مقترحات البحث الأشكال والخرائط الصور المحتويات

مقاتل من الصحراء

الجيوش تسير على بطونها (تابع)

          اتبعتُ سياسة ذات شقين في إنفاق ميزانية المشتريات، دعم المجهود الحربي من جهة، وضخ الأموال في الاقتصاد السعودي من جهة أخرى. فقبل الأزمة، كان هناك نحو 400 شركة سعودية تعاني مصاعب مالية. ولحسن الحظ، جاء قرار خادم الحرمين الشريفين بإسناد كثير من الأعمال إلى الشركات السعودية ليقلب الصورة رأساً على عقب. فحظيت 592 شركة سعودية بعقود لمصلحة المجهود الحربي، فضلاً عن آلاف الأفراد من المواطنين السعوديين الذين حققوا مكاسب مادية من تأجير منازلهم وسياراتهم ومعداتهم الأخرى التي كنّا في حاجة إليها. وأبدى الملك حرصه الشديد على إنعاش الاقتصاد، وحشْد الطاقات للمجهود الحربي. ونجحنا في كلتا المهمتين. كان شعاري الحزم والمرونة. ووجدت أن هذا الشعار يحقق الكثير، وخصوصاً عندما كان يتعين علىَّ التأكد من تحقيق مصالح الجميع، وأن الكل يعملون معاً يداً واحدة.

          أخذ منّا موضوع الإمداد بالمياه كل اهتمام، إذ استخدمنا أكثر من 3000 صهريج لنقل مياه الشرب من محطات تحلية المياه الضخمة في الجُبيل والخُبَر ومن أماكن أخرى. وتُعَدّ محطات تحلية المياه في المملكة الأفضل تقنية والأكبر سعة من نوعها في العالم. ففي عام 1970، كانت طاقـة محطاتنا لا تتجاوز خمسة ملايين جالون في اليوم، وزادت عام 1990 إلى أكثر من 500 مليون جالون. وتقع أكبر هذه المحطات، والتي تصل طاقتها إلى 240 مليون جالون، في الجبيل، وهي مدينة صناعية حديثة على ساحل الخليج. لم يقتصر الأمر على وجود كميات من المياه تكفي احتياجات كل فرد خلال الأزمة فحسب، بل كانت كذلك معبّأة في خزانات مطاطية لتسهيل عملية توزيعها على مئات الآلاف من الجنود في الميدان، كما تحافظ على برودتها لساعات عدة. تعاقدنا كذلك مع مصانع عِدة لتعبئة المياه، وحفرنا عدداً من الآبار في أماكن مختلفة من الصحراء، وأقمنا محطات تحلية صغيرة فوق فوهات الآبار مباشرة. كما زوَّدْنا الكثير من الوحدات في الميدان بمكائن لصناعة الثلج، وخصَّصنا أكثر من عشر شاحنات تبريد لكل وحدة في حجم كتيبة، لضمان إمدادها المستمر بالأطعمة الطازجة و المياه الباردة.

          وفي السادس من أغسطس، وقبل تعييني قائداً للقوات المشتركة ومسرح العمليات، اتصل اللواء عبد العزيز آل الشيخ، نائب قائد القوات البرية وقتئذٍ، بالمؤسسة العربية للتموين والتجارة (أسترا)، وهي من كبرى شركات إنتاج الأغذية في المملكة، وما برحت المورِّد الرئيسي إلى القوات البرية السعودية منذ عام 1967. قال اللواء عبد العزيز للشركة: "نريد وجبات ساخنة لعدد من الزائرين المتوقع وصولهم إلى الظهران خلال 48 ساعة. فهل تستطيعون تجهيزها؟".

          قامت أسترا على الفور بتشغيل سلسلة من المطاعم للوجبات السريعة في المنطقة الشرقية، وبدأت بتقديم وجبات الهمبورجر الساخنة إلى جنود الفِرقة 82 المحمولة جواً حين نزولهم مباشرة من الطائرة. ونجحت أسترا في عملها نجاحا كبيراً، حتى إن اللواء عبد العزيز آل الشيخ أرسى عليها عقداً على نفقة الحكومة السعودية، لتموين القوات الأمريكية القادمة.

          كان ذلك هو الوضع الذي وجدته سارياً حين توليت قيادة القوات المشتركة. فقبل نشوب الأزمة، تولت شركة أسترا توريد الإعاشة وتقديم خدمات الطعام إلى القوات البرية، أمّا قوات الدفاع الجوي فتعاقدت مع متعهد آخر لتقديم خدمات الطعام، أفضل من أأسترا، من وجهة نظري. وفي حقيقة الأمر، لم أشعر بالارتياح في البداية، حين علمت أن أسترا ستصبح المتعهد الرئيسي. ولكني وافقت على استمرارها في العمل، لأنها كانت الشركة الوحيدة القادرة على تقديم الكمية المطلوبة من جهة، ولحرصي الشديد على استمرار تدفق المؤن، من جهة أخرى. وعلى الرغم من الشك السابق في قدرتها، فإن أداء أسترا لمهمتها على الوجه المطلوب، جعلني أوصي بمنْح رئيس مجلس إدارتها وساماً تقديرياً.

          لكنني أصدرت تعليماتي إلى الشركة بتوزيع العمل على أكبر عدد من المتعهدين السعوديين الفرعيين (من الباطن) في جميع أنحاء المملكة. وفي ضوء هذه التعليمات، أعاد مدير الإمداد والتموين التفاوض على العقود مع شركة أسترا. وفي النهاية، اشتركت أكثر من 125 شركة سعودية في توريد الأغذية إلى قوات التحالف.

          تبيَّن لي أن المملكة تنعَم بأعداد كبيرة من مورّدي المواد الغذائية أكثر مما كنت أتوقع. كانت هناك كميات وفيرة من اللحوم والخبز وغيرهما من أصناف الطعام الأخرى، إضافة إلى كميات فائضة من العصير. لم تكن مصانع العصير تنتج في السابق سوى 20 % من طاقتها، لكنها بعد وصول الجنود، بدأت تعمل بطاقتها الكاملة، وينطبق ذلك أيضا على مصانع الحليب. وبصورة عامة، كانت التسهيلات هائلة، واستطاع كل متعهد فرعي (من الباطن) أن يفي بالتزاماته.

          وتولّت المطابخ المتنقلة كذلك، وهي من صنع "الشركة الوطنية للصناعات المعدنية المحدودة" في المملكة، تقديم الوجبات السريعة إلى الجنود المنتشرين في المواقع النائية المنعزلة. أمّا الجنود في الخطوط المتقدِّمة، فكانوا يُعِدّون طعامهم على مئات من المواقد الغازية الضخمة التي أُمّنت لهم. فضلاً عن الكميات الهائلة من الأطعمة الطازجة (الإعاشة الطازجة) التي وُزِّعت على المواقع الأمامية حتى إنّ معظم الوجبات الجاهزة (الإعاشة المعلَّبة) لم تستهلك. كما اشترينا كذلك الملايين من وجبات الطوارئ (إعاشة الطوارئ)، وقمنا بتوزيعها خشية من أن تمنع ظروف الحرب توزيع الأطعمة الطازجة. وقد أُعِدّت وجبات الطوارئ تلك وغُلِّفَتْ محلياً، وكانت بمثابة قوة دافعة للصناعة الوطنية. وكنّا نحرص على أن تحتوي الوجبة مواد غذائية منتجة محلياً، مثل التمور والبسكويت. ولم يتوقع جنود قوات التحالف كل هذا الاهتمام، ولكن السخاء في رعايتهم بلغ ذلك الحدّ. وهذا ما جعل تلك الحرب من أكثر الحروب ترفاً على الإطلاق.

          ظننا، في البداية، أننا سنعاني نقصاً في المواد الغذائية، وأننا سنضطر إلى طلب المساعدة من وزارة التجارة و الغرف التجارية. كانت لدينا خطة للطوارئ من أجْل تقنين بعض المواد، ولكننا لم نضطر إلى تطبيقها. فظلت لدينا كميات وفيرة من كل شيء مثل: الدقيق والسكر والأرز والمكرونة واللحوم والخضراوات والفواكه الطازجة وقوارير المياه وعصير الفواكه وغير ذلك. وتبيَّن لنا أن قطاع الأعمال السعودي جاهز لمواجهة الطوارئ، وأن طاقته الإنتاجية والاستيرادية فاقت ما كنّا نحتاج إليه. وقام هذا القطاع بتخزين كميات من كل الأصناف تكفي سنة كاملة دون الحاجة إلى التعويض من الخارج. وفي كثير من الحالات، وَجَدَتْ القوات التي جاءت لمساندتنا أن المملكة تنعم بإمدادات أكثر سخاءً وأكثر وفرة مما في بلادها. وكان هذا الأمر حقيقة ثابتة لبعض المواد حتى عندما تُقارَن مع الولايات المتحدة، ناهيك من دول العالم الثالث. كان الطعام في الميدان أفضل وأشهى بكثير مما يُقدَّم في معظم المطاعم.

          ومما ساعد على هذا الأمر، دون شك، أن تدفق العدد الهائل من القوات لم يكن كثيفاً إلاّ في شهري نوفمبر وديسمبر، مما أتاح للمتعهدين والمقاولين الوقت الكافي لاتخاذ الترتيبات اللازمة. فجاءت العملية سلِسة وُزِّعَت فيها إمدادات الخطوط، الأول والثاني والثالث على كافة المناطق دون استثناء. ولم يمضِ يوم واحد دون أن تقدِّم المملكة إلى القوات كل احتياجاتها من الخبز المحلي الطازج والحليب والعصير. وكانت اللحوم وصلصة الطماطم " الكتشاب ". من المواد الغذائية الأساسية المستوردة من أستراليا ونيوزيلندا وإيرلندا والبرازيل. ولم تشعر أية قوة من القوات التي جاءت لمساندتنا بالقلق في شأن الإمدادات والتموين، فالمؤن كانت تصل إلى الخطوط الأمامية بسهولة ويسر حتى يتسنى لكل فرد الحصول على ما يريد. كما ألحقنا شاحنات التموين التابعة لنا على مختلف الوحدات، دفعنا بكميات كبيرة من مواد الإعاشة إلى الأمام، حتى إن جزءاً منها أُعيد إلى الخلف ثانيةً، عندما تحررت دولة الكويت بعد حرب برية قصيرة. وقد خَزّن بعض المورِّدين كميات كبيرة زادت على الحاجة، من مواد بعضها سريع التلف كاللحوم، وُزِّعت بعد ذلك على البلدان التي كانت في حاجة إليها. فالهدْي والأضاحي والنُسك التي تُنْحر في موسم الحج أكسبتنا خبرة واسعة بإعداد كميات كبيرة من هذه اللحوم وتوزيعها.

          حققت عمليات تموين القوات، أثناء أزمة الخليج، نجاحاً إدارياً باهراً. فبإصرارنا على تجنيد جيش من المتعهدين الفرعيين (من الباطن) نجحنا في توزيع الأرباح والمسؤوليات. كما استطعنا، في الوقت نفسه، أن نظهر لزوارنا وللمواطنين السعوديين، أنفسهم، مدى التقدم الزراعي والصناعي الذي بَلَغَتْه المملكة في السنوات الأخيرة.

سابق بداية الصفحة تالي