مقترحات البحث الأشكال والخرائط الصور المحتويات

مقاتل من الصحراء

معركة الخفجي (تابع)

          وفي صباح يوم 30 يناير، توجهت في الطائرة من الرياض إلى قاعدة عبد العزيز آل سعود البحرية في الجبيل، لأقلد الرائد سامي صالح شاهين وعدداً من الضباط والأفراد، الذين نجحوا في إغراق أكبر سفينة حربية في البحرية العراقية، الأوسمة التي مُنِحت لهم. وفي الساعات الأولى من صباح ذلك اليوم، تلقَّيت تقريراً بحدوث غارة في اتجاه الخفجي قامت بها القوات العراقية أثناء الليل. وكان رد فعلي أننا قادرون على التعامل معها. فإذا تهوَّر العراقيون إلى حدّ المغامرة باختراق الحدود، ثم المنطقة الخالية من الدفاعات، فسيتِم تدميرهم من الجو.

          وقبل أن يبدأ احتفال تقليد الأوسمة في القاعدة البحرية، الذي كان مقرراً أن يَتْبَعه مؤتمر صحافي، تلقَّيت تقريراً آخر أكثر خطورة، مفاده أن العراقيين قد عبَروا حدودنا بقوات كبيرة. شعرت بقلق عميق، وحاولت أن أفرغ مما كنت فيه في أقصر وقت لأتعامل مع تلك المشكلة. مرت الدقائق بطيئة متثاقلة كأنها ساعات طوال. ولكنني، لم أشأ أن أقطع برنامج الاحتفال كي لا أنبّه وسائل الإعلام العالمية والمحلية إلى ما يجري، فعقدت المؤتمر الصحافي في موعده المقرَّر، وأجبرت نفسي على الابتسام على الرغم من القلق الذي كنت أشعر به.

          كان مقرَّراً أن أنتقل إلى الظهران، في الطائرة العمودية، لتكريم النقيب طيار عايض الشمراني، بالقوات الجوية السعودية، الذي تمكَّن في طلعة جوية واحدة من إسقاط طائرتين عراقيتين من نوع ميراج f -1. ولكن الأخبار التي تلقَّيتها أثبتَت، بما لا يدَع مجالاً للشك، أن الغارة العراقية لم تكن ضرباً من الكرّ والفَرّ، وأنها تطورت إلى شيء أكبر من ذلك وأخطر. إذ دخلت قوة عراقية كبيرة إلى مدينة الخفجي، وكانت تعزيزات عراقية قوية، تُقدَّر بنحو فِرقتين، تتحرك على الجانب العراقي من الحدود. وعلى أثر ذلك، قررت على الفور أن أطير شمالاً لأتعامل مع الموقف عن كثب.

          توجَّهْتُ إلى ريش المنجور، حيث مركز القيادة المتقدِّم لقيادة القوات المشتركة في المنطقة الشرقية. وكان مركز القيادة مجهَّزاً تحت الأرض ومحاطاً بأكياس الرمل إضافة إلى بعض الخيام. ويقع على مسافة 40 كيلومترا من مدينة الخفجي، و25 كيلو مترا من المنشآت البترولية الساحلية في السفانية ، ويتولى قيادته اللواء سلطان عادي المطيري، وهو عسكري من الطراز الأول، إلاَّ أنني وجدت مركز قيادته في حالة من الاضطراب! فإزاء توغل العراقيين داخل أراضي المملكة، طَلَب اللواء سلطان مراراً من فيلق مشاة البحرية الأمريكية تنفيذ ضربات جوية لإيقافهم. وكان المركز على اتصال وثيق بمشاة البحرية الأمريكية، فهُم يشتركون معنا في منطقة واحدة هي المنطقة الشرقية، ويقومون بتدريبات مشتركة، وثمة ضابط اتصال أمريكي مُلْحقٌ على المركز. ولكن على الرغم من نداءات اللواء المطيري المتكررة، لم تنفّذ أية ضربات جوية، ولم تتحرك طائرات التحالف! كان عدم الاستجابة الفورية بتنفيذ الطلعات الجوية يهدد نجاح إستراتيجيتي في ترْك المناطق الحدودية بلا دفاعات، إذ لا يحقق الهدف المنشود من جعلها مناطق قتل للقوات المعتدية.

          أمضَى اللواء سلطان عادي المطيري معظم الليلة السابقة في عملية استطلاع، ووصل حتى مشارف الخفجي، ورأى بنفسه انتشار القوات العراقية. وبناء على المعلومات التي تلقَّيتها، أَيْقَنْتُ أن الموقف أخطر مما تصوَّرت في بادئ الأمر.

          ومن الجدير بالذكر أنني أعلنت الخفجي مدينة ميتة، عند أول زيارة تفقُّدية قمت بها إلى الميدان، في 16 أغسطس في بداية أزمة الخليج. وتم إعداد خطة لإجلاء كل سكان المدينة، البالغ عددهم نحو 15 ألف نسمة، في حالة تحرُّك العراقيين نحو الجنوب. ولكننا آثرنا إرجاء تطبيق تلك الخطة حتى لا تنشأ حالة من الفوضى والذعر بين السكان. ولم يكن مقرَّراً القيام بإخلاء جماعي للسكان. كما لم يصدر أي أمر يجبرهم على الخروج من المدينة. ولكن بحلول شهر ديسمبر 1990، كان معظم سكان المدينة قد نزحوا عنها إلى أماكن أكثر أمناً داخل البلاد، بينما انتظر بعضهم حلول العطلة الدراسية ليغادروا المدينة. ولم يبقَ فيها سوى بعض الموظفين الحكوميين، وسرية من مشاة البحرية السعودية لحماية المنشآت الحيوية وممتلكات السكان. وهكذا، كانت المدينة مهجورة في واقع الأمر، بعد أن رحل عنها معظم سكانها، وتم إجلاء الباقين منهم مع بدء الحملة الجوية في 17 يناير.

          كان قرار إجلاء السكان عن الخفجي قراراً حكيماً، إذ ظلت المدينة تتعرض منذ بدء الحملة الجوية للقصف بالمدفعية والصواريخ كل يوم تقريبا. وكان الخوف من إقدام صدّام على استخدام الأسلحة الكيماوية هاجساً يشغل بال الناس جميعا. كانت مخازن البترول القائمة في الضواحي الجنوبية من المدينة قد أصيبت، وارتفعت على أثر ذلك سُحُب كثيفة من الدخان إلى عنان السماء. أمّا محطة التحلية، التي كان يعتمد عليها السكان بشكل رئيسي للحصول على مياه الشرب، فتقع شمالي المدينة على بعد ستة كيلومترات فقط من الحدود الكويتية وفي مرمى المدفعية العراقية. وهكذا، أصبحت الخفجي "مدينة أشباح" حقا.

          أوضحتُ في فصل سابق، أنني كنت قد سحبت القوات الأساسية إلى مسافة 40 كيلومترا من الحدود الكويتية إلى خط دفاعي غرب رأس مشعاب، وتركتُ قوة ساترة فقط بالقرب من مدينة الخفجي، على بعد نحو خمسة كيلومترات من الحدود. إضافة إلى ذلك، تمركزتْ سرية من مشاة البحرية السعودية على جانبي الطريق الساحلية شمالي المدينة، وكان يوجد إلى أقصى الشمال مركز حرس سواحل سعودي لا يبعد سوى 800 متر عن المواقع العراقية. وأثناء الأشهر الحَرِجَة الأولى من الأزمة وقبل بدء الحملة الجوية، كان الجنود العراقيون يستحِموُّن في مياه الخليج على مرأى من أفراد حرس السواحل السعوديين.

          كانت المهمة التي أسندتُها إلى تلك القوات الساترة، هي مراقبة تحركات القوات العراقية، والتبليغ عن اقتراب الأرْتال المعتدية. كان عليهم ألا يشتبكوا مع العراقيين وأن يتفادوا الوقوع في الأسر. لم أشأ أن أترك صداماً يظفر بنصر دعائي. فإذا عبَر العراقيون الحدود، كان على القوات الساترة الانضمام فوراً إلى القوات الرئيسية في الجنوب. وكانت خطتي تهدف إلى حماية المناطق الحدودية بالقوة النيرانية، لا بالقوة البشرية. فإذا أقدم العراقيون على الهجوم تصدينا لهم بالقوة الجوية وبأسلحتنا المساندة.

          أرسل الأمريكيون كذلك دوريات استطلاع من مشاة البحرية، ودوريات البحرية المشتركة ( من الفروع الرئيسية: البرية والجوية والبحرية ) لمراقبة الطريق الساحلية، التي تشكل طريق الاقتراب الرئيسية إلى المملكة. ومن حين إلى آخر، كان فيلق مشاة البحرية أو البحرية الأمريكية، ترسل طائرة بلا طيّار ( uav ) لاستطلاع التحركات القائمة على الجانب الكويتي من الحدود.

          وأري أن عليَّ الخروج عن الموضوع قليلاً، لأتحدث عن ادعاء شوارتزكوف بأن إستراتيجية سحب القوات من الخفجي كانت فكرته، وليست فكرتي. إذ يقول في كتابه: "... وفي المراحل الأولى لعملية درع الصحراء أوضحت لخالد أنه يصعب الدفاع عن مدينة الخفجي، ففي وسع العدو أن يقصف مواقعك من الجانب الآخر للحدود في أي وقت يشاء.. ولكن خالداً كان يماري في ذلك، إذ كانت التعليمات الصادرة إليه من الملك فهد تقضي بالدفاع عن كل شبر من المملكة. ولكنه وافق أخيراً وسحب قواته من هناك ". والحقيقة، خِلافا‌ً لِمَا ذكره شوارتزكوف، إنني اتخذت القرار بسحب القوات من الخفجي يوم 18 أغسطس، أي قبل وصوله يوم 26 أغسطس، بثمانية أيام وقبل أن يجري بيننا أي اتصال.

سابق بداية الصفحة تالي