مقترحات البحث الأشكال والخرائط الصور المحتويات

مقاتل من الصحراء

هُدوء العاصفة (تابع)

          وجهت قدْراً كبيراً من اهتمامي، خلال الأشهر الأخيرة من قيادتي، إلى قضية الفارّين وأسرى الحرب واللاجئين المدنيين العراقيين. فعندما وصلتْ طلائع الفارّين في شهر سبتمبر 1990، سألت الأمير سلطان إن كان في وسعنا الإعلان عن وصولهم، إلاّ أنه أشار، بحكمته ونفاذ بصيرته، إلى أن الوقت لم يَحِنْ بعد لسببين: أولهما، أن علينا تجنب استفزاز صدّام ريثما نستكمل استعدادنا لمجابهته. وثانيهما، أننا كنّا لا نزال نأمل في استقبال المزيد منهم. لذلك، فالإعلان المبكر عن وصولهم سيدفع صداماً إلى الانتقام من ذويهم، ويؤدّي إلى انقطاع تدفُّقهم إلى المملكة.

          ومع مطلع شهر نوفمبر، كنّا نُؤوِي 350 عسكرياً من الفارّين من الجيش العراقي. كانوا يَفِدون إلينا مثنى وفرادى، إما بدافع الخوف من الحرب القادمة، أو لخيبة أملهم في صدّام أو لأسباب شخصية أخرى. وقررّنا منذ البداية أن نعاملهم كلاجئين، لا كأسرى حرب، فوفّرنا لهم مسكناً مريحاً وراتباً شهرياً مُجزِياً وسوى ذلك من الرعاية. وخشية أن يكون بينهم عدد من الجواسيس، قرّرنا إخلاءهم جميعاً إلى الخطوط الخلفية، لاستجوابهم من جانب هيئة استخبارات وأمن القوات المسلحة السعودية، وتم إيواؤهم في أحد المعسكرات. وكان هؤلاء الفارّون مصدراً ثميناً للمعلومات. ففي ضوء معلوماتهم، بدأنا نرسم صورة أكثر دقة للقوات العراقية التي تواجهنا. وكانت النتيجة المبدئية التي توصلنا إليها، حتى قبل التدمير الذي أحدثته الحملة الجوية، أن الجيش العراقي لا يملك قدرة كبيرة على القتال. وأكدت مصادر استخبارية أخرى أن أعداداً كبيرة من الجنود تتحيّن الفرصة للاستسلام.

          وتبيَّن لي من تقارير الاستخبارات، أننا قد نحتاج إلى إيواء عدد كبير من أسرى الحرب. ودُهش بعض ضباط أركاني، حين أصدرت تعليماتي ببناء معسكرات تتَّسِع لمائة ألف رجل. فأقيم معسكر في النعيرية ، وآخر قريب من حفر الباطن . أمّا المعسكر الثالث فأقيم على مشارف الأرطاوية في منطقة منعزلة بعيدة عن المدينة الرئيسية، وهو أكبر المعسكرات حجماً ويتّسِع لنحو 45 ألف رجل. وكان الأمر يستلزم شَق الطرق إلى تلك المعسكرات وتعبيدها، ونصْب الخيام، وتخزين المواد الغذائية، وتوصيل المياه إليها بالصهاريج. وأسندتُ قيادة كل معسكر إلى ضابط سعودي برتبة عميد، كما أوْكلتُ مهمة الإشراف على كل المعسكرات إلى اللواء حاتم عبدالله العكاسي الذي كان يرأس قسم شؤون اللاجئين والأسرى في قيادة القوات المشتركة. وبنهاية الحرب، كان لدينا أكثر من 60 ألف أسير عراقي، أعلن ما لا يقلّ عن 14 ألفاً منهم عن رغبتهم في عدم العودة إلى وطنهم! وأدليت، في ذلك الوقت، بتصريح للصحافة العالمية مؤداه أن سياستنا في معاملة هؤلاء الأسرى تقوم على أساس تطبيق بنود اتفاقية جنيف الخاصة بأسرى الحرب، وعليه فإنهم سيبقون في معسكراتهم حتى يقرِّروا العودة إلى بلادهم أو الهجرة إلى بلدان أخرى. وفي غضون ذلك، كان علينا أن نقوم على شؤونهم، من توفير للطعام والمأوى والرعاية الطبية والخدمات الأخرى اللازمة.

          عندما بدأنا أخذ الأسرى، اندلعت أعمال شغب في أحد المعسكرات، فأرسلتُ لجنة للتحقيق في الأمر، علمتُ من تقريرها أن قائد المعسكر ( الذي ربما قد شاهد "فيلماً" عن معسكرات الأسرى في الحرب العالمية الثانية )، كان متحمساً أكثر مما يجب. إذ أخضع الأسرى لطوابير عِدة، وإلى كثير من إجراءات الانضباط، كما منع التدخين الذي كان السبب المباشر لهذه الاضطرابات. قمت بتغيير القائد ومساعديه، وأصدرت تعليماتي إلى القائد الجديد: "لا تكن فظّاً معهم. عامِلهم معاملة لائقة. انظر إلى المعسكر على أنه مدرسة، ولتكن مدرسة يسودها النظام والانضباط. اسمح لهم بالتدخين، إذا كان ذلك ما يريدون. شدّد الحراسة حول المعسكر، ولكن دَعْهم ينعموا بقدْر أكبر من الحرية ما داموا لا يسيئون التصرّف". وفي حقيقة الأمر، كانت تلك خبرة جديدة لنا جميعاً. فلم يسبق أن تعاملنا مع أسرى الحروب من قبل. ولم تكن ثمة سابقة نسترشد بها.

          وصل معظم الأسرى إلى معسكراتنا في حالة يُرثي لها، منهوكين من الجوع والتعب، ويعانون الأمراض والأوساخ. كان جُلُّهم من الشباب المراهقين الذين تطفح قصصهم بالمرارة والأسى. كان الجانب العراقي يعاني ندرة شديدة في المياه والطعام، وظل بعضهم أشهراً عدة من دون اغتسال. ولكنّ حالهم تبدّلت بشكل ملحوظ بعد يوم أو يومين من توافر الطعام والاستحمام والنوم المريح.

          زرت أحد معسكرات الأسرى، وتحدثت طويلاً إلى مجموعة منهم، يتراوح عددهم بين 40 و50 ضابطاً. طلبتُ من الحرس أن يغادروا المكان، جلست معهم، ولم يكن يرافقني، فقط، سوى قائد المعسكر والنقيب زكي، قائد مجموعة الأمن والحماية الخاصة. ها هم حلفاء الأمس ورفقاء السلاح، أسرى بين أيدينا. كان شعوراً يبعث على الأسى، ومناسبة لا تدعو إلى الابتهاج في حال من الأحوال.

          بدأت بسؤالهم إن كانوا يَلْقَوْن معاملة طيبة، وأكّدت لهم أنهم سيحصلون على الوجبات الغذائية نفسها التي يحصل عليها ضباطنا وجنودنا. وعبّرت لهم عن حزني لما أصابهم، وأنه أمر خارج عن إرادتنا وإرادتهم. وأخبرتهم أنني أفضِّل من جانبي، أن أسمِّيهم لاجئين عسكريين، لا أسرى حرب. وكان خادم الحرمين الشريفين قد أصدر توجيهاته بمعاملتهم كضيوف على المملكة وألاّ ننسى أن كل إهانة لهم هي إهانة لنا.

          رفع أحدهم يده قائلاً: "سيدي، إننا نُقَدّر كل ما تقوم به المملكة تجاهنا، ولكن نفضِّل تسميتنا أسرى حرب بدلاً من لاجئين".

          أثارت كلماته فضولي، وأردت أن أعرف السبب.

          أجاب: "إذا أطلقتم علينا اسم "لاجئين"، فإن عائلاتنا ستُـقتل. وأضرب لك مثلاً ببعض الجنود الذين فَرّوا إليكم قبل الحرب الجوية. أنا أعرف واحداً منهم. ذهب رجال السلطة إلى بيته، فاغتصبوا النساء على رؤوس الأشهاد، ثم قتلوا كل أفراد عائلته. لذلك نرجوك ألاّ تدعونا لاجئين".

          توسل إليّ الأسرى ألاّ تُنْشر أسماؤهم أو تظهر صورَهم في وسائل الإعلام. ولهذا السبب، عندما زرت أحد الأجنحة في مستشفى مملوء بالجرحى العراقيين، أمرت بإبعاد جميع المراسلين والمصوِّرين المرافقين، وإتلاف كل "أفلام الفيديو" أو الصور التي يظهر فيها العراقيون، وهم يشكرونني أو يمدحون المملكة. لم أحتمل مجرد التفكير في ما قد يَحلّ بذويهم أو أُسَرِهم. فمع صدّام حسين ، كنّا نتعامل مع شخصية غير سوية في كل المعايير.

سابق بداية الصفحة تالي