مقترحات البحث الأشكال والخرائط الصور المحتويات

مقاتل من الصحراء

معركة الخفجي (تابع)

          بعد ساعات من انتهاء المعركة، أمرني الملك أن أقابل مندوبي وكالات الأنباء في الخفجي، لأعلن للعالم أجمع أن الخفجي قد عادت إلى السيادة السعودية. توجَّهت إلى الخفجي مع ضباط أركان قيادتي المتقدِّمة، يغمرني شعور بالعزة والفخار. أطفأنا أضواء العربات حتى لا نلفت الانتباه. كانت القنابل العراقية المضيئة تحيل ظلام الليل نهاراً. وكانت تلك محاولة من جانبهم لاستبانة تحركات قواتنا ليوجهوا إليها نيرانهم. كانت أصوات انفجار قذائف المدفعية لا تزال تُسمع مدوية، بينما فلول القوة العراقية تحاول الانسحاب وراء الحدود.

          وعند مدخل الخفجي، استوقفتنا نقطة تفتيش يقوم عليها مشاة البحرية السعودية. ورجاني العقيد عمَّار محمد القحطاني قائد الكتيبة، ألاَّ أدخل المدينة، وقال إن الوضع لا يزال خطيراً. كنت أعرف عماراً منذ الطفولة، وأعرف شجاعته ورباطة جأشه. لم تكن عملية تطهير المدينة من جيوب المقاومة الصغيرة قد انتهت بعد، وكان القناصة لا يزالون مختبئين داخل الأبنية، جثث القتلى لا تزال متناثرة. انفجرت، في تلك اللحظة، قذائف عراقية على مقربة مِنّا، بينما كانت طائرات b - 52 تقصف القوات العراقية المنسحبة فتضيء قنابلها ظُلمة الليل. صاح العقيد عمار، كأنما انتابته حالة من الهستيريا "فلْتحاكمني عسكرياً إن شئت، لكنني لن أدَعَك تمر من هنا"، وفتح ذراعيه وتسمّر أمام عربتي محاولاً أن يسد الطريق. ولكنه ما أن رأى تصميمي على التقدم، حتى أسرع إلى العربة، وفوجئت به يقبل رأسي وكأنما يدعو لي بالسلامة.

          وصلنا إلى شارع المدينة الرئيسي، قبل أن يصل مراسلو الصحافة والتليفزيون ووكالات الأنباء. وكانت هناك دبابة عراقية لا تزال النيران مشتعلة فيها، وقد تناثرت على مقربة منها خمس جثث عراقية. نشرت خرائطي على مقدمة عربة مدرعة عراقية معطوبة، ووقفت أنتظر المراسلين.

          وفجأة، دوّى صوت انفجار إلى جانبنا، حين حَرّك أحد الضباط برتبة نقيب، ممن يقفون إلى جواري شيئاً بحذائه. ولم أرَ في حياتي رجلاً يقفز هكذا. لا بد أن حاسة سادسة نبهته فقفز عالياً في الهواء قبل أن يحدث الانفجار ولحسن حظه لم يصَب بأذى، ويبدو أنه كان شرَكاً خداعياً لكن الصوت أشبه ما يكون بانفجار قذيفة من عيار كبير. وفي لحظة الانفجار، انقض عليّ خمسة من حراسي المتحمسين وحملوني حمْلاً في الاتجاه الآخر، وروَّعني هجوم حراسي أكثر مما روَّعني الانفجار نفسه. وحاولت، دون جدوى، أن أتملّص منهم وأقف على قدمي، ولكنهم لم يتركوني إلا بعد أن انطلقوا بي مسافة لا تقلّ عن خمسين متراً.

          وصل بعد ظهر ذلك اليوم نحو 40 من مراسلي الصحافة والتليفزيون ووكالات الأنباء جواً من الرياض إلى رأس مشعاب، ومن "مركز معلومات الإعلام" في الظهران. ثم نُقلوا في حافلة إلى الخفجي، لكنهم تحركوا ببطء وحلّ عليهم الظلام فجأة وهم لا يزالون على الطريق. لم يجرؤ سائق الحافلة على إضاءة أنوارها خوفا من أن يستجلب النيران العراقية، وفَضّل أن يتحرك ببطء حتى لا ينحرف عن الطريق. كان المطر المدرار سبباً في جعل أرض الصحراء زَلِقة، كما لو كانت مغطاة بالثلوج.

          وعندما وصل المراسلون أعطيتهم وصفاً أولياً للمعركة التي ولجتْ باب التاريخ. كانت أكبر معركة تدور رحاها على الأراضي السعودية في العصر الحديث. وأول معركة تدور داخل المناطق المبنية، وأول اختبار للكفاءة القتالية للقوات السعودية والقطَرية. كما كانت أول معركة في هذه الحرب يقودها أمير سعودي. وهذا يعني الكثير لي شخصياً.

          وعلى الرغم من أنني كنت أرحب بالحديث إلى المراسلين الأجانب، إلاّ أن تلك المؤتمرات الإعلامية التي تتم في الميدان لا تسير دائماً على ما يرام. إذ كان المراسلون ومصورّو التليفزيون يتدافعون بالمناكب ليحصلوا على مكان مناسب، وهم يدفعون بميكروفوناتهم في وجهي. كما سُلَطت عليَّ الأضواء الكاشفة التي جعلتني هدفاً سهلاً من مسافة كيلومترات عدة، لمن يريدون اغتيالي. وعلمت في اليوم التالي أن 20 من الجنود العراقيين المسلحين كانوا يختبئون في مبنى لا يبعد سوى 300 متر من المكان الذي كنت أتحدث فيه، وكنت في مرمى أسلحتهم. وعندما سلّموا أنفسهم طلبوا أن يعامَلوا كلاجئين عسكريين، وليس كأسري حرب، مكافأة لهم على عدم إطلاقهم النار عليّ!

          وبعد المؤتمر الصحافي، أمضيت ليلة أخرى في مركز القيادة المتقدِّم، وفي صباح يوم الجمعة عدت جواً إلى الظهران لأقلِّد النقيب الشمراني الوسام الذي يستحقه، كما كان مقرّراً قبل أن يستحوذ احتلال الخفجي على اهتمامي كله.

سابق بداية الصفحة تالي