مقترحات البحث الأشكال والخرائط الصور المحتويات

مقاتل من الصحراء

بناء القوة الرابعة (تابع)

          اتخذت الخطوة الحقيقية الأولى نحو جعل الدفاع الجوي "القوة الرابعة"، في عام 1982، بعد عودتي من الولايات المتحدة بوقت قصير. وتمت الموافقة حينذاك على تخصيص موازنة منفصلة لنا ( أي منفصلة عن موازنة القوات البرية التي كنا حتى ذلك الحين جزءاً منها ) وأن نرتبط مباشرة برئيس هيئة الأركـان العامة.

          قلت لهم: "لا تطلقوا علينا اسم "قوة" الآن، بل امنحونا فترة سنتين تجريبيتين لنعمل كهيئة مستقلة. أعطونا وقتاً للممارسة والتجريب، فإذا لم نثبت نجاحناً، فلا ضير من أن تلحقونا مرة أخرى بالقوات البرية أو بالقوات الجوية".

          وخلال عامي 1982 - 1983 بذلت قصارى جهدي لإنشاء الأجهزة التي تحتاج إليها القوة الرابعة وأهمها، إدارة مالية برئاسة علي إبراهيم الحديثي، وهو من أفضل الرجال في المملكة في هذا المجال ولا يزال يشغل هذا المنصب حتى الآن. وقد استحدث نظاماً للموازنة أثبت فعاليته وحدا بالآخرين على اقتباسه، حتى إن وزارة المالية نفسها بعثت بكتاب إلى القوات الأخرى توصي فيه بالأخذ بهذا النظام. ولا يفوتني أن أذكر أن الحديثي هو أول من أدخل نظام دفع رواتب الأفراد بالشيكات بدلاً من دفعها نقداً. وإنني لأعُدّ الحديثي أحد عَمد "القوة الرابعة" لأن التمويل والموازنة كانا أكبر همومنا. أنشأ الإدارة المالية وانتقى عناصرها بنفسه، وأعتقد أنه سيرتقي إلى مناصب أرفع بفضل مواهبه وقدراته.

          وقبل أن تنقضي السنتان التجريبيتان، تبيَّن للأمير سلطان والآخرين أن الدفاع الجوي أصبح أفضل فروع القوات المسلحة تنظيماً.

          وإضافة إلى عملي مديراً لقسم تخطيط ومشاريع الدفاع الجوي، تم تعييني في عام 1983 مساعداً لقائد الدفاع الجوي، اللواء الركـن منير عبد الرحمن العتيبي. وتمٍ التعاون بيننا بقدر كبير من التفاهم والانسجام، مما عزز قدرتي على المضِّي قُدماً في سعيي لتحويل الدفاع الجوي إلى قوة مستقلة كباقي فروع القوات المسلحة.

          وباختصار عُيِّنت في شهر يوليه عام 1984 نائباً لقائد الدفاع الجوي، وبعد ذلك بفترة وجيزة تحقق الحلم الذي راودني وشغل تفكيري، وأصبح الدفاع الجوي "قوة رابعة" بمقتضى المرسوم الملكي الصادر بالرقم 2026 / 8 تاريخ 20 - 21 رمضان 1404هـ. تحقق الحلم بعد عشر سنوات من محاولات الإقناع وحشد الآراء المؤيدة. تحقق بالعمل الشاق الذي لا يهدأ، وبالعزم الذي لا يلين.

          وعندما أعود بذاكرتي إلى ذلك الكفاح الطويل، أستطيع القول إن الخلاف الحقيقي لم يكن مع القوات البرية، التي لم تكن لتكترث أكان الدفاع الجوي تابعاً لها أم لا، وإنما كان مع القوات الجوية نفسها بقائدها وكبار ضباطها الذين كانوا متمسكين بمبادئ المدرسة الغربية في الدفاع الجوي، يساندهم في ذلك أعضاء البعثة التدريبية الأمريكية. أرادوا كلهم لوحدات دفاعنا الجوي وأجهزته أن تكون تحت قيادة القوات الجوية، ومنهم ابن عمتي الأمير فهد بن عبدالله رئيس هيئة عمليات القوات الجوية حينذاك، وهو رجل عزيز على نفسي أكنّ له ولأفكاره وذكائه كل احترام وتقدير. خضنا معاً مناقشات جادة حول المفاهيم والمبادئ والعقائد العسكرية المختلفة مما حدا بي على تطوير أفكاري وصقل آرائي، كما زادني تصميماً على الكفاح لإقناع مختلف اللجان بجدوى إنشاء "القوة الرابعة".

          ومن النتائج التي تمخضت عن تفضيلي للمدرسة الشرقية على المدرسة الغربية في الدفاع الجوي، أن انطلقت شائعات مفادها أنني معادٍ للأمريكيين. ولا صحة لهذا الأمر أبداً، فلست معادياً أو مؤيداً للأمريكيين، بل لست معادياً أو مؤيداً لأي بلد آخر. إنني أؤيد المملكة فقط، بلدي ووطني. وأعتقد أن كل من يحب المملكة عليه أن يدرك تماماً أن من مصلحتنا إقامة علاقات ودية ووثيقة مع الولايات المتحدة، فتلك العلاقة حيوية لكلا الطرفين. كما أضيف، في الوقت نفسه، أن الصديق القوي خير من الصديق الضعيف، إنني لأود أن تكون المملكة صديقاً قوياً للولايات المتحدة، لا صديقاً يُستخف به.

          حددت في ضوء هذا المبدأ أطر تعاملي مع الشركات والحكومة الأمريكية. ولعل من المفيد أن أتطرق في هذا المقام إلى الميزات النسبية للتعاقد على شراء الأسلحة سواء من الشركات الأمريكية مباشرة أو من طريق الحكومة الأمريكية، من خلال ما يسمى بـ "مبيعات الأسلحة إلـى الدول الأجنبية" fms. فهذا الموضوع ذو أهمية قصوى للمسؤولين عن شراء الأسلحة في القوات المسلحة السعودية. ففي أثناء عملي في الدفاع الجوي، كنت أميل إلى تفضيل العقود المباشرة لأنها تتيح لنا قدراً أكبر من السيطرة عليها. وهذه حقيقة لمستها حتى في تعاملنا مع شركات عملاقة مثل شركة ريثيون وليتون. فإذا حدث خلل في تنفيذ بنود العقد، يمكنك أن تطلب من الشركة استبدال ممثلها الإقليمي، أو تؤخر صرف الدفعات المالية المستحقة حتى تتحقق مطالبك، بل يمكنك أيضاً استدعاء رئيس الشركة لمراجعة خطة تنفيذ المشروع ومدى الالتزام بدقة تنفيذها. ولا تتوافر مثل هذه الميزات في العقود مع الحكـومة الأمريكية fms. ومع ذلك، تبين لي من تجربتي، أن المفاضلة بين ميزات التعاقد المباشر مع الشركات والتعاقد مع الحكومة الأمريكية يتوقف، إلى حدٍّ بعيد، على نوع المشتريات نفسها، ومدى حداثتها وتقنيتها في ترسانة المخزون الأمريكي من الأسلحة.

          كنت أفضل التعاقد مباشرة مع الحكـومة الأمريكية، عند الحـصول على معدات ذات تقنية متقدمة. فالجانب الإيجابي في هذا التعاقد هو ما توفره الحكومة لنا من الحصول على أحدث البيانات الفنية، فضلاً عن مشورتها لتحديد المتطلبات الفنية، وإشرافها على إدارة البرنامج. أمّا الجوانب السلبية فتكمن في فقداننا السيطرة، إلـى حدّ ما، على الأمور المالية والإدارية، لأن الحكومة الأمريكية تتولّى بنفسها أمر إدارة البرنامج، وقبول نظُم الأسلحة والمعدات نيابة عنّا. أمّا عند التعاقد المباشر مع الشركات الأمريكية، فنحن الذين نحدد نوعية المنتجات الفنية المطلوبة، كما نتولى بأنفسنا المسؤوليات الإدارية والمالية، وقبول الأسلحة والمعدات قبل شحنها إلى المملكة. ولكن في مثل هذه الحالات ربما يتعذر علينا الحصول على المعلومات الفنية، وعلى دعم الحكومة الأمريكية. لذلك، كان من الضروري دراسة كل حالة من حالات التعاقد على حدة، وفي ضوء الميزات التي تتوافر لها. مع العلم أن التوصل إلى الاختيار المناسب من الأسلوبَيْن لم يكن أمراً سهلاً على الدوام. وأود أن أضيف أنني لا أعترض، من ناحية المبدأ، على التعاقد مع الحكومة الأمريكية من خلال نظام fms لشراء أحد نُظم التسليح المتقدِّمة، فأنا أدرك ميزاتها دون أدنى شك.

          تخضع عمليات شراء الأسلحة من الولايات المتحدة أحياناً لمقتضيات تمليها سياستها الداخلية. فأثناء الحصول على الموافقة على مشترياتنا من الأسلحة الأمريكية، شعرت بالاستياء الشديد من التجريح الذي يصدر عن الكونجرس الأمريكي في تحدٍّ واضح للمشاعر. ولم أكن لأستسيغ دفع مبالغ طائلة ثمناً لهذه الأسلحة الأمريكية ثم نواجَه بالتجريح، بل علينا أن نقدم الشكر للولايات المتحدة على هذا الكرم. فمن البديهي، احتراماً لأنفسنا، ألاّ نتعرض لمثل هذه المواقف. والأدهى من ذلك كله، اتهامات الصحف الأمريكية والكونجرس لنا، وهي اتهامات لا أزال أقرأها وأسمعها حتى يومنا هذا، أن الولايات المتحدة تمنحنا الأسلحة والمعدات العسكرية. على حين أن المملكة، خلافاً لإسرائيل، تدفع أموالاً طائلة ثمناً للمعدات الأمريكية وللتدريب أيضاً. وليس سراً أن الموقف الأمريكي المتردد في تلبية طلباتنا الدفاعية، هو الذي دفعنا في عام 1985 إلى توقيع عقد ضخم مع بريطانيا هو "عقد اليمامة" للحصول على طائرات تورنيدو tornado من النوعين الدفاعي والهجومي والكثير من طائرات التدريب.

          كانت أسلحة الدفاع الجوي هي الوحيدة، باستثناء صواريخ ستينجر، التي وافق عليها الكونجرس الأمريكي دون أن تتعرض المملكة للتجريح. كنت أوجِّه إلى الشركات والحكومة الأمريكية أسئلة ثلاثة: "هل تخدم هذه الصفقة مصالحكم الوطنية؟ وهل تحقق الأرباح لشركاتكم؟ وهل تساعد على دعم اقتصادكم الوطني؟ فإن كان الجواب بنعم عن هذه الأسئلة فعليكم، عندئذٍ، إقناع الكونجرس بذلك". وكنت أرى أن مهمة إقناع الكونجرس تقع على عاتق الشركات والحكومة الأمريكية، وليس على عاتقنا نحن. فما كان يروق لي أبداً إضاعة الوقت والجهد في مفاوضات لا تسفر إلاّ عن رفض الكونجرس لها. واعتدْت أيضاً على القول لمحاوريّ من الأمريكيين: "لن نتحدث عن شروط العقد وبنوده، إلاّ بعد أن تحصلوا أنتم على موافقة الكونجرس، فهذا واجبكم".

سابق بداية الصفحة تالي