مقترحات البحث الأشكال والخرائط الصور المحتويات

مقاتل من الصحراء

الجيوش تسير على بطونها (تابع)

          عندما أقلب صفحات مذكرتي، أجد في يوم 7 سبتمبر 1990 أن الفريق يوساك جاء مسرعاً لمقابلتي، إذ كان يتوقع وصول 15 ألف جندي خلال 48 ساعة، ويحتاج إلى تأمين أماكن لإيوائهم وتجهيز الخدمات الأخرى لهم. كان علينا إقامة مركز تجمع للقوات القادمة قبل تحركها إلى أماكن انتشارها في الميدان. ولحسن الحظ، كانت لدينا مدينة عسكرية جديدة لم تُشْغل بعد أن تم إنشاؤها في "أم الساهك"، لقوات الدفاع الجوي، في المنطقة الشرقية. فأصدرت تعليماتي على الفور بتأجيل انتقال وحدات الدفاع الجوي إليها، لاستيعاب القوات الأمريكية القادمة.

          كان من المقرر أيضاً أن يتدفق إلى المملكة، في الستة الأشهر التالية، عبر مطاراتها وموانيها، أكثر من نصف مليون جندي. ولو لم تكن للمملكة خبرة كافية بالتعامل مع أكثر من مليون حاج يؤمّونها سنوياً من جميع أصقاع العالم، فضلاً عن مئات الآلاف من السعوديين الذين يؤدون فريضة الحج في الوقت نفسه - لَمَا تمكنت من استيعاب مثل هذه الأعداد الغفيرة من القوات بيُسْرٍ وسهولة. فقد أضحت القدرة على إعاشة ونقل وإيواء أعداد هائلة من الزائرين والوافدين، سمة من سمات المملكة تنفرد بها دون سائر دول العالم.

          منذ اللحظة التي رست فيها أول سفينة، وهبطت فيها أول طائرة، كان علينا تأمين الإسناد الكامل من إعاشة ومياه ووقود ونقل وإسكان. ولم يقف الأمر عند توفير الموارد فقط، بل تعداه إلى ضرورة وجود الرجال الأكفْاء الذين يديرون هذه الموارد، مثل العقيد خلف مرزوق الشَمّري الذي استقبل الفرقة 82 المحمولة جواً في الظهران، وسهل مهمتها بشتى الطرق، واستمر في تنسيق تقديم الإسناد اللازم للقوات الأمريكية المتدفقة إلى المنطقة الشرقية خلال الأزمة. وفي الوقت نفسه، كنّا نجاهد لحل مشكلة تأمين السكن لنحو 360 ألف كويتي لجأوا إلى المملكة بعد الغزو العراقي. كانت، حقاً، أوقاتاً عصيبة، وكافية لإجهاد موارد أية دولة واستنزافها. ولكن من حسن الحظ، أن في المملكة مجمعات سكنية ضخمة، أنشئت في السبعينات وبداية الثمانينات، ولم تكن قد شُغلت بعد، فتم تخصيصها لإسكان الكويتيين والقوات الأمريكية.

          وفي غضون الثلاثة الأشهر الأولى من الأزمة، أي من أغسطس وحتى أكتوبر 1990، شَغَلت مهام الإمداد والتموين جزءاً كبيراً من وقتي. وكان من واجبي أن أتابع هذه الأمور عن كثب؛ لأنها واحدة من مسؤولياتي الرئيسية. كنت أطالب بإيجاز (تقرير) عن موقف الإمدادات والتموين مرة كل يوم، وأحياناً مرتين. وقد فَوّض الملك فهد والأمير سلطان صلاحيات مالية واسعة لشراء كل ما هو ضروري لعملية الإسناد التي التزمنا بها. وفوضني الأمير سلطان، بدوره، بعضاً من هذه الصلاحيات. لذا، كان لزاماً عليَّ أن أرفع إلى سموه التقارير بانتظام عن الوضع المالي. كما فوّضني صلاحية الرقابة على الأموال التي وُزِّعتْ، من خلال عدد من اللجان، على أكثر من 600 متعهد ومقاول رئيسي أو فرعي (من الباطن) كلهم من السعوديين. وأسندتُ رئاسة هذه اللجان إلى مديرِي الإمدادات والتموين. ومن أجل تحقيق الدقة المتناهية والرقابة الكاملة على صرف هذه الاعتمادات المالية، كَلّفتُ علي الحديثي، المدير العام للإدارة العامة للشؤون المالية والإدارية في قوات الدفاع الجوي، بالإشراف والتدقيق والمراجعة.

          ولإحكام الرقابة على تدفق الإمدادات، والمورّدين لها، أنشأنا نظاماً يشمل عمليات الشراء المباشرة، والمناقصات السريعة والفورية، وتقديم العروض، وعمليات استئجار العربات والمعدات، وعمليات أخرى كثيرة. وتوخياً للعدل والإنصاف في إرساء العقود على المتقدِّمين من جهة، والكفاءة والفاعلية من جهة أخرى، تبنّى العميد عويمر نظاماً يختلف، نوعاً ما، عن نظام المنافسة المألوف في تقديم العروض. فقد سُمح لكل المتقدِّمين بالجلوس معه ومع ضباط أركانه، في وقت واحد، ليتمّ فض العروض أمامهم جميعاً. ولم يكن إرساء العقد كاملاً، بالضرورة، من نصيب من يتقدم بأدنى سعر للعرض. فلكي تعمّ الفائدة وتجنباً لأي تلاعب أو تقصير، كان العميد عويمر يُجَزّئ العقود بين عدد من المتقدمين، بشرط أن يُبدوا استعدادهم لقبول السعر الأدنى المطروح، مع الالتزام بالمواصفات التي حددتها قيادة القوات المشتركة. فإذا رفضوا، أُعْطِيَ العقد، حينئذ، كاملاً لصاحب العرض الأدنى سعراً.

          بذل العميد عويمر جهداً فائقاً للتحقق من أن الأسعار المحلية، التي يتقدَّم بها المقاولون والمتعهدون، تتناسب مع الأسعار العالمية. فعلى سبيل المثال، ذهب إلى باكستان بنفسه لشراء عدد كبير من الخيام التي احتجنا إليها، كما أرسل بعضَ ضباط الإمدادات والتموين إلى الولايات المتحدة لشراء خزانات وقود مطاطية، لأن أسعار هذه السلعة هناك كانت أقل بكثير من أسعارها في المملكة.

          وكما أسلفت، فقد كنت أعمل تحت إمرة الملك فهد والأمير سلطان، وأرفع إليهما تقارير منتظمة للحصول على موافقتهما. كنت في مركز يؤهلني للاتصال بأي وزير من الوزراء أو بأي مسؤول في الدولة، للتعجيل في بت المسائل المعروضة والالتزامات الطارئة، وللإسراع في التنفيذ. فعُرف عني أسلوبي في اختصار الطرق واتباع أقصرها. فوجدت، مثلاً، أن مكالمة هاتفية مع سلطات الموانئ أو الهيئة الملكية للجبيل وينبع، يمكن أن تصنع المعجزات. وما كنت لأستطيع أن أؤدي مهمتي دون مساندة مختلف الهيئات والمصالح الحكومية وتعاونها.

          أيقنت وشوارتزكوف، بصرف النظر عن مشكلة نشْر القوات المقاتلة في الميدان بأسرع وقت ممكن للتصدي لأي هجوم عراقي محتمل، أن التحدي الحقيقي هو القدرة على استمرار تقديم الإسناد إلى هذه القوات خلال مدة الحملة كلها. وهنا كان يَكْمن دور المسؤولين عن الإمداد والتموين. كنت أعلم أن شوارتزكوف يجتمع إلى باجونيس أكثر بكثير من اجتماعاته إلى بقية قادة التشكيلات الرئيسية الأمريكية. اعتقد شوارتزكوف، في بادئ الأمر، أنه في حاجة إلى إمدادات وتموين تكفي قواته مدة 30 يوماً فقط. ولكن، مع اقتراب موعد الحرب، تضاعفت المدة إلى 60 يوماً. ومن الواضح، أن أحداً لم يتوقع انهيار العراقيين بهذه السرعة. ولم يكن شوارتزكوف، وهو قائد شديد الحذر، راغباً في أن يُفَاجَأ أثناء القتال بنقص في الإمداد والتموين.

          عندما أسترجع الوقائع والأحداث الآن، أستطيع أن أقول إن شوارتزكوف اتخذ قرارين تسبَّبا بضغط شديد على مواردنا ونُظمُ الإمداد والتموين لدينا. ربما كان لهما مبررات كافية آنذاك، ولكنهما أصبحا محلاً للتساؤل فيما بعد.

          أمّا القرار الأول، فهو الإسراع بإرسال الوحدات الأمريكية إلى المملكة دون وحدات إسناد كافية، مما اضطرنا إلى تأمين الإسناد لها في الأشهر الأولى من الأزمة. ففضلاً عن الإعاشة والمياه والثلج والوقود، كانت هذه القوات في حاجة إلى مأوى ومعدات للطبخ ومَرافق صحية ووحدات تنقية المياه واتصالات هاتفية وحافلات وشاحنات وناقلات ثقيلة ومَرافق تخزين، والمساندة من العمالة المدنية مثل السائقين، وعمال الشحن والتفريغ، وكل ما اعتادوا على وجوده في المعسكرات الدائمة. ولما لم يتقدم صدّام على طول الساحل، عقب الأسابيع القليلة الأولى بعد غزوه الكويت تبين بوضوح أنه يفتقر إلى الإرادة أو الوسائل لاستغلال نجاحه الأولي. ففي أواخر أغسطس، كان في قدرة القوات الجوية لدول التحالف أن تلحِق أضراراً بالغة بخطوط إمداداته لو حاول ذلك. وأمام هذه المعطيات، بدا أن قرار شوارتزكوف بإعطاء الأولوية، خلال أسابيع عدة، لنشر الوحدات المقاتلة وتأجيل نشْر وحدات الإسناد، هو قرار مفرط في الحذر، ولا شك أنه شَكّل ضغطاً هائلاً على ميزانيتنا ومواردنا المادية.

          أما قراره الثاني، الذي اتخذه في مرحلة متأخرة من الأزمة حين كانت الاستعدادات للحرب جارية على قدم وساق، فهو تخزين احتياجات تكفي 60 يوماً بدلاً من 30. فهذا القرار أضاف أعباء هائلة على وحدات الإمداد والتموين، وكلفنا مليارات الدولارات. ومرة أخرى، يشير هذا القرار إلى حذر مفرط نتيجة لخطأ في التقديرات الاستخبارية عن قوة العراق وقدرته على الصمود أمام الحملة الجوية الإستراتيجية.

          كان من واجباتي أيضاً، كما ذكرت من قبل، أن أكون حلقة الاتصال الوحيدة بين قوات التحالف والحكومة السعودية. فإذا لم يكن المسؤول معروفاً، ولم تكن الصلاحيات والمسؤوليات واضحة، فإن أي عمل مهْما كان حجمه، لن يؤدّي إلى النتيجة المرجوة، ولن يصل إلى المستوى المنشود. كان لزاماً عَلي أن أضع نظاماً يُمَكِّن ضباط الإمدادات والتموين الأمريكيين النهِمين، أن يعملوا من خلاله مع نظرائهم من الضباط السعوديين بشكل وثيق، لتسهيل إمداد القوات وتموينها والاستفادة من الموارد المتاحة في المملكة. وسارت الأمور على ما يرام، على الرغم من ظهور بعض التوتر بين حين وآخر، ولا غرابة في ذلك، بالنظر إلى الجهود الجبارة التي بذلت، والمبالغ الهائلة التي أُنفقت.

          كنا نفتقر، في بادئ الأمر، إلى تنظيم للإمداد والتموين يكون قادراً على الاضطلاع بالمتطلبات الضرورية لعملية بهذا الحجم. ولعل عدداً قليلاً من دول العالم كانت تتوافر لديها مثل هذه القدرات! لذلك وجب علينا إقامة هذا التنظيم بدءاً من الصفر. وكم كانت الدول الصديقة عونا لنا في هذا الصدد وكم رحّبنا بمساندتها! فَقَدِمت كتيبتان مصريتان، تضم كل منهما 500 رجل، لمساندتنا في إدارة نقاط الإمداد والتموين المتقدمة في النعيرية والقيصومة. كانت لهم خبرة وبراعة في نقل الذخائر والوقود وتداولهما، كما حصلنا على خدمات سريتي إسناد من بنجلاديش اتخذتا من الدمام مقراً لهما. وتقاضى المصريون والبنجلاديشيون رواتب، كما لو كانوا سعوديين.

          أدى اختلاف اللغات بين قوات الدول المتحالفة إلى صعوبات تعوق الاتصال بينها، إذ لم يكن كل سعودي في جهاز الإمداد والتموين يتكلم الإنجليزية، ناهيك من الفرنسية. ومن جهة أخرى، كان الجنود المتمركزون في قلب الصحراء على مسافة مئات الكيلومترات، يتوقعون الحصول على كل ما يريدون في أقصر وقت ممكن، غير مكترثين للمسافات الطويلة التي تقطعها شاحنات التموين للوصول إليهم. فلو طلب أحد ضباط التحالف ألف خيمة، مثلاً، فإنه يتوقع أن تصله في اليوم التالي مباشرة! وعندما طلب أحد ضباط التحالف، في مرحلة لاحقة من الأزمة، المئات من أجهزة الراديو والتليفزيون لقواته، هب بعض ضباط أركاني على الفور في حملة للبحث عن هذه الأجهزة في الأسواق المحلية.

سابق بداية الصفحة تالي