مقترحات البحث الأشكال والخرائط الصور المحتويات

مقاتل من الصحراء

دروس مستفادة وَرؤيـــة مستقبليّة (تابع)

          ولعل أهمية دور أجهزة الاستخبارات هو درس آخر تعلمناه من الأزمة. فعلينا، حتى لا نؤخذ على غرَّة مرة أخرى، أن نخصِّص موارد أكثر وإمكانات أكبر لدراسة قدرات جيراننا وفهْم نواياهم، العرب منهم وغير العرب على حدٍّ سواء. ويلخِّص ماو تسي تونج mao zedong هذا الدرس بحكمة بالغة، في قوله: "اعرف نفسك واعرف عدوك .. يتحقق لك في كل مائة معركة مائة انتصار".

          ومن الواضح، أننا لم نكن نعرف شخصية صدّام معرفة جيدة، ولم نفهم كذلك حقيقة مشاعره أو كوامن دوافعه. لم نهتم بالطبيعة الوحشية لنظام حكْمه، ولم نُقَدِّر إلى أي مدى من اليأس أو الطيش يمكن أن يدفعه مزاجه المتهور، وإحساسه المرير بالضَيْم، والنقص الحاد في موارده المالية. ونتيجة لذلك، لم نتمكن من معرفة نواياه تجاه الكويت على الرغم من أن خطة الغزو ربما تبلورت في ذهنه منذ أبريل أو مايو 1990. ومن المؤكد أنه ناقشها، حينذاك، مع كبار مرؤوسيه العسكريين والمدنيين.

          عندما بدأ صدّام يحرك قواته في اتجاه الجنوب، كنّا نظن أنه يمارس ضغوطاً على الكويت وأنها مجرد مناورة سياسية، وليس خطوة عسكرية. وخَلَصَت استخباراتنا، وكذلك استخبارات الدول الأكثر إمكانات وقدرة مِنَّا على مراقبة ومتابعة الأحداث، إلى أن صداماً يقوم بعملية مراوَغة. وعلمتُ، بعد ذلك، أن الأقمار الصناعية الأمريكية رصدت معدات للعبور مع القوات العراقية شمال الكويت مما دفع ببعض المحلِّلين إلـى الظن أن هدف صدّام هو الجزيرتـان اللتان تعوقان المدخل البحري إلى ميناء "أم قصر" العراقي، وكان يسيل لهما لُعاب صدّام منذ وقت طويل. وربما كان نشْر معدات العبور محاولة خداع مدبَّرة من جانب صدّام ليوحي بأنه سيسلك طريقاً دون آخر. وخلاصة القول إنّ أحداً من الاستخبارات العربية أو الغربية، لم يتنبأ أن صداماً سيستولي على الكويت بكاملها.

          كان التحالف يعرف الكثير عن العراق سواء قواته المسلحة أو صناعاته العسكرية. كما توافرت لديه معلومات أكثر في فترة الأشهر الستة التي تلت غزو الكويت في أغسطس 1990 حتى نشوب الحرب في يناير 1991، إلاّ أن تلك المعلومات لـم تَخْلُ من بعض الثغرات الخطيرة. فبناءً على المعلومات الاستخبارية التي كنّا نتبادلها مع حلفائنا، خَلَصنا إلى أنه كان لدى الأمريكيين فهْم تام بتكتيكات التشكيلات العراقية، إلاّ أن إلمامهم بالتكتيكات على مستوى الوحدات والوحدات الفرعية والوحدات الصغرى كان محدوداً. ولعل السبب في التقديرات الأمريكية المُبَالغ فيها عن حجم القوات العراقية في الكويت وقدراتها، يرجع إلى عدم الإلمام الكافي بأسلوب نشْر تلك الوحدات الصغيرة وتمركزها على الأرض. كان هناك إخفاق في إدراك أن معظم الفِرَق العراقية لم تكن في كامل قوتها ( عدداً وعدة ). ولو توافرت لقوات التحالف المعلومات الوافية عن مساحة مناطق التجمع وأسلوب انتشار الوحدات العراقية لَخَلَصَت إلى أن مسرح العمليات في الكويت لم يكُن ليتَّسع لهذه الفرق كلها، إن كانت في كامل عددها وعدتها، كما اعتقدت مصادر الاستخبارات الغربية.

          وتعكس محاولات اصطياد صواريخ سكود مثالاً آخر على وجود الثغرات الاستخبارية لدينا ولدى العراق. وقع العراق في خطأ عندما طوَّر بعض صواريخ سكود في ترسانته الحربية دون دراسة كاملة لأثر تلك التعديلات على أدائها. وعندما حانت لحظة التجربة الحقيقية، اتضح أن تلك الصواريخ فَقدَت دِقتها وتحطم بعضها في الجو. فالدرس الذي نستخلصِه هذه المرة هو خطورة تعديل خصائص أنظمة الأسلحة دون أن تسبقه دراسة كافية. وكانت الولايات المتحدة، من جانبها، تعرف الخصائص العامة لصاروخ سكود، ولكنها لا تملك خبرة مباشرة بأسـلوب استخدامه. فلم يكُن الأمريكيون يعرفون مثلاً أن القاذف يمكِن أن يُخلي موقعه خلال سبع دقائق من عملية الإطلاق. وتُعَد تلك المعلومة مهمة وحيوية في محاولة تحديد مواقع القواذف المراوغة ومن ثم تدميرها. وأذكُر أن الأمريكيين كانوا يعتقدون أن إخلاء القاذف موقع الإطلاق يستغرق 30 دقيقة! إضافة إلى ذلك، لو أن قوات التحالف كانت لديها معلومات أكثر عن تكتيكات وحدات صواريخ سكود، لَمَا افترضت أن العراق يمكِن أن يحرك تلك القواذف في وضح النهار ويعرَّضها لخطر الضربات الجوية.

          وإني إذ أضرب هذه الأمثلة، لا أرمي إلى تصيُّد الأخطاء، بل لأؤكد على ضرورة أن تُبنى الخُطط العسكرية على معلومات تفصيلية عن العدو، وعن تكتيكاته على مستوى التشكيلات والوحدات والوحدات الفرعية، ونُظُم الأسلحة والمعدات لديه.

          حَظِيَ موضوع الإمداد والتموين بمعالجة كافية في هذا الكتاب، ومن ثم فلا أرى ضرورة للحديث عنه هنا مرة أخرى. إلاّ أن الأهمية القصوى للإمداد والتموين في الحرب الحديثة تُمثِّل أحد الدروس البارزة من هذه الأزمة. إذ لا يمكن، في حال من الأحوال، التخطيط للعمليات العسكرية أو تنفيذها دون نظام للإمداد والتموين، يكون فعالاً قبل المعركة وبعدها، فضلاً عن كفاءته خلالها. وعلى كل دولة معرَّضة لخطر خارجي، أن تحتفظ بمخزون حرب احتياطي من الاحتياجات. وعلى القيادة العسكرية العليا، أن تبقَى على صلة وثيقة بالقطاعات الاقتصادية المدنية لتتمكن من تحديث معلوماتها في شأن المخزون من الموارد الوطنية المتوافرة. وبصفة عامة، لا بـد من إعداد الدولة بأسْرها للدفاع من جميع الجوانب السياسية والاجتماعية والاقتصادية والعسكرية. وعند تنفيذ مشاريع صناعية أو مشاريع هندسية مدنية يجب مراعاة الاعتبارات العسكرية، وأن تكون متَّفِقة مع خطة إعداد الدول للدفاع.

          ومرة أخرى، عليَّ أن أشير إلى أن حرب الخليج تُعَد فريدة في نوعها، وعمليات الإمداد والتموين التي أُنجزت خلالها قد لا تكون مقياساً لِمَا يمكِن أن تبرز الحاجة إليه في الصراعات المستقبلية، كما لا يصلُح أخذ معدلات الاستهلاك ونسب الخسائر مؤشراً إلى ذلك الغرض. فبسبب الوفرة في جميع الأصناف، كان معدل الاستهلاك مرتفعاً بشكل ملحوظ في الإعاشة والمياه والذخيرة والوقود. فكميات الوقود والذخيرة التي استهلكت في الحملة الجوية، التي استمرت 38 يوماً، يعجز عن تصورها الخيال. وفي المقابل، كانت الخسـائر في صفوف قوات التحالف، والتي تقدر بـ 0.04%، منخفضة بشكل مذهل، لأن العراقيين انهاروا سريعاً فاستسلموا أو فرّوا. فلا يمكِن، لذلك السبب، استخلاص نتائج واقعية من تلك المعدلات والنِّسب يمكن التعويل عليها في التخطيط المستقبلي.

          تكررت الإشارة في هذا الكتاب إلى الدور الحيوي الذي قامت به البنْية الأساسية الحديثة للمملكة أثناء الأزمة، بما في ذلك المطارات والموانىء ومصافي البترول ومحطات التحلية وما إلى ذلك. فتلك البنْية بالفعل هي إحدى الدعائم الرئيسية في تحقيق النصر. كان علينا أيضاً أن نبذل جهوداً إضافية في مجال البنْية الأساسية كي نواكب متطلبات الحملة العسكرية، مثل تطوير المطارات ورفع كفاءتها ومدّ أنابيب الوقود وتعبيد الطرق. كان إعداد مسرح العمليات بكل ما يحتاج إليه من أعمال هندسية ونقل وصيانة وجوانب اقتصادية أخرى، من أهم القضايا التي رصَدنا لها الإمكانات كافة، ولا شك أنه لا يزال يستحق قدراً أكبر من الاهتمام.

          وخلافاً لِمَا تردَّد من انتقادات حينذاك، فإنني أرى أن تلك الأزمة أظهرت جلياً سَداد السياسة الدفاعية التي تبنَّتها المملكة في العَقدين الماضيين، وهي سياسة من أهم دعائمها التوسع في إنشاء بنْية أساسية عملاقة، إضافة إلى تشييد المدن العسكرية في المناطق الحيوية حول المملكة، لتكون قادرة على استيعاب التعزيزات وإسنادها فـي أوقات الأزمات والطوارئ. ولـولا تلك الاستعدادات الطموحة الضخمة والباهظة النفقة، إضافة إلى العمق الإستراتيجي للمملكة، وهو عنصر مهم وحيوي لأضَحى صعباً بل مستحيلاً على القوات العربية والإسلامية والغربية أن تهبّ إلى مساندتنا، ولوقعَت المملكة وجيرانها الخليجيون ضحية عدوان صدّام.

          ومن الدروس العسكرية المحضة لهذه الحرب بروز دَور القوة الجوية، وتأثير الأسلحة الذكية والدقيقة التوجيه، والإسهام الحيوي للحرب الإلكترونية التي باستخدامها بكفاءة وفعالية تضاعفت القدرة القتالية. فلا يمكِن أن تُشَنَّ حرب حديثة دون غطاء جوي، وأضحت السيادة الجوية في المراحل الأولى من الحرب أمراً بالغ الأهمية.

          ولعل أفدح أخطاء صدّام العسكرية، أنه ظل يكابر واستمر في الصراع بعد أن فَقَدَ قوته الجوية. كان الأجدر به أن يقبَل الهزيمة، ويعلن انسحابه من الكويت في الأيام الأولى من المعركة. ولكنه بدلاً من ذلك، أرْجَأَ القرار خمسة أسابيع، تم خلالها تدمير قواته الجوية والبحرية وجزء كبير من قواته البرية، قبل أن يدفع بما تبقّى من جيشه إلى معركة برية انتحارية. كان عاجزاً عن إدارة المعركة الدفاعية بسبب الشلل الذي أصاب مراكز القيادة والسيطرة والاتصالات لديه، بفعل الهجمات الجوية والصاروخية. وكانت المحصلة النهائية لهذه الأخطاء مجتمعة هي الهزيمة النكراء التي لَحِقَت بجيشه، وتدمير آلته العسكرية.

          اعتمد صدّام بشكل رئيسي في مسرح العمليات على مواقع دفاعية ثابتة، ظن أنها لن تُختَرق. لذلك، ينبغي عند تخطيط دفاعاتنا أن نضع في اعتبارنا أن أي خط دفاعي، مهما كان محصَّناً لا يوفر بالضرورة تأميناً أو حماية كاملة. أكدت هذه الحرب أنه ليس ثمة خط دفاعي لا يمكن اقتحامه أو الالتفاف حوله. فقد سبق الخط الحصين للقوات العراقية، خط ماجينو في الحرب العالمية الثانية، وخط بارليف في حرب أكتوبر 1973.

          يقال أحياناً إن هزيمة العراق مردّها إلى اعتناقه العقائد العسكرية السوفيتية. ولكن هذا القول ينطوي على إجحاف في حق السوفيت ( التسمية التي كانت مستخدمة قبل تفكُّك الاتحاد السوفيتي ). فالفكر العسكري السوفيتي، مثله مثل الفكر العسكري الغربي، يؤكد على ضرورة الاعتماد على السرعة، وتحقيق الصدمة والمفاجأة، وحشد أكبر قوة ممكِنة في مواجَهة أكثر النقاط ضَعفاً في مواقع العدو، وهذا هو مبدأ صن زو sun tzu الذي يقضي باستخدام الصخر في تكسير البيض، والتنسيق والتعاون بين القوات، والمحافظة على معدَّل عالِ للعمليات القتالية. فلو أن العراق استوعب الفكر السوفيتي وطبّقه على نحو صحيح، لكانت مهمة قوات التحالف أشد صعوبة وأكثر تعقيداً.

          وثمة درس آخر يُستخلص من حرب الخليج، وهو أهمية عمليات الخداع. فالخداع الناجح يعتمد على إستراتيجية شاملة متكاملة، تعمل في تناغُم وتناسُق على كل المستويات الإستراتيجية والعملياتية والتكتيكية. بيد أنه من الأفضل ألاّ يعرف قادة الوحدات على المستوى التكتيكي، الذين سينفّذون العمليات الخداعية، أنها خطط للخداع، حتى تَظهَر عملياتهم كعمليات قتال فعلية. وهذه هي الطريقة الوحيدة التي يمكِن بها إقناع العدو أنه يواجِه تهديداً حقيقياً على هذه الجبهة أو تلك.

          حقَّق العراق بعض النجاح في عمليات الخداع والإخفاء والتمويه، مما يشير إلى تأثُّره بالتكتيك العسكري السوفيتي للخداع المعروف باسم ماسكاروفكا maskarovka. وأظهرت القوات العراقية مهارة فائقة في بناء الأهداف الهيكلية التي خَدَعَت قاذفات التحالف في بعض الأحيان، وجعلتها تنفِّذ عمليات قصف مكثّفة على أهداف غير حقيقية. أدَّت الأهداف الهيكلية المصنوعة من الخشب والورق المقوّى دَوراً كبيراً في حماية قواذف سكود المتحركة، كما اكتُشفت أيضاً أهداف هيكلية للدبابات والطائرات. والدرس الذي نستخلِصه من ذلك هو أننا في حاجة إلى تحسين إمكاناتنا الفنية للتمييز بين الأهداف الهيكلية والأهداف الحقيقية. ولكي نتغلَّب على إستراتيجيات الخداع المعادية، يلزم معرفة تكتيكات الوحدات الصغرى، وتحسين قدراتنا على الاكتشاف، وتطوير إمكاناتنا على تحليل المعلومات ومعالجتها.

          وفي ما يتعلق بالخداع الإستراتيجي، استطاع صدّام أن يفاجِئ العالم كله باحتلاله دولة الكويت بدلاً من احتلاله واحدة أو اثنتين من الجُزُر الصغيرة المواجهة لميناء "أم قصر". ومن جانبها، ردت قوات التحالف الصاع صاعين بأن جعلت صداما يعتقد أن الهجوم الرئيسي سوف يُشنّ من الشرق بدلاً من الغرب.

          ومن الدروس الأخرى من الحرب، ذلك الدَّور الكبير الذي يمكن أن تؤدِّيه العمليات النفسية، إذا أُديرت على نحو مُتْقَن، وأهميتها البالغة في خفض الروح المعنوية للقوات المقاتلة المعادية. فالروح المعنوية عامل حيوي يحسم نتيجة المعركة حتى قبل أن تبدأ.

          أكدت حرب الخليج درساً عسكرياً قديماً يقضي بأن المعركة الحديثة معركة أسلحة مشتركة ( برية وجوية وبحرية ودفاع جوي ) تديرها أنظمة قيادة وسيطرة واتصالات واستخبارات فعّالة. فالقوة الجوية بمفردها لا تستطيع أن تكسب حرباً، بل يحتاج الأمر إلى قوات برية تحتل الأرض وتُثَبّت النصر. ومن مفاتح النصر في الحرب الحديثة أن تكون لديك القدرة على القتال أسرع من عدوك، والتحرك لمسافات أطول، والاشتباك من مسافات أبعد، وبقوة نيرانية مؤثِّرة، بينما لا يستطيع عدوك أن يصل إليك أو حتى يعرف موقعك بالتحديد، فضلاً عن القدرة على القتال على مدار الساعة، لا سيما في الليل. إن ما شاهدناه من أداء الوحدات الغربية، أثناء الحرب، أقنعنا أنه لا يزال أمامنا الكثير مما ينبغي أن نتعلّمه.

          وإن كانت قوات التحالف قد خاضت معركة جوية برية airland battle طبقاً لأحْدَث ما توصلتْ إليه العقائد العسكرية الأمريكية، إلا أن مدى فعالية تلك العقائد لم يتم التحقق منها بشكل قاطع، لغياب المقاومة الحقيقية أثناء المعركة.

          وبصفة عامة، أقنعتني حرب الخليج أن مبادئ الحرب ، كما بَيّنها المفكرون الإستراتيجيون عبر العصور، لا تزال صالحة للتطبيق، سواء أَكانت الأطراف المتحاربة قوى عظمى أم دولاً متواضعة من دول العالم الثالث، فالتخطيط للعمليات القتالية يجب أن يتِم وَفقاً لفنون الحرب ومبادئها.

سابق بداية الصفحة تالي