مقترحات البحث الأشكال والخرائط الصور المحتويات

مقاتل من الصحراء

معركة الخفجي (تابع)

          بعد أن درستُ خريطة الموقف في مركز القيادة المتقدِّم بعد ظهر يوم 30 يناير، واطلعتُ على آخر تقارير الاستخبارات، هالني ما سمعت من أن اللواء المطيري لم يحصل، حتى ذلك الوقت، على المساندة الجوية التي طلبها. كان عليِّ أن أعالج تلك المشكلة فوراً، ولكن قبل كل شيء، كان عليِّ أن أقدِّر الموقف بناءً على ما تيسَّر من معلومات.

          وكانت الصورة التي ارتسمت في ذهني، بناء على التقارير التي تلقَّيتها تعكس الواقع الآتي: لم يكن هناك نشاط قَطّ على الجبهة لأشهر عدة. ولكن منذ بداية الحملة الجوية، أي منذ 12 يوماً، بدأت تقع بعض المناوشات الصغيرة وتبادُل للقصف بنيران المدفعية والصواريخ ليلاً بين القوات العراقية والقوات السعودية. وسَأَلَتْ قيادةُ مشاة البحرية الأمريكية اللواء سلطان إن كان في استطاعة مدفعيتها من الهاوتزر عيار 155 مم المشاركة في القصف. لذا، كانت مدفعية مشاة البحرية، لعدة أيام، تندفع إلى الأمام عند منتصف الليل لتطلِق نيرانها على الجانب العراقي ثم تُخلي مواقعها بأسرع ما يمكن، وتسمَّى هذه العمليات "اضرب واهرب". وقبل ذلك بأسبوع، أخبرنا أحد الفارّين العراقيين أن رتلاً من الآليات قوامه أكثر من 100 آلية كان يتحرك في اتجاه الحدود بين حقول ألغامهم. وعندما قصفت راجمات الصواريخ السعودية الرتل، أصابت الآلية الأولى، وأجبرته على التوقف. ومن ثم تدخلت طائرات التحالف فدمَّرت معظم آلياته.

          تلقى اللواء سلطان بعد ظهر يوم 29 يناير، أي اليوم السابق على وصولي، تقارير تشير إلى تحركات عراقية مدرعة على نطاق واسع على طول الحدود داخل الكويت. وفي وقت متأخر من تلك الليلة، أخبره ضابط الاتصال الأمريكي، الملحَق على مركز القيادة المتقدِّم أن القوات العراقية، تساندها الدبابات والعربات المدرعة، شنَّت غارات عدة، كل منها بقوة كتيبة، إلى الغرب، في مواجهة المواقع الدفاعية لمشاة البحرية في الوفرة والزبير وبين الرغوة والرافعية، وأنه يجري التعامل معها بنيران المدفعية والصواريخ المضادة للدبابات والضربات الجوية. كما تمّ تدمير آليات عراقية عدة، وأن الاشتباكات الضارية لا تزال قائمة. وعلمت بعد ذلك أن سبعة من مشاة البحرية قُتلوا في أحد تلك الاشتباكات عندما أطلقت عربة مدرعة أمريكية النار على عربة مدرعة أخرى من طريق الخطأ. وهذا أمر وارد عندما يحمَى الوطيس ويختلط الحابل بالنابل.

          علم اللواء سلطان قبل منتصف ليل التاسع والعشرين، من مركز ملاحظة متقدِّم على الحدود، أن القوات العراقية الآلية تتحرك في اتجاه الخفجي. فطلب تدخلاً جوياً لإيقاف تقدمها فوراً، وتلقَّى تأكيدات من مشاة البحرية الأمريكية بأن الطائرات العمودية من نوع كوبرا cobra في الطريق إلى أهدافها. ولكنه علم، بعد مضي 15 دقيقة، أنه لم يحدث أي هجوم جوي ضد القوات العراقية المتقدِّمة، وأن 17 عربة مدرعة عراقية عبرت الحدود فعلاً. كرَّر اللواء سلطان طلبه للضربات الجوية العاجلة، ولكن الأمريكيين لم يحركوا ساكناً. بعد ذلك، تلقى تقريراً بأن 57 مدرعة عراقية، بما في ذلك دبابات t-55 ، تتحرك في اتجاه محطة تحلية المياه على المشارف الشمالية لمدينة الخفجي.

          ومرة ثالثة، طلب اللواء سلطان تدخلاً جوياً لمنْع العراقيين من تعزيز مواقعهم. وفي هذه المرة، أجاب مشاة البحرية الأمريكية بأنهم لن يتمكنوا من تلبية ذلك الطلب، إلاّ إذا انسحبت القوة السعودية الساترة الموجودة غربي الخفجي لمسافة كيلومترين على الأقل. فالجانب الأيمن من تلك القوة قريب من العراقيين، ومحاولة الاشتباك الجوي معهم تُعرِّض الجنود السعوديين لخطر النيران الأمريكية من الجو. تعجَّب اللواء سلطان من أن مشاة البحرية لم يثيروا هذه القضية من قبل. وقام بسحْب تلك القوة إلى الخلف. وكرّر طلب التدخل الجوي للمرة الرابعة.

          وفي تلك الأثناء، كانت سرية مشاة البحرية السعودية لا تزال في الخفجي، ولكن لم يكُن في وسع أسلحتها المضادة للدبابات القصيرة المدى التصدي للدبابات العراقية بمدافعها ذات المدى الأطول. وظل اللواء سلطان على اتصال دائم بأولئك الرجال من طريق الهاتف الخطي واللاسلكي أيضاً. ولكن عندما اشتد هجوم العراقيين عليهم بعد منتصف الليل، أمرهم بالانسحاب. وبانسحابهم انقطعت المعلومات الواردة عن الجبهة.

          كان اللواء سلطان يشعر بمرارة شديدة إزاء عبور كتيبتين عراقيتين (علمنا فيما بعد أنهما من اللواء الخامس عشر للفِرقة الخامسة مشاة آلية) للحدود السعودية في تشكيل قتالي وتقدُّمِهما لمسافة عشرة كيلومترات نحو الخفجي من دون أن يتم تحديدهما أو اعتراضهما من الجو. أثار ذلك التقرير الذي قدمه اللواء سلطان دهشتي وحَنَقي إزاء تقاعس الأمريكيين في توفير الإسناد الجوي لقواتنا. تقاعسٌ امتد من منتصف ليل يوم 29 يناير حتى بعد ظهر اليوم التالي! وسوف أُوْرد كيف بادرتُ إلى الاتصال بمركز العمليات الجوية في الرياض لآمر بالتدخل الجوي. وهذا ما تم بالفعل.

          تعلّلت قيادة مشاة البحرية الأمريكية بأسباب عدة لتفسير عدم استجابة جناح الطيران لطلب اللواء سلطان بالتدخل الجوي بالسرعة المرجوّة. وكان بين تلك الأسباب، أن الخوف من إصابة قواتنا حال دون التدخل. وكان الأمريكيون يرغبون في معرفة مواقع انتشار القوات الصديقة وطبيعة عملها قبل أن يُسقطوا قنابلهم. وأشارت قيادة مشاة البحرية الأمريكية أيضاً إلى أن دخول المدرعات العراقية بين المباني في مدينة الخفجي جعل اكتشافها أمراً صعباً. وقالوا، كذلك، إن مشاة البحرية الأمريكية مدرَّبة على القتال كفريق بري - جوي متكامل، لذلك تتردد قيادتها في استخدام قوتها الجوية دون وحداتها البرية. وفي واقع الأمر، كان لدىّ شعور، حتى قبل ذلك الموقف، أن مشاة البحرية الأمريكية أُرغِموا على وضع طائراتهم تحت القيادة المركزية للفريق هورنر.

          لم أقتنع بتلك الأسباب، وكنت أُفضل لو كان لديّ علم مسبق بها حتى يتسنى لي تدبير "الإسناد الجوي" من مصدر آخر. فمهمة جناح الطيران لمشاة البحرية هي توفير "الإسناد الجوي القريب" للقوات المشتركة عند الضرورة. ولكن عندما حانت هذه الضرورة، وَجَدَتْ مشاة البحرية صعوبة في تنفيذ مهمتها. أمّا القوات الجوية السعودية، فكانت منهمكة في تنفيذ مهام جوية مخطَّطة أخرى (تحددت سلفاً) لمصلحة التحالف، ولم تكن متفرِّغة لإسنادنا في ذلك الوقت.

          أعتقد أن السبب الرئيسي في تأخُّر مشاة البحرية في تقديم "الإسناد الجوي" إلينا كان انشغال تلك القوات بمعاركها الخاصة إلى الغرب من المنطقة الشرقية. وكانت تلك المعارك في تقديرها، أكثر أهمية وأشد خطورة من الأزمة التي كنّا في صددها. كنّا في الخفجي نتعامل مع وحدات من اللواء 15 مشاة آلية من الفِرقة الخامسة مشاة. أمّا في الغرب، فكانت قوات مشاة البحرية الأمريكية تصدّ وحدات من اللواء 20 مشاة آلية، واللواء 26 المدرع التي كانت تحاول، هي الأخرى، عبور الحدود.

          كانت قوات مشاة البحرية الأمريكية قد أنشأت قاعدة إمدادات وتموين رئيسية في الكبريت، على بعد نحو 100 كيلومتر غرب رأس مشعاب، حيث كدّست كل ما تحتاج إليه من إمدادات استعداداً لهجومها المرتقب على الكويت. وانصرف جل اهتمام الفريق والتر بومر قائد مشاة البحرية ، الذي أقام مقر قيادته جهة الغرب في الصحراء، إلى حماية قاعدة الإمدادات تلك. كان يخشى حال فشله في صد الهجوم العراقي في الوقت المناسب، أن يتمكن العراقيون من الاختراق العميق وقطْع خطوط إمداد قواته. كان ذلك شغله الشاغل تلك الليلة واليوم الذي تلاها. ولا شك أن الفريق بومر قَدّر أن انصراف جناح الطيران إلى إسناد القوات في الخفجي من شأنه أن يضعف موقف قواته، إذ من الممكن أن يلتفّ العراقيون على جانبها ويتقدَّموا من جهة الغرب، وتلك كانت نقطة الضعف لدى قوات مشاة البحرية. كان ذلك هو استقرائي للموقف. ولكن، في المحصلة النهائية، كان حصْر مهمة جناح الطيران لمشاة البحرية في المعارك التي تدور في قطاعهم فقط، سبباً لحرماننا من المساندة الجوية التي كنّا نحتاج إليها ونتوقع الحصول عليها.

          لم يؤثِّر تقييمي لتلك الأحداث، في إعجابي الشخصي بالفريق بومر. إذ على الرغم من تشدُّده، فهو قائد ميداني من الطراز الأول، ولا يعيبه اهتمامه الزائد بسلامة قواته وتنفيذ مهامه. وأَعُده حقاً من أفضل القادة العسكريين الأمريكيين الذين عرفتهم.

سابق بداية الصفحة تالي