مقترحات البحث الأشكال والخرائط الصور المحتويات

مقاتل من الصحراء

معركة الخفجي (تابع)

          وبينما كنا نضع اللمسات الأخيرة على خطة الهجوم المضاد لتحرير الخفجي، جاءني ضابط الاتصال الأمريكي بنبأ جعلني أُعيد النظر في توقيت تنفيذ تلك الخطة. إذ أخبرني أن طاقمين ( يضم أَحَدُهما ستة أفراد والآخر خمسة ) من أطقم الإسناد النيراني لمشاة البحرية الأمريكية محاصَران فوق سطح أحد المنازل في الأطراف الجنوبية لمدينة الخفجي. فقرَّرت أن نعمل على إنقاذهما.

          كانت مهمة أطقم الإسناد النيراني التي تُعرف بـ " أطقم أنجليكو" anglico ( كلمة مكوَّنة من الأحرف الأولى لسرايا إدارة النيران الجوية البحرية )، هي تحديد الأهداف المعادية ومن ثَم توجيه النيران إليها من الطائرات أو مدفعية القوات البحرية أو البرية. وكنت قد وافقت، في الأسابيع التي سبقت الغارة العراقية وقبل أن تتوقف حركة المرور من المدينة وإليها، لمشاة البحرية أن تُرسل أطقم استطلاعها داخل المدينة وحتى الحدود لرصْد التحركات العراقية. كانوا يتجولون حول المدينة بعرباتهم لاستطلاع كل ما يجري، ثم يبحثون عن موقع مناسب يُمكّنهم من رصْد القوات المعادية. وكانت لديهم القدرة على طلب النيران. وكانت الأطقم مزوّدة بالمناظير الميدانية، وأجهزة الرؤية الليلية والاتصالات اللاسلكية المأمونة مع قيادتها، وتستغرق مهمتها الاستطلاعية عادة يومين في كل مرة. وكانت عربتهم تنسحب بعد تمركزهم في موقع المهمة لتعود لالتقاطهم. فَلَمْ تكن ثمة وسيلة لعودتهم بعد انتهاء مهمتهم غير ذلك. ومن الواضح، أن أحداً لم يتوقع دخول العراقيين مدينة الخفجي. ولكن بعد انسحاب وحدات القوات الخاصة، وسرية مشاة البحرية السعودية، قطع التقدم العراقي السريع الطريق على طاقمْي أنجليكو. أو ربما فَضّلا البقاء في مكانهما. علمت آنذاك، أنهما زرعا الألغام حول مكان اختبائهما، وكانا على استعداد للقتال حال اكتشاف أمرهما.

          وما أن سمعت الخبر حتى قلت للواء سلطان: " يجب أن نأخذ في الاعتبار الآن أولوية إنقاذ طاقميْ مشاة البحرية، في إطار خطتنا لتحرير الخفجي".

          كنت مصمماً على إنقاذ هذين الطاقمين لسببين رئيسيين. أولهما، أن الأولوية الرئيسية للقائد هي إنجاز مهمته بأقل قدْر من الخسائر في الأرواح. كانت لدينا الإمكانات لطرْد العراقيين من الخفجي دون التضحية بأرواح جنودنا أو جنود حلفائنا، فَلِمَ لا أفعل ذلك؟ لم تكن القضية بالنسبة إليّ قضية جنسية الجنود، سعوديين أو أمريكيين. كانت معركتنا واحدة، ولَمّا كان الجنود الأمريكيون يؤدّون مهامهم داخل قطاعي فقد أصبحت مسؤولاً عن سلامتهم. وثانيهما، وعليّ أن أعترف أنه السبب الأكثر أهمية، هو أنني كنت أخشى أن يُقْدِم شوارتزكوف على استخدام القوات الأمريكية، سواء أكانت من قوات مشاة البحرية لتنفيذ هجوم برمائي أم وحدة من الجيش الأمريكي المحمولة جواً، لتحرير المدينة التي تقع في قطاع مسؤوليتي. كان من شأن ذلك أن يكون وصمة عار لا يمحوها الدهر، ولا يمكنني تحمّلها. كنت أخشى أن يضطر شوارتزكوف أو بومر، تحت ضغط تحرير مشاة البحرية المحاصرين، إلى اتخاذ إجراء أمريكي. فاتصلت بنائبي اللواء عبد العزيز آل الشيخ وقلت له: "إلزم شوارتزكوف ولا تَدَع أحداً يتخذ أي إجراء. إنها معركتي ولن يقودها غيري". تأكدت كذلك أن مشاة البحرية الأمريكية أدركت ما كنت أقصده من أن إنقاذ زملائهم يأتي في مقدمة أولوياتي.

          في ضوء هذا الموقف الجديد، طلبت من اللواء سلطان أن يُعِد خطتين لعمليتين منفصلتين. الأولى، شنّ غارة، في تلك الليلة نفسها، على الأطراف الجنوبية لمدينة الخفجي بهدف عزل المبنى الذي يختبئ فيه مشاة البحرية المحاصَرون، وإرغام القوات العراقية في المناطق المجاورة على التراجع أو التعرض للتدمير، ما يضمن تحرير الطاقَمين، ومن ثم الانسحاب. أمّا العملية الثانية فهي هجوم شامل يُشَنّ في صباح اليوم التالي على القوات العراقية في الخفجي.

          قرَّرنا في تشكيلنا لـ"قوات الواجب" لهاتين العمليتين أن يكون الدور الأساسي فيهما لقوات من اللواء الثاني مشاة آلية من الحرس الوطني، وهي وحدة عالية الفعالية، مجهَّزة بخمسمائة عربة مدرعة خفيفة أمريكية الصنع من نوع كاديلاك جيج cadillac gage و tow المضادة للدبابات. وكان هذا اللواء قد هُرع مباشرة، بعد غزو صدّام الكويت إلى الجبهة من مواقعه أيام السلم بالقرب من الدمام في المنطقة الشرقية. ومعظم جنوده من رجال القبائل المتمرِّسين بحياة البيئة الصحراوية وبالقتال فيها وأمضَوا عدة أشهر يتدرّبون في قطاعي.

          كان الملك فيصل قد عَهِد إلى ولي العهد، الأمير عبدالله بن عبد العزيز، برئاسة الحرس الوطني في أوائل الستينات. وكان الحرس الوطني، وقتها، لا يعدو أن يكون مجموعة من المجنّدين غير النظاميين بأسلحة ضعيفة، يعوزهم النظام والانضباط، ولم يكن لهم زِيّ رسمي. ومن هذه الخامة استطاع الأمير عبدالله أن يبني قوة مقاتلة حديثة جيدة التدريب، تتكون من لواءي مشاة آلية وأربعة ألوية مشاة. وكان للواءين الآليين دور إستراتيجي خفيف الحركة للاستجابة الفورية للطوارئ الداخلية. أما ألوية المشاة فمهمتها تأمين المنشآت الحيوية في أنحاء البلاد المختلفة، مثل المنشآت البترولية ومحطات التحلية ومحطات توليد الطاقة. وعندما اندلعت أزمة الخليج نقل سمو الأمير عبدالله السيطرة العملياتية لوحدات الحرس الوطني من المشاة الآلية إلى القوات البرية السعودية، ومن هنا كان لي شرف قيادة تلك الوحدات.

          أُسنِدَت مهمة تحرير جنود مشاة البحرية المحاصَرين إلى سرية من اللواء الثاني من الحرس الوطني السعودي، تساندها في الاحتياط، سرية من اللواء الثامن من القوات البرية السعودية. ولسوء الحظ، لم ينجح الهجوم المباغت الذي قاموا به عند الشفق (آخر ضوء) يوم 30 يناير على الأطراف الجنوبية لمدينة الخفجي. فالشوارع العريضة لمدينة الخفجي لم توفِّر لهم ساتراً جيداً، بينما احتلت القوات العراقية المباني المحيطة بالموقع الذي يختبئ فيه المحاصَرون من مشاة البحرية الأمريكية. وكان مقر القيادة العراقية في فندق على مقربة من ذلك المبنى. وعندما اندفعت عربات الحرس الوطني الخفيفة (المدولبة) إلى المنطقة، بادر القناصة العراقيون إلى إطلاق النار على إطاراتها المطاطية، ونجحوا في إعطاب عشر منها. فقرّرنا في محاولة الهجوم الثانية دَفع العربات المجنزرة من السرية الاحتياطية من اللواء الثامن، فتكلَّلت المحاولة بالنجاح. ونجحت سرية اللواء الثامن، بعد معركة شرسة، في إجبار العراقيين على التراجع، حتى تمكَّنا أخيراً من تحرير جنود مشاة البحرية الأمريكية. جُرِحَ أحدهم جرحاً طفيفاً بإحدى الشظايا المتطايرة. ولم تحدث خسائر في الأرواح في صفوف قواتنا، ولكننا أُرغِمنا على ترك بعض العربات الخفيفة المعطوبة، التي لم يكن من الصواب إشراكها في العملية بادئ ذي بدء.

          سعدت لذلك، إذ تبددت كل مخاوفي في شأن التدخل الأمريكي. وأعاد اللواء سلطان، بعد ذلك، تجميع القوات جنوبي الخفجي، وأَمْضَتْ ليلتها تلك في تبادل القصف المدْفعي مع العراقيين.

          وفي ذلك الوقت، كانت استعداداتنا للهجوم الرئيسي قد اكتملت، وقواتنا اتخذت مواقعها في منطقة التجمع جنوب الخفجي، وكانت تتكون من:

          ولإحكام الحصار حول العراقيين داخل المدينة قرَّرنا ما يأتي:

          خطَّطت، في البداية، للهجوم مع شروق شمس يوم 31 يناير. ولكني علمتُ من اللواء سلطان أن الجنود العراقيين يستيقظون مبكرين ويمارسون أعمالهم لساعة أو نحوها، تعقبها فترة راحة في الثامنة. لذا، قرَّرتُ أن يبدأ الهجوم الثامنة صباحاً.

          كنت واثقاً أن النصر - بعون من الله - سيكون حليفنا. فقد عنينا بكل شيء: بالخطط، وقوات الواجب، وتلقين القادة. كانت قواتنا متأهبة، ومعنوياتها مرتفعة.

          قلت للواء سلطان: "الآن أترك الأمر لك ولن أتدخل، وإذا احتجْتَ إلي مساعدتي فستجدني إلي جانبك". ويطيب لي أن أشيد بتنفيذه الدقيق للخطط في الساعات الأربع والعشرين التي تلت ذلك.

          كانت قواتي مستعدة في مواقعها، وطائرات التحالف تقصف التعزيزات العراقية طوال الليل، "والإسناد الجوي القريب" في صباح الغد قادمٌ لا محالة. عند ذلك، أحسست بقدْر كبير من الراحة، وقررت أن أختلس قسطاً من النوم. كنت في الرياض لا أنام أكثر من ثلاث ساعات متواصلة، إذ كانت غرفة نومي في الطابق الأسفل في وزارة الدفاع مجاورة لغرفة مكتبي، وكنت أستيقظ لتلقِّي المكالمات ومراجعة الخرائط وما إلي ذلك من مهام أخرى. ولكنني، في ريش المنجور، اقتنصت تلك الليلة ست ساعات كاملة من النوم المتواصل. ففي ليلة أول معركة لي، استمتعت بأكبر قسط من النوم.

سابق بداية الصفحة تالي