مقترحات البحث الأشكال والخرائط الصور المحتويات

مقاتل من الصحراء

الفصل الرابع عشر

إدارة التحالـــف - القسم الأول

         كيف كانت طبيعة التحالف الدولي ضد صدّام حسين؟ أستطيع، من خبرتي الخاصة، أن أقول إن كثيراً من الغموض لا زال يكتنف طبيعة هذا التحالف. فالشعور السائد لدى معظم الناس أنه تحالف تمّ برعاية الولايات المتحدة، وارتبط أعضاؤه بقرارات اتخذتها الأمم المتحدة، أو بمعاهدة واحدة متعددة الأطراف. لقد أظهر الأمريكيون، حقاً، نشاطاً بارزاً في السعي إلى تجميع قوى التحالف، كما أدّت قرارات الأمم المتحدة، لا غرو، دوراً حيوياً في تحديد أهدافه وإعطائها صبغة شرعية. لكن الرابطة الأساسية التي جمعت قوات التحالف تُعزى، من دون شك، إلى المعاهدات الثنائية التي أبرمتها كل دولة من الدول السبع والثلاثين مع المملكة. فلولا المملكة، ما كان للتحالف أن يرى النور، إذ هي الدولة المضيفة له، ومحور ارتكازه، وحلقة الوَصل بين أطرافه. وبفضل الصلاحيات التي منحني إياها الأمير سلطان، واستمدها بدوره من الملك فهد، أصبحت المسؤول عن إبقاء التحالف متماسكاً.

         وأبادر فأضيف، أن الملك فهداً شرفني بأن أسند إليَّ مهمة "إدارة شؤون التحالف"،ولم أكن سوى فرد من العائلة المالكة، ولست أعلاها مكانة على الإطلاق. وبفضل من الله، ثم بإشراف الملك وتوجيهاته السديدة، وقفت العائلة المالكة أثناء الأزمة وقفة رجل واحد، وأظهرت مواهب وكفاءات متنوعة. فكبار أعضاء العائلة المالكة، مثل ولى العهد الأمير عبدالله، ووزيري الدفاع والداخلية ونوابهما، وأمير الرياض، ووزير الخارجية، وأعضاء العائلة الآخرين من أمراء المناطق، ورؤساء الهيئات الملكية، والسفراء وأعضاء لجان الأمن الوطني وضباط القوات المسلحة وغيرهم، كل أولئك أدّوا أدواراً مهمة إبَّـان الأزمة. وأثبتت العائلة المالكة بذلك مرونتها وفاعليتها. وبمساعدة أعضاء الحكومة الآخرين من غير العائلة المالكة، ومساعدة التجار ورجال الأعمال، وبمساعدة الشعب السعودي الأبيّ بجميع فئاته، الذي صبر وصمد، وترابط وتماسك فكان كالصخر خلف قيادته، وخلف قواته المسلحة، برزت المملكة أكثر صلابة من جيرانها، سواء على الصعيد الدولي أو الإقليمي أو الداخلي. وما أقل البلدان التي تستطيع المباهاة أو الافتخار بحكومة مثل حكومة المملكة! وما سبب ذلك كله سوى أنّ شعار العائلة المالكة هو التفاني والعمل خدمة للدين ثم الوطن، في صمت دون ضجة أو إعلان.

         كان لا بد من الاهتمام بالأمور السياسية التي تمس الدول العربية الأعضاء في التحالف. فلكي أضمن بقاء الجيوش العربية ضمن التحالف بقاءً دائماً قوياً، قضيت ساعات طويلة مع قادة تلك القوات للتأكد من راحة جنودهم، والتأكد أن وحداتهم في مواقع مناسبة، وأن التوجهات السياسية لدولهم، وجنسية القوات المنتشرة إلى يمين مواقعهم أو يسارها تم أخذها في الاعتبار، وأن احتياجاتهم من الإمداد والتموين تم توفيرها، وأن القضايا التي تثير الاحتكاك مع القيادات الأخرى تم تجنُّبها. هذه الأمور كلها كانت تحتاج إلى قدر كبير من الحكمة والانتباه واليقظة. فإصدار الأوامر إلى المصريين أو السوريين أو أية وحدة أخرى من الوحدات التي كانت تعمل تحت قيادتي، يتطلب حساسية خـاصة ولباقة سياسية. زِدْ على ذلك، صعوبة إفهام شوارتزكوف كيف يفكر أشقاؤنا العرب.

         ويمكن الاستشهاد بمثال واحد لتوضيح الحساسيات السياسية التي كان عليَّ مواجهتها. كان لوجـود سوريا أهمية كبرى، لِمَا تضفيه على التحالـف من سمات التضامن العربي والقومية العربية. ولكن سوريا أرادت أن تقصر مساهمتها على الدفاع عن المملكة وتحرير الكويت من دون دخول الأراضي العراقية. وكان ذلك الموقف هو موقفنا نحن أيضا في المملكة، وكذلك موقف مصر وكل الدول العربية الأعضاء في التحالف. كـما كـانت سوريا حذرة، إلى حدٍّ ما، في شأن التعاون العسكري مع الولايات المتحدة. لذا، كان من الضروري مراعاة رغباتها. كنت أفهم هذه المواقف أفضل من شوارتزكوف، الذي أظهر، طوال الأزمة، عدم اهتمام ولا مبالاة تجاه السوريين. وكان موقفه منهم يصل إلى حدّ العداوة أحياناً. وهذا بلا ريب نتيجة الخلافات السياسية الطويلة الأمد بين الولايات المتحدة وسوريا. ولكن عدم تعاطف شوارتزكوف مع السوريين، أو عدم فهْمه لهم، لم يؤثِّر في موقفي منهم أبداً، إذ كانت مهمتي إبقاءهم في التحالف، والحفاظ على تماسكه.

         وكما أسلفت، كانت أشق مرحلة عشتها في حياتي هي فترة الأسابيع الخمسة أو الستة الأولى التي أعقبت الغزو. كان عليَّ، في تلك الفترة، أن أقوم بتجهيز مواقع دفاعية عاجلة، وأن أعمل على رفع معنويات القوات. كما كان عليَّ أن أقابل الوزراء والمبعوثين من أنحاء العالم، وأن أجري المقابلات الصحافية. والأصعب من ذلك كله، كان علىَّ أن أظل مبتسماً وراضياً على الرغم من معرفتي بخطورة الموقف.

         أيقنت مع ازدياد عدد المبعوثين الذين قدِموا لمقابلتي، أننا سنستقبل قوات من دول أكثر مما كنت أتصوّر. كنت أتساءل أَستصبح هذه القوات تحت قيادتي أم تحت قيادة شوارتزكوف؟ وما الميزات والمساوئ لهذا الوضع أو ذاك؟ أحسست، منذ البداية، بأن البريطانيين عقدوا اتفاقاً مع الأمريكيين للقتال معاً تحت القيادة الأمريكية. كانوا، قبل كل شيء، أكثر الحلفاء تقارباً، ولهم خبرة طويلة في العمل العسكري معاً في حلف شمال الأطلسي. وكنت، بالطبع، سأرحِّب بالبريطانيين تحت قيادتي، إلاّ أنني وجدت أن ذلك ربما لا يكون في مصلحتي، إذ كان لدىّ من القوات ما يكفي. تركزت آمالي على الفرنسيين: أردت أن يسجل التاريخ أنهم عملوا تحت قيادة سعودية، إذ لـم يسبق من قبل لقائد عربي أو مسلم أن تولى قيادة قوة أوروبية. ففرنسا إحدى دول العالم العظمى، وحضارتها محط إعجاب من جميع الشعوب، وهي عضو دائم في مجلس الأمن، وتتمتع قواتها المسلحة بتاريخ عظيم وخبرة قتالية عالية. وشعرت بأن من دواعي الاعتزاز أن ترحِّب المملكة بالقوات الفرنسية على أرضها، وأن أتولى مهمة قيادة بعض وحداتها.

         لحسن الحظ، كـانت سعادتي لمعارضة الفرنسيين العمل تحت القيادة الأمريكية تماثل رغبتي في أن يعملوا تحت قيادتي. ولم تنتقل الفِرقة السادسة الفرنسية من قيادة القوات المشتركة، إلى السيطرة العملياتية للقيادة المركزية الأمريكية إلاّ في شهر يناير عام 1991 ، أي قبيل الشروع في عملية عاصفة الصحراء.

         علمت، من خلال المناقشات المبدئية، أن القوات المصرية والسورية وعدداً من قوات الدول الإسلامية لن تقبل العمل تحت القيادة الأمريكية. وأدركت أن هذه القوات ستصبح ضمن قيادتي، مع أنه لم يسبق لقوات مصرية أو سورية أن عملت تحت إمرة قائد سعودي. فالبَلدان اكتسبا خبرة قتالية نتيجة حروبهما على إسرائيل أمّا أنا، فلم يسبق لي أن خضت حرباً من قبل، فضلاً عن أن معرفتي بقواتهما المسلحة كانت محدودة.

         وهكذا عكفت، في الأسابيع التي تلت تعييني في أغسطس 1990 وقبل وصول معظم القوات الصديقة في سبتمبر وأكتوبر، على العمل بجدٍّ لتهيئة نفسي، فكرياً ونفسياً، لمواجهة الأعباء التي كانت تنتظرني. فتعمقت في دراسة العقائد العسكرية السوفيتية لعلمي أن مصر وسوريا، وكذلك العراق تطبق هذه العقائد. كما حاولت استعادة المعلومات التي كنت قد تلقيتها في فورت ليفنوورث عن التكتيكات السوفيتية. عدت إلى الدراسة مرة أخرى كي أستوعب أساليب القتال العراقية، وأحدد أفضل السُّبل للاستفادة من القوات المصرية والسورية، كما أتفهم إجراءاتهما لتخطيط العمليات وإدارتها.

         وإذا فكـرنا بهدوء وواقـعية، نجد أن التجارب السابقة للقيادات العربية المشتركة لم تكن تجارب ناجحة. ففي نهاية عام 1966، وقّعت سوريا ومصر، على الرغم من الشكوك التي كانت تشوب العلاقة بينهما، اتفاقية دفاع مشترك، خوفاً من قيام إسرائيل بشن هجوم عليهما. ومع ازدياد حدة التوتر في المنطقة، وقَّع الأردن اتفاقية دفاع مشترك مع مصر في 30 مايو عام 1967 أسندت بموجبها قيادة الجبهة الشرقية العربية إلى قائد مصري، هو اللواء أركان حرب عبدالمنعم رياض وفي اليوم التالي، الأول من يونيه أقام اللواء عبدالمنعم رياض مركز قيادته المتقدِّم في الأردن ولكنه لم يستطع إكمال حشد قواته قبل الخامس من يونيه حين وجهت إسرائيل ضربتها إلى الدول العربية الثلاث كلٌّ على حدة. وأتاح غياب التنسيق بين الدول العربية لإسرائيل فرصة إلحاق الهزيمة بهذه الدول. وفي حرب عام 1973 ، لم يكن حظ القيادة المصرية - السورية المشتركة أفضل كثيراً منه في المرة السابقة، فقد سلكت كل دولة طريقاً خاصة بها. وقلت في نفسي إذا كانت دولتان أو ثلاث أخفقت في العمل معاً في أوقات الأزمات القومية الخطيرة من خلال قيادة مشتركة، فكيف لي أن أقنع هذه الدول كلها بالثقة بقيادتي؟ وأدركت أن إخفاقي في القيادة، تخطيطاً وإدارةً وتنفيذاً، سيجعلني ألعوبة في أيدي القادة المصريين والسوريين. فعقدت العزم على أن تحقق قيادتي نصيباً أكبر من النجاح. وأعتقد أن هذا النجاح تحقق فعلاً، لكنه، لسوء الحظ، كان نجاحاً ضد دولة عربية.

         علمت بعد نشوب الأزمة بأسابيع عدة، أن ثمة وحدات قادمة لتنضم إلينا من بولندا وتشيكوسلوفاكيا والمجر. وهي من الدول الشيوعية التي لم تكن تربطنا بها أية علاقات. عملت تلك الوحدات تحت قيادة القوات المشتركة، مضيفةً مسؤوليات أخرى كنت سعيداً للقيام بها، لقناعتي بضرورة أن يظهر للعالم أجمع انضمام وحدات من دول كثيرة تحت قيادة سعودية مساندة لنا، مما يؤكد وحدة المجتمع الدولي ووقوفه صفاً واحداً تأييداً لقضية عادلة.

         كانت مهمتي أن أعمل على تكامل قوات من دول مختلفة، تتحدث لغات مختلفة، وتستخدم معدات وأسلحة مختلفة في البر والبحر والجو، كي تشكل قوة قتالية فعالة. وإن كان حلف شـمال الأطلسي استطاع أن يحل مشكلة "إجراءات العمل بين القوات المختلفة " من طريق توحيد مواصفات المعدات والتدريب المشترك المتواصل، فعلى التحالف أن يقتدي به في هذا المضمار. كان عليَّ أن أحدد الواجـبات، أو أخصص المهام المناسبة للوحدات المختلفة، وأتخذ الترتيبات اللازمة لتنفيذ التدريبات المشتركة. كان عليَّ أن أهتم بكل شيء، فلا يقتصر اهتمامي على الإمداد والتموين، وأوضاع القوات، والأسلحة والتكتيكات فحسب، بل يمتد ليشمل الخلافات السياسية والاختلافات الدينية، والعوائق اللغوية، والحزازات الشخصية، وكذلك العادات والتقاليد الموقَّرة عند بعض القوات، وغريبة أو غير مفهومة عند بعضها الآخر.

         كان عليَّ كذلك أن أزوِّد الملك، قائدي الأعلى، وولي عهده الأمير عبدالله، والنائب الثاني الأمير سلطان بالمعلومات حول التطورات العسكرية، بشكل منتظم. لذلك أُعدّت غرفة إيجاز خاصة يُعرض عليهم فيها آخر التطورات وأحدث القرارات وأدق التقارير. وكنت كلّما تلقيت معلومة جديدة، نقلتها إليهم على الفور. كما كانوا يأمرون، في حالات كثيرة، بتقديم تصور وتحليل للموقف العسكري أعمق وأشمل من التقارير الروتينية. لذا، كنت أقدِّم إلى الأمير سلطان ملخَّصاً كاملاً للتطورات العسكرية في مسرح العمليات، على الأقل مرتين أسبوعياً. وفي مناسبات عدة، عرضت على الملك فهد، القائد الأعلى، تصوراً مستقبلياً عن توقعاتنا خلال الأسابيع والأشهر التالية. وشمل العرض تحليلاً شاملاً وعرضاً للخطط والقرارات الرئيسية. وحضر شوارتزكوف اجتماعين من هذه الاجتماعات.

         كانت اجتماعاتي إلى الأمير سلطان أقوى دافع لي إلى العمل والصمود، كما كانت بلسماً شافياً يرفع روحي المعنوية ويجددها. كانت زاداً أستمد منه الصبر والقوة عندما ألمح في بريق عينيه نظرات الاعتزاز والفخر الأبوي. فما أن أرى ذاك البريق الخاص يشع من عينيه، وأسمع تلك الكلمات الصادقة النابعة من قلبه، يترجمها لسانه، حتى تتلاشى متاعبي وتزول همومي وتتضاءل مشاكلي، فتتجدد حماستي وتقوى عزيمتي. وكـم كنت أقصده طلباً للنصيحة أو التوجيه في شأن المشاكل العاجلة! وكلما استشعرت قلقه حول أمرٍ من الأمور ازددت تصميماً على حلّه ، مهْما كان حجمه وخطورته.

سابق بداية الصفحة تالي