مقترحات البحث الأشكال والخرائط الصور المحتويات

مقاتل من الصحراء

دروس مستفادة وَرؤيـــة مستقبليّة (تابع)

          غير أن هناك دروساً رئيسية أخرى يمكِن أن نستخلصها من أحداث 1990 -1991. ولعل من أهمها، على الإطلاق، تلك العلاقة الوثيقة بين السياسة والحرب. فعندما كتب العسكري البروسي والمفكر الإستراتيجي، كارل فون كلوزفيتز carl von clausewitz، في أوائل القرن التاسع عشر، أن الحرب امتدادٌ للسياسة، كان يقصد أن الدول تلجأ إلى الأعمال العسكرية النظامية لتحقيق أهدافها السياسية. وهذا رأي لا غبار عليه، وإذا كانت ثمة إضافة إليه، فهي أن النصر أو الهزيمة في الحرب إنما يعتمد على النجاح أو الفشل في السياسة. لم تكُن ممارسات صدّام السياسية سديدة في كل المقاييس، فعلى الرغم من كثرة أخطائه العسكرية، إلاّ أن أخطاءه القاتلة كانت كلها سياسية. إذ أخفَق في إدراك الأهمية التي يُولِيها المجتمع الدولي للكويت، ليس هذا فحسب، بل للاستقرار السياسي في منطقة الخليج.

          وثمة سوابق تاريخية كان ينبغي على صدّام أن يأخذها في حسبانه ويتَّعظ بها، ولكنه أصمّ أذنيه عنها وأغلق عينيه دونها. ففي عام 1961، على سبيل المثال، عندما هدَّد الزعيم العراقي عبد الكريم قاسم باحتلال الكويت دفعت بريطانيا، وكانت القوة المسيطرة في الخليج آنذاك، بقواتها إلى المنطقة لإحباط محاولته. وبعد وقت قصير، استُبدِلت بها قوة مشتركة من جامعة الدول العربية تحت قيادة ضابط سعودي، هو العميد عبدالله عبد العزيز العيسى. وحلّ محله في قيادة القوة المشتركة ضابط سعودي آخر هو العميد عبدالله علي المطلق، الذي شغل منصب رئيس هيئة الأركان العامة عقب عودته والقوات السعودية إلى المملكة. كان التدخل من جانب بريطانيا، ثم من جانب جامعة الدول العربية في أزمة الكويت في ذلك الوقت، يعني أن كلاَّ من بريطانيا والدول العربية مصمِّمة على منْع العراق من بسط هيمنته على منطقة الخليج بأسْرها. وما أشبه الليلة بالبارحة! فكأنما كانت أحداث عام 1961 تمريناً تجريبياً لما حدث عام 1991. فلو أن صداماً عكف على دراسة أزمة عام 1961 واستخلص منها العِظات والعِبَر، لما أقدَم على عدوانه ذاك بعد ثلاثين عاماً.

          وسابقة أخرى غَفَلَ عنها صدّام هي قيام الولايات المتحدة بنشْر قطعها البحرية لحماية ناقلات البترول الكويتية التي كانت ترفع علماً أمريكياً في المراحل الأخيرة للحرب العراقية-الإيرانية. على الرغم من أن هذا العمل من جانب الولايات المتحدة كان مبعثه مبادرة سوفيتية لحماية الناقلات الكويتية، إلاّ أنها دليل واضح على أن واشنطن لن تتردّد في استخدام القوة لضمان تدفق البترول، وحرية المِلاحة البحرية واستقرار الأنظمة السياسية في الخليج.

          وإذا رجعنا إلى مقولة كلوزفيتز، خَلُصنا إلى صعوبة فصل العمليات العسكرية عن الممارسات السياسية. فَلِتَجَنُّبِ حدوث كارثة ما، لا بد أن يحاط العسكريون علماً بأبعاد الموقف السياسي، وفي الوقت نفسه لا بد من أن تكون لدى القيادة السياسية صورة دقيقة وصريحة عن القدرات العسكرية لقواتها المسلحة. ففي عام 1967، كان الرئيس المصري جمال عبد الناصر يتلقى تقارير غير دقيقة من المشير عبد الحكيم عامر، القائد العام، عن الاستعداد القتالي للقوات المسلحة المصرية وقدْرتها على تلقِّي الضربة الأولى الإسرائيلية. ومن الواضح أن المشير عبد الحكيم لم يكن مُلِماً بالمواقف السياسية على الصعيدين الإقليمي والدولي، إذ أخفَقَ في إدراك أن إسرائيل لن تتوانى لحظة، إذا ما سنحت لها الفرصة، في كسر شوكة القوة العربية الوحيدة التي يمكِن أن تُشكِّل تحدياً لها، وأن ذلك العمل سيكون برداً وسلاماً على الولايات المتحدة. وهكذا، بناءً على معلومات غير كافية، ونصيحة غير شافية، راهن عبد الناصر في سيناء، وخسر الرهان.

          غاب عن صدّام عام 1990، الفهم الصحيح لطبيعة التفاعلات والعلاقات داخل النظام الدولي، كما لم يدرك قدرات جيشه وفاعليته والمصير الذي سيؤول إليه عند مواجهته قوات دولة عظمى. كانت حساباته السياسية خاطئة عندما اعتقد أن في إمكانه تجنُّب الحرب، وكانت حساباته العسكرية أيضاً خاطئة عندما اعتقد أن في إمكانه تجنُّب الهزيمة. وهل نتوقع من طاغية جلاد يبثُّ الرعب في نفوس من حوله أن تصل الحقيقة المجردة إلى مسامعه في يوم من الأيام؟!

          تولدت لديّ بما اكتسبته من خبرة في حرب الخليج، قناعة راسخة بخطأ الاعتقاد الشائع أن القادة العسكريين ليسوا في حاجة إلى المعرفة السياسية. فلكي يتسنى للقادة العسكريين في منطقتنا تحديد وتقدير الأخطار المحتمَلة وتقييمها وتقديم المشورة الدقيقة الصادقة إلى القيادة السياسية، لا بد لهم من الإلمام التام بسياسات منطقة الشرق الأوسط، والسياسات الدولية على السواء. ففي الحروب التي تقوم على التحالف بين الدول خاصة، والتي ربما تصبح الأنموذج السائد للصراعات المستقبلية، لابد أن يدرك القادة العسكريون الاهتمامات السياسية للدول المتحالفة. وهذا أمر تَبَيَّنت لي أهميته عند قيادة وإدارة قوات عسكرية من دول مختلفة. وقد يقتضي الأمر تدريب نوعية جديدة من القادة تصلح لقيادة قوات متعددة الجنسيات، يكون لديها إلمام تام بالأمور السياسية، إلى جانب إتقان فن الحرب. ولا بد أن أستدرك، هنا، وأؤكد أن دعوتي العسكريين إلى الإلمام بالشؤون السياسية الدولية، لا تعني دعوتي لهم أبداً إلى إقحام أنفسهم في الممارسات السياسية.

          أضحى متعذراً في عقدنا الأخير من القرن العشرين، خوض حرب حتى في أقصى بقاع العالم، ناهيك من منطقة شديدة الحساسية مثل منطقة الشرق الأوسط، من دون أن تؤخذ مصالح المجتمع الدولي في الحسبان. فقد يتوقف النصر أو الهزيمة على تأييد المجتمع العالمي لطرف دون آخر. لذا، كان لزاماً على القادة السياسيين أن يسعوا إلى كسب التأييد الدولي وإقناع الرأي العام العالمي بعدالة قضيتهم، قبل أن يفكروا في العمليات العسكرية. ومن الغريب أن صداماً لم يستوعب هذا الدرس أيضاً، فأقدَم على غزو الكويت في وقت كانت فيه صورته سوداء قاتمة، وسمعته سيئة في الحضيض. وبدلاً من أن يستميل الرأي العام إليه، أو يُحَيِّدَه على الأقل، قبْلَ الإقدام على مغامرته الطائشة، إذا به ينفّر المجتمع الدولي منه ويزيده حنقاً عليه.

          وأرى أن جزءاً من تدريب القادة العسكريين لا بد أن يوجَّه إلى كيفية التعامل مع وسائل الإعلام، وهذه في حد ذاتها مهارة سياسية. ففي عصر الأقـمار الصناعية والبث المباشر، لا يمكِن للقادة العسكريين والسياسيين، على حدٍّ سواء، أن يتجاهلوا وسائل الإعلام. فتأثيرها في الرأي العام قوي عميق ولا يمكن الاستهانة به. وإن كنّا في المملكة، لم نَعْتَدْ، من قبل، على التعامل مع أعداد كبيرة من المراسلين، إلاّ أننـا أتقنَّاه فـي وقت قصير. كـان قـرار القيادة السياسية العليا ، السماح لوسائل الإعلام العالمية بتغطية الأحداث وتسهيل مهمتها، نقطة تحوُّل أفسحت المجال لتحقيق خدمة إعلامية متميزة.

سابق بداية الصفحة تالي