مقترحات البحث الأشكال والخرائط الصور المحتويات

مقاتل من الصحراء

إدارة التحالـــف - القسم الأول (تابع)

          كانت مهمتي الأولى، حين عُينت قائداً للقوات المشتركة ومسرح العمليات، في العاشر من أغسطس، هي تشكيل "فريق عمل" متكامل. فجعلت منهجي في إنجاز هذه المهمة يقوم على المقابلات الشخصية، واختيار الكفاءات في كل مجال، سواء أَكانت في القوات البرية، أم الجوية، أم البحرية، أم الدفاع الجوي، أم في الإمداد والتموين، أم الاستخبارات، أم الاتصالات، أم التخطيط، أم الحرب الكيماوية، وما إلى ذلك. ثم فوّضت إلى هؤلاء الرجال سلطة انتقاء معاونيهم. وفي غضون أسبوع واحد، أصبح تحت إمرتي مجموعة ممتازة من ضباط الأركان تعمل ضمن هيكل القيادة الذي وضعت تنظيمه.

          كان أول ضابط اخترته هو العقيد الركن عبدالله محمد السويلم، وهو ضابط يتمتع بالذكاء والنشاط والولاء، وكان مديراً لمكتبي في قيادة قوات الدفاع الجوي، كما كان مساعدي المؤتمن في مشروع الصواريخ الإستراتيجية الصينية، فأصبح مديراً لمكتبي في قيادة القوات المشتركة. وفضلاً عن أنه خريج كلية القيادة والأركان السعودية، فهو يحمل شهادة البكالوريوس في العلوم الإدارية من جامعة أوريجون الأمريكية . ثم انضم إليه النقيب زكي مرزوق السلطان، قائد مجموعة الأمن والحماية، وهو ضابط على مستوى عالٍ من التدريب، أنهى عدداً من الدورات في الولايات المتحدة، وكفاءته لا تقلّ عن لباقته وأدبه، وحسن تصرّفه. كما وقع اختياري على العقيد الركن أحمد لافي العبلاني ليكون الركن الشخصي، إذ كان يتمتع بشخصية قوية وموهبة قيادية. ولمست فيه هاتين السمتيْن عن قرب عندما كـان يعمل معي في الدفاع الجوي. وظل يرافقني أينما ذهبت خلال الأزمة، عاكفاً على تدوين وقائع اجتماعاتي ومقابلاتي وأنشطتي في سلسلة من الدفاتر دوّنها بخط يده.

          وكما أسلفت، وقع اختياري على اللواء الركن عبد العزيز آل الشيخ ليكون نائباً للقائد. وعلى الرغم من صعوبة تقبل صراحته التامة أيام السلم، إلاّ أنه كان ذا فائدة وقت الحرب. كما اخترت اللواء الركن طلال قبلان لمنصب رئيس أركان قيادة القوات المشتركة، وهو ضابط متميز من سلاح المدرعات، وكان، عندئذٍ، قائداً لكلية القيادة والأركان، وأدّى مهامه خير أداء.

          أمّا في الميدان، فكان أهم قائدين هما اللواء الركن صالح المُحيّا، قائد المنطقة الشرقية، ومقره في مدينة الملك فهد العسكرية في الظهران، واللواء الركن عبد الرحمن العلكمي، قائد المنطقة الشمالية، ومقره في مدينة الملك خالد العسكرية في حفر الباطن. وتبيَّن لي، في وقت لاحـق من الأزمة، أن احتمال التحرك السريع لمواجهة العراقيين، قد يجعل هذين القائدين بعيدين كثيراً في الخلف، ومنشغلين بشؤون الإمداد والتموين للقوات السعودية والشقيقة والصديقة في كلا المنطقتين، فيتعذر عليهما ممارسة قيادة الوحدات الأمامية بكفاءة. لذا أنشأت مركَزيْ قيادة متقدمَيْن، هما: مركز القيادة المتقدِّم لقيادة القوات المشتركة في المنطقة الشرقية، ومركز مماثل في المنطقة الشمالية. وكلاهما يرتبط مباشرة بقيادتي في الرياض. وكان مركز القيادة المتقدِّم في المنطقة الشرقية، يبعد 400 كيلو متر إلى الشمال من الظهران، تحت قيادة اللواء الركن سلطان عادي المطيري الذي قاد القوات العربية التي دخلت الكويت فيما بعد. بينما كان مركـز القيادة المتقدِّم في المنطقة الشمالية تحت قيادة اللواء سليمان الوهيّب. وقد أوكلت إلى قائديْ هذين المركـزين المتقدِّميْن مسئوولية السيطرة العملياتية على وحدات المناورة، في حين ظل الإسناد الإداري والتمويني من مسؤولية قائديْ المنطقتين. ومن فوائد هذه التغييرات أنها حررت قائديْ المنطقتين من المسئووليات التكتيكية والعملياتية إلى حدٍّ بعيد، كما مكَّنتهما من تكريس جهودهما والتفرغ الكامل لمعالجة المشاكل المهمة للإمداد والتموين، وهي أمور حيوية لفعالية قواتنا، وأساسية كذلك لمسؤولياتنا كدولة مضيفة تجاه الآخرين. وكان الفصل بين المسؤولية العملياتية ومسؤولية الإمداد والتموين فكرة جديدة لم يسبقني أحد إلى تطبيقها. وتم تنفيذها من دون المساس بمبدأ "وحدة القيادة"، على الرغم من توزيع مسؤولياتها. ونجحت الفكرة نجاحاً باهراً.

          اخترت اثنين من المتخصصين المتمَيزيْن في شؤون الإمداد والتموين وهما، في رأيي، من أبطال الحرب المجهولين، أولهما العميد مهندس عبد العزيز محمد الحسين، وكان مدير وحدة المساندة المسؤولة عن إمداد وتموين القوات الغربية. وثانيهما العميد سالم عويمر المطيري، مدير الإمداد والتموين، المسؤول عن إمداد وتموين القوات السعودية والعربية والإسلامية، وهو رجل شديد التدين، أظهر إخلاصاً وتفانياً في عمله، كـما أثبت كفاءة نادرة فـي مجال الإمداد والتموين. ومع آلاف العقود التي كان يجب التفاوض في شأنها على جناح السرعة، كنت، حقاً، في حاجة ماسّة إلى رجل بنزاهته ودقته.

          أرسل إليَّ قائد القوات الجوية قائمة بأسماء أربعة ضباط لأختار منهم من يمثلها في قيادة القوات المشتركة ومسرح العمليات. ولكني استبعدت الأربعة، واخترت بنفسي المقدم طيار الركن عايض الجعيد، وهو طيار ومعلم f-15 وإداري ممتاز وواحد من خيرة ضباط القوات الجوية الذين عرفتهم. واستطاع هو وفريق عمله من ضباط القوات الجوية أن يخفِّفوا عني أعباء جسيمة، إذ قاموا بدور مهم في عمليات التنسيق. كان التحالف ينوي نشر 5000 طائرة تقريباً، وكانت تلك عملية ضخمة وبالغة التعقيد وتتطلب أقصى درجات التعاون، إن لم يكن التكامل التام، بين أفراد القوات الجوية الأمريكية والسعودية. ثم انضم إليهم بعد فترة وجيزة، في مركز قيادة القوات الجوية السعودية، ممثلون عن القوات الفرنسية والبريطانية، وكذلك ممثلون عن دول أخرى. وكان جميع تلك الطائرات في حاجة إلى الإسناد بدءاً بالقواعد، وحظائر الطائرات، ومروراً بأبراج المراقبة، والرادارات، والمدارج النظيفة، والكشافات، وورش الصيانة، وأماكـن إيواء الطيارين وأطقم الطائرات، والطعام، وانتهاءً بالوقود بشتى أنواعه وكمياته التي يعجز الخيال عن تصورها. وأنجزت القوات الجوية الملكية السعودية، من خلال قيادة القوات المشتركة، الكثير من أعمال الإسناد تلك بصورة مشرفة.

          كان الأمر يتطلب نشر تلك الطائرات في أماكن متباعدة لتفادي تعرّضها للهجوم، إلى أن تصبح الدفاعات الجوية جاهزة لتنفيذ مهامها. وبفضل الصلاحيات التي منحني إياها الأمير سلطان، والتي تسمح لي باستخدام منشآت رئاسة الطيران المدني ، استطعت أن أنشر عدداً من تلك الطائرات الحربية في المطارات المدنية. وكانت هناك، بالطبع، لحظات حُبست فيها الأنفاس وسيطر فيها الهلع والذعر. ولكن بجهود المقدم عايض وزملائه، وجهود الكثير من ضباط العمليات الجوية في مراكز القيادة وفي القواعد الجوية المنتشرة في أنحاء البلاد، سارت كل العمليات الجوية بسهولة ودقة وانتظام، ولم تُسَجَّـل حادثة تصادم واحدة في الجو، كما يشهد بذلك الجميع.

          وإن كان ثمة تقدير خاص يُوجَّه، فعلينا أن نوجِّهه إلى أربعة من الضباط الأكْفاء هم: العميد طيار الركن أحمد السديري، رئيس هيئة عمليات القوات الجوية، الذي أسهم مساهمة فعالة في نجاح الحملة الجوية، وحزنت لوفاته - يرحمه الله - بعد انتهاء الحرب بوقت قصير. والعميد طيار الركن الأمير تركي بن ناصر بن عبد العزيز، قائد قاعدة الملك عبد العزيز الجوية في الشرقية، وهي أكبر قاعدة من نوعها في الشرق الأوسط، وتقع في أهم المناطق وأكثرها حيوية في المملكة. والعميد طيار الركن الأمير منصور بن بندر بن عبد العزيز، قائد قاعدة الأمير عبدالله الجوية في الغربية، والعميد طيار الركن الأمير عبد الرحمن بن فهد الفيصل، قائد قاعدة الملك فهد الجوية في الطائف، الذي كانت صفاته العسكرية وقدراته مثار إعجابي وتقديري على مدى سنوات عدة. ومن الجدير بالذكر، أن مهمة تأمين أوثق العلاقات العملياتية مع القوات الجوية لجميع دول التحالف، لا سيما مع الولايات المتحدة، كانت تقع بالدرجة الأولى على كاهل قادة القواعد الجوية السعودية كلهم دون استثناء.

          كانت مهمة تأمين الاتصالات الميدانية وتركيب أجهزتها، التي تتطلب في بعض الأحيان معجزات من العمل الفوري، من مسؤولية العميد مهندس داوود البصام، مؤسس إدارة الاتصالات الإلكترونية في قوات الدفاع الجوي ومديرها. وهو نوع من الرجال يهتم بالجوهر أكثر من اهتمامه بالمظهر، فضلاً عن أنه من أكثر الضباط ذكاءً وعبقريةً في مجال تخصصه.

          وعلى الرغم من أن القوات البحرية المتحالفة لم تكن في حاجة إلى مساندتنا قدر حاجة القوات الجوية، إلاّ أن الرجل الذي ألحقَتْه القوات البحرية السعودية على قيادة القوات المشتركة، وهو العميد بحري الركن شامي محمد الظاهري، أدى واجبه على الوجه الأكمل.

          كذلك، كان اللواء صالح محمد الغفيلي ( وهو الآن سفير خادم الحرمين الشريفين لدى دولة الإمارات العربية المتحدة ) رجلاً حكيماً، اختاره الأمير سلطان رئيساً للجنة الإعلام الحربي المسؤولة عن مراقبة جميع المواد الإعلامية التي تتعلق بالأمور العسكرية، وعن العمل والتنسيق مع وزارة الإعلام أثناء الأزمة. وكان في وسعي الاعتماد عليه في تأمين التصاريح والتفويضات كافة التي تحتاج إليها قيادتي من مكتب الأمير سلطان. ولا يفوتني أن أنوِّه أنني أضفت إلى مهامه مهمة جديدة هي معالجة تجاوزاتي، إذ كنت أتجاوز صلاحياتي أحياناً، فأقوم بأعمال تتعدى حدود سلطاتي، فأترك له أمر تدوين كل شيء كتابة، ووضع الأمور في نصابها.

          وكنت في حاجة إلى دبلوماسي محنك يتمتع بالخبرة والكفاءة، لمعاونتي في التفاوض وتوقيع المعاهدات والبروتوكولات ومذكرات التفاهم، والاتفاقيات المبرَمة بين الدولة المضيفة، من جهة، وأكثر من 30 دولة مشتركة في التحالف، من جهة أخرى. فأرسَـلَت إليّ وزارة الخارجية، التي يوجد على قمتها ويديرها بمقدرة بارعة وكفاءة نادرة صاحب السمو الملكي الأمير سعود الفيصل، أسماء ستة مرشحين. فاخترت منهم الدكتور محمد عمر مدني، وهو سفير سابق ومتخصص في القانون الدولي، الذي سبق أن التقيته المرة الأولى عام 1974 في لجنة صواريخ هوك المطوَّر. وأثبت أنه خير ممثلٍ لوزارته. ولتخطي الإجراءات البيروقراطية، والإسراع في عملية تدفق المعلومات، أُنشئت غرفة عمليات خاصة في وزارة الخارجية تصبّ فيها كل المعلومات المتعلقة بأعضاء التحالف، قبل أن تصل إليّ من طريق السفير مدني.

          طلبتُ مشورة وزير الداخلية، صاحب السمو الملكي الأمير نايف بن عبد العزيز، في اختيار ممثلٍ لوزارة الداخلية. فتكرَّم سموه بإرسال أحد كبار ضباطه، وهو اللواء محمد السحيلي، الذي حرص هو ومعاونوه على تزويدي بكل المعلومات المتعلقة بأية حادثة شبه عسكرية، مثل: المناوشات الساحلية، وسقوط صواريخ سكود، والخسائر، والحوادث المهمة، والتهديدات الإرهابية، وما إلى ذلك من أمور ينبغي الإلمام بها لتأثيرها في أنشطة قيادتي. ولا ينكر أحد أن ضباط وأفراد الأمن الداخلي أدّوا دوراً على قدر كبير من الأهمية في مساعدة الشرطة العسكرية على توجيه التحركات العسكرية الهائلة على طرقنا، لا سيما أثناء التحرك الضخم نحو الغرب، عندما انتقلت قوات التحالف من مواقع الدفاع إلى مواقع الهجوم.

          كما أسهم عدد من كبار ضباط الأمن، الذين اختارهم الأمير نايف، في تنظيم عملية تدقيق هويات آلاف اللاجئين الذين تدفقوا إلى المملكة من الكويت عبر مركزيْ الخفجي والرقعي. وعقب الفوضى التي سادت خلال الأيام الأولى، أصبحت عملية الفحص الدقيق للاجئين أكثر كفاءة ودقة. وظلت العائلات المشتبه في أنها تؤوي عملاء عراقيين، تحت المراقبة الصارمة لأسابيع عدة. وفي الحقيقة، أرسل العراقيون عدداً من أعوانهم المزوَّدين بالسلاح والمال ليتسللوا عبر الحدود، مُدّعين أنهم لاجئون، ولكن، كما أعلم، تم كشف أمرهم جميعاً. ويعود الفضل في عدم وقوع أي عمل إرهابي خلال الأزمة إلى يقظة أجهزة الأمن السعودية. ولا يسعني في هذا المقام إلاّ أن أنوّه بالجهود الجبارة التي بذلها الأمير نايف وزير الداخلية خلال العشرين عاماً الماضية. فالأمير نايف، في الحقيقة، هو العقل المدبر للأمن الداخلي للمملكة، وموجِّه حركته. وكان له دور رائد في استتباب الأمن في البلاد أثناء الأزمة، مما أزاح عن كاهلنا عبئاً ثقيلاً.

          كما تولى فريق الاستخبارات العامة الذي أُلحق على قيادة القوات المشتركة، برئاسة اللواء محمد عيد العتيبي ، وهو ضابط جريء مقدام، ويعمل الآن سفير خادم الحرمين الشريفين لدى أفغانستان إدارة الحرب النفسية ضد العراق وقد ساعده على هذه المهمة الضابط المصري، اللواء أركان حرب أمين حسني، الذي يُعتبر من أكثر الضباط خبرة في هذا المجال في الوطن العربي، وهو واحد من أربعة ضباط ارتباط مصريين تم إلحاقهم على قيادة القوات المشتركة.

          وقع اختياري على مدير إدارة الشؤون المالية والإدارية في قـوات الدفاع الجوي علي الحديثي، الذي أثبت كفاءته على مدى السنين، ليرأس فريق الشؤون المالية.

          أمّا منصب مدير إدارة قيادة القوات المشتركة ( شؤون الضباط والأفراد ) فتولاه العميد الركن غازي مفلح الحربي، وهو ضابط ممتاز، يتحلّى بأعلى درجات الانضباط، ويتفانى في أداء ما يكَّلف به من مهام. كما أنه زميل قديم، ويعمل الآن قائداً لمعهد قوات الدفاع الجوي.

          قبل بدء الحرب بشهرين، أصبح من واجبنا أن ندلي ببيانات يومية إلى وسائل الإعلام على غرار ما يفعله الأمريكيون. ولكن من سيكون المتحدث الرسمي؟ كنت في حاجة إلى اختيار شخص مناسب، والتأكـد من تزويده بالمعلومات الصحيحة. ووقع اختياري على ضابط برتبة عميد، تَدَرّب في الولايات المتحدة لسنوات عدة، ويتحدث الإنجليزية بطلاقة. وظننت حينذاك أنه ملائم لمهمته تماماً، فعينته متحدثاً رسمياً دون استشارة أحدٍ. وبعد إدلائه بأول بيانين عن العمليات القتالية، تبيّن أنه لم يحرز النجاح المرجو. كان ضابطاً ممتازاً، ولكن لم تكن لديه موهبة التعامل مع وسائل الإعلام. لذلك، رأيت إعفاءه من تلك المهمة. وفكرت في كيفية إبلاغه ذلك القرار بأسلوب لبق. لكنه أزاح عن كاهلي هذا العبء عندما أخبرته بعزمي على إعفائه من تلك المهمة، إذ هتف قائلاً: "هذا أجمل خبر سمعته في حياتي. هل يمكنني أن أقول لك شيئاً كصديق؟ كنت أشعر بالرهبة أثناء الإدلاء بتلك البيانات، لم أستطع النوم من شدة القلق. أشكرك يا سيدي، شكراً جزيلاً!".

          اتصلت بالأمير سلطان معترفاً بخطئي. فاقترح سموه ضابطاً آخر يتقن اللغة الإنجليزية، هو العقيد الركن أحمد محمد الربيعان ، الذي قام، بعد تزويده بالمعلومات وتدريبه تدريباً جيداً، بهذه المهمة خير قيام. وظل متحدثاً رسمياً باسم قيادة القوات المشتركة ومسرح العمليات خلال فترة الحرب كلها.

          كانت تعليماتي إلى ناطقيْنا الرسميَيْن خلال الأزمة هي الالتزام بالحقائق، وتجنُّب المبالغة في منجزاتنا، أو الإقلال منها. كنت حريصاً كل الحرص، على ألاّ نكرر الخطأ الذي ارتكبه العرب في حرب يونيه 1967، وألاّ نخفي أية معلومات إلاّ إذا كانت تمسّ أمننا الوطني أو أمن حلفائنا. كما حظرت على الناطقيْن الرسمييْن الاتصال بفريق التخطيط، وذلك لمنْعهم من الاطلاع على خططنا المستقبلية، خشية أن تزلّ ألسنتهم أثناء تعاملهم مع وسائل الإعلام.

          وتوثيقاً لِمَا مَرّ بنا من أحداث، ومحافظة على ما لدينا من وثائق ومستندات، وتوفيراً لمعين لا ينضب للدراسة والتحليل واستخلاص الدروس المستفادة، وتسجيلاً للخبرات المكتسبة، وفوق ذلك كله، تأريخاً صادقاً لأحداث الأزمة، أنشأت قسماً خاصاً للتوثيق في قيادة القوات المشتركة لجمع وتصنيف الوثائق والمستندات والمراسلات والاتفاقيات. وأَوكَـلْت هذه المهمة إلى العقيد أحمد لافي، مع ضابط من الكفاءات الممتازة في قوات الدفاع الجوي، الرائد مزيد سليمان العمرو، لِمَا يتميز به من نشاط وانضباط وطاقة لا حدود لها.

          وأخيراً وليس آخراً، وفِّقتُ إلى اختيار العقيد شاكر محمد إدريس، مديراً للشؤون العامة في قيادة القوات المشتركة. كان يتعامل مع وسائل الإعلام، ويرتب شؤون تنقلاتي داخل المملكة و خارجها. كما تولى شؤون البروتوكول، كأنه دبلوماسي بالفطرة، وأخذ على عاتقه أيضاً الإشراف على أمور كثيرة أخرى، أتقن أداءها على مدى السنوات الست السابقة، التي عمل فيها مديراً لقسم الشؤون العامة في قيادة قوات الدفاع الجوي.

          إن ما تحتاج إليه جميع الجيوش، وتفتقر إليه معظم الجيوش العربية، هو نظام سليـم ودقيق لتقييم الضباط. ففي كـثير من الحالات، تؤثِّر العواطف، والصداقات، والعلاقات الأسرية، في كتابة التقارير السنوية للضباط، حتى يصبح الحصول على تقييم دقيق وصورة صادقة أمراً مستحيلاً. وعندما كنت أحاول تشكيل الفريق الذي سيعمل معي، اخترت عدداً من الضباط من فروع القوات المسلحة المختلفة بناءً على التقارير السنوية التي تمتدحهم وتشيد بكفاءتهم. وكم كانت خيبة ظنّي عظيمة عندما اكتشفت ساعة الجدّ أن لا أمل يرجى منهم، فاضطررت إلى الاستغناء عنهم! وكنت قد اقترحت، قبل الأزمة بستة أشهر، على زملائي في لجنة الضباط العليا نظاماً جديداً لتقييم الضباط، لأني أهتم كثيراً بالانضباط العالي والتدريب المستمر، كما أؤمن بأن من العبث أن نحاول مواكبة أحدث المعدات وأعقدها تقنية بعسكريين دون المستوى المطلوب. فلو أردنا الحصول على أقصى فائدة من الرجال أو العتاد، فعلينا أن نتخلص من العادات القديمة، وأن نتوخّى الحذر عند التجديد، وأن ننشد الأفضل عند التطوير. فمعظم الناس جُبِلوا على كراهة التغيير ومقاومته. لذلك، حرصت دوماً، أثناء التغييرات التي أدخلتها في قيادة قوات الدفاع الجوي، على عدم الإساءة إلى أحد. فربما عاقبت شخصاً في الصباح، ثم اشتركت معه في السمر ليلاً، لا لشيء إلاّ لأني أكره أن يشعر بأنني ضده بصفة شخصية. إنني في مثل هذه الحالة، أكون ضد تصرّفه، وكل ما أطلبه منه هو القيام بواجبه على خير وجه. هذه هي المبادئ التي حاولت تطبيقها في قيادة القوات المشتركة.

سابق بداية الصفحة تالي