاثة: لواء الحرس الوطني ولواءيْ القوات البرية. واستمعت إلى تقارير قادتها. واستفسرت عن عدد القوات التي وصلت فعلاً، وتلك المنتظر وصولها، والصعوبات التي كانت تواجهها. والأهم من ذلك كله، كنت أريد أن أقف على درجة استعدادها القتالي.

          لم تواجه وحدات الحرس الوطني مصاعب كثيرة، إذ كانت متمركزة في المنطقة الشرقية، ولم يكن عليها أن تقطع تلك المسافات الطويلة. ويعتبر لواء الحرس الوطني من الألوية الخفيفة التسليح ذات القدرة النيرانية المحدودة، لذا استبعدت احتمال استخدامه في صد هجوم عراقي مدرع متفوق. أمّا لواءا القوات البرية، فكان لكل منهما كتيبة دبابات عضوية ضمن تنظيمه الأساسي، ولكنَّ عدد الدبابات في الكتيبة يجعلها غير قادرة على مواجهة الفِرق المدرعة العراقية. وانتابني القلق حين شاهدت عدداً من دباباتنا وقد نُشر في خط واحد على طول المواجهة بفاصل كبير بين الدبابة والأخرى، لتشكل أهدافاً ثابتة وصيداً سميناً للمدفعية العراقية.

          كانت الحشود العراقية المواجهة لنا على طول خط الحدود، متفوقة بجميع المقاييس، فقد بلغت قوتها نحو 200 ألف جندي و2000 دبابة في الكويت ووفقاً لتقارير استخباراتنا، كان العراقيون يقومون بإعادة التموين والاستعواض ( أي إعادة تزويد العربات والدبابات والمعدات بالوقود، واستعواض الذخائر والخسائر والمستهلَك من أصناف التموين، وإصلاح العربات والمعدات المعطلة ) بشكل يوحي باستعدادهم للتقدم نحونا. وحتى ذلك الحين، لم يكن قد وصل من الجنود الأمريكيين سوى طلائعهم التي كانت لا تزال في الجبيل، على بعد 200 كيلو مترٍ إلى الخلف، فضلاً عن عدم جاهزيتهم للقتال في تلك المرحلة. لذلك لم يكن على خط المواجهة إلاّ السعوديون، وبضع مئات من قوات مجلس التعاون لدول الخليج العربية ( درع الجزيرة ).

          جعلتني تلك الجولة الميدانية أُدرِك حجم التحدي الذي علينا أن نواجهه، ومدى الأخطار التي كنّا نتعرض لها. غدا الأمر بالنسبة إليَّ مسألة حياة أو موت. حاولت أن أبدو رابط الجأش، لكن ما أن عدت إلى مقر إقامتي في ميناء رأس مشعاب وخلوت بنفسي، حتى أخذت أذرع الغرفة جيئةً وذهاباً، تعتصرني مشاعر الإحباط وأنا أفكر في ما يجب أن أقوم به. كان عليَّ أن أبدي قدراً من القوة، وأن أُثبِت أن جيشاً سعودياً يملأ أرض المعركة ويقارع المعتدي. وأن قائداً يمسك بزمام الأمور، ويتولى مسئولية الدفاع عن بلده.

          لكنني كنت على يقين أنه إذا هاجم صدّام وكان على استعداد لتحمل الخسائر الفادحة جَراء الضربات الجوية، فسوف يتمكن في غضون أيام من الوصول إلى الجبيل وحقول البترول الشرقية. وانتابني شعور بالاكتئاب وأنا أُقلِّب الأمر على أوجهه. فإذا كانت نية صدّام هي الاحتفاظ بالكويت، فَلِمَ يبقى متقوقعاً في ذلك المسرح الضيق معرِّضاً قواته للهجمات المضادة؟ لا بد أن يتحرك وينشر قواته جنوباً في اتجاه الساحل. إن أي محلل عسكري إستراتيجي لا يسعه الافتراض أن صداماً سوف يتوقف عند الحدود السعودية.

          في تلك الأيام والأسابيع الأولى التي سادها القلق والترقب، بعثنا عملاءنا إلى الكويت والعراق ليعودوا إلينا بما يتوافر لديهم من معلومات يمكن أن تنم على نوايا صدّام وقد أظهر ضابط برتبة لواء- كان الرجل الثالث في هيئة الاستخبارات العامة - شجاعة نادرة عندما تطوع بالدخول إلى الكويت المحتلة متخفياً في زيّ البدو في مهمة استغرقت ثلاثة أيام، ووصل إلى صفوان تحت سمع العراقيين وبصرهم. كانت مغامرة خطيرة حقاً، فَأَسْرُ هذا الرجل كان من شأنه أن يوقعنا في حرج شديد، لكنه عاد بأدقّ المعلومات عن انتشار القوات العراقية.

          كانت قوات صدّام في الكويت آنئذ، أكثر بكثير مما يحتاج إليه للبقاء هناك. وتشير التقارير التي كنّا نتلقاها أنه كان يعزز قواته في صورة منتظمة. وكان السؤال المُلِـحّ: "لِـمَ يعزز قواته هناك على هذا النحو؟" كانت تلك الأعمال تنبئ، بما لا يدع مجالاً للشك، بأن لـصدام أهدافاً أخرى أبعد من احتلال الكويت .

          كان يبدو، في ذلك الوقت، أننا نشهد "وقفة عملياتية"، وهي وقفة متوقعة من وجهة النظر العسكرية، كي يستطيع صدّام تأمين أهداف المرحلة الأولى من الهجوم، وإعادة التموين والاستعواض، وتحريك وحدات الإسناد القتالي مثل المدفعية وراجمات الصواريخ إلى الأمام، وتخصيص المهام القتالية للمرحلة التالية، وإتاحة الفرصة لقادة الوحدات الميدانية لاستكمال الخطط العملياتية. ولعله، من الناحية السياسية، توقف للتحقق من ردود فعل العالَمَيْن العربي والإسلامي والمجتمع الدولي، وكذلك لاتخاذ الترتيبات الإدارية لإحكام قبضته على الأرض التي احتلها. وربما أراد بذلك أيضاً أن يوحي لنا أن احتلال أرضنا لم يكن أمراً وارداً في خطته.

          ولكنْ هل لنا أن نصدقه؟ هل كان يضع عينيه على آبار البترول وقاعدتي الملك عبد العزيز البحرية والجوية في المنطقة الشرقية؟ أم أنه كان أكثر طموحاً، ويطمع في إسقاط كل دول مجلس التعاون الخليجي الست وإعادة رسم خريطة الجزيرة العربية بأسرها؟ وبدأتْ مثل هذه الأسئلة الكئيبة تطاردني بإلحاح.

          عكفت على دراسة الخرائط والمخططات، محاولاً جعل نفسي مكان صدّام وسرعان ما تبادر إلى ذهني أنه قد يَشُنُّ هجوماً بالمواجهة على حقول نفطنا وموانئنا البحرية، مع استخدام قواته الخاصة للاستيلاء على منطقتنا الخلفية. كان في وسعنا، في هذه الحالة، التصدي له بقواتنا الجوية في شكل مكثّف. لكن ذلك يعني أن نضحّي بها دون شك. وكان يمكن أن نتوقع أيضاً مساندة فورية من القوات الجوية الأمريكية قاعدتي الملك عبد العزيز البحرية والجوية ، نظراً إلى وصول بعض الأجنحة الجوية، وانتشار مجموعتين من حاملات الطائرات الأمريكية في منطقة الخليج. ولكن إذا نجح صدّام في الاستيلاء على أكثر من 40% من احتياطي النفط في العالم، فلا شك أن الغرب سيفكر في الأمر ملياً قبل أن يواجهه. بل قد يُضْطر إلى التعامل معه بسياسة الأمر الواقع، ولعل ذلك أقصى ما يهدف إليه صدّام كان هذا الاحتمال باعثاً على القلق إلى أبعد الحدود.

          كان شهر أغسطس يُمثل أفضل الأوقات لـصدام ليبدأ هجومه، قبل أن يتسنى لأشقائنا وأصدقائنا حشد قواتهم لمساندتنا. وكنت على ثقة أنه إذا وقعت معركة برية، فلا قِبَلَ لنا بقوات صدّام وكنت أحاول ألاَّ أُبدي جزعي، وإن كنت مدركاً أننا في صدد خَطْبٍ جلل. لقد كنا الأقل عدداً والأضعف عدة. وتلك حقاً كانت أصعب لحظة في حياتي.

          عندما عدت إلى الرياض، بعد ذلك بأيام، قابلت الفريق جون يوساك john yeosock، قائد القوات البرية للقيادة المركزية الأمريكية، الذي كان في المملكة، آنذاك، بهدف الإعداد لاستقبال القوات الأمريكية. سألني متلهفاً عمّا شاهدته في الجبهة. فأجبته بنبرات حادة: "يبدو الأمر وكأننا خضنا الحرب فعلاً وخسرناها". وكنت أعني أنه لا يزال أمامنا الكثير لنقوم به من أجل الحفاظ على استقلالنا ووحدة أراضينا.

سابق بداية الصفحة تالي