مقترحات البحث الأشكال والخرائط الصور المحتويات

مقاتل من الصحراء

هُدوء العاصفة (تابع)

          وعلى الرغم من أننا كنّا مُهَيَّئين، إلى حدّ ما، للتعامل مع أسري الحرب، إلاّ أن إيجاد مأوى لسيل عرم من اللاجئين العراقيين، لم يكن ضمن حساباتنا على الإطلاق. لم أكن أتوقع حدوث تمرد في جنوبي العراق في مارس1991، وبالتالي لم يكن في حساباتي لجوء الآلاف إلينا، لحمايتهم من بطش صدّام. كان تسلسل الأحداث، الذي تخيلته بعد تحرير الكويت واحتلال القوات الغربية لثلث مساحة العراق هو أن صداماً سوف يُنحَّى عن السلطة بفعل ثورة شعبية عارمة، ومن ثم تأتي حكومة تمثِّل شعب العراقي تمثيلاً حقيقياً. ولكني أدركت سريعاً خطأ تقديري هذا.

          تَجَمّعتْ في الأسابيع التي تلت عملية عاصفة الصحراء ، أعداد غفيرة من العراقيين، رجالاً ونساءً وأطفالاً، معْظمهم من الشيعة في الجنوب، في معسكرات مؤقتة داخل العراق على مقربة من الحدود الكويتية، ولجأوا إلى الحماية الأمريكية هرباً من اضطهاد صدّام وبطشه. كان بين اللاجئين أفراد من الجيش العراقي، وكم كانت دهشتنا عندما اكتشفنا أن عدداً منهم وقع في أيدينا مرتين! فعندما وقعوا في أَسْرِنا، أثناء الحرب البرية، أعدناهم إلى العراق في عملية تبادل الأسرى التي أعقبت وقف إطلاق النار. ولكن السلطات العراقية أجبرتهم على الانخراط في الجيش مرة أخرى، وأَرْسلتهم إلى البصرة لإخماد التمرد هناك. أمّا الذين رفضوا الانصياع للأوامر، فقُتلوا على الفور. بينما فَرّ إلينا بعضٌ من أولئك الجنود، من تلك الجبهة، ضمن أعداد اللاجئين.

          أرسلتُ نائبي اللواء عبد العزيز آل الشيخ لتقييم موقف اللاجئين على الطبيعة. وأصدرتُ إليه تعليماتي بإسكانهم في الخيام، وتزويدهم بإعاشة طوارئ تكفيهم لأسابيع عدة. تصورت أن صداماً سَيُطاح به، ومن ثَم يعود هؤلاء اللاجئون إلى ديارهم.

          بلغ عدد اللاجئين في صفوان 6500 شخص، وبلغوا أكثر من ذلك في السّادة، وهي منطقة تقع إلى أقصى الغرب من صفوان . لم تكن الكويت بعد ما عانته من صدّام على استعداد لقبول هؤلاء اللاجئين. كانت مِحْنَتُهم قاسية حقاً. فالأمريكيون يستعدون للانسحاب من العراق بعد سريان وقف إطلاق النار، وهذا من شأنه أن يترك اللاجئين تحت رحمة صدّام مرة أخرى.

          قال لي شوارتزكوف: "إننا نواجه مشكلة. عَليَّ أن أسحب قواتي. ولكن الكويتيين يرفضون أخذ اللاجئين. فإذا مكثوا في أماكنهم، فذلك يعني الموت المحقَّق لهم لا محالة. فما الحل؟".

          هكذا واجهتُ أصعب مأزق. شعرت بأن علينا إيواءهم في المملكة، ولكني كنت أدرك أنني ربما سأواجه في ذلك معارضة شديدة. ولكن بعد أن قَلّبت الأمر على أوجهه، وحسبت حساب المؤيدين والمعارضين، وصلتُ إلى قناعة مَفادُها أن السعوديين أَوْلى بحماية العرب من الأمريكيين. وأردت أن يتاح للمملكة شرف القيام بهذه المهمة الإنسانية. لقد قاتَلْنا العراق ولكننا سنتولى حماية العراقيين. كان ذلك أقلّ ما يمكن أن نقوم به لتلتئم جراح شعبين ما فتئت تنزف دماً.

          طلبت من شوارتزكوف أن يُبقي على قواته في مواقعها، ريثما أتخذ الاستعدادات اللازمة لاستقبال اللاجئين. وطلبت من الفريق يوساك أن ينقل اللاجئين الموجودين في صفوان جواً إلى معسكرٍ أقمناه على عجل بالقرب من رفحا ، على بعد نحو 15 كيلو متراً داخل حدودنا. كما نُقل اللاجئون المتجمعون عند مركز السّادة بالقرب من رفحا إلى المعسكر براً. كانت السعادة تغمرهم بعد أن كُتِبَت لهم النجاة من الانتقام الدموي ل صدام . وخلال أيام قليلة كان لدينا ما يقرب من 25 ألف عراقي، اقتضى أن نوفر لهم الطعام والكساء والمأوى ونرعى كل شؤونهم.

          وعقِب زيارتي لهم، عيَّنت اللواء الركن عطية عبد الحميد الطوري قائداً للمعسكر، وكان يشغل منصِب قائد المجموعة الخامسة دفاع جوي في المنطقة الشرقية، وهو ضابط يُشهد له بالكفاءة الإدارية النادرة، وأعرف عنه الحكمة والمواقف الإنسانية. واتَّضح لي، بعد ذلك، أن اختياري كان في محله. فعندما غادر المعسكر ليعود إلى عمله في قوات الدفاع الجوي، ترك فراغاً كبيراً وافتَقَدَه كـل اللاجئين. نجح اللواء عطية الطوري في كسب ثقتهم وحبهم، وكان عمله في ذلك المعسكر شاقاً بحق، بل كان أيضاً بالغ الحساسية من الوجهة السياسية.

          كنت حريصاً على بناء معسكر نموذجي للاجئين. وبناءً على تعليمات خادم الحرمين الشريفين، وتوجيهات الأمير سلطان، وتعاون كثير من الأجهزة الحكومية السعودية والمنظمات الخيرية، بدأ سيل الإغاثة يتدفق إلى اللاجئين ليخفِّف من معاناتهم، مئات من الأغنام كل يوم، شاحنات محملة بالفاكهة والخضراوات، عشرات الآلاف من قوارير المياه، وأدوات المطبخ، ومسحوق الحليب للأطفال، وملابس، وبطانيات، وأغطية، وفُرُش، وأثاث، حتى الملابس الداخلية، وأدوات التجميل للنساء، كل أولئك حَظِيَ به اللاجئون. قامت هيئة الإغاثة الإسلامية، وهي منظمهّ عالمية مقرها الرياض، بجهد مشكور في أعمال الإغاثة، وأُسندت إليها مهام عدة، مثل: توزيع الملابس للرجال والنساء والأطفال، وإرسال الرسائل واستقبالها. وعند تخطيط المعسكر، خصَّصنا قسماً من الخيام للرجال الأعزاب أو للرجال دون عائلاتهم، وقسماً آخر للعائلات، وقسماً ثالثاً للنساء غير المتزوجات. ولكن هذا التقسيم لم يكن يعكس الواقع الحقيقي، فكان هناك كثير من النسوة اللائي فَقَدْنَ الاتصال بآبائهن وأزواجهن أثناء هروبهن المذعور من قنابل صدّام وكان هناك رجال لا يعرفون ما حلّ بنسائهم وأطفالهم، وأطفال انفصلوا عن ذويهم وكانوا في عِداد اليتامى. ضمَّ المعسكر قلوباً يملأُها الأسى، وعيوناً لا تكاد تجفُّ في مآقيها الدموع.

          ولتسهيل السيطرة على المعسكر من الناحية الإدارية، وفي محاولة لجمع شتات الأُسَر المتفرقة، أنزلنا اللاجئين في أقسام منفصلة، طبقاً للمحافظات التي نزحوا منها في العراق وقمنا بتعيين واحدٍ من الأعيان أو شيخ قبيلة، ليكون رئيساً للمحافظة، ووسيطاً بين اللاجئين وقيادة المعسكر، للمساعدة على حلّ المشاكل عند حدوثها. وخصَّصنا خيمة اجتماعات لكل واحد من رؤساء المحافظات، إضافة إلى راتب مُجْزٍ وكميات من القهوة و السكر والتمر والفاكهة ليقوم بواجب الضيافة نحو زواره. وكانت مراكز السلطة والنفوذ تلك عوناً كبيراً لنا في إدارة المعسكر.

          استأجرنا، كذلك، فندقاً في الرياض لإقامة اللاجئين عند مجيئهم إلى العاصمة لمراجعة المستشفيات أو السفارات. وتمكَّن الآلاف منهم، بمساعدتنا ومساعدة المفوضية العليا لهيئة الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين، من تحقيق رغبتهم في الاستيطان في أكثر من ثلاثين دولة.

          واسترعى انتباهي أن بين اللاجئين العراقيين نحو 250 مهندساً، وما يزيد على 100 طبيب، وكذلك عدد كبير من الموظفين المدنيين والدبلوماسيين والمدرسين وأصحاب المصانع والمحافظين، وشخصيات مرموقة أخرى. اجتمعت إليهم مرات عدة، وبذلنا كل ما في وسعنا لتوفير وظائف مناسبة لبعضهم داخل المعسكر تَدِرّ عليهم دخلاً معقولاً. كما ضَم المعسكر أيضاً عدداً من الهاربين من السجون ومثيري الشغب والمخربين، وعملاء من شرطة صدّام السرِّية. وبعد إلقاء القبض على عدد منهم علِمنا أن بعضهم كان يخطط لإضرام النار في المعسكر، وتسميم مياه الشرب، وإذكاء نار الفتنة بين القبائل، واغتيال المسؤولين، كذلك سرقة البطاقات الشخصية لرؤساء المحافظات للشخصيات العراقية البارزة في المعسكر، الذين تم تعيينهم، حتى تتمكن السلطات العراقية من التعرف بهم والانتقام من ذويهم.

          قَدّم إلينا أحد المخبِرين مساعدة كبيرة، عندما سَلّم نفسه إلى قيادة المعسكر، بعد أن شعر بوَخز الضمير جراء الأُسر الكثيرة التي لاقت حتْفها بسب بلاغاته. ارشدَنا إلى عدد من العملاء العراقيين، من بينهم شخص ادَّعى أنه طبيب، وظل يعمل في إحدى عيادات المعسكر، ثم اتَّضح أنه لم يكن سوى بائع نظارات طبية، ودَأَبَ على إرسال المعلومات إلى خارج المعسكر بتحويل مرضاه إلى المستشفى العام في مدينة رفحا القريبة، حيث يمكنِهم الاتصال بالجواسيس العراقيين. وكانت تساعده على عمله ممرضة ادَّعى أنها زوجته، واتَّضح، فيما بعد، أنها لم تكن ممرضة، ولم تكن زوجته، بل هي إحدى عميلات النظام العراقي. فوضَعْـنا الطبيب والممرضة تحت المراقبة الدقيقة، وأوقَفنا نشاطهما، بعد فترة وجيزة.

          ولعل أخطر هؤلاء العملاء أو "عقلهم المدبر"، كان ضابطاً برتبة ملازم، لم تتمكن استخباراتنا من إلقاء القبض عليه؛ لأنه كان دائب الحركة في أنحاء المعسكر. ولكن اللواء عطية الطوري، قائد المعسكر، تمكَّن بذكاء، من تجنيد لاجئَيْن من عتاة المجرمين السابقين للقيام بتلك المهمة، كان أحدهما ضخماً قوياً بارز العضلات. وبعد أن أعطاهما التعليمات سراً سلّمهما مبلغاً من المال، وهيَّأ لهما سيارة إسعاف، فعادا بعد قليل، بالملازم مشدود الوَثاق في مؤخرة السيارة. إذ تمكَّن الاثنان من استدراجه خارج إحدى الخيام، بعد أن أوهماه أن رجلاً مريضاً، ظن أنه أحد عملائه، يريد التحدث إليه. وبعد خروجه معهما طرحاه أرضاً وشدّا وَثاقه.

          كانت هناك حوادث أخرى مماثلة، بعضها مثير للشفقة، وبعضها غريب مضحك، وبعضها خطير حقاً. ففي إحدى الليالي، اتصل بي اللواء عطية الطوري ليخبرني أن حراسنا عثروا على امرأة عراقية وبناتها الثلاث في الصحراء المجاورة للمعسكر. وادَّعت المرأة أن زوجها موجود في الداخل، وتوسَّلتْ أن تسمح لها السلطات بالدخول لتلْحَق به. كانت المرأة وبناتها الصغيرات في حالة تدعو إلى الشفقة. فما العمل؟

          أصدرتُ تعليماتي إلى اللواء عطية أن يسمح لها بالدخول، ثم يتأكد من صدق روايتها فيما بعد. وَوُضعت المرأة وبناتها تحت الحراسة تلك الليلة. وفي الصباح، عُثر على الزوج، واجتمع شمْل الأسرة مرة أخرى، وغلبتْهم جميعاً، الأب والأم والأطفال، دموع الفرح. حدث ذلك على مرأى من اللاجئين الذين أجهشوا بالبكاء، وهم يشاهدون تسابق الصغيرات البريئات إلى الارتماء في حضْن أَبِيهِنَّ ويسمعون نَشيجَ الزوجة تبكي، ولا تكاد تصدِّق ما ترى. ويقول اللواء عطية إن المشهد كان مؤثِّراً للغاية. يحرِّك أعمق المشاعر، وتَلِين له أقسى القلوب.

          وفي حادثة أخرى، تمكنتْ مجموعة كبيرة من اللاجئين مؤلفة من 70 رجلاً وامرأة وطفلاً من الهرب، بعد أن فتحوا ثغرة في السلك الشائك المحيط بالمعسكر. طارَدَهم الحراس ولَحِقوا بهم وأعادوهم في حافلتين بعد جدال طويل معهم. وعند وصولهم إلى بوابة المعسكر رفضوا النزول، وبَدوا كأنهم في حالة من الهستيريا الجماعية.

          قابل اللواء عطية الطوري قادة هذه المجموعة ليعرف منهم أسباب إقدامهم على تلك المغامرة الطائشة، بل الانتحارية، إذ كانوا سيَلْقَوْن حتفهم جميعاً لا محالة، إن استمروا هائمين على وجوههم في الصحراء المفتوحة دون مأوى أو طعام أو شراب. وكم كانت دهشته، عندما علم أنهم استحضروا الأرواح في الليلة الماضية، وأخبرتهم روحٌ منها أن المعسكر سيتعرض لهجوم بصواريخ سكود العراقية في الخامسة من صباح اليوم التالي، وأنهم سيموتون في ذلك الهجوم، فصدَّقوها وانطلقوا لا يَلْوُونَ على شيء، ليفلِتوا من موت محقَّق!

          علا صراخهم ونحيبهم، ورفضوا جميعاً النزول من الحافلتين. وتوسلوا إلى اللواء عطية أن يُخْلي سبيلهم. فتحدث إليهم طويلاً، وناشدهم، بصفتهم مسلمين، أن يدَعوا هذه الخرافات، وألاّ يعتقدوا بهذه الخزعبلات، لكن ذلك ما كان ليثنيهم عن عزمهم، كما لو كانوا جميعاً واقعين تحت تأثير التنويم المغناطيسي. هداه تفكيره إلى اتخاذ قرارٍ حكيمٍ بالسماح لهم بقضاء الليلة في الحافلتين بعيداً عن أسوار المعسكر. وفي صباح اليوم التالي، أشرقت الشمس، ومرت الساعة الخامسة ولم يحدث شيء. ولم يظهر أي صاروخ عراقي. وبعد أن ارتفعت الشمس إلى كبد السماء، اشتدت الحرارة داخل الحافلتين، وبدأت تتعالى صرخات الأطفال الجَوعَى وأنّات النساء المجهَدات. وما أسرع ما تحول الجدال بين اللاجئين إلى اشتباك بالأيدي. وبعد فترة وجيزة، سعد الجميع بالعودة إلى الراحة والأمان داخل المعسكر، مرة أخرى.

          ومما يدعو إلى الدهشة، أن الطلبات التي قدَّمها إليَّ اللاجئون، أثناء زيارتي التفقدية للمعسكر، لم تكن تتعلق بأحوال معيشتهم قدْر تعلقها بالجوانب السياسية. هل يمكن أن تسأل الملك فهداً مساعدتنا ضد صدّام؟ لِمَ لَمْ تقضِ قوات التحالف عليه؟ كان ذلك هو الموضوع الذي طرحوه في كل زيارة.

          كان في المعسكر تياران سياسيان بارزان. الأول بزعامة الشيخ محمد رضا الساعدي ، ويتألف من اتباع باقر الحكيم، وهو من زعماء المعارضة البارزين للنظام العراقي، ومقره إيران. والثاني يضم الشيخ حسين علي الشعلان وأتباعه، وهو أحد وجهاء القبائل وعضو في المجلس الوطني العراقي. وتبيَّن لنا أن بعض العملاء العراقيين كانوا يحاولون إثارة الفتن والإيقاع بين هذين التيارين. وكشفنا النقاب عن مؤامرة لاغتيال الشيخ الشعلان ، واتِّهام مجموعة الساعدي بقتْله لإذكاء نار الفتنة بين الجانبين.

          وحدث ذات مرة، أن زار المعسكر وفد من 14 رجلاً من مجموعة باقر الحكيم ، كان بينهم رجال دين يرتدون العمائم. ولكن بعد دخولهم، توقفتْ حافلتهم عن السير بعد أن أحاطت بها الجموع من كل جانب، كان عددهم يربو على الألف شخص قَدِموا من كل حدب وصوب، يضربون صدورهم بأيديهم ويهتفون: "ماكو زعيم إلاّ حكيم". لم تستطع الحافلة التحرك لا إلى الأمام ولا إلى الخلف، ولم يتمكن ركابها من مغادرتها. كانت جموع الغوغاء تضرب نوافذ الحافلة بقبضات أيديها، وتتسلق إلى سقفها، وبدت كأنها تريد أن تقلب الحافلة بمن فيها. كان اللاجئون في حالة من الهياج الشديد حتى إن المرء لا يدري إن كانوا مناوئين لمن في الحافلة أم مرحبين بهم. وفي آخر المطاف، وبصعوبة بالغة، تمكن اللواء الطوري، الذي نشر وحدات مسلحة حول المعسكر، استعداداً للطوارئ كعادته، من إيصال مكبر للصوت إلى رئيس الوفد الذي استطاع تهدئة الجمع الغفير وتفريقه بعد ذلك.

          لم نعرف سبب تلك الفوضى إلاّ بعد إلقاء القبض على عدد آخر من الجواسيس العراقيين. واتَّضح أن عملية الشغب كانت متعمَّدة من جانب العملاء العراقيين. كانوا يخططون لاغتيال الوفد بكامله، وإثارة المشاعر داخل المعسكر، وإشعال نار التمرد، وتعريض المملكة للإدانة العالمية.

          وبعد أن هدأت الأَوضاع في المعسكر، وأصبحت الأمور تسير بشكل طبيعي، أمر الملك فهد بتحسين الظروف المعيشية للاّجئين. وبناءً على هذا الأمر، أصدر الأمير سلطان تعليماته بأن نشْرع في بناء معسكر جديد يتَّسع لإيواء 35 ألف نسمة في موقع ممتاز يبعد نحو خمسة كيلومترات عن المعسكر الأول. واستدعيت المقاولين المدنيين، ووضَعنا المخططات، منذ البداية، ليكون المعسكر مدينة نموذجية يرتبط بمدينة رفحا من طريق معبدة، وتُمَدّد إليه الكهرباء، ويزوّد بشبكة للصرف الصحي، وعدد من محطات التحلية، إضافة إلى مساكن دائمة للاجئين، ومدارس ابتدائية وثانوية للبنين والبنات، ومستشفى كبير، وعدد من العيادات الصحية، والمكتبات، والصالات الداخلية والملاعب الرياضية، والمرافق الأخرى اللازمة للعمل والترفيه. كذلك، اتخذنا الترتيبات اللازمة لإرسال عدد كبير من اللاجئين لأداء فريضة الحج في كل عام. ونالت جهودنا استحساناً من وسائل الإعلام العالمية واللجنة الدولية للصليب الأحمر، التي أبلغتنا أن الأموال التي أنفقتْها المملكة على اللاجئين العراقيين تعادل 30 % من مجموع المبالغ التي أنفقتْها اللجنة على 18 مليون لاجئ في أرجاء المعمورة. فمعسكر رفحا يُعَدّ في كل المقاييس، تحفة رائعة، ومعسكر لاجئين "خمس نجوم"، ولا يوجد له مثيل في أي مكان في العالم، ويحق لنا أن نعتز به ونفاخر.

سابق بداية الصفحة تالي