مقترحات البحث الأشكال والخرائط الصور المحتويات

مقاتل من الصحراء

الجيوش تسير على بطونها (تابع)

          تعهَّد الملك فهد، في أوائل شهر سبتمبر 1990، للأمريكيين أن تُقَدم المملكة للقوات الأمريكية، على أراضي المملكة، كل ما تحتاج إليه من إعاشة، ووقود، ومياه، وإسكان، ووسائل نقل محلية، وتسهيلات ضرورية أخرى، دون أن تتحمل الولايات المتحدة أية نفقات في هذا الصدد. ولم يرسل الأمريكيون، فريقاً للتباحث معنا حول كيفية صياغة تعهُّد الملك في " اتفاقية مساندة تقدمها الدولة المضيفة " تُبْرَمُ بين المملكة والولايات المتحدة، إلاّ في 17 أكتوبر. استمرت المباحثات شهراً، إلى أن تم التوقيع على الاتفاقية في منتصف نوفمبر، على أن يسري تنفيذها بأثر رجعي من بداية انتشار القوات الأمريكية. أُطلق على الاتفاقية "خطة تنفيذ الإسناد الإداري لقوات الولايات المتحدة المدافعة عن المملكة العربية السعودية ".

          ومع تقدم المباحثات، ازداد شوارتزكوف ضجراً وجزعاً. كان قلقاً ألاّ يكون لكلمتنا قوة الاتفاق المكتوب. وفي كتابه "it dosen't take a hero" يفتعل ضجة ليس لها ما يبررها، حين يشكو من أنه كان تحت قيادته جنود يجب إطعامهم، وإمدادات يجب نقلها، دون أن يعرف من أين ستأتي الاعتمادات اللازمة لذلك. وينقل ما ذكره اللواء دين ستارلنيج dane starling ، مدير الإمداد والتموين في القوات الأمريكية، حين قال: "للمرة المائة، لم يسدِّد السعوديون الفواتير التي قدمناها إليهم". وُيستشَف من هذه الرواية أن السعوديين أشحاء في دفع الفواتير! ومثل هذا التعليق يثير الدهشة والتعجب، خاصة إذا صدر في حق دولة من أكثر الدول سخاءً في العالم، وعلى لسان قائد عسكري أصبحت مهمته، في حرب الخليج، أيسر وأسهل، إلى أقصى حدٍّ ممكن، بفضل الكرم السعودي الذي عَزّ أن يوجد له مثيل!

          ويعزى السبب الرئيسي في تأخير توقيع اتفاقية "مساندة تقدمها الدولة المضيفة" إلى أنّ المبلغ الذي طالبتنا به الولايات المتحدة، وهو 2.6 مليارات من الدولارات، كان مُبالَغاً فيه إلى حدٍّ كبير. لذلك، اقترحت أن يشكل الطرفان لجنة مشتركة للبحث في تفاصيله. وتبيَّن، فيما بعد، أن وزارة الدفاع الأمريكية حاولت تضخيم المبلغ بزيادة 1.9 مليار من الدولارات ليشمل النفقات التي تكبدها "البنتاجون"، الخاصة بنقل الجنود والعتاد جواً وبحراً إلى المملكة، وهذه النفقات لا تدخل بداهة ضمن ما تعهَّد به الملك فهد. فالملك وافق على تغطية نفقات النقل الأمريكي، والنفقات الأخرى داخل المملكة فقط. وعلى الرغم من ادعاء شوارتزكوف بأن لا علاقة له بالمسائل المالية، فقد دأب على إرسال ضباطه للمطالبة بهذا المبلغ كل يوم تقريباً. وأذكر، مع ذلك، قوله إنه أشار على وزارة الدفاع بألاّ تضخم "الفاتورة". ولكنه أضاف أن الوزارة رَدّت عليه بما يُفْهم منه "دعنا نجرّب، فإذا نجحنا كان هذا من حظنا، وإلاّ فيمكننا إعادة النظر في المبلغ المطلوب".

          وبالفعل، أعادوا النظر في المبلغ المطلوب. وبفضل يقظة ضباط أركاني، تم تصحيح الخطأ، وَوُقّعت الاتفاقية في منتصف نوفمبر. ومنذ ذلك الحين، وافقنا على تسديد الفواتير الجديدة تباعاً. لكن، من الواضح أن شوارتزكوف ظل على شكوكه وعدم اقتناعه! إذ كتب يقول: "كان اطمئناني أشبه بالاطمئنان الذي يحس به المرء حين تخبره بأن الشيك في طريقه إليه بالبريد ".

          ومن حسن الحظ، أني تمكنت من التخفيف من قلقه حين سلّمته شيكاً من وزارة المالية بمبلغ 760 مليوناً من الدولارات، لتسديد نفقات الحكومة الأمريكية في المملكة خلال المدة من أغسطس إلى أكتوبر 1990.

          وفي الثلاثة الأشهر الأولى، كانت الحكومة الأمريكية ممثلة في الفريق باجونيس تنفق الأموال دون حساب، بحجة إعاشة قواتها وتأمين إسكانها وتنقلاتها. ولَمّا كنّا نحن الذين نسدِّد الفواتير، كان باجونيس يطلب كل شيء، ولا يسأل عن سعر أي شيء. وقيل إن باجونيس كان يطلب دوماً أكثر مما يحتاج إليه، وهذا بلا شك تكتيك جيد في المفاوضات. كان دائماً يريد المزيد من هذا وذاك، لا سيما حين أدرك الوفرة التي تنعم بها المملكة. ويا لسعادة المقاولين والمتعهدين المحليين بتوريد كل طلبات الأمريكيين! كانت لهم - أعني المقاولين - فرصة العمر التي لا تعوّض.

          عانينا، في البداية، بعض المتاعب مع باجونيس، حين أراد التعامل مع الموَردِّين السعوديين مباشرة، غير عابئ بالسعر المقدم. لكننا قررنا، بعد ذلك، أن تنحصر مهمته في اختيار ما يريد من السلع، بينما تتولى وحدة المساندة، في قيادة القوات المشتركة، التفاوض مع المقاولين والمتعهدين المحليين، إذ إنها الأكثر قدرة على التفاوض معهم. فنحن نعرف البلد، ونعرف كيف نحرر العقود، ونستطيع الحصول على أسعار أفضل منه بكثير. وفي آخر الأمر، وبعد قليل من المشاورات، تولت وحدة المساندة مسؤولية المفاوضات الخاصة بالعقود وإدارتها، اعتباراً من الأول من نوفمبر 1990 واستطعنا تخفيض الأسعار مع الجهات المورِّدة تخفيضاً جوهرياً.

          ومنذ ذلك الحين، أصبح الإجراء المتّبع هو أن يقدم باجونيس كشفاً بما يحتاج إليه. ثم يراجع ما يقدمه أصحاب العروض من المقاولين والمتعهدين السعوديين، الذين كان يبلغ عددهم أحياناً أكثر من اثني عشر من المتنافسين، ليختار من بينهم اثنين أو ثلاثة، ممن يرى أن في استطاعتهم تنفيذ المهمة المطلوبة. ثم يتولى ضباط الإمداد والتموين، بعد ذلك، مهمة التفاوض على الأسعار وتحديد المقاول أو المتعهد الذي ترسو عليه المناقصة. وعندئذ فقط، نسدد قيمة "الفاتورة". وكانت قيمة توريد الأغذية، أو نفقات النقل، تدفع إلى المتعهدين على أساس شهري، أمّا في حالة توريد المعدات فكان الدفع يتم عند الاستلام.

          وأذكر هنا، تسجيلاً للحقائق، أن نفقات إسناد القوات العسكرية الصديقة في المملكة، خلال مراحل الأزمة، بلغت نحو عشرة مليارات من الدولارات. إضافة إلى مبلغ 14 ملياراً من الدولارات دفعتها وزارة المالية السعودية، في شكل مساهمة مباشرة، إلى وزارة الخزانة الأمريكية، فضلاً عن ثلاثة مليارات ونصف المليار من الدولارات دُفعت مباشرة إلى وزارات المالية لدول أخرى قَدِمت لمساندتنا، مثل بريطانيا وفرنسا ومصر وسوريا والمغرب والسنغال والنيجر وبقية الدول الأخرى. ولا تشمل هذه المبالغ النفقات الإضافية التي دفعتها الوزارات والهيئات الحكومية السعودية الأخرى في ما له علاقة بالمجهود الحربي.

          كان أمام المملكة، لتوفير احتياجات قوات التحالف من المؤن، بديلان:
أولهما، اتخاذ
خادم الحرمين الشريفين، نظراً إلى أن البلاد كانت تواجه حالة طوارئ وطنية لم يسبق لها مثيل، قراراً بمصادرة المباني، والعربات، والمعدات الهندسية، والمواد الغذائية، وغيرها من الاحتياجات لمصلحة المجهود الحربي، كما فعلت ذلك دول كثيرة حين واجهت ظروفاً مماثلةَ.
أمّا البديل الثاني، فكان إتاحة الفرصة للقطاع الخاص السعودي للاشتراك في توريد متطلبات التحالف على أسس تجارية.

          وبإحساس واعٍ وبصيرة مُلهَمة تستحق الإعجاب، اختار الملك فهد البديل الثاني فحقق الانتعاش للاقتصاد السعودي، الذي كان يعاني الركود قبل الحرب. وبذلك، ازدهرت مئات الأعمال التجارية، كما استفاد كثير من الموردِّين الأجانب، لا سيما أولئك الذين كانت لهم علاقات سابقة مع المستوردين السعوديين.

          وحرصتُ كل الحرص، على عدم تفضيل أي متعهد أو مقاول على الآخرين. وكنت أرى ضرورة إتاحة الفرصة أمام كل من له القدرة على المساهمة في المجهود الحربي. فكانت العقود الضخمة الخاصة بتوريد أصناف كالملابس العسكرية وشباك التمويه، مثلاً، توزَّع على الشركات بدلاً من أن تستأثر بها شركة واحدة أو مورِّد واحد. وكنت أقول لضباط الإمدادات والتموين: "أريد أن أرى في القائمة أسماء متعهدين مختلفين، وأسماء شركات مختلفة. لا أريد أن أرى الأشخاص أنفسهم، ولا الشركات نفسها. ينبغي أن نعطي الجميع فرصاً متساوية". وبهذا النهج التعاوني، استطعنا توفير فرص الاستثمار لأكبر عدد من الشركات والمؤسسات. كما كان في وسع حلفائنا الاعتماد على المؤسسات الكبيرة والمميزة المملوكة للقطاع الخاص. ونظراً إلى كثرة عدد المساهمين السعوديين في الشركات العامة، بذلنا جهداً خاصاً لتشغيل تلك الشركات العاملة في ميادين النقل البري والبحري، وفي تأجير العربات وصيانتها.

          تمت تعبئة قطاع الأعمال السعودي كله لمجابهة تلك الظروف الطارئة، واشتركَت في هذا المجهود وزارات كثيرة معنية، مثل التجارة والمواصلات والبترول والثروة المعدنية والصحة... وغيرها. وقد عمل ممثلون لتلك الوزارات بتعاون وثيق مع فريق الإمداد والتموين.

          وقد دُهش الجميع حين اكتشفوا أن القطاع الخاص السعودي كان قادراً على تقديم كل متطلبات المجهود الحربي من شاحنات وحافلات وجرافات ومساكن وأغذية ووقود. فالمملكة اليوم واحدة من أكبر الدول الصناعية في المنطقة، وإن كان الرأي العام، المحلي أو العربي، ما زال يجهل هذه الحقيقة.

سابق بداية الصفحة تالي