مقترحات البحث الأشكال والخرائط الصور المحتويات

مقاتل من الصحراء

الفصل الخامس عشر

إدارة التحالف - القسم الثاني

          عندما تعرضنا لتهديد صدّام هبَّ إلى مساندتنا حلفاء من مختلف الأمم، وهي مساندة اختلفت عدداً وعدة. فإن كانت الولايات المتحدة قد أرسلت نصف مليون جندي، فإن النيجر أرسلت 481 جندياً، تلتها السنغال التي أرسلت 496 جندياً. كما وصل فريق طبي بولندي، وبضع عشرات من المجاهدين الأفغان وغيرهم، ممن لم يكن لهم شأن كبير من الناحية العسكرية، ولكنهم كانوا في غاية الأهمية من الناحية السياسية. وإذا كان عدد الدول ذات الدور العسكري البارز في التحالف قليلاً، إلاّ أننا كنّا في أمَسّ الحاجة إلى الدول الأخرى أيضاً. وتركزت مهمتي على جمع هذه القوات ودمْجها في قوة شاملة، والعمل على أن يكون لكل قوة مشاركة في التحالف هدف تسعى إلى تحقيقه. وهذا، في الواقع، هو ما تهدف إليه "حرب التحالف".

          تُعَدّ دول مجلس التعاون الخليجي الخمس، الكويت ضحية عدوان صدّام و الإمارات العربية المتحدة والبحرين وعُمان وقطر، من أقرب الحلفاء إلينا جغرافياً وفكرياً. شكّـل قادة دول مجلس التعاون، خلال الحرب العراقية - الإيرانية، قوة صغيرة مشتركة عُرِفَت باسم "درع الجزيرة" لمواجهة الأخطار التي تهدد منطقة الخليج. واختيرت المملكة مقراً لها، وأُسندت قيادتها إلى قائد سعودي؛ لأن المملكة كانت أكبر المشاركين فيها. وأسهمت المملكة بمجموعة لواء في تلك القوة، بينما أسهم الآخرون بكتيبة أو أقل. ولعل من أول الدروس المُرّة التي تعلمناها خلال الأزمة، أن تلك القوة كانت غير قادرة على التصدي للاقتحام العراقي للكويت.

          أصبحت قوة "درع الجزيرة" تابعة لقيادة القوات المشتركة. وعندما قمت بزيارة تفقدية لها، أدركت على الفور، أن بنْيتها وقوتها لا تلائمان الأزمة الراهنة. وحين بدأ شركاؤنا في مجلس التعاون لدول الخليج العربية مساندتنا بإرسال المزيد من القوات، أصبح من المناسب أن نلحِق وحدات قوة "درع الجزيرة " بوحداتها الأم، أو نلحقها على القوات التي كنت في صدد تشكيلها طبقاً لنوعية تسليحها وقدراتها القتالية، وطبقاً لاحتياجاتنا الدفاعية العاجلة. وهكذا، أصدرت أوامري بإلحاق الكتيبة العُمانية والسرية البحرينية على اللواء الثامن الآلي السعودي، وبإلحاق الكتيبتين الإماراتية والقَطَرية على اللواء العاشر الآلي السعودي. واحتل هذان اللواءان، في الأيام الأولى، خط دفاعنا الأمامي، الذي لم يكن ليصمد في مواجهة أي تقدم عراقي محتمل نحو منطقتنا الشرقية.

          كما قررتُ إلحاق الضباط الخمسة والعشرين العاملين في قيادة قوة "درع الجزيرة" بوحداتهم الأصلية، إذ لم يعد هناك قوات يقودونها بعد إلحاقها على وحدات أخرى. واستأنف اللواء الركن تركي بن حديجان النفيعي، قائد قوة "درع الجزيرة" سابقاً، مهامه قائداً لمجموعة اللواء السعودي في المنطقة الشمالية.

          في بداية الأزمة، أصدر إليَّ الأمير سلطان تعليماته بزيارة دول الخليج بهدف إطلاع قادتها على الخطوات التي اتخذناها ونتخذها لمواجهة تهديدات صدّام إذ كان قادة هذه الدول يرغبون في معرفة الدور الذي سيُسند إلى قواتهم. كنت أقدم إليهم التقارير بصفتي قائداً لقواتهم في مسرح العمليات، مثلما أرفعها إلى مليكي، خادم الحرمين الشريفين الملك فهد. فعزمت على أن أقدم إلى كل منهم تقريراً عسكرياً واستخبارياً يتضمن معلومات تفصيلية عن: التهديد العراقي، ومواقع نشْـر قواتنا وفكرة العملية الدفاعية. أراد قادة دول الخليج أن أقوم بتلك الزيارة في سبتمبر، لكني فضّلت إرجاءها حتى أوائل أكتوبر، نظراً إلى انشغالي بتعديل وتطوير الخطة الدفاعية العاجلة التي وضعتها في الأيام الأولى التي أعقبت الغزو. ولم أرغب في الكشف عن تفاصيل عمليات نشْـر القوات في مواقعها الجديدة قبل استكمالها. إذ تُعَدّ تلك المعلومات سرِّية، وخشيتُ أن يستغلها العراقيون إذا ما كُشِفتْ قبل الأوان.

          تقرر، في نهاية الأمر، أن أبدأ جولتي بالطائف في 8 أكتوبر لزيارة أمير الكويت الشيخ جابر في مقر إقامته في فندق شيراتون، الذي وُضِعَ تحت تصرّفه، ومن ثَمّ أزور بقية قادة دول الخليج في الفترة، من 11 إلى 17 أكتوبر.

          صادف يوم ذهابي إلى الطائف سفر الشيخ سعد ولي عهد الكويت إلى دبي لتقديم واجب العزاء إلى الشيخ مكتوم لوفاة والده الشيخ راشد، السياسي البارع وباعث النهضة الحديثة في دبي. والتقيت ولي عهد الكويت قبل سفره في المطار. وعلى الرغم من عدم وجود خرائط جاهزة حينذاك، إلاّ أنني تمكنت من أن أعرض عليه الخطوط الرئيسية للاستعدادات العسكرية التي تجري على الحدود.

          لفت نظري ما يتحلّى به الشيخ سعد من هدوء وطمأنينة. وقد أعرب عن اعتزازه بأن يتولى القيادة أحد أبناء العرب. ثم شدّ على يدي وهو يصافحني، وقال: "أريدك أن تعِدني بأن يكون الجنود الكويتيون في الخط الأول عندما يحين الوقت لتحرير الكويت". فأجبته أنه شرف لي أن أتولى مهمة قيادة وحدات من بلاده، وأنني سأبذل قصارى جهدي لأسند إليهم دوراً أساسياً.

          ثم كانت مقابلتي لسمو الشيخ جابر في الفندق الذي أصبح مقراً لقيادته. وتُعَدّ تلك المقابلة من أعظم اللقاءات أثراً في نفسي خلال الأزمة. قرأت في عينيه سؤالاً ملحّاً صامتاً: "متى ستحررون الكويت؟ ". ووجدت صعوبة بالغة في أن أشرح له أن بناء القوات وإعدادها يتطلبان وقتاً طويلاً، وأنه على الرغم من الفظائع التي يرتكبها العراقيون في الكويت فإن علينا التخطيط بحذر وعناية، والتعاون مع الكثير من قوات دول التحالف لطرد العراقيين بأقل قدرٍ من الخسائر. أصغى سموه إليّ بهدوء شديد، وعلامات الحزن والأسى بادية علي وجْهه.

          وفي زيارة لاحقة، بعد وقت قصير، استطعت أن أشرح إستراتيجيتنا بتفصيل أكثر للشيخ نوّاف، وزير الدفاع الكويتي. وتعقيباً على ما قدمته من شرح، أبلغني تشبيهاً بليغاً من سمو الشيخ جابر ترك عميق الأثر في نفسي، يقول فيه: "قل لابننا خالد: أنت تفصّـل وحِنّا نلبس". ذكرتني هذه الكلمات بجسامة المسؤولية الملقاة على كاهلي. فأقسمت له أن يكون تحرير دولة الكويت الشقيقة أسمى اهتماماتي، في كل خطوة أخطوها. وكان ذلك عهداً أعتقد أنني وفّيت به. فنحن، في المملكة، نشعر أن الكويت وطننا الثاني. وأنا شخصياً، وبعد تجربة الأزمة التي عشتها، ستظل للكويت منزلة مرموقة في قلبي على الدوام.

          أحسنت دول الخليج، بلا استثناء، استقبالي. وأعرب عدد من قادتها عن فخرهم لوجودي في موقع القيادة. وتركت كلمات التشجيع التي سمعتها منهم أطيب الأثر في نفسي، لأنها صدرت عن رجال عرفوني منذ صباي، مثل سمو الشيخ حمد بن خليفة آل ثاني ولي عهد قطر وسمو الشيخ حمد بن عيسى آل خليفة وليّ عهد البحرين وابن عمه، الشيخ خليفة بن أحمد آل خليفة، وزير الدفاع، الذي شاركني في مشقّات ومسرّات ساندهيرست قبل 25 عاماً.

          أَبْـلَتْ سرية المشاة البحرينية بلاءً حسناً. وكان من صواب الرأي أن يحتفظ البحرينيون بالجزء الأكبر من جيشهم الصغير داخل البلاد للدفاع عن جزرهم ضد أي هجوم عراقي. وقامت قاعدة الشيخ عيسى الجوية في البحرين بدور مهم في المعارك. وكان ذلك، دون شك، سبب قصف العراقيين لها بثلاثة صواريخ سكود، ولكن - بعناية الله - أخطأت القاعدة، ولم تُحدث خسائر أو أضراراً.

          كما أسهمت البحرين أيضاً إسهاماً فاعلاً في القضية الكويتية على نحو لا يعرفه الكثيرون. فقد تم تهريب أقراص الحاسب الآلي الكويتي، التي تحتوي معلومات مفصلة عن السكان، من الكويت إلى البحرين حيث تمكن خبراء بحرينيون، بمساعدة فنيين هولنديين وفرنسيين، من فك رموز الحاسب الآلي السرّية واستعادة المعلومات، التي سُلِّمت بعد ذلك إلى الحكومة الكويتية في المنفى. وعلى الرغم من أن طريقة الحصول على هذه الأقراص بقيت طي الكتمان، إلاّ أن الإحصاءات السكانية التي تضمنتها أصبحت وثيقة لدي الأمم المتحدة، مكّنت الحكومة الكويتية من الدفاع عن نفسها ضد الادعاءات العراقية.

          أبدى سمو الشيخ عيسى، أمير البحرين حماسةً واندفاعاً بالغَين حين أطلعته على الوضع العسكري. واعتقاداً منه بأن الوقت لم يكن في مصلحتنا، كان من رأيه أن يقوم التحالف بعمل عسكري فوري، يتمثَّل في توجيه ضربة جوية مركّزة لإزاحة صدّام عن الكويت وجدت صعوبة في شرح حاجة التحالف إلى الوقت ليتسنى له بناء القوات وإعدادها، وهو الموقف نفسه الذي واجهته خلال لقائي سمو الشيخ جابراً، أمير الكويت.

          كان سفيرنا في البحرين في ذلك الوقت، الدكتور غازي القصيبي، وهو شاعر وكاتب متميز، شغل في السابق منصب وزير الصناعة والكهرباء، ووزير الصحة، وهو اليوم سفير خادم الحرمين الشريفين لدي المملكة المتحدة أعطاني القصيبي مغلفاً صغيراً، وأنا أَهِمُّ بصعود الطائرة بعد زيارتي للبحرين، وقال لي: "أرجوك أن تفتحه وأنت في الطائرة". وجدت داخل المغلف شريطين مسجَّلين لقصائده، ومعهما قلم فاخر من نوع "مون بلان"، وعبارة تقول: "أُرسل إليك هذا القلم آملاً أن توقع به أمر تحرير الكويت ولكن أرجوك أن تُعجِّل، فما أسرع أن يجف فيه الحبر". وعندما حان الوقت في يناير 1991 لكي أوقع أنا وشوارتزكوف خطة عمليات عاصفة الصحراء، تذكرت كلمات القصيبي، واستخدمت قلمه في التوقيع. ومن المؤسف أن القرار لم يأتِ بالسرعة التي كان يرجوها الدكتور القصيبي ومَن كنتُ في ضيافتهم في دولة البحرين.

          كنت على يقين من أنني سأحظى باستقبال حار في قطر إذ إن سمو ولي العهد الشيخ حمد بن خليفة آل ثاني صديق لي منذ عام 1964، أيام الشباب، حين ذهبنا معاً إلى لندن للالتحاق بدورة لتعلّم اللغة الإنجليزية مدتها شهران. وبعد أن أطلعت سمو الشيخ خليفة على الموقف، سرّني قرار قطر بمضاعفة مساهمتها العسكرية في التحالف لتصبح في مستوى لواء. وقد أدّت الدبابات القطَرية دوراً بارزاً في معركة الخفجي.

          أمّا في صلالة فأسعدني الحظ بالاجتماع إلى السلطان قابوس سلطان عَمّان وهو رجل شديد الانضباط، متفتح الذهن، يستحوذ على الإعجاب والاحترام. ومما زاد من دفء مشاعري نحوه، إنه أيضاً من خريجي ساندهيرست.

          وفي أبو ظبي، استقبلني الشيخ زايد رئيس دولة الإمارات العربية المتحدة في قصره في حضور عدد كبير من وزرائه. وبعد تبادل عبارات التحية، عبّر سموه عن رغبته في التحدث إليّ على انفراد. ولم يُبقِ إلى جانبه سوى ابنه الشيخ محمد بن زايد، الذي كان يشغل منصب نائب رئيس هيئة الأركان لشؤون العمليات، وهو عسكري محترف مشهود له بالمقدرة والكفاءة ( تأكدتا أكثر وأكثر، فيما بعد، عندما أصبح رئيساً لهيئة الأركان لدولة الإمارات العربية المتحدة ).

          وأثناء مناقشتنا للوضع العسكري، طرح الشيخ زايد فكرة معينة شعرت أن عليَّ الإفصاح عن وجهة نظري إزاءها. فقلت له: "يا سيدي، هل تسمح لي بالحديث مع سموكم كما أتحدث مع الملك فهد؟ هل تسمح لي أن أتحدث معك كما لو كنت أتحدث إلى والدٍ؟ فأنا أعتبر نفسي في منزلة ابنكم، محمد، تماماً".
وارتسمت تعابير الجدّ علي وجه الشيخ زايد العطوف، وقال: "أنت؟ مثل محمد؟ كلاّ!"
وظننت أنني أسأت التعبير، وهيأت نفسي لأتلقى منه لوماً أو عتاباً، ولكنه قال لي: "في هذه الأزمة، أنت عندي أغلي من محمد نفسه!".

سابق بداية الصفحة تالي