مقترحات البحث الأشكال والخرائط الصور المحتويات

مقاتل من الصحراء

حرب تحريرالكويت (تابع)

          تم تحديد يوم 24 فبراير تاريخاً لبدء الحرب البرية بناءً على عدة عوامل، من أهمها أن بيانات الأرصاد كانت تشير إلى ملاءمة الأحوال الجوية في تلك الفترة لتنفيذ أعمال قتالية. وثمة عامل مهم آخر، هو الحاجة إلى استكمال نقل التعزيزات الأمريكية من المسرح الأوروبي ( إذ لم يصل بعضها إلى المملكة إلاّ في منتصف شهر فبراير ). كما كانت المملكة حريصة على إنهاء القتال قبل بداية شهر رمضان، الذي كان يوافق 17 مارس من ذلك العام، فالمسلم يتأثر بشهر الصيام قلباً وقالباً، لا سيما في المملكة، مهْد الإسلام. يضاف إلى ذلك، أن تأجيل بدء الحرب إلى ما بعد شهر رمضان كان يعني أن يدور القتال في وهج الصيف القائظ، فالصيف يلقي مراسيه في المملكة في غضون شهر أبريل. في ضوء هذه العوامل جميعها، كان النصف الأخير من شهر فبراير هو أكثر الأوقات ملاءمة لشنّ الحرب البرية.

          وثمة عامل مهم آخر أسهم في تحديد بدء العمليات البرية، هو عدم التأكد من نسبة التدمير الذي أحدثته الحملة الجوية على القدرات القتالية العراقية. إذ لم يتوقع بعض المراقبين أن تستمر الحملة الجوية أكثر من أسبوع أو أسبوعين، ولكنها استمرت ما يقرب من ستة أسابيع. فلم نكن نريد شَنّ الحرب البرية قبل التأكد من أن القدرة القتالية لقوات صدّام قد انخفضت بنسبة 50% على أقلّ تقدير. وكنت أُثير هذا الأمر دائماً في حواري مع شوارتزكوف. وكما سبق أن ذكرت، كنت أشعر أن اهتمام مُخَطِّطِي الحملة الجوية كان مُنْصباً على تدمير الأهداف داخل العراق أكثر منه على إضعاف القوات العراقية في الخطوط الأمامية. كانت قواتي، في المنطقتين الشرقية والشمالية، تستعد لتنفيذ المهمة الأصعب، وهي اختراق الدفاعات العراقية حول الكويت لذلك، أعلنتها صريحة أننا لن نتحرك حتى نتأكد من تحقيق نسبة الخسائر المطلوبة في القوات العراقية.

          يستخدم العسكريون مصطَلَح "تجهيز ميدان المعركة" لوصف الإجراءات التي تُتَّخَذ لإضعاف قدرة العدو قبل الاشتباك معه. وفي حرب الخليج، تمت عملية التجهيز لميدان المعركة بكفاءة عالية، إذ اشتملت على العناصر الأساسية التالية:

          وإن كنت، في فصل سابق، قد قدَّمتُ وصفاً مفصلاً للحملة الجوية، فلا بأس هنا من أن أذكّر فقط بضخامة حجمها. تم تنفيذ أكثر من 100 ألف طلعة جوية، مقاتلة ومساندة، أُطلق خلالها 288 صاروخاً من نوع كروز توماهوك على أهداف حيوية في كلٍّ من العراق والكويت.

          بات واضحاً أن قوة العراق قد استُنْزِفَت، وقواته المسلحة قد أُنهكت، بفعل القصف الجوي الذي لم يسبق له مثيل. وتوافرت لدينا الدلائل القوية أن القادة العراقيين في المستويات كلها، بمن فيهم صدّام نفسه، كانوا يجِدون صعوبة بالغة في الاتصال بالوحدات الأمامية. فغارات التحالف أجهزت على شبكات القيادة والسيطرة والاتصالات، وأصبحت القوات العراقية في الميدان معزولة مذعورة، مرتبكة وجائعة، ولم يكن لديها معلومات واضحة عن مواقع وحداتها، ناهيك من مواقع وحدات التحالف. كما دمَّر القصف الجوي أكداساً هائلة من المعدات والمؤن العراقية، وأدى الضرر الذي لَحِق بالجسور والطرق والسكك الحديدية إلى قطع المواصلات بين بغداد وجبهة القتال، فضعُف سيل الإمدادات والمؤن حتى انقطع أو كاد.

          لم يكن تردِّي حالة القوات العراقية فى الجبهة خافياً على أحد. إذ أَبْلَغَنَا عددٌ من الفارّين أن الروح المعنوية للجنود كانت في الحضيض، وما منع الأعداد الكبيرة منهم من الفرار إلى جانب قوات التحالف، إلا فِرَق الإعدام التي كانت تتجول بين الصفوف. كنت أُطلق عليها "كتائب الإعدام" في حديثي إلى وسائل الإعلام، وكان ذلك أمراً لا يصدِّقه بعض المراسلين، حتى اللواء نيل neal، المتحدث العسكري الأمريكي، رفض تأكيد وجود مثل تلك الكتائب عندما سُئِلَ عنها. ولكن اتضح، بعد الحرب، أن وجودها حقيقة لا مراء فيها.

          كان التحالف يدرك أن العراقيين خارَتْ قواهم وضعُفت عزائمهم على القتال، إلاَّ أن بعض الجوانب العسكرية كان لا يزال يكتنفها الغموض. أعدَّت مصادر استخباراتنا إحصائيات مطولة بعدد الدبابات والعربات المدرعة وقطع المدفعية التي تم تدميرها، ولكن التباين في الآراء كان كبيراً في شأن تلك الإحصائيات. فعلى الرغم من انتصارنا في الخفجي، وما أظهرته تلك المعركة من تَدَنِّي الروح المعنوية للعراقيين، إلاّ أننا كنّا نشعر بعدم وضوح الرؤية إلى الموقف الذي سنواجهه.

          ومع اقتراب موعد المعركة البرية، بدأ السؤال الذي كان يشغلنا منذ البداية، يصبح أكثر إلحاحاً وأهمية: "هل يُقْدم صدّام على استخدام الأسلحة الكيماوية؟". كنت أرى أنه لن يجرؤ على ذلك، إذ كان يدرك، دون شك، أنه إذا استخدم الأسلحة الكيماوية فسيثير الولايات المتحدة ويدفعها إلى تدميره نهائياً. وهذا ما أوضحه جيمس بيكر، وزير الخارجية الأمريكي، لـطارق عزيز، وزير الخارجية العراقي، أثناء لقائهما المقتضب في جنيف في التاسع من يناير. ولمّا كان صدّام حريصاً على حياته أكثر من أي شيء آخر، فقد بدا لي أنه لن يُقدِم على استخدام مثل تلك الأسلحة.

          ومع ذلك كله، لم يكن في وسعنا أن نجزم بأنه لن يستخدمها. إذ كنّا نعلم أن العراق بداية عام 1990، أصبح يمتلك القدرة على إنتاج آلاف الأطنان من المواد الكيماوية سنوياً، ولديه الوسائل اللازمة لحمْلها وإطلاقها بواسطة قنابل الطائرات وقذائف المدفعية. كما سبق للعراق أن استخدم غاز الأعصاب والغازات الحارقة في آخر أعماله الهجومية على إيران عام 1988 . فهل يسلك صدّام مسلكاً انتحارياً، ويرمي إلينا بمفاجأة التحدي الكيماوي كآخر سهْم في جعبته؟ كان علينا أن نأخذ التهديد باستخدام الأسلحة الكيماوية مأخذ الجد. لذا، بادرنا إلى تزويد قواتنا بالألبسة الواقية وحُقَن "أوتروبين" المضادة لغازات الأعصاب.

          ومبْلغ علمي أن القوات العراقية لم يكن لديها مخزون من الأسلحة الكيماوية في أرض المعركة. ولم تكتشِف وحدة التطهير التشيكوسلوفاكية أية آثار لغاز الأعصاب أو غاز الخردل. ولكن بعد انتهاء الحرب بعدة شهور، اشتكى كثير من الجنود الأمريكيين الذين شهدوا الحرب، من صداع وطفح جلدي وكحة وإسهال وغير ذلك من الأمراض، التي يُعتقد أن مردّها إلى الحرب. حتى إن هذه الأعراض المَرَضية يُطلَق عليها، أحياناً، "أعراض حرب الخليج".

          ليس ثمة دليل قاطع، حتى الآن، على أن تلك الأعراض سببُها حرب الخليج، إلا أن إدارة الرئيس كلينتون clinton أعلنت في يونيه 1994 مساندتها لتشريع يقضي بتعويض العسكريين الأمريكيين الذين يعانون تلك الأعراض. أمّا في بريطانيا، فقد نفى السير بيتر بيل sir peter beale، كبير الأطباء في الجيش البريطاني، وجود مثل تلك الظاهرة. وكتب في خطاب أرسله إلى المجلة الطبية البريطانية يقول: "لم يتوافر لدينا أي دليل يشير إلى أن هناك ظواهر مرَضَية تقتصر على أولئك الذين خدموا في حرب الخليج". وعلى الرغم من ذلك، تردد في نوفمبر 1994 أن أكثر من 400 من العسكريين البريطانيين كانوا يخطِّطون لمقاضاة وزارة الدفاع البريطانية بدعوى اعتلال صحتهم جرّاء حرب الخليج.

          ومن الأرجح أن تكون تلك الأعراض ناجمة عن الأقراص والحُقَن التي أُجبرت القوات الأمريكية والبريطانية على تعاطيها، خشية أي هجوم بالأسلحة الكيماوية أو البيولوجية. بينما لم تتعاطَ القوات التي كانت تحت قيادتي أية عقاقير أو أمصال من ذلك النوع، ولم تظهر عليها أعراض من تلك التي يُدَّعى أنها ظهرت على الآخرين، على الرغم من أنها دخلت الكويت وكان يمكن أن يعرِّضها ذلك للغازات الكيماوية أو المواد البيولوجية العراقية، إن وُجِدَت. وكنت قد طَلَبتُ من حلفائنا الأمريكيين، قبل بداية الحرب، أن يزوِّدونا بالأمصال اللازمة لقواتنا، ولحسن الحظ، لم تكن لديهم جرعات كافية منها.

          وإزاء احتمال استخدام صدّام الأسلحة الكيماوية والبيولوجية، كان على قوات التحالف اتخاذ التدابير اللازمة. ففي الأسبوع السابق للحرب البرية، تركَّز الانتباه على مدفعية صدّام إذ تُعَدّ الوسيلة الوحيدة المحتَمَلة لإطلاق الأسلحة الكيماوية بعد أن شُلَّتْ قدراته الجوية، ومن ثَم تم قصف منطقة الاقتحام حول الكويت وبوجه خاص مواقع المدفعية العراقية، بـ 11 ألف قذيفة مدفعية وبنيران كثيفة من مصادر أخرى، مما أسفر عن تدمير مئات المدافع العراقية.

          وعلى الرغم من أننا لم نتعرض لهجمات كيماوية، إلاَّ أن الملابس الواقية التي زُوِّدت بها قواتنا لهذا الغرض، كانت لها منافع كثيرة، وعلى نحو لم نكن نتوقعه، إذ كانت خير واقٍ لنا من البرد، فالطقس في شتاء عام 1991 كان بارداً ورطباً بشكل غير مألوف. ليس هذا فحسب، بل أعانتنا على الوقاية من التلوُّث والدخان الذي كان يتصاعد من آبار البترول الكويتية المحترقة. فالبدلة الواقية تشتمل أيضاً على حذاء وقفازين وغطاء للرأس يمكِن إحكامه، فكانت حقاً بدلة واقية مُحْكَمة ضد عوامل الطبيعة المحيطة. ولو اضطر الإنسان إلى ارتدائها في قيظ شهر أغسطس، لما استطاع تحمُّلها، لكنها في برد يناير وفبراير من ذلك العام كانت وسيلة لتوفير الدفء المنشود.

          كنت أرى ألاَّ نستفز صداماً أو نسخر منه في الأسابيع الأولى من الأزمة، بأي شكل من الأشكال. ورأيت أن تكون لهجتنا، خلال بناء قدرتنا الدفاعية، معتدلة في الحديث عنه أو الإشارة إليه، ونؤكد أننا ندافع عن بلدنا لا أكثر، وأننا لن نهاجمه ما لم يبادر إلى الاعتداء علينا. ولكن بحلول أكتوبر، أصبحت دفاعاتنا قوية، وفي نوفمبر كنت أتمنَّى أن يبادرنا صدّام بالهجوم، إذ كنّا سنجعله يدفع الثمن غالياً. ومنذ ذلك التاريخ، بدأت لهجتي تتغير. وأصبحت أستخدم عبارات أكثر حدَّة عندما أشير إليه.

          بدأت أَهْتَم بالعمليات النفسية لتحطيم الروح المعنوية للعراقيين، قادة وجنوداً، وتشجيعهم على الاستسلام. وكان لتلك الحرب النفسية سببان بارزان: أحدهما عسكري، والآخر إنساني لِحَقْن دماء العراقيين. فلم يكن هدفنا، في حال من الأحوال، تنفيذ مذبحة جماعية للإخوة العراقيين. لم يكن للمملكة سابق عهْد بالعمليات النفسية، لذا شكَّلنا فريقاً مشتركاً من الخبراء السعوديين والأمريكيين والمصريين برئاسة اللواء محمد عيد العتيبي. اجتمعت إلى الفريق مرات عدّة وأُعجبت كثيرأ بذكاء أعضائه. بيد أن الحرب البرية انتهت سريعاً، مما جعل ثمار جهودهم لا تكاد تبين. فعلى سبيل المثال، قررنا تزويد كل وحدة من الوحدات الأمامية التي تعمل تحت قيادتي، بمكبرات الصوت لتُذَاع من خلالها نداءات تحضُّ العراقيين على الاستسلام قبل أن يتعرضوا للهجوم. وكانت تلك محاولة من جانبنا لتقليل الخسائر في الأرواح في الجانب العراقي. اشترينا فعلاً عدداً كبيراً من تلك الأجهزة وتم توزيعها على القوات، ولكنها لم تُستخدَم على نطاق واسع، إذ تمت الحملة البرية في أسرع مما توقعنا.

          وفي محاولة أخرى أكثر طموحاً، أنشأنا عدداً من المحطات الإذاعية تُدار بواسطة جماعات المعارضة العراقية، وتُشْرِف عليها الاستخبارات السعودية من وراء الكواليس. واكتسبت إحدى تلك المحطات، التي كانت تبثّ إرسالها من الرياض، شهرة شعبية واسعة. وحصلنا على موافقة السوريين على إقامة محطة تقوية في أراضيهم. كما أنشئت محطات تقوية في أماكن أخرى حول العراق في البحرين وتركيا وعلى الساحل شمالي الجبيل. وأَبْلَتْ استخباراتنا بلاءً حسناً في بثّ تلك الإذاعات لتصل إلى العراقيين، إلاّ أنه كان يخامرني شك في وجود أجهزة الراديو لدى القوات العراقية لتتمكّن من التقاط تلك الإذاعات. وجال بخاطري أن نقوم بإسقاط أعداد من أجهزة الراديو الصغيرة الحجم فوق المواقع العراقية، ولكن الوقت لم يسعفنا لنضع تلك الفكرة موضع التنفيذ.

          بيد أن أفضل أساليب العمليات النفسية التي استخدمناها، كانت المنشورات التي أسقطناها بالملايين فوق العراق والكويت. كان بعضها يحدد للجنود العراقيين المواقع التي ينوي التحالف قصْفها، ويطلب منهم الفرار. وكان بعضها الآخر يطلب منهم الابتعاد عن معداتهم المُزْمَع تدميرها. وكانت المنشورات كلها تحضُّهم على الاستسلام. أَعَدّ الأمريكيون، في البداية، بعض المنشورات من تلقاء أنفسهم دون الرجوع إلينا، لكن الأعضاء العرب ضمن فريق العمليات النفسية انتقدوا تلك المنشورات ؛ إذ كانت تنطوي على قدر كبير من التهديد، ولا تنسجم لهْجتها مع النخوة والعاطفة العربيتين. فكان للمنشورات الأمريكية آثار سلبية. ومن ثم أصدرتُ توجيهاتي بأن تركِّز المنشورات على الترحيب الحار الذي سيحظى به إخواننا العراقيون القادمون إلى المملكة عند استسلامهم. ونظراً إلى الجحيم الذي كانت تعيش فيه القوات العراقية، لم تكن مفاجأة لنا أن تستجيب أعداد كبيرة منهم لِمَا وعدناهم به من طعام وماء ورعاية صحية. واستعنّا برسام الكاريكاتير السعودي الموهوب، إبراهيم الوهيبي، لإعداد الرسوم التي تبيِّن فحوى رسائلنا. وكان من أعظم المنشورات أثراً وأكثرها شعبية منشورٌ يحمل توقيعي، صُمِّمَ في شكل تصريح يَعِد بالملاذ الآمن وسلامة المرور، وعندما بدأت الحرب البرية، اندفع آلاف العراقيين لتسليم أنفسهم، وهم يلوِّحون عالياً بذلك التصريح.

          أما عمليات الخداع التي استهدفت توجيه أنظار العراقيين ليركزوا على طرق الاقتراب الجنوبية والشرقية للكويت، بدلاً من الصحراء الممتدة في الجهة الغربية التي تُرِكَتْ دون دفاعات، فكانت من تدبير الأمريكيين إلى حدِّ بعيد. وكانت عمليات فعالة إلى أقصى حد، إذ اشتملت على قيام قوات خاصة بتحركات خداعية في وادي الباطن، وهو الوادي الواسع الذي يسير بمحاذاة حدود الكويت الغربية مع العراق كما أُذيعت تسجيلات لضوضاء تحرك الدبابات من منطقة الطريق الساحلية للإيهام بأن فِرق مشاة البحرية لا تزال متمركزة هناك، إضافة إلى القصف البحري لساحل الكويت ونشاطات مساندة تهدد البصرة وفوق ذلك كله، كانت هناك حشود استعراضية لمشاة البحرية الأمريكية فى عرض البحر، بما يوحي أن هجوماً برمائياً يوشك أن يقع.

          كانت الدفاعات العراقية ثابتة ومحصّنة بشكل واضح في اتجاه الجنوب والشرق. وبدا واضحاً اقتناع العراقيين أن التحالف سيهاجم في اتجاه الطريق الساحلية ووادي الباطن، إضافة إلى الهجوم من اتجاه الخليج. وكان تثبيتهم في هذه المواقع أحد الأهداف التي كنّا نسعى إلى تحقيقها ضماناً لنجاح الخطة. فمن مجموع 43 فِرقة عراقية في مسرح العمليات الكويتي، كانت ستّ فِرق تتولى الدفاع عن المخرج الشمالي للوادي، وعدد آخر مماثل للدفاع عن طرق الاقتراب المؤدية إلى الطريق الساحلية. واتخذت 12 فِرقة أخرى مواقع دفاعية حصينة في مواجهة البحر، بينما تمركزت الفِرق المدرعة الاحتياطية في العمق خلْف الخطوط الدفاعية الحصينة، مستعدة لتنفيذ هجمات مضادة في اتجاه تلك المواقع.

          أَسهمتُ في خطة الخداع تلك، عندما أعلنت في وقت مبكر أن المعركة الأساسية سوف تكون على الأرض الكويتية، لا العراقية. ولم يكن الهدف من تلك التصريحات خداع العراقيين فحسب، بل طمأنة القوات العربية تحت قيادتي إلى أنها لن تتحول إلى جيش احتلال للأراضي العراقية. إذ أخبرني السوريون، بكل وضوح، والمصريون، بكل لباقة، أنه لن يكون في وسعهم دخول العراق وكذلك كان شأن القوات العربية كلها، بما فيها القوات السعودية نفسها.

          كانت المرحلة الأخيرة في تجهيز أرض المعركة هي إعادة تمركز قوات التحالف البرية. وتم ذلك، كما ذكرت، تحت ستار الحملة الجوية. فانتقل أكثر من 250 ألفاً من الجنود الأمريكيين والبريطانيين والفرنسيين، ومعهم نحو 60 ألفاً من الآليات المجنزرة والمدولبة، مع كل ما يلزمهم من الإمدادات، إلى مواقع هجومية في الغرب بعيداً عن الخطوط الدفاعية العراقية الحصينة على الحدود الكويتية - السعودية.

          نُشِرَت تلك القوات في مواقعها الهجومية على جبهة التحالف، التي بلغ طولها نحو 500 كيلومتر من اليسار إلى اليمين، على النحو الآتي:

          كانت مهمة القوات المشتركة في المنطقتين، ومعها مشاة البحرية الأمريكية، اقتحام الخطوط الدفاعية العراقية وتدميرها، وتحرير مدينة الكويت وعلى الرغم من أن دَورنا كان يوصف بأنه دَور مساند يستهدف تثبيت القوات العراقية في أماكنها، وصَرْف الانتباه عن الهجوم الرئيسي الذي سيَشُنُّه الفيلق السابع، إلاّ أننا، حقيقة، تحملنا مسؤولية مهاجمة القوات العراقية في المكان نفسه الذى كانت تتوقعه، مواجهين أقوى التحصينات الدفاعية.

          كانت التحصينات مُصَمَّمة على غرار تلك التي أنشأها العراق في حربه على إيران وأفاد منها إلى حدِّ بعيد. كان يواجهنا على طول الحدود حزامان دفاعيان، أحدهما بعمق 5 - 10 كيلومترات داخل الكويت والآخر على بعد نحو 20 كيلومتراً. كان كل حزام يتكون من نقاط دفاعية حصينة خلْف موانع قوية من الأسلاك الشائكة، والخنادق المضادة للدبابات والخنادق المملوءة بالبترول وحقول الألغام التي يتراوح عمقها من 100 إلى 200 متر. اعتمدت الإستراتيجية العراقية، وهو ما انتهجتْه خلال حربها على إيران، على استدراج القوات المهاجمة إلى مناطق قتْل بين الحزامين الدفاعيين، في الوقت الذي تكون فيه القوات المدرعة الاحتياطية جاهزة لشنّ الهجمات المضادة على تلك القوات التي تنجح في اختراق الحزام الدفاعي الأول، ويتم إيقافها وصدها أمام الحزام الثاني.

سابق بداية الصفحة تالي