مقترحات البحث الأشكال والخرائط الصور المحتويات

مقاتل من الصحراء

حرب تحرير الكويت (تابع)

          بدا واضحاً أن العراقيين لم تكن لديهم أية معلومات عن كيفية وطبيعة انتشار قوات التحالف. ففي غياب قوتها الجوية، فقدت القوات العراقية عيونها التي تبصر بها، حتى إنها لم تكتشف التحركات الهائلة في اتجاه الغرب على طريق التابلاين، التي لا تبعد سوى بضعة كيلومترات عن الحدود العراقية. ففي بداية الأزمة، حاول العراقيون إرسال عملاء لهم إلى داخل المملكة ضمن طوفان اللاجئين الكويتيين، لكن معْظمهم، إن لم يكن جميعهم، سقط في أيدي قوى الأمن السعودية. كما ظلّ العميد محمد جاسم الحبش، الملحق العسكري العراقي، في الرياض، يمارس مهامه حتى أواخر أغسطس 1990، شأنه شأن الملحقَيين العسكريَّين الأردني واليمني. وكان الملحق العسكري العراقي ماكراً جداً. ولكنى تلقيت تقريراً استخبارياً ( مستمداً بالتأكيد من قراءة مراسلاته ) يفيد بأنه نصح بغداد بألاّ تطلِق الرهائن الغربيين، أي الأعداد الكبيرة من الأجانب الذين كان يحتجزهم صدّام في العراق وبأن توزعهم على المواقع الإستراتيجية في البلاد. ولو أن صداماً أصغى إلى هذه النصيحة، لتغير مجري أحداث الحرب، لأنه كان، من المؤكد، سيجعل شنّ الحملة الجوية الإستراتيجية أمراً صعباً من الناحية السياسية، في الوقت الذي كانت تلك الحملة هي الورقة الرابحة فى تحقيق النصر للتحالف. وكنت دائماً أتساءل لِمَ اختار صدّام ضابطاً ذا رتبة عالية ملحقاً عسكرياً في المملكة؟ هل كان ذلك الاختيار مؤشراً إلى أنه كان يخطط لغزو الكويت منذ وقت طويل؟

          شَقّ على الملحق العسكري العراقي التجول بحرية تامة، إذ كان يخضع لمراقبة لصيقة. ولكنني تلقيت تقريراً بأن زميله الملحق الأردني ظَلّ نشِطًا بشكل ملحوظ. كان يتحرك من مكان إلى آخر يسأل ويجمع المعلومات عن مواقع قوات التحالف ومراكز قيادتها. وساوَرَتْنا الشكوك في أن الأردن ربما كان ينقل هذه المعلومات إلى العراق لذلك، اقترحت على الأمير سلطان أن نُبعد هذين الملحقَين. ولكنه، بحكمته المعهودة، صرف اهتمامه أولاً إلى إعادة الملحق العسكري السعودي وأسْرته من بغداد سالمين. وبعد ذلك، قررتْ الحكومة السعودية إبعاد الملحق العسكري العراقي، على أن يكون الإبعاد إنذاراً للملحق الأردني، لأننا لم نكن نريد الاختلاف مع الأردن على الملأ في تلك المرحلة من الصراع. ولكن عندما ثَبت لدينا أن الملحق العسكري الأردني ماضٍ في أعمال التجسس، كرَّرتُ توصيتي بإبعاده. تشاور الأمير سلطان مع الملك فهد في ذلك الشأن، ولم تمضِ 24 ساعة حتى كان الملحق العسكري الأردني خارج البلاد.

          وفي مناسبة أخرى، وقبل بدء الحملة الجوية بوقت قصير، ألقَينا القبض على عميل عراقي من القوات الخاصة في منطقة حفر الباطن، تظاهر بأنه لاجىء من الكويت ووجدنا معه جهاز إرسال يستخدمه في بثّ الرسائل إلى بغداد حاولنا استخدامه لمصلحتنا ضد العراقيين، فأصدرنا إليه تعليماتنا بأن يستمر في بثّ رسائله تحت إشرافنا. وأخذنا ننقله من مكان إلى مكان داخل البلاد ونزوِّده بالمعلومات الرسمية المضلِّلة ليبثها إلى العراق ولكنه كان حصيفاً ومدرباً تدريباً عالياً. فبعد وقت قصير من إلقاء القبض عليه، نجح في الإفلات من حراسه، وألقى بنفسه في مياه الخليج محاولاً الهرب. وعندما رآه أحد الحراس يسبح مبتعداً عن الشاطىء، أطلق عليه النار فأرداه قتيلاً.

          وبوجه عام، كنا نعرف عن قوات صدّام أكثر مما يعرف هو عن قواتنا، إلاّ أن بعض الجوانب كانت لا تزال غامضة. فعلى سبيل المثال، لم يكن هناك اتفاق في تقدير التحالف لعدد القوات العراقية الموجودة في مسرح العمليات في الكويت وكان ذلك مَثَار خلاف ونقاش حتى بعد انتهاء الحرب. قدَّرت مصادر الاستخبارات ذلك العدد بـ 547 ألفاً. ويبدو لي أن تلك المصادر حصلت على هذا الرقم بحاصل ضرب عدد الفِرق العراقية التي كانت موجودة في مسرح الكويت في عدد الأفراد المفتَرض أن تضمهم كل فِرقة، أو في العدد الذي كان موجوداً في كل فِرقة أثناء الحرب على إيران. ولكن الأبحاث والدراسات التي تَلَت الحرب، أشارت إلى أن تلك التقديرات كانت مبالغاً فيها إلى درجة كبيرة، وأن عدد القوات العراقية عند بداية الحرب البرية لم يكن يزيد على 183 ألفاً(*).

          ولأننا لم نكن نعرف بوجه اليقين عدد العراقيين في مسرح العمليات الكويتي، فقد توقَّعنا معركة شرسة. وكانت فكرة اختراق الدفاعات العراقية، ثم محاولة استرداد مدينة الكويت في قتال من بيت إلى بيت، من الأمور المقلِقة حقاً.

          كان اللواء سلطان المطيري، قائد مركز القيادة المتقدِّم في المنطقة الشرقية (الذي أبلى بلاءً حسناً في معركة الخفجي) قلِقاً، وهو مُحِقّ، بعد أن درس حقول الألغام والخنادق ومصائد الدبابات التي كان على قواتنا مواجهتها. كنّا نعاني نقصاً شديداً في معدات إزالة الألغام وفتْح الثغرات، بينما كانت قوات مشاة البحرية الأمريكية إلى يسارنا أكثر تجهيزاً منا في هذا المجال. واستفسر اللواء سلطان في أحد اجتماعاته إلى الفريق والتر بومر، قائد مشاة البحرية الأمريكية، عن نسبة الخسائر التي يتوقعها أثناء عملية اختراق الخطوط الدفاعية العراقية. وكان رد بومر متشائماً، إذ قال إنه بناءً على تقارير مهندسِيه، من المحتمل أن تكون نسبة الخسائر مرتفعة. واستبد القلق باللواء سلطان حين علم أن مشاة البحرية الأمريكية لن يكون في وسعهم الاستغناء عن أي من معداتهم الخاصة بإزالة الألغام وتفجيرها.

          كان شوارتزكوف قد عرض عليَّ، قبل ذلك، مساعدة قادة وحدات مشاة البحرية. وكان اقتراحه، بسبب نقص معدات الاقتحام لدينا ولتقليل الخسائر، أن تتقدم مشاة البحرية أولاً فتفتح الممرات في الدفاعات العراقية، ثم تتْبعها قواتي بعد ذلك. ولكني رفضت ذلك العرض رفضاً باتاً، وصمَّمت أن تكون القوات السعودية في الطليعة وأن تتولى بنفسها عملية فتح الثغرات وتجهيز الممرات. ولا مانع بعد ذلك أن تتبعنا قوات مشاة البحرية الأمريكية، إن أرادوا!

          خصَّصنا لهذه المهمة المنتظرة، كتيبتين سعوديتين من المهندسين العسكريين. أمضَت الكتيبتان أسابيع طويلة، في الصحراء، في التدريب تحت ظروف واقعية أقرب ما تكون إلى الظروف الحقيقية، بما في ذلك التعامل مع الألغام الحية والشِّراك الخداعية. وتم بناء الموانع على غرار تلك التي يتحصن خلْفها العراقيون، وأجْرت قواتي تدريبات على عبور تلك الموانع مرتين أثناء النهار ومرة أثناء الليل. ولتدعيم فريق فتْح الثغرات، ألحقتُ كتيبة مهندسين سورية على القوات السعودية. وأصدرت تعليماتي للبحث في كل مكان عن المعدات اللازمة للاقتحام. واستطعنا أن نشتري من مصر وتركيا أعداداً لا بأس بها من تلك المعدات الضرورية.

          قبل أيام من بدء الحرب البرية، تحركت قوات مشاة البحرية الأمريكية، في اتجاه الغرب قليلاً، واتخذت مواقع هجومية أقرب إلى قاعدة أحمد الجابر الجوية في الكويت إذ كانت هذه القاعدة الجوية من أوْلى الأهداف المخصَّصة لها. ونتج من هذا التحرك وجود ثغرة عرضها 40 كيلومتراً بين الجانب الأيمن لقوات مشاة البحرية والجانب الأيسر للقوات المشتركة في المنطقة الشرقية. وكان اللواء سلطان يخشى أن ينتهز العراقيون تلك الفرصة، إن كانت لا تزال لديهم العزيمة على القتال، فيشنّون هجوماً عبر تلك الثغرة، ويلتفون على جانبنا الأيسر. وعندما أثار اللواء سلطان هذه المخاوف مع الفريق بومر، أخبره أن مشاة البحرية ليس لديها القوات الكافية أو القوة الجوية اللازمة للدفاع عن تلك المنطقة، وأنها، بالمثل، لا تستطيع تقديم "الإسناد الجوي القريب" إلى وحداتنا أثناء تقدُّمها على الساحل نحو الكويت وبدا الموقف مشابهاً تماماً للموقف الذي واجهناه في بداية معركة الخفجي. واضطررت إلى التدخل ومناقشة هذا الأمر مع شوارتزكوف وهورنر، لكي أتأكد من تأمين "الإسناد الجوي القريب" اللازم، وأن التنفيذ يسير طبقاً للخطط التي وقَّعناها من قبل.

          ولعل الهدف من كل هذه التفاصيل التي ذكرتها، أن أوضح أنه على الرغم من حصول الاستخبارات الأمريكية على معلومات عن الفعالية القتالية للقوات العراقية قبل الحرب البرية، إلاّ أن هذه المعلومات لم تصل بالسرعة الكافية إلى من هم في حاجة إليها. فلم تتوافر لدى قادة الوحدات في الخطوط الأمامية معلومات كاملة ودقيقة عن آثار الحملة الجوية على القوات العراقية المواجهة لهم، ولذا فإنهم كانوا يتوقعون أسوأ الاحتمالات. وكان مجرد التفكير في إرسال رجالنا لِيَلقوا حتفهم في حقول الألغام أمراً جدّ مؤرقٍ، شغلني واللواء سلطان كثيراً. كنت أتوقع أن أفقد أكثر من مائتين من رجالي. وكما سبق أن ذكرت، كانت مهمتنا أخطر بكثير من مهمة الفيلق الثامن عشر أو الفيلق السابع، المزوَّدَين بالطائرات العمودية والدبابات. فالأمر لم يكن يتطلب منهما سوى أن يشقّا طريقهما في صحراء مكشوفة، تكاد تخلو من أية دفاعات.

          ولمّا كانت التقارير المتوافرة لدينا عن حالة الدفاعات العراقية متضاربة، فقد قرَّرنا، قبل بدء الهجوم البري بأربعة أيام ، دفْع دورية قتال قوية من الدبابات والمدفعية والقوات الخاصة والمهندسين العسكريين إلى المواقع العراقية. اصطدمتْ الدورية بحقول ألغام ومصائد دبابات على بعد 12 كيلومتراً داخل الكويت وعلى الرغم من أن تلك القوة تعرضت لنيران المدفعية، فقد تمكَّن أحد مهندسينا العسكريين، ومعه فصيل من 30 فرداً، من رفْع الألغام يدوياً، ونجحوا في فتْح ثغرة عرضها 30 متراً بعمق 150 متراً تقريباً. والتقطت تلك القوة "فِيْلْمًا" للموقع قبل عودتها ومعها 70 لغماً، مما أثار دهشة ضباط الارتباط الأمريكيين الملحقين على قواتنا. وفي اليوم التالي، تمكَّنتْ دورية استطلاعية أخرى من فتْح ثلاث ثغرات وعادت إلى مواقعها ومعها 600 لغم! ثبت أن رفْع الألغام يدوياً أكثر فعالية من إرسال طائرات b-52 مثلاً، لقصف حقول الألغام بالقنابل، إذ اكتشفنا أن القصف كان يؤدي إما إلى قَلْقَلَة الألغام أو دفْنها أو إظهارها، ولكنه لا يُفَجرها في كل الحالات.

          كان لتلك العمليات الجريئة، التي استهدفت رفع الألغام في الليلة السابقة على الحرب البرية، دورها الكبير في بثّ الثقة في النفوس ورفْع الروح المعنوية إلى أبعد الحدود.

          وفي تلك الأثناء، نجحت إحدى وحداتنا، أثناء تنفيذها عملية "الاستطلاع بقوة"، في الاستيلاء على "النويصيب"، وهو مركز حدودي كويتي مقابل الخفجي. وكانت تلك أول أرض كويتية تتحرر من الاحتلال العراقي. سألني اللواء جابر خالد الصباح، القائد الكويتي، مجاملة منه، إن كان في إمكانه رفْع العلمَين الكويتي والسعودي على النويصيب. ولكنني صمَّمت ألاَّ يرتفع فوق أرض الكويت إلاّ العلم الكويتي وحده. وأرسلت فرقة موسيقى عسكرية سعودية للاشتراك في مراسم الاحتفال برفْع العلم الكويتي وصمَّمت، مرة أخرى، ألاَّ تعزف تلك الفِرقة سوى السلام الوطني الكويتي وحده، وليس السلامين الوطنيين الكويتي والسعودي، كما اقترح ذلك اللواء جابر في أدب جم.

سابق بداية الصفحة تالي