مقترحات البحث الأشكال والخرائط الصور المحتويات

مقاتل من الصحراء

حرب تحرير الكويت (تابع)

          رأيت، فور علمي بفرار العراقيين من الكويت، أنه من الأفضل تنفيذ خطة أمنية كنتُ أعددتها من قَبْـل لمدينة الكويت. كانت خطة طموحة تقوم على محاصرة المدينة وعزْلها، ثم تقسيمها إلى أربعة قطاعات. وبعد أن تُخلى القطاعات من سكانها واحداً بعد الآخر، نرسل القوات لجمع الأسلحة، وإزالة الألغام ، والشِّراك الخداعية والموانع الأخرى التي تركها العراقيون، إضافة إلى جمع مخلَّفات الحرب. كما تتم، خلال ذلك، مساعدة السلطات الكويتية على استعادة الخدمات الأساسية ك المياه و الكهرباء و الصرف الصحي والإمداد بالمواد الغذائية . وقدّرتُ أن مثل تلك العملية يمكِن أن تتم خلال ثلاثة أشهر. ولتوفير مساكن مؤقتة للسكان الذين سيتم إخلاؤهم من منازلهم في كل قطاع من قطاعات مدينة الكويت أَقَمتُ مدينة من المخيمات في الوفرة شمال غربي الخفجي تتسع لإيواء عدد يتراوح بين 50 و 100 ألف شخص. واستفدنا في إقامة هذه المخيمات من الخيام التي كنّا نحتفظ بها في المخازن لاستخدامها في موسم الحج. سمعنا أحاديث مروّعة عن عمليات التعذيب والتخريب التي ارتكبها العراقيون في الكويت لذا كنت أشعر أن مساعداتنا ضرورية وستسهم في تضميد الجراح. وكان متوقَّعاً أن تنشأ حالة من الفوضى بسبب الفراغ السياسي بعد تلك الشهور من الاحتلال البغيض. وكنت أتوقع أن تكون هناك كميات هائلة من الأسلحة مخبّأة في الكويت يمكِن أن تسبب، فيما بعد، مشكلة كبيرة للحكومة الشرعية. وقبل أن أضع خطتي موضع التنفيذ، أردت معرفة الموقف في الكويت على الطبيعة، من قادة قواتي في الخطوط الأمامية.

          قرّرتُ أن أطير إلى مدينة الكويت يوم 28 فبراير، على الرغم من معارضة عدد كبير من أركاني الذين رأوا أن زيارتي إلى الكويت ينبغي أن تتأجل بضعة أيام. وكانت حجتهم أن الوضع في الكويت عقب تلك الفترة القصيرة من تحريرها، لم يستقر بعد ولا يزال خطيراً. وقبل أن أغادر الرياض متجِهاً إلى رأس مشعاب ، حيث كان مقرَّراً أن أقابل وفداً صحافياً هناك، ومن ثَم أنتقل شمالاً في طائرة عمودية، علِمْت من الأمير سلطان أن الحكومة الكويتية أعلنت حالة الطوارئ وأن الشيخ سعداً ، ولي العهد عُيِّن حاكماً عسكرياً. وفي ضوء هذا الوضع الجديد، أضحت خطتي الأمنية لمدينة الكويت لا لزوم لها، إذ كان عليَّ الآن أن أُسلِّم أمر المدينة إلى أهلها، وهم أدرى بشعابها، وأن أسحب قواتي دون إبطاء.

          كان دخولي إلى الكويت خالياً من مظاهر التباهي أو الزهو. وكان من عادتي، خلال المراحل التمهيدية للحرب، أن أصطحب معي مجموعات من الصحفيين في جولات ميدانية على مسرح العمليات. وكنت أستخدم في تنقّلاتي أربع طائرات عمودية أو خمساً، واحدة لي وللقادة المرؤوسين، والثانية لضباط أركاني، والثالثة لطاقم الحراسة، أمّا الرابعة أو الخامسة فللصحفيين حسب عددهم. ولرفْع الروح المعنوية، وتنويع أسلوب تنقلي لأسباب أمنية، كنت لا أستخدم طائرة بعينها في كل رحلة. فإذا رأيت طياراً شاباً، حديث التخرج، يجلس في مقصورة القيادة كنت أقول له: "سأذهب معك!". وكان ذلك ما فعلته يوم ذهابي إلى الكويت. كان ثلاث طائرات عمودية من نوع سوبر بوما من القوات البحرية السعودية تنتظرني في رأس مشعاب . وكان طاقم الحراسة وبعض من ضباط القيادة قد سبقوني من طريق البر، إذ كان عليهم إقامة شبكة اتصالاتي في الكويت إلى جانب الترتيبات الأخرى اللازمة. وكان عليَّ أن أَلحَق بهم في الطائرة العمودية، مع اللواء صالح المُحيّا، قائد المنطقة الشرقية، وباقي ضباط أركاني.

          وبعد مضي 10 - 15 دقيقة على إقلاعنا، أبلغنا قائد الطائرة التي كانت تسبقنا أنه دخل في سُحُب كثيفة من الدخان المتصاعد من آبار النفط المشتعلة. وكان العراقيون قد فجّروا جميع رؤوس الآبار في برقان وفي حقول البترول الغربية، وطالتنا آثار ذلك العمل الأحمق، إذ أصبحت طائرتنا، هي الأخرى، تسبح وسط دخان كثيف، كأنه قطعة من الليل المظلم. وسمعت عبر سماعات الأذن أن قائد الطائرة التي تسبقنا يتقدم بصعوبة، إذ كان يطير على هدْيٍ من الأجهزة المِلاحية فقط لانعدام الرؤية تماماً، لذا قَرّر العودة إلى رأس مشعاب .

  بدا الارتباك على الطيار الشاب الذي كان يقود طائرتنا.
سألته عبر ناقل الصوت ( الأنتركوم ): "هل كل شيء على ما يرام؟".

          فأجاب بصوت متحشرج: "ليس لي أية خبرة سابقة بالقيادة الليلية، ولم أمرّ بتجربة كهذه من قبل". وفي محاولة منه ليرى طريقه من خلال الدخان المشبع ب النفط ، قام ببعض المناورات العصبية فاضطربت الطائرة. وأيقنتُ أن الحكمة تقضي بأن نهبط نحن أيضاً بأسرع ما يمكن. أخذت الأفكار تتزاحم في رأسي: أَأُقتل في حادث كهذا، بعد أن عشت الحرب ومخاطرها؟".

          قلت للطيار: "انظر، لِمَ لا تتجه شرقاً صوب الساحل وتهبط جانب الطريق؟".

          ولكن أين نهبط؟ كنت أعرف أن هناك حقول ألغام غير محدَّدة المعالم. وما هي إلاّ لحظات حتى ظهرت طريق الكويت - الخفجي ، والدبابات والشاحنات تسير في كلا الاتجاهين، لذا لم يكن في وسعنا أن نهبط على الطريق نفسها.

          فوجَّهت الطيار أن يستمر في التحليق حتى نعثر على موقع مناسب للهبوط خالٍ من الألغام . وجدنا موقعاً على بعد 50 متراً من الطريق. وهبطنا بسلام. كنت أَهم بالنزول من الطائرة عندما قفز العقيد الأمير تركي بن عبدالله ، قائد كتيبة الشرطة العسكرية، الذي سبقني ورفض رفضاً قاطعاً أن أطأ الأرض بقدمي. وصمَّم أن يتجول في المكان ليتثبت من عدم وجود أية ألغام. وكانت تلك لمسة مؤثِّرة من الشجاعة والإيثار تركت أثراً عميقاً في نفسي. ولَمّا كنّا قد هبطنا نحو الساعة 30 12 فقد وجدت أن خير ما نفعله أن نبادر إلى صلاة الظهر جماعة.

          وبعد أن كنّا نركب طائرةً تزاحم الفضاء، كان علينا أن نستوقف سيارة لنطلب "توصيلة"! ذهب العقيد أحمد لافي، مرافقي العسكري، والعقيد عبدالله السويلم، مدير مكتبي، إلى الطريق الرئيسية ليستوقفا إحدى العربات. كانا يرتديان بدلة الميدان لقوات الدفاع الجوي الخضراء الدكناء وهو لون الزي العسكري نفسه للعراقيين. كانا يلوِّحان بأيديهما على جانبي الطريق دون أن يست جيب لهما أحد، إذ كان السائقون يعتقدون أنهما من الجنود العراقيين الفارِّين، فتزيد العربات من سرعتها وتمر بجوارهما كالريح المرسلة. جلستُ واللواء صالح المُحيا ننتظر النتيجة، ولم يكن في وسعنا أن نفعل غير ذلك. لم تكن لدىّ أية وسيلة للاتصال بمركز القيادة أو بقادة قواتي الأمامية... فقدت السيطرة تماماً!

          وبعد مضي ساعة كاملة، توقفت عربة "جيب" ، فيها مقدَّم من مشاة البحرية السعودية من قاعدة رأس مشعاب البحرية ومقدَّم أمريكي يعمل مستشاراً في مشاة البحرية السعودية.

          يا إلهي". كانت تلك أول كلمة تفوّه بها المقدَّم الأمريكي عندما رآني، وأردف متسائلاً: "هل هذا هو الفريق خالد ؟"، واسترسل لعدة دقائق حتى بدا أنه لن يسكت: "هذه من أسعد المصادفات في حياتي.. سأخبر أسرتي عنها حتماً...". كان فَرِحاً بذلك اللقاء حتى إنني وعدته بإرسال تذكار إليه لتلك المناسبة.

          أوقفْنا بعد ذلك عدداً آخر من العربات، وتوجهنا شمالاً، مستدلِّين باللوحات الإرشادية، في طريقنا إلى الكويت كان الجو مظلماً والرياح نشطة والرطوبة عالية والهواء ثقيل النفس، كريه الرائحة من أثر البترول المحترق. وتوقفنا أخيراً عند إحدى نقاط التفتيش، وكان يتولاها مسلحون من المقاومة الوطنية الكويتية الذين بدت عليهم مظاهر البؤس، إذ كانت ملابسهم رثّة بعد أن مارسوا لوقت غير قصير "لعبة القط والفأر" مع الغزاة العراقيين. كنت آمل أن يرشدونا إلى حيث ينتظرني قادة قواتي. ولكنهم أرشدونا إلى المطار الدولي . وبعد أن شقَقْنا طريقنا خلال الحطام، لم نجد أحداً سوى عدد من مشاة البحرية الأمريكية المنهوكين وقد لجأوا إلى صالة المطار الرئيسية يتقون فيها البرد والمطر.

          وفي طريق عودتنا إلى مدينة الكويت صادفتنا وحدة من القوات القطَرية بالقرب من أحد الجسور. ومما يُذكر هنا أنه عندما جاءت القوات القطَرية إلى المملكة، أرسل صديقي الشيخ حمد، ولي العهد، ابنه الأكبر مع تلك القوات ليصبح أصغر ضابط في القوة سنّاً. وكنت أرغب في دعوته لتناول الطعام معي في الرياض، ولكن وعدي الذي قطعته على نفسي للشيخ حمد ألاَّ أُوْلي ابنه عناية خاصة، منعني من ذلك. لقد قال لي الشيخ حمد: "أريده أن يتعلم ليصبح جندياً محترفاً، ولا بد أن تعدني، بصفتك صديقاً حميماً، أنك ستعامل ابني كأي ضابط آخر من صغار الضباط. لا أريدك حتى أن تحدثه".

          لفرْط دهشتي، كان الضابط الذي تقدَّم لتحيتي، عندما توقفت عند الوحدة القطَرية، هو ابن الشيخ حمد نفسه. سررت لرؤيته، لكنني تذكرت الوعد الذي قطعتُه على نفسي أمام أبيه، فلم أشأ أن أبالغ في الاهتمام به.

          بعد أن أمضيت ساعتين في حديث شائق مع القوات القطَرية، حضر اللواء سلطان ليصحبني إلى مقر القيادة المتقدمة في مدينة الكويت وعاد النظام يدبّ في حياتي مرة أخرى، بعد فوضى المغامرة التي عشتها. وخطر لي خاطر أقلقني وأنا في طريقي إلى مقر القيادة. كان موعدي مع الصحافة العالمية في الواحدة من بعد الظهر، وكانت الساعة وقتئذ الخامسة. تُرى ما القصص التي سينشرونها؟ هل سيقولون إن قائد القوات المشتركة خرج ولم يعد؟ بدأت أتصبَّب عَرَقاً. ولكن ما أسرع ما اكتشفت أن مخاوفي لم يكن لها ما يبررها. فقد تبيَّن لي أن الصحفيين أُخذوا إلى مكان آخر من طريق الخطأ، ولم تكن لديهم أية معلومات عن المغامرة التي عشتها. وللمرة الأولى، سعدت بأن مكتب الشؤون العامة في قيادتي أخطأ، إذ أنقذني خطؤه من ورطة محقّقة!

          اِتخذ اللواء سلطان من مبنى إحدى المدارس، في حي من أحياء الكويت يسمَّى "أم الهيمان" قرب مطار الشعيبة ، مقراً للقيادة المتقدِّمة. واجتمعت هناك إلى القادة أجمعين، القائد المصري والقائد السوري وقادة قوات دول مجلس التعاون الخليجي ومعهم اللواء المطيري و اللواء الوهيب. واستمعت في هذا الاجتماع للمرة الأولى إلى تقارير مفصّلة عن سير العمليات العسكرية في الأيام الأربعة السابقة. وبعد مناقشات مستفيضة أمضينا ليلة باردة في ذلك المكان. لم أكن أعرف أن الإعاشة المعلَّبة، من التمر والجبن والبسكويت، يمكن أن تكون طعاماً شهياً. ولسوء الحظ، كان العراقيون الذين سبقونا إلى ذلك المكان، قد جرّدوه من المصابيح ومفاتيح الكهرباء وانتزعوا الأسلاك وحطموا النوافذ والأثاث، بل قضوا حاجاتهم داخل المكان، بأسلوب غير متحضر. أعطاني اللواء سلطان أفضل غرفة في المبنى، غرفة مدير المدرسة، ولكن يد التخريب العراقية كانت طالتها هي الأخرى. وعلمت في الصباح أن عبدالله ناصر الشهري، أحد الصحفيين السعوديين المغامرين الموهوبين، تسلَّل إلى إحدى الطائرات العمودية الرابضة على مقربة من المبنى، وأمضى ليلة دافئة هانئة تحت سبع بطانيات.

          أدركت، بعد معاينة الواقع، أن بقاء قواتي في الكويت لفترة أطول مما ينبغي، سيسِفر عن مشاكل سياسية محرِجة. كان المسلحون الكويتيون منتشرين في كل مكان، ينضحون شوقاً وتحفزاً لاستعادة السيطرة الكاملة على بلادهم. كانوا يطوفون شوارع المدينة في قوافل صاخبة، ويطلقون النار ابتهاجاً بالمناسبة. وجُرِح كثيرون جرّاء الرصاصات الطائشة. وكادت رصاصة من رصاصات الابتهاج تلك أن تصيبني. كانت هناك حالة خطيرة من الفوضى. وكنت أخشى أن يُتَّهم أحد رجالي بارتكاب المخالفات. كان السوريون في منطقة يحيط بها الفلسطينيون، وكنت أخشى أن تقع صدامات بينهم، أو يحدث احتكاك بين قواتي النظامية والقوات الكويتية المحلية غير النظامية.

          صحيحٌ أن سمو أمير الكويت أعلن حالة الطوارئ، لكن أين هي تلك القوة التي تستطيع أن تحمي القانون وتفرض النظام؟ فكل القوات الكويتية النظامية في المدينة كانت تحت قيادتي. لذلك، رأيت أنه من الأفضل إعطاء الكويتيين قيادتهم المستقلة، قبل أن تفرض ذلك تطورات الأحداث. وليكن الأمر، إذاً، بيدي لا بيد عمرو.

          أصدرتُ، في تلك الليلة، أمراً شفهياً، أَتبعتُه بكتاب رسمي في اليوم التالي، بتحويل قيادة الوحدات الكويتية من قيادة القوات المشتركة إلى قيادة كويتية مستقلة. وأمضت قواتي الأيام الثلاثة التالية في إخلاء القطاعات التي كانت تتمركز فيها قبل تسليمها إلى الكويتيين. أصدرت إلى قواتي الأوامر بعدم التدخل، بأي شكل من الأشكال، في شؤون الكويتيين. ولكن سمو الشيخ سعداً، ولي العهد، طلب منّي أن أنشر القوات السعودية لحماية الحدود الغربية للكويت، ففعلت وبقيت تلك القوات هناك لمدة سبعة أشهر. كما طلب منّي أن أقوم بحماية بعض المنشآت الكويتية الحيوية، مثل مطار الشعيبة ومحطة التحلية الرئيسية ومحطة الطاقة الكهربائية الرئيسية أثناء شهر رمضان فخصصت لها الحماية اللازمة ( بدأ شهر رمضان في ذلك العام بعد انتهاء الحرب بأيام قليلة ). وعرضت على الكويتيين، بالإضافة إلى ذلك، مساعدتهم بتخصيص كتيبة مهندسين للمعاونة في إزالة الألغام والقذائف التي لم تنفجر، وجلْب الوقود لتموين السيارات التي كانت تنتظر في صفوف طويلة عند محطات الوقود. وفي ذلك الوقت، لم يكن هناك تيار كهربائي في المدينة، ولم تكن هناك محلات، أو أسواق مفتوحة. حتى شبكة تمديدات المياه لم تسلم من التدمير الذي أحدَثه العراقيون. فأرسلت المملكة هدية عينِية شملت أكثر من 300 شاحنة محمّلة باللحوم والخضراوات والأرز وزيت الطعام والمستلزمات الأخرى لتسيير حركة الحياة في المدينة.

          ربما كان من الأفضل أن خطتي لإعادة الحياة الطبيعية الآمنة إلى مدينة الكويت لم توضع موضع التنفيذ. لأن تنفيذها كان يقتضي وضع زمام الأمور كلها في يد قائد عسكري واحد. وكان ذلك الإجراء، آنذاك، منطقياً من الناحية العسكرية، لكنه من الناحية السياسية، كان أشبه بحقل ألغام لا داعي للخوض فيه، إذ لم يكن الكويتيون يرغبون في استبدال احتلال باحتلال آخر، مهْما كان حَسن النية وحميداً وقصيرَ الأَمَد، وكنت أرى أنهم مُحِقون، في ذلك، كلَّ الحق.

سابق بداية الصفحة تالي