مقترحات البحث الأشكال والخرائط الصور المحتويات

مقاتل من الصحراء

بناء القوة الرابعة (تابع)

          استحوذت صواريخ هوك من شركة ريثيون ( الأساسي أو المطوَّر أو الثلاثي ) على اهتمامي طوال سنوات عدة منذ بداية خدمتي في الدفاع الجوي. وحصلنا على هذه الصواريخ للمرة الأولى، كما أوضحت من قبل، في الستينات أثناء الحرب الأهلية في اليمن. وهي صواريخ متوسطة المدى، يبلغ مداها 40 كيلومتراً، ساعدت على الدفاع عن مدننا الحدودية.

         دفعتنا حرب أخرى نشبت بعد 20 عاماً، هي الحرب العراقية - الإيرانية عام 1980، إلى اتخاذ خطوة إلى الأمام لتطوير الدفاع الجوي. فبسبب الخطر من احتمال امتداد القتال إلى من المملكة، قررنا ضرورة امتلاك أسلحة دفاع جوي قصيرة المدى. فحصلنا على صواريخ ستينجر stinger الأمريكية الصنع، وهي صواريخ قصيرة المدى لا يكاد يتجاوز مداها الأربعة كيلومترات، وقد أثبتت فعاليتها ضد القوات السوفيتية في أفغانستان وُيعَدّ صاروخ ستينجر سلاحاً من نوع "أطلِقْ وانسَ" fire and forget، يحتاج إطلاقه إلى رجلين فقط، أحدهما يحمل الصاروخ ويطلقه، بينما يظل الآَخر على اتصال بمركز العمليات لتحديد الأهداف وتمييز العدو من الصديق.

         إضافة إلى صواريخ ستينجر، قررنا في منتصف السبعينات الحصول على سلاح خفيف الوزن سريع الحركة قصير المدى يعمل ضد الأهداف التي تحلق على ارتفاعات منخفضة، وذلك لإسناد وحداتنا المدرعة والآلية. ووقع اختيارنا على صواريخ كروتال crotale الفرنسية الصنع. وضمن المنظومة الكاملة للصواريخ الموجهة أرض-جو، تُعد صواريخ هوك المتوسطة المدى وصواريخ باتريوت البعيدة المدى، التي حصلنا عليها أثناء أزمة الخليج، من أهم نظُم الدفاع الجوي قاطبة. لكن ما أن اندلعت الحرب بين العراق وإيران حتى أدركنا مدى أهمية صواريخ كروتال في الدفاع عن منشآتنا النفطية، وغيرها من المنشآت الحيوية ضد خطر امتداد الحرب التي كانت تدور رحاها عند رأس الخليج.

         ويمكن تركيب صاروخ كروتال، وهو من صنع شركـة طومسون thomson csf ويبلغ مداه 9 - 10 كيلومترات، على هيكل عربة ذات عجلات (مدولبة) أو ذات جنزير(مجنزرة) تُكسِبه خفة الحركة عبر الأراضي المختلفة، كما يمكن نقله جواً بطائرات c-130 أوc-5. وبناء على طلبنا، قامت الحكومة الفرنسية، في بادئ الأمر، بتركيب بعض وحدات الإطلاق في المنطقة الشرقية كإجراء طارئ. وكان المهندسون من الفرنسيين، أما أطقم التشكيل فمن السعوديين. وعندما حاز أداء ذلك السلاح وقدرته على العمل في جميع الأحوال الجوية إعجاب القيادة العليا السعودية، قررت ضرورة حصولنا على نظام كروتال خاصُ بنا. وتم بالفعل تكليفي بإتمام هذه الصفقة.

         سافرتُ إلى باريس للاجتماع إلى آلان جوميز alain gomez، المدير التنفيذي لشركة طومسون، والتعرف به عن كثب. وهو رجل عُرف بصِلاته الواسعة وحنكته الإدارية، فقد تخرج في معهد الإدارة الوطني المرموق في فرنسا ، كما كان صديقاً شخصياً للرئيس الفرنسي فرانسوا ميتران francois mitterrand، ويُعَدّ جوميز صديقاً نادراً من الرجال: إذ إنه رجل أعمال اشتراكي. وعندما اُمِّمَت شركة طومسون، وهي المؤسسة الفرنسية الرائدة في ميدان الصناعات الحربية، عينت الحكومة الاشتراكية في فرنسا جوميز رئيساً لها. وجدتُه مفاوضاً عنيداً ولكنه لطيف، شأنه في ذلك شأن كل الفرنسيين بصفة عامة. فالفرنسيون يحترمون التزاماتهم وينفذونها بدقة بعد التوقيع على العقد.

         وقع اختياري على الرائد محمد القرافي، من سلاح المدرعات، لمساعدتي في تلك المفاوضات. فهو ضابط يتمتع بقدرات فائقة ويتكلم الفرنسية وذو خبرة في التعامل مع الفرنسيين منذ اشتراكه في عقد صفقة الدبابات الخفيفة amx التي حصلت عليها المملكة قبل عشرة أعوام. فطلبت نقله إلى الدفاع الجوي، وأسندت إليه مشروع صواريخ كروتال. فأحاط معرفة بالمشروع من جميع جوانبه في وقت وجيز، وأصبح ساعدي الأيمن.

          لم تكن المفاوضات أمراً يسيراً. فبادئ ذي بدء، لم يَرُقْ للأمريكيين ولا للبريطانيين أن نحصل على أسلحة فرنسية، وحاولوا إقناعنا بشراء أسلحتهم القصيرة المدى. إلاّ أن الصاروخ الأمريكي المعروف باسم شابارال chaparral المصمَّم للتصدي للأهداف الجوية ذات السرعات العالية التي تحلِّق على ارتفاعات منخفضة، كان في ذلك الوقت في طور الاستغناء عنه. في حين أن الصاروخ البريطاني رابير rapier لم يكن يرقى إلى مستوى صاروخ كـروتال الفرنسي. ولاحظنا، خلال حرب فوكلاند عام 1982، أن البريطانيين أنفسهم لجأوا إلى استعمال صاروخ كروتال بدلاً من رابير، فترك هذا الأمر دعاية سيئة لسلاحهم آنذاك. تقدم الأمريكيون بعرضهم إلى الأمير سلطان مباشرة، محاولين قطع الطريق عليَّ. ولكن الحقيقة الثابتة أن صواريخ كروتال كانت أفضّل سلاح قصير المدى في الدفاع الجوي، الأمر الذي جعلني أفضله على غيره.

          كنت أفضّل دائماً العقود الشاملة ذات الاكتفاء الذاتي، وهي العقود التي تغطي كل شيء في بنودها من المعدات وقطع الغيار والتدريب ونقل التقنية، وما إلى ذلك. قد تستغرق المفاوضات في شأن هذا النوع من العقود وقتاً أطول، لكنها في نهاية المطاف توفر كثيراً من الوقت والجهد والمال. مضت سنوات عدة قبل أن يقبل الفرنسيون، الذين لهم أسلوبهم الخاص في صياغة العقود، التوقيع على عقد موحَّد كانت معظم بنوده وشروطه مستخلَصة من عقودنا مع شركة ريثيون. وواجهتُ معهم المشكلة نفسها التي واجهتُها من قبل في تعاملي مع أورليكون، الشركة السويسرية لصنع المدافع، حين أعدتُ التفاوض معها وأعدتُ أيضاً صياغة عقدها وفق شروط موحَّدة تُسهل علينا أمر الإدارة والرقابة.

          تم في نهاية الأمر بعد جهد جهيد توقيع الصفقة مع شركة طومسون، واستبدلنا في الوقت المناسب بصواريخ كـروتال 2000، وهي الجيل الأول من تلك الصواريخ التي بدأنا بها، صواريخ كروتال 4000 وهي صواريخ أشد فعالية من سابقتها وذات مدى قصير يتراوح بين 9-10 كيلومترات، كما تم الاتفاق على زيادة عددها.

          بذلت قصارى جهدي خلال تلك المفاوضات الطويلة لأحتفظ بزمام المبادرة. وكـما أسلفت، فإني أعتقد أن من أسباب النجاح في المفاوضات أن تؤدي العمل على أعلى مستوى من الأداء وبأسلوب متميز لافت للنظر. فما كنت لأرضى أن يبهر الفرنسيون أعضاء فـريقنا المفاوض أو يطغى مظهرهم على مظهرنا. فخلال زياراتي لباريس، كان من دواعي سروري أني كنت دوماً أحظي باستقبال حافل رفيع المستوى. وعلى الرغم من إبرامنا العقد مع الحكومة الفرنسية، إلاّ أنني كنت قادراً دوماً على التعامل مباشرة مع الشركات الفرنسية المعنية.

          كُلفتُ بعد ذلك بتولّي رئاسة لجنة للتفاوض في شأن عقد تبلغ قيمته أربعة مليارات من الدولارات مع الفرنسيين لشراء أسلحة أكثر تطوراً للدفاع الجوي. وتُعد هذه الصفقة أكبر صفقة سلاح تعقدها فرنسا في تاريخها. وكانت المملكة قد وافقت، قبل ذلك بسنوات عدة، على المساهمة في تطوير صاروخ شاهين shahine وهو نسخة معدلة من صاروخ كروتال. ويعتبر شاهين نظاماً من الصواريخ الذاتية الدفع التي يمكن تركيبها على العربات المدرعة amx-30 وتندفع بقوة محرك توربيني خاص بها. وتحمل منصة إطلاق صواريخ شاهين ستة صواريخ، ويبلغ مدى الصاروخ 10-11 كيلومترا، ويمتاز على منافسيه بأنه سلاح يستخدم في جميع الأحوال الجوية ومزود بجهاز للرؤية الليلية مما يجعله فعالاً على مدار الساعة. وبوجه عام، كان أداء الفرنسيين جيداً وعلاقتنا بهم ممتازة والأسلحة التي تم توريدها إلينا من الطراز الأول.

          لم أكن أسعى، في جميع هذه العقود، إلى شراء أسلحة متطورة فحسب، بل كنت أهتم أيضاً بتحسين مقدرة ضباطي ورفع مستواهم العلمي. ففي أوائل عام 1984، عندما تم الاتفاق على صفقة النوع المعدل من صاروخ شاهين المعروف باسم شاهين 2، أبلغت الفرنسيين أن توصيتي إلى الأمير سلطان بالموافقة على الصفقة رهن بموافقتهم على تخصيص 30 مقعداً سنوياً للطلَبة السعوديين في الأكاديمية العسكرية الشهيرة سان سير. لم يسبق للفرنسيين أن واجهوا مثل هذا الطلب من قبل، إذ كان أقصى ما يخصصونه للبلدان الصديقة مقعداً أو مقعدين على أكثر تقدير، فضلاً عن أن مثل هذا الطلب يستدعي الحصول على موافقة الرئيس الفرنسي شخصياً. وافق الفرنسيون أخيراً في عام 1984 على قبول 106 من الطلَبة السعوديين على مدى خمسة أعوام، كما وافقوا عام 1988 على قبول 100 طالب آخر. ووقع بعض التداخل بين هذين البرنامجين، لذا تراوح عدد الطلَبة بين 20 و 25 طالباً في السنة الواحدة. وتخرج بالفعل أكثر من 100 شاب سعودي في سان سير، وأثبتوا جدارتهم حين عملوا مدربين في معهد قوات الدفاع الجوي السعودي، وضباطاً في وحدات صواريخ كروتال أو شاهين، أو ضباط اتصال مع القوات الفرنسية أثناء حرب الخليج. وأتوقع أن يتولى واحد من هؤلاء الضباط الذين تلقوا تدريبهم في فرنسا منصب قائد قوات الدفاع الجوي في المستقبل.

          في سان سير، لم أرتضِ لأبناء بلدي أن يُخدعوا بدراسة برنامج مبسط يُعد للطلاب الأجانب، بل أردت لهم أن يعامَلوا على قدم المساواة مع الطلاب الفرنسيين. وهذا يفرض عليهم أن يكونوا على استعداد تام لهذا التحدي. وتم الاتفاق أن يُمضي طلابنا ثلاث سنوات تحضيرية في فرنسا يدرسون خلالها اللغة الفرنسية في السنة الأولى، والرياضيات المتقدِّمة في السنتين التاليتين، قبل الشروع في دراستهم مع زملائهم الفرنسيين في سان سير لمدة سنتين. ووقع اختيارنا على الطلاب الذين أنهوا دراستهم الثانوية، وحصلوا على نسبة 80% فأعلى. وأُخضعوا لعملية اختيار من قِبَل لجنة خاصة، ولاختبار تحريري وفحص طبي دقيق. وأُجريت مقابلة شخصية لأولئك الذين اجتازوا عمليات الفرز هذه قبل التحاقهم بدورة تدريبية شاقة في معهد قوات الدفاع الجوي. وانصب التركيز في تلك الدورة على: الرياضيات وقراءة الخرائط والاستخبارات ورماية الأسلحة الصغيرة، والتدريبات العسكرية بشكل عام. هذا، بالإضافة إلى تمارين اللياقة البدنية والجري مسافات طويلة والسباحة وما إلى ذلك. وكان في تقديرنا أنه لا يوجد برنامج دراسي في سان سير يتطلب لياقة بدنية أعلى من ذلك. ولم يخفِق في اجتياز الدورة في البرنامجين الأولين سوى طالبين من مجموع الطلاب الذين ذهبوا إلى فرنسا وعددهم 206 طلاب.

          وحتى إذا لم يخدم الضباط السعوديون خريجو سان سير سوى سنوات معدودة في قواتنا المسلحة، إلاّ أنهم يشكِّلون ثروة بشرية قيمة للبلاد، فخبرتهم ستزداد وتُصقل ولسوف تستفيد منهم الأجيال القادمة. لقد شعرت بالفخر والاعتزاز حقاً حين دُعيت مرة إلى حفلة التخرج في سان سير وشاهدت عدداً كبيراً من الضباط السعوديين يشاركون في العرض وهم في هيئة أنيقة ومظهر رائع، ويتكلمون الفرنسية بطلاقة.

          وأذكر أنني واجهت قدراً كبيراً من المعارضة لهذا البرنامج من بعض الزملاء في القوات المسلحة. وسُئِلت غير مرة: "لِـمَ نرسل شبابنا إلى الخارج وعندنا كلياتنا العسكرية؟". لكنني أؤمن إيماناً راسخاً أن لا شيء يمكن أن يفيد ضباطنا أكثر من إعطائهم فرصة لاكتساب الخبرة الدولية، فتتسـع مداركهم ويتعرفون بالمعايير والمنجزات وأساليب العمل المتبعة في البلدان الأخرى. إذ إن الولايات المتحدة نفسها ترسل ضباطها لحضور دورات تدريبية في الكليات الأجنبية. وأعلم أن هناك مقعداً أو مقعدين مُخصَّصان للضباط الفرنسيين في كلية القادة والأركـان العامة المصرية. ولو كان الأمر في يدي لأرسلت طلابنا إلى ويست بوينت في الولايات المتحدة، وساندهيرست في بريطانيا، وإلى سان سير أيضاً، فهذه هي الطريقة المُثلى للتعرف عن كثب بالجيوش والأمم الأخرى.

سابق بداية الصفحة تالي