مقترحات البحث الأشكال والخرائط الصور المحتويات

مقاتل من الصحراء

القيادة الموازيَة (تابع)

         ولو تجاوزنا حالات "سوء الفهم" الطارئة تلك بيني وبين شوارتزكوف، فلا بد لي من إنصافه عندما يتعين علىَّ الإنصاف، وأن أحفظ للرجل مآثره التي شهدتها له في مناسبات كثيرة.

         كانت المشروبات الكحولية، في حرب الخليج، من أولى القضايا وأشدها حساسية والتي أبدى فيها شوارتزكوف تفهماً طيباً. فالمملكة، كما يعرف أكثر الناس، بلد خالٍ من المسكرات، أي يحظر فيها بيع المشروبات الكحولية وتعاطيها. وكما بينت لشوارتزكوف أن الخمر من الأمور التي لا تقبل المناقشة أو الجدل. فلو شُوهد شخص، أَذكراً كان أم أنثى، في حالة سُكْر خارج حدود المعسكر ولو متراً واحداً، أو ارتكب جريمة تحت تأثير المشروبات الكحولية، فإنه يُقَدَّم إلى المحاكمة ويُعاقَب وِفق الشريعة الإسلامية.

         وسرّني أن شوارتزكوف لم يلتزم بذلكَ التزاماً كاملاً وحسب، بل مضى إلى ما هو أفْضل، حين منع تعاطي المسكرات داخل المعسكرات أيضاً. وعندما طلبت الحكومة البريطانية من السير بيتر دي لابليير أن يقدم علبتين من البيرة إلى كل جندي في القوات البريطانية بمناسبة عيد الميلاد، كان في وسعه رفض ذلك الطلب.

         كانت حرب الخليج نتيجة ذلك "حرباً صحية"، إن جاز لنا أن نصف الحروب بهذا الوصف. وكم كان يحلو لي أن أمازح شوارتزكوف بقولي إن المملكة هي أكبر منتجع صحي في العالم، وعلينا أن نتقاضى أجراً من قواته لاغتنامها هذه الفرصة. ويشهد جميع القادة العسكريين بأن حجم المشاكل التي واجهوها، سواء أَكانت جرائم خطيرة أم جنحاً تافهة، أقل بكثير من المشاكل التي واجهوها في أي عملية عسكرية سابقة من الحجم نفسه. وليس هناك وجه للمقارنة بين الصحة والانضباط لدى الجنود الأمريكيين والبريطانيين والفرنسيين في حرب الخليج وبين الانحلال الخُلُقي الذي شهدته حرب فيتنام قبل جيل مضى، حيث انتشرت المُسكرات والمخدرات والدعارة وما إلى ذلك، فَهَوَت بالأمريكيين إلى الحضيض، وولّدَت ضدهم مشاعر البُغْـض لدى السكان المحليين.

         القضية الثانية التي أبدى شوارتزكوف في شأنها ترحيباً وتسامحاً بصفة خاصة، هي مسألة اعتناق الجنود الأمريكيين الإسلام. فخلال الأزمة التي دامت شهوراً، اعتنق عدد كبير منهم، رجالاً ونساءً، الدين الإسلامي. وكان ذلك بلا شك نتيجة لاتصالهم بالسكان المدنيين. كان على هؤلاء الجنود التوجُّه إلى السلطات الدينية ليشهروا إسلامهم علناً. وظل شوارتزكوف يأتي إلىّ على فترات ويقول: "أصبحوا الآن 150". وبعد ذلك بفترة قصيرة "أمسوا الآن 175". وفي نهاية المطاف ارتفع العدد إلى أكثر من 2000 ممن اعتنقوا الإسلام.

         وكان هناك، بطبيعة الحال، مسلمون في الجيش الأمريكي قبل حرب الخليج بوقت طويل. وقد أثار اهتمامي ما قرأته في آرمي تايمز army times يوم 25 أكتوبر 1993، أن المسلمين يشكِّلون 4% من مجموع القوات المسلحة الأمريكية العاملة، وأن أول "رجل دين" مسلم التحق بدورة "رجال الدين" في فورت مونموث في ولاية نيوجيرسي في شهر يناير 1994.

         ولَمّا أضحت المسائل الدينية شديدة الحساسية أثناء أزمة الخليج، استشَرْتُ اللواء عبد المحسن بن عبدالله آل الشيخ، مدير إدارة الشؤون الدينية في القوات المسلحة السعودية، وهـو رجل شديد الورع، وكان خير عون لي في هذا المجال. فرشح العميد فيصل جعفر بالي للعمل في قيادة القوات المشتركة مستشاراً في الشؤون الدينية. وهو رجل هادئ متفتـح العقل ورعٌ وتقي. وفضلاً عن أنه من ضباط الدفاع الجوي الأكْفاء، فهو حاصل على درجة الماجستير في الشريعة. نظّم العميد فيصل سلسلة من المحاضرات للقوات الصديقة، الهدف منها تفسير معتقدات ديننا الإسلامي وشعائره وتطبيقاته العملية. وسررنا أن اعتنق الدين الإسلامي عدد من رجال القوات المسلحة الأمريكية ونسائها. وعندما سمع بعض الشخصيات الدينية بهذا الأمر كان من رأيهم إذاعة النبأ بهدف استقطاب آخرين. لكني لم أسمح بإذاعة ذلك النبأ تفادياً لرد فعلٍ معاد من المسيحية في الغرب. فقد كان من شأن إذاعته أن يثير حفيظة الهيئات التبشيرية المسيحية، ففضَّلت إرجاء إعلان اعتناقهم الإسلام حتى تضع الحرب أوزارها. وكما شرحت للعميد فيصل، فتلك الهيئات تفوقُنا عدةً واستعداداً في هذا المجال. فإثارة مشاعر عدائية ضدنا في الغرب، في ذلك الوقت، لم تكن لتخدم مصلحة الحرب.

         كان من سياستنا، تنفيذاً لتوجيهات الملك فهد، أن نرسل إلى مكّة المكرمة من يرغب من الجنود المسلمين في أداء شعائر العمرة. فكنّا نرسل للعمرة جنودًا من مصر وسوريا والمغرب و باكستان وبنجلاديش والنيجر والسنغال وغيرهم من البلاد الإسلامية التي هبَّت إلى مساندتنا. لذلك أصدرت تعليماتي إلى ضباط أركاني بتسهيل رحلات هؤلاء المعتمرين. ولكن لم يخطر ببالي أن أُجمل معهم من اعتنقوا الإسلام حديثاً من الجنود الأمريكيين.

         وفي أحد اجتماعاتنا المسائية، قال شوارتزكوف: "أنا منزعج يا خالد، وعندي شكوى لا بد من الإفصاح عنها. سمعت أنك ترسل الجنود المسلمين إلى مكَة، وأريد للمسلمين من جنودي أن يعاملوا بالمثل!". فأجبته قائلاً: "أحييك يا نورم، وأشكرك كثيراً". وقدّرت له هذه المبادرة وسرّتني فكرته إلى حدٍّ بعيد. وقبل أن ينفضَّ الاجتماع أصدرت تعليماتي إلى ضباط الأركـان لإدراج الجنود الأمريكيين المسلمين ضمن جداول الرحلات إلى مكّة. وعَليّ أن أسجل لشوارتزكوف فضله في تذكيري بأمرهم لإرسالهم لأداء شعائر العمرة.

         كم كنت ممتناً لشوارتزكوف لاقتراحه، عندما كنّا نناقش ترتيبات زيارة الرئيس بوش للقوات الأمريكية بمناسبة عيد الشكر في نوفمبر 1990، بإقامة القدّاس الخاص بتلك المناسبة على ظهر سفينة حربية أمريكية كانت ترسو في المياه الدولية.

         وتعبيراً عن تقديرنا لحلفائنا الغربيين، الذين قدموا لمساندتنا في الدفاع عن بلدنا وتحرير دولة شقيقة لنا، ومجاملة لهم في مناسبتهم الدينية التي يحتفلون بها بعيداً عن أهلهم وذويهم، وهم يقفون معنا في خندق واحد معرضين أرواحهم للخطر، قلت لشوارتزكوف إنني أرغب في توجيه رسالة تهنئة إلى القوات الأمريكية بهذه المناسبة تنشر في نشرة الأخبار اليومية. فكاد أن يقفز من شدة فرحه، وشكرني كثيراً، وسألني إن كنت جادّاً في ذلك بالفعل. كتبت رسالة تهنئة قصيرة، ووقعتها باسمي مقروناً بمنصبي "قائد القوات المشتركة ومسرح العمليات" وأرسلتها إلى شوارتزكوف.

         جاء شوارتزكوف إلى مكتبي، تبدو عليه علامات الارتباك، ممسكاً الورقة بيده. وقال لي: "يا خالد، أنت تعرف وأنا أعرف أن الجنود الأمريكيين ليسوا تحت إمرتك. وربما أعطاهم هذا اللقب الانطباع بأنهم تابعون لك".

         ضحكت ثم قلت له: "اكتب ما بدالك".

         قال: "هل يمكن لنا أن ندعوك "قائد القوات الإسلامية؟".

         فأجبته: "يمكنك لو كان ذلك صحيحاً، ولكن ماذا عن الفرنسيين والبولنديين والتشيكيين والآخرين الذين هم تحت قيادتي أيضاً؟ إنهم ليسوا من المسلمين! في كل حالٍ، ليس في استطاعتي أن أغيّر حرفاً واحداً من اسم منصب منحني إياه مليكي".

         قال شوارتزكوف، وقد بدا عليه الحرج: "هل أخبرك الحقيقة...؟".

         فقاطعته قائلاً: "دعني أهوّن عليك، لقد كتبت هذه التهنئة مجاملةً، فإن كانت ستسبب لك حرجاً، فما عليك سوى إعادتها إلى، ولنفترض أنني لم أرسلها إليك".

         وهكذا، لم تنشر رسالتي إلى الجنود الأمريكيين. وهذا مثال بسيط للحساسيات المتبادلة بين قائدين يخوضان معاً حرباً مشتركة.

         خلال الأشهر التي قضيناها نعمل معاً، لـم يكن هناك بد من حدوث بعض النزاعات بيني وبينه بسبب الاختلاف في خلفية كلٍّ منّا ومسؤولياته، والأهم من هذا وذاك بسبب الاختلاف في المهام المنوطة بكل منّا. وسوف أذكر، فيما بعد، الخلاف الذي نشأ بيني وبينه حول التخطيط لعملية "عاصفة الصحراء". ولكن بصفة عامة، كما ذكرت سابقاً، كان الاحترام المتبادل والتشابه في الطباع إلى حدٍّ هو الأساس الذي بُنِيَتْ عليه مشاركتنا الفعالة ضمن الإطار "غير المألوف" للقيادة الموازية.

         كنت أواجه مخاطر جمة، لعل شوارتزكوف لم يدرك مدى خطورتها. كان أجلّها ما يتصل بكرامتنا الوطنية، واستقرارنا في مرحلة ما بعد الحرب، وحاجتنا إلى توضيح سياستنا أمام الرأي العام العربي. فمصلحة المملكة تقضي أن لا يظهر الأمريكيون بمظهر قوات احتلال. ولَمّا كنّا حماة للمقدسات الإسلامية، ولا نزال، فقد وجب علينا أن نتوخَّى الحرص الشديد كي لا يصدر عن حلفائنا الغربيين ما يسيء إلى مشاعر المسلمين، سواء داخل البلاد أو خارجها. إذ لا يمكن التغاضي عن أي شيء من شأنه الإساءة إلى المبادئ الإسلامية، أو التقاليد الوطنية، أو المعتقدات السائدة، أو الشعائر الدينية. وكان السهر على هذه الأمور وضمان تنفيذها جزءاً مهماً من قراراتي وأوامري وتعليماتي. وآمل أن يسجل التاريخ أنني بإصراري، بتوجيهات من القيادة العليا، على قواعد محددة لسلوك حلفائنا الأمريكيين الأقوياء، ساهمتُ في المحافظة على شرف وكرامة المملكة وقواتها المسلحة على حدٍّ سواء. فلم يحدث أن عُومل السعوديون مرة واحدة كما عُومل الفيتناميون، خلال حرب فيتنام كمواطنين من الدرجة الثانية على تراب وطنهم. وإني على ثقة أن التاريخ سوف يسجل أن علاقاتنا مع الولايات المتحدة ازدادت عمقاً وقوة بفضل الفهم والاحترام المتبادلين اللذين سادا بين دولتينا، أثناء أزمة الخليج.

سابق بداية الصفحة تالي