مقترحات البحث الأشكال والخرائط الصور المحتويات

مقاتل من الصحراء

معركة الخفجي (تابع)

          شتان ما بين المعارك الحقيقية، وتلك التي تُرسَم على طاولات الرمل في كليات القيادة والأركان. ففي المعارك الحقيقية لا بد من معايشة لحظات من الارتباك والخوف، ولا يسلم الأمر من بعض الأخطاء الخطيرة. ولم تكن معركة الخفجي استثناءً من تلك القاعدة. كانت المساندة النيرانية من المدفعية والقوات الجوية الصديقة أمراً حيوياً ومحموداً، ولكن تلك المساعدة كانت تُقدّم إلى الرجال في أرض المعركة متأخرة في التوقيت أحياناً، أو قريبة في المكان أحياناً أخرى، مهدِّدة أرواحهم في كلتا الحالتين. وعلى سبيل المثال، حدث صباح ذلك اليوم أن دمرت طائرة عمودية أمريكية دبابة عراقية t - 55، ثم أطلقت النار بطريق الخطأ على عربة مدرعة تابعة للحرس الوطني السعودي، فقتلت سائقها وجرحت بعض أفراد طاقمها جروحاً خطيرة. وعلي الرغم من أن المراقبين الجويين الأماميين الأمريكيين، الذين ألحقوا على الوحدات السعودية قد أدّوا واجبهم خير أداء، إلاّ أن عربات الحرس الوطني لم تكن مميزة لكثير من الطيارين، مما أشاع بعض الارتباك في تحديد هوية تلك العربات.

          لم تكن قواتنا، بالمثل، معصومة من الخطأ. فحتى قبل أن تبدأ المعركة، ومع تحرك الوحدات في تلك الليلة في اتجاه منطقة التجمع، فتحت الدبابات القطَرية النار علي العربات المدرعة التابعة للحرس الوطني، ظناً منها أنها آليات معادية. ولحسن الحظ، لم تقع خسائر جرَّاء ذلك الحادث، الذي أوضح أن الأمر كان يستوجب إجراء بعض الترتيبات الضرورية في اللحظات الأخيرة. وفي تلك الليلة أيضاً، وفي فوضى المعركة، ضلَّت إحدى شاحنات الإمداد الأمريكية طريقها ووقعت في أيدي العراقيين. كان مقرَّراً أن تلتقي الشاحنة مجموعة استطلاع من مشاة البحرية الأمريكية تتحرك جنوبي الخفجي. وعندما واصلت الشاحنة سيرها نحو مدينة الخفجي أجبرتها النيران العراقية على التوقف ووقع سائقاها الأمريكيان، رجل وامرأة، في الأسْر. وأخذ راديو بغداد يَنْعَق شماتة وابتهاجا بتلك الحادثة. والهدف من ذكر تلك الأمثلة، التي اخترتُها عشوائياً، هو أن أبيِّن أن القائد وهو يسعى إلى تحديد الإطار العام للمعركة، لا يمكن أن يتحكم في مئات القرارات التي تصدُر عن الأفراد. فبعض تلك القرارات يكون شجاعاً وبعضها جباناً، بعضها حكيماً وبعضها متهوراً، ويتراكم ذلك كله ليشكّل المحصلة النهائية للمعركة.

          كانت معركة الخفجي قصيرة، ولكنها شرسة كل الشراسة. فقد دارت أنشطتها متزامنة، إلى حدّ ما، في مواقع مختلفة وبأساليب مختلفة. بدأ الهجوم، بعد الثامنة صباحاً بقليل، يوم 31 يناير على محورين. المحور الأيمن، نفّذته الكتيبة الثامنة مشاة آلية من لواء الحرس الوطني مدعمة بسرية مشاة آلية قطَرية. والمحور الأيسر، نفّذته الكتيبة السابعة مشاة آلية من لواء الحرس الوطني مدعمة بسرية دبابات قطَرية وفصيل صواريخ مضادة للدبابات hot. من قطر أيضاً. كان الهدف من الهجوم، التوغل إلى عمق المدينة وتدمير التجمعات العراقية الرئيسية فيها، بينما تتحرك، في الوقت نفسه، كتيبة مشاة بحرية سعودية على الطريق الساحلية بهدف منْع أية تحركات عراقية في اتجاه الجنوب.

          وحين اقتربت العربات المدرعة للحرس الوطني من مدخل المدينة، تصدّى لها العراقيون بكثافة نيرانية من الدبابات والصواريخ. وكانت القوات العراقية متحصِّنة حيث اختبأت إلى جوار الأبنية أو في الخنادق المحصنة. كما تصدى القناصة كذلك لكل محاولات التقدم. وفي أول اشتباك عنيف كانت خسائر وحدات الحرس الوطني قليلة جداً، شهيدا واحدا وأربعة جرحى. وفي العاشرة أعيد تجميع تلك الوحدات وتحصنت في الطرف الجنوبي للخفجي .

          كان السؤال المهم الذي واجه قواتنا وهي تستعد لاستئناف القتال هو، هل يمكِن للقوات العراقية المحاصَرة الحصول على تعزيزات؟ أَوْلَيْتُ الأمر كل اهتمامي آنذاك عندما تلقيت تقريراً بأن لواءً عراقياً مدرعاً ( رُصِدَ أكثر من 100 دبابة وناقلة جند مدرعة ) يتحرك بسرعة عالية من الكويت في اتجاه الحدود ومدينة الخفجي. كان اللواء العراقي في تشكيل قتالي يمتد لأكثر من ثلاثة كيلومترات، ولم تكُن تجري أية محاولة جادة من الجو لإيقافه. كانت تلك اللحظة من أحرج اللحظات بالنسبة إلينا. كنّا ندرك أن قواتنا المهاجِمة ستصبح في خطر مُحدِق إذا وصل ذلك الرتل العراقي المدرع إلى المدينة، إذ كان من شأن ذلك أن يُرَجِّح كفة القوات العراقية.

          لذا، كان لا بد من إيقاف هذا اللواء. فصدرت الأوامر إلى كتيبة الدبابات من اللواء الثامن الآلي، التي أُسندت إليها مهمة قطع طريق التعزيزات إلى الخفجي، بالاشتباك مع العدو. وأَبْلَتْْ تلك القوات بلاءً حسناً. فبعد معركة استغرقت ثلاثين دقيقة، أبلغ قائد الكتيبة أنه نجح في تدمير 12 آلية عراقية، وأن العراقيين بدأوا الانسحاب ليقوموا بعملية إعادة تجميع خلْف الحدود. ولكن طائرات التحالف كانت لهم بالمرصاد في هذه المرة، فتكبَّد العراقيون خسائر جسيمة، مما أجبر بقية قواتهم على التقهقر السريع. وعندما رأى أحد ضباطنا، برتبة ملازم، العراقيين يُوَلّون الأدبار، انطلق في أثرهم ومعه عربتان أو ثلاث. ولسوء حظه، دخل منطقة للنيران الحرة كانت تُقْصف آنذاك من الجو بشدة. واستطاع أن ينجو بنفسه ولكن قُتل اثنان من رجاله بنيران صديقة من الجو. كان تصرفاً فردياً متهوراً، إذ لم يكن عليه أن يتقدَّم ولكنه تقدَّم، وتلك مخاطر الحرب التي يصعب التنبّؤ بها.

          بعد أن أُجْهِضَت محاولة التعزيز العراقية الضخمة، تقدمت إلى المدينة الكتيبتان السابعة والثامنة مشاة آلية التابعتان للحرس الوطني، تساندهما سريتان قطَريتان، إحداهما سرية دبابات والأخرى سرية مشاة آلية مدعمة بفصيل صواريخ للدبابات hot،س فانهالت عليها نيران القناصة العراقيين إلى جانب نيران الدبابات والرشاشات الثقيلة، كما عرقلت تقدمها أيضاً نيران المدفعية العراقية التي كانت تطلَق من شمال المدينة. خاضت قواتنا، ذاك الصباح كله، عدداً من الاشتباكات مع العراقيين من شارع إلى شارع ومن بيت إلى بيت، تأخذ الأسرى وتكبّد العراقيين المدافعون خسائر فادحة.

          وقرب الظهر، عندما استدعت قوات الحرس الوطني سيارات الإسعاف لكي تخلي الشهداء والجرحى في صفوفها، شنّت الدبابات العراقية هجوماً مضاداً عنيفاً، فدمرت سيارتي إسعاف وأمطرت قافلة الإغاثة بوابل من نيران الرشاشات.

          وفي الساعة (1330)، سَعِدْتُ عندما عَلِمْتُ أن قواتنا المهاجمة شقّت طريقها إلى الجانب الآخر من مدينة الخفجي، وأن المقاومة العراقية انهارت أو تكاد. ويجب ألاّ ننسى هنا أن القتالَ داخل المدن قتالٌ صعب وخطِر بلا شك، إذ ظلت بعض جيوب المقاومة هنا وهناك، بعضها لا يجرؤ على الاستسلام، وبعضها الآخر عازم على مواصلة القتال. كانت أصوات الطلقات لا تكاد تنقطع. واستمر العراقيون، أثناء انسحابهم، في توجيه نيران مدافعهم وراجمات صواريخهم إلى المدينة. وحاول بعض العراقيين الفرار في اتجاه الشمال على إحدى الطرق الساحلية الوعرة بعد أن أَيْقَنوا بالهزيمة، ولكنهم لم يَسلموا من الهجمات الجوية وفقدوا 12 دبابة أخرى في محاولة الفرار تلك. كما أن بعض الآليات تركت سليمة بعد أن غادرتها أطقمها. لم تكن القوات العراقية على الأرض تتمتع بأية مساندة جوية، فغدت بذلك عرضة لهجمات التحالف الجوية، أمّا المدافع السوفيتية الصنع المضادة للطائرات من عيار 57 مم التي كانت بحوزة العراقيين، فلم تُسْتخدم بشكل فعال.

          وخلاصة القول، إنّ المعركة كانت شرسة حقاً، وخاضها العراقيون بشجاعة وأبدَوا مقاومة عنيدة إلى أن انهارت معنوياتهم. وذَكر اللواء سلطان في تقريره الذي رفعه إليّ أن 32 جندياً عراقياً قتلوا وجُرِح 35 وتم أسْر 463 آخرين. وكانت خسائر الجانب العراقي في المعدات تدمير11 دبابة t -55، إضافة إلى 51 ناقلة جند مدرعة، كما تم الاستيلاء على 19 عربة مدرعة أخرى. أمّا الخسائر في الجانب السعودي، في نهاية اليوم، فكانت استشهاد 18 وجرْح 32 آخرين إضافة إلى فَقْد 11 عادوا جميعهم بعد ذلك من دون أن يلحق بهم أي أذى. ولم تكن هناك خسائر في الجانب القطَري. أمّا الخسائر في المعدات، فكانت ثلاث دبابات وراجمة صواريخ واحدة وسيارتي إسعاف. وهكذا انتهت المعركة، وكتب الله لنا فيها النصر المبين.

          وبكل الفخر والاعتزاز، اتصلت هاتفيا بخادم الحرمين الشريفين، القائد الأعلى للقوات المسلحة لأزف إليه الخبر:

"مولاي.. حرّرنا الخفجي وطهّرنا تراب الوطن من دنس المعتدي. والخسائر كانت كذا وكذا وأعداد الأسرى كذا وكذا... ".

          سعد الملك بهذا الخبر كل السعادة. كان يدري أن المعركة لم تكن سهلة على الإطلاق، وأنها قد "عركتني عرك الرّحى بثفالها". ضحك وقال: "قد أكون أغلظت لك القول في اليومين الماضيين، لكنني كنت واثقا بأنك أهلٌ لتنفيذ المهمة". وهزّتني تلك الكلمات من الأعماق.

          أردف يسألني: "وماذا ستفعل الآن؟". قلت إننا سوف نبدأ استجواب الأسرى، أريد أن أسمع منهم وقائع الأحداث. كنّا نستعد لبدء الحرب البرية لتحرير الكويت بين عشية وضحاها، ولا بد أن يتوافر لنا أكبر قدر من المعلومات عن حالة الجنود العراقيين.

          كانت توجيهات الملك في ذلك الشأن واضحة ومحددة، إذ قال لي: "لا تنس أن هؤلاء الأسرى أُجبروا على قتالنا، فَقَبْل أن تشرع في استجوابهم تأكد أنهم استراحوا واغتسلوا وأُلبسوا ملابس نظيفة وقُدّم إليهم الطعام ولا تستجوبهم قبل ذلك". نفذت تعليماته بكل دقة.

          ذهبت للقاء أول دفعة من الأسري، فإذا بأسير منهم يرمي بنفسه عند قدمي ويحاول أن يُقَبِّل حذائي، وهو يلهج بطلب الرحمة. ثم قال وهو ينتحب إن لديه خمسة أطفال وهو عائلهم الوحيد، ولم يأت إلى القتال إلاّ مرغَماً. فأمرته بالوقوف فوراً وطمأنته أنه لن يتعرض لأذى. تأثرت بذلك المنظر كثيراً حتى إنني قررت ألاَّ أُجري أي اتصال مباشر مع الأسرى العراقيين، إذ رقّ قلبي لحالهم.

سابق بداية الصفحة تالي