الصفحة الأولى الصفحة السابقة الصفحة التالية الصفحة الأخيرة    

 
حملة الليطاني
خريطة لبنان
اُنظــــر كـــذلك
 
سلام الجليل الاجتياح الإسرائيلي للجمهورية اللبنانية، 1982، (سلام جليل)
مذبحة قانا الاجتياح الإسرائيلي للجمهورية اللبنانية، 1996، (مذبحة قانا)
الحرب الأهلية اللبنانية
الجمهورية اللبنانية

الفصل الثالث:
أحداث الغزو الإسرائيلي للجنوب اللبناني

        خلال الفترة من 11 إلى 14 مارس 1978، تسارعت المواقف في إسرائيل، حتى تحشد الرأي العام الإسرائيلي والرأي العام العالمي، لتنفيذ مخططها، وتحشد قواتها التي ستنفذ العملية، وتنسق المواقف مع بعض حلفائها داخل لبنان نفسه.

        وبما أن إسرائيل تمارس مثل هذه العمليات، دائماً، فهي لا تجد عوائق كثيرة في الاستعداد لتنفيذها. كما أن تحقيق المفاجأة، الذي يتطلب السرية والإخفاء، مطلوب جزئياً فقط، نتيجة تحركات إسرائيل في المنطقة، وتدخلاتها المستمرة في الجنوب اللبناني، حتى أصبحت مثل هذه التحركات حدثاً مألوفاً، مع توقع الجانب الفلسطيني لمثل هذه العملية للرد علي حادث الحافلة الإسرائيلية. كما أن إسرائيل لا تحتاج إلي تحقيق عامل المفاجأة ضد قوات محدودة، مثل قوات المقاومة الفلسطينية.

        ومع ذلك، وضعت إسرائيل العديد من الاعتبارات في تخطيطها وتنفيذها لهذه العملية، نذكر منها علي سبيل المثال:

  1. السرعة في الرد علي حادث الحافلة، لردع الجانب الفلسطيني. على أن يكون الرد حاسماً ومؤثراً في الأحداث. حتى يجبر منظمة التحرير الفلسطينية خاصة، والعرب عامة، على تهدئة الموقف، ومنع تكرار مثل هذه الحوادث، بما يحقق أمن إسرائيل.
  2. أن تكون العملية محدودة في المدى والوقت، فتُؤتي ثمارها، وتحقق الأهداف منها، دون تورُطٍ أو تكبّد خسائر كبيرة.
  3. تدمير أقصي ما تستطيع القوات الإسرائيلية تدميره من قواعد المقاومة الفلسطينية، حتى لا تقوم لهم قائمة في الجنوب اللبناني بعد ذلك. ومطاردة رجالها (طبقاً لحدود العملية)، والعمل علي حصارهم أولاً، لمنع هروبهم، سواء بالبر أو البحر. وهو ما عبر عنه أحد القادة العسكريين الإسرائيليين، في هذا الوقت بقوله: "يوجد في لبنان 17 ألف مسلح فلسطيني. وهم لا يحاربون الجيش الإسرائيلي، وإنما يحاربون المدنيين داخل إسرائيل. فلماذا ننتظر حتى يأتوا إلينا".
  4. أن تكون العملية إنذار وتهديد لسكان الجنوب اللبناني، لضمان عدم بقاء فلسطينيين بينهم بعد ذلك. فلو نجحت هذه العملية في إرهاب سكان الجنوب، وإجبارهم علي الرحيل شمالاً، من دون عودة، فسيكون ذلك أفضل حتى يمكن تفريغ الجنوب اللبناني من السكان، فتنكشف المقاومة الفلسطينية، ويمكن التخلص منها بسهولة.
  5. تحاشي الدخول في مواجهة مباشرة مع القوات السورية، التي تنتشر شمال نهر الليطاني، على أن يتم التحرش بها بواسطة القوات الجوية، والمدفعية، حتى تكشف أهدافها من وجودها في لبنان. وهذا الموقف سوف يؤدي إلي إحراجها أمام الرأي العام العالمي والإقليمي، ويفقِد اللبنانيون الثقة بوجودها، ويضطرها إلي  المواجهة  مع الفلسطينيين، الذين تسببوا لها بهذا الإحراج.
  6. تصعيد المواجهة اللبنانية ضد الفلسطينيين، نتيجة للتأثير الشديد التي تحدِثه هذه الحملة. ومن ثم، فالمطلوب إحداث أكبر خسائر في  الجانب اللبناني أيضاً، حتى يضطر إلي الانتقام، الذي سيوجَّه أساساً ضد الفلسطينيين ومنظمتهم.
  7. إنهاء العملية في توقيت مناسب، وقبل تفعيل القرار الدولي، الذي لا بد سيصدر من مجلس الأمن بإيقاف النيران. ومن أجل ذلك، لا بد من التنسيق مع الولايات المتحدة الأمريكية، لتأجيل إصدار القرار ريثما تتحقق الأهداف الإسرائيلية. وكان ذلك أحد أسباب سفر رئيس الوزراء، بيجن، إلي واشنطن قبل بدء العملية.
  8. التنسيق الكامل لوضع سيناريو يفرض وجود "جيش لبنان الجنوبي"، المنشق، والذي ستسلمه القوات الإسرائيلية مهام المنطقة بعد انسحابها، مع ضمان ولاء قوات هذا الجيش لإسرائيل أساساً.
  9. وضع خطة لاحتواء رد فعل مصر، التي بدأت مسيرة السلام مع إسرائيل. وذلك من خلال إقناعها بأن هذه العملية هي فقط رد فعل لحادثة تل أبيب، "وهي محدودة المدى والهدف". ولابد أن تتدخل الولايات المتحدة الأمريكية في هذا الإقناع، حتى تستمر مسيرة السلام، ولا تنحاز مصر إلى صف لبنان أو المنظمة، ضد إسرائيل.
  10. وبما أن هذه العملية هي أول مواجهة كبري مع دولة عربية، بعد حرب 1973، فلا بد أن تحرص إسرائيل علي إبراز قوتها بأجلى معانيها، حتى تعيد الصورة التي ظهرت بها في حرب يونيه 1967، ثم تقلصت في حـرب أكتوبر 1973. فالفرصة الآن سانحة للجيش الإسرائيلي، الذي كان لا يقهر سابقاً، كي يغير صورته، ويطبق خبراته، التي استفادها من حرب أكتوبر 1973، ويختبر الأسلحة والمعَدات الجديدة، التي حصل عليها بعد هذه الحرب، والتي كان بعض القوي العالمية، وشركات تصنيع الأسلحة، تتمنى وضعها موضع الاختبار، حتى تتعرف بإيجابياتها وسلبياتها، ويمكن تطويرها.
  11. وأخيراً، كان لا بد من إجراءات تأمين شعب إسرائيل ضد ردود الفعل الفلسطينية ـ العربية، سواء أثناء إجراء العملية، أو بعدها. وقد تركز جهد التأمين علي خطوط المواجهة شمال إسرائيل، من خلال العديد من الإجراءات السلبية والإيجابية، حتى لا يتعرض الإسرائيليون لأي أخطار.

الهدف السياسي العسكري للعملية

         ومراعاة للاعتبارات السابقة، نبع الهدف السياسي العسكري لهذه العملية، وهو: "تنفيذ عملية عسكرية محدودة، بهدف تدمير المقاومة الفلسطينية في الجنوب اللبناني، وتغيير الخريطة السكانية للمنطقة، "ديموجرافية" المنطقة، بما يحقق أمن الشمال الإسرائيلي، والتمهيد للاستيلاء علي نهر الليطاني، لتحويل مياهه لمصلحة إسرائيل".

خطة الغزو الإسرائيلي "حملة الليطاني"

الهدف من العملية

         تحقيق أمن المستعمرات الإسرائيلية في منطقة الجليل، من خلال السيطرة علي الجنوب اللبناني، وتدمير قواعد المقاومة الفلسطينية، والعمل علي إنشاء منطقة أمنية بعمق 15 كم داخل الحدود الجنوبية اللبنانية، وتهيئة الظروف المناسبة لإجراءات تحويل مياه نهر الليطاني إلي الشمال الإسرائيلي.

مدة العملية

من 4 إلى 5 أيام، يتم خلالها السيطرة علي الجنوب اللبناني كله.

مراحل العملية

خططت إسرائيل تنفيذ عملية الغزو على مرحلتين :

الأولي:

تدمير المقاومة الفلسطينية، وتطهير منطقة الحدود الإسرائيلية لعمق حتى 15 كم داخل الأراضي اللبنانية، وإجبار سكانها علي النزوح شمالاً، وتهيئتها لتكوين السياج الأمني الإسرائيلي مستقبلاً. وتستغرق هذه المرحلة بين يومين وثلاثة أيام.

الثانية:

تطوير الهجوم، واستكمال تدمير عناصر المقاومة الفلسطينية، ومواجهة أي مواقف طارئة، والوصول إلي جنوب نهر الليطاني، والسيطرة علي منطقة  الجنوب اللبناني كله. وتستغرق هذه المرحلة بين يومين وثلاثة أيام.

القوَّتان المتضادتان

1. القوات الإسرائيلية

أ. القوات البرية

خصصت إسرائيل فرقتين ولواء مظلات وعناصر الدعم اللازمة، لتنفيذ العملية، منها فرقة مدرعة خفيفة (لواءان مدرعان ولواء مشاه آلي) وتعمل علي المحور الساحلي. وفرقة من تشكيل خاص ( لواء مشاه ولواء آلي ولواء مدرع) للعمل علي المحورين الجنوبي والأوسط. كما خُطط لاستخدام لواء المظلات على المحور الساحلي، بالتعاون مع الفرقة المدرعة الخفيفة.

ب. القوات الجوية

خصصت إسرائيل مجهوداً جوياً كثيفاً لإنجاح العملية، إذ اشتركت في القتال الطائرات الحديثة من نوع F-16، مع الطائرات الأخرى. كما توسعت في استخدام الطائرات العمودية، المجهزة بالصواريخ والرشاشات، لمطاردة عناصر المقاومة.

ج. القوات  البحرية

فرضت إسرائيل حصاراً بحرياً على الجنوب اللبناني حتى صيدا شمالاً. وتمكنت قطع الأسطول معاونة القوات البرية في تقدمها، بالقصف البحري لقواعد المقاومة، ومراكز المراقبة الساحلية، والمعسكرات الفلسطينية علي طول الساحل. واستخدمت لتنفيذ هذه العملية، مجموعة قتال بحرية، تشكّلت من: 8 زوارق داورية نوع دبور، 4 زوارق مدفعية صغير، زورقين مدفعية كبير، زورقين هجوميين، كاسحة ألغام، سفينة إنزال متوسطة، فرقاطة.

         تركز هذه القوات جهودها الرئيسية: في اتجاه المحور الساحلي، بهدف تدمير المقاومة الفلسطينية ومعسكراتها في بلدة الناقورة، وسرعة الوصول إلي صور وحصارها، ثم الانطلاق شرقاً وشمالاً، لاستكمال تنفيذ المهمة.

2. القوات الفلسطينية

إجمالي حجم القوات المسلحة الفلسطينية في لبنان، حوالي 17 ألف مقاتل (تقدير إسرائيلي). أمّا  القوات الفلسطينية في جنوب لبنان، في هذا التوقيت، فكانت كما يلي:

 

أ.

5 كتائب مشاة مدعمة (من 4 إلى 5 آلاف مقاتل). تحتل مواقع  متفرقة علي طول الحدود، وبعضها يتجمع في معسكرات. وانضم إليها عناصر من المقاومة الوطنية اللبنانية، من سكان الجنوب اللبناني.

 

ب.

كتيبتا مدفعية ميدان (حوالي 24 مدفع ميدان روسي الصنع، عيار 122مم)، إضافة إلى عدد من قواذف صاروخية (كاتيوشا).

          وتركز مجهودها الرئيسي للدفاع في اتجاه المحور الساحلي، وهو الطريق الرئيسي المؤدي إلي الكثافــة السكانية في لبنان. ويوجد مركز قيادة قوات المقاومة في بلدة الناقورة الحدودية (حوالي 7 كم شمال الحدود)، وهو الذي عدّته القوات الإسرائيلية هدفها الرئيسي.

فكرة العملية

المرحلة الأولى: التمهيد النيراني للغزو، 15 مارس

            تبدأ عملية الغزو في 15 مارس 1978، بتوجيه ضربات جوية، وقصف مدفعي، ضد الأهداف الفلسطينية في الجنوب اللبناني، والأهداف الأخرى في الشمال، والتي يحتمل أن تتدخل في المعركة (وقد تم حصر هذه الأهداف مسبقاً بواسطة الاستخبارات الإسرائيلية، وبالتنسيق بينها وبين عملائها في لبنان). ويستمر هذا القصف طوال يوم 15 مارس، لإحداث أكبر قدر خسائر في القوات الفلسطينية، وإحداث ردع نفسي للمدنيين اللبنانيين في الجنوب، وإجبارهم على النزوح شمالاً، قبل شنّ الهجوم الرئيسي بالقوات البرية.

المرحلة الثانية: الهجوم البري، بدءاً من صباح 16 مارس

          تنطلق الوحدات الأمامية من الفرق المهاجمة، من خلال محاور ثلاثة: جنوبي، وأوسط، وساحلي، لتنفيذ مهامها بتدمير مراكز المقاومة بالتتالي، علي أن تندفع قوات الساحل الشمالي بأقصى سرعة في اتجاه الناقورة، للاستيلاء عليها. ثم يتوالى تنفيذ مراحل الخطة.

المرحلة الثالثة: تطوير الهجوم وتحقيق الهدف النهائي، بدءاً من 18 مارس

          الاستيلاء علي الخط العام: الخيام ـ مرجعيون ـ النبطية ـ الصرفند، والضفة الجنوبية لنهر الليطاني، وتأمينه.

سير أعمال القتال

المرحلة الأولى: التمهيد للهجوم، 15 مارس

          وجهت إسرائيل قصفاً مكثفاً ـ جوياً ومدفعياً ـ ضد أهدافها المختارة في الجنوب اللبناني، مستخدمة القنابل الانشطارية، المحرم استخدامها دولياً. وكان هناك تنسيق تام بين نيران القصف الجوي، ونيران المدفعية، حتى تضمن شغل الجبهة بالكامل بالنيران طوال الوقت. وقد نشطت الطائرات العمودية في القصف المباشر للأهداف، ومطاردة القوات أو الأفراد المنسحبين شمالاً، هرباً من جحيم النيران.

          ولم يتصدَّ للطائرات الإسرائيلية، سوى نيران متقطعة من الرشاشات، أو المدافع المضادة للطائرات، القليلة العدد، التي تمتلكها المقاومة الفلسطينية، والتي كانت عرضة للتدمير في الموجات الأولي للهجمات الجوية الإسرائيلية. وبعدها أصبح مسرح العمليات مفتوحاً تماماً لأي مناورات جوية إسرائيلية. أمّا المدفعية الفلسطينية، وعلى الرغم من كثافة النيران ضدها، فلم تستسلم، بل وجهت نيرانها، المحدودة، في اتجاه أهداف مختارة مسبقاً، لبعض المستعمرات في شمالي إسرائيل. واستمرت في هذا القصف إلـى أن تمكنت الطائرات الإسرائيلي من إسكاتها.

          وقد أدّى جحيم النيران في هذا اليوم إلي بدأ نزوح سكان الجنوب شمالاً، مستغلين بعض فترات الهدوء، فراراً من القصف الجوي عليهم وعلي قراهم، كما استغل الجميع ظلام الليل في الهرب، تحسباً لِمَا سيحدث في اليوم التالي.

          وقد قررت القيادة الفلسطينية في الجنوب سحب بعض عناصرها إلي الخلف، تجنباً لتدميرها بواسطة القوات البرية الإسرائيلية. كما رُحلت العائلات الفلسطينية إلي الخلف، ضمن الفارين من سكان الجنوب. ولم يبقَ في المواقع الفلسطينية إلاّ القدر من القوات، التي يمكنها المقاومة، والتصدي لقوات الغزو، وإحداث أكبر خسائر ممكنة فيها. وربما يكون هذا القرار، هو الذي حال دون عدم تحقيق الأهداف الإسرائيلية في تدمير المقاومة الفلسطينية في الجنوب، كما كان مخططاً. ومن ثم، بقيت المقاومة في الجنوب اللبناني، بعد ذلك، شوكة في جنب إسرائيل.

          وقد استغلت القيادة الإسرائيلية عنف القصف النيراني، في دفع بعض عناصر التأمين، للسيطرة علي المحاور، التي ستدفع القوات البرية من خلالها في اليوم التالي. كما دفعت العديد من الكمائن، لإعاقة انسحاب القوات الفلسطينية وسكان الجنوب. كما نسقت مع بعض ميليشيا "الكتائب" للتدخل ضد "الفارين"، في المكان والتوقيت المناسبين، لإحداث أكبر تدمير ممكن، وقد قدرت الدوائر المختلفة أعداد الفارين أو النازحين من الجنوب اللبناني في اتجاه الشمال، خصوصاً إلى ضواحي بيروت، في هذا اليوم، بما لا يقلّ عن مائة ألف نسمة.

          وعلى المستوى السياسي، توقع العالم بأسره أهداف إسرائيل، فناشدها، وناشد الأطراف المعنية بضبط النفس، وعدم توسيع دائرة الصراع. وبدأت المحاولات في مجلس الأمن الدولي، من أجل إيقاف النيران، بناء على شكوى لبنانية رُفعت إلى المجلس بالاعتداء الإسرائيلي على لبنان .

          أمّا عن ردود الفعل اللبنانية، فإن السلطات الرسمية، لم تكن تملك سوى إرسال الشكوى إلي مجلس الأمن؛ فليس لها أي سيطرة على الموقف، ولا يوجد جيش نظامي تستخدمه في مثل تلك الأوقات. وقد وجهت السلطة اللبنانية نداء بالتجنيد الإجباري، استجاب له بعض الشباب، تحت اسم "جيش الأنصار". أمّا الميليشيات المسلحة، وأقواها علي الإطلاق الميليشيات المارونية، فكانت تنتهز هذه الفرصة للتخلص من الفلسطينيين، وتواطأ بعض أفرادها تماماً مع القوات الإسرائيلية، وعاونوها بشكل مباشر أو غير مباشر. أمّا القوات السورية، فقد آثرت الصمت، وركزت جهودها في الدفاع عن مناطق تمركزها.

المرحلة الثانية: الهجوم على الجنوب اللبناني

أعمال القتال، يوم 16 مارس

          انطلقت القوات البرية الإسرائيلية من المحاور الثلاثة، تحت ستر نيران المدفعية والقصف الجوي، ونيران الأسطول الإسرائيلي علي طول الساحل. وقد اندفعت قوات آلية مدعمة بالدبابات، على المحور الجنوبي لمهاجمة مراكز المقاومة الفلسطينية، من الحدود وحتى بلدة مرجعيون. واندفعت قوات مشاه مدعمة في اتجاه المحور الأوسط، ذي الطبيعة الجبلية، التي تكثر الأحراش في وديانها. والمشاة، هنا، هي أفضل قوات تعمل في المقدمة للاستيلاء على مناطق آمنة، يُمكن المدرعات والمشاة الآلية الاندفاع خلفها. وانطلقت القوات المدرعة على المحور الساحلي بسرعة عالية، في اتجاه قيادة قوات المقاومة الفلسطينية، في بلدة الناقورة.

          ودارت معارك متباينة في عنفها وشراستها علي طول الحدود الإسرائيلية ـ اللبنانية. وواجهت القوات المهاجمة علي المحور الساحلي أعنف مقاومة من الدفاعات الفلسطينية، التي لم تمكنها من الوصول إلى أهدافها طوال يوم 16 مارس، على الرغم من المساعدات النيرانية الكثيفة، من الجو والبحر والأرض. بينما نجحت القوات المهاجمة علي المحور الأوسط (اللواء الجولاني المدعم) في تحقيق جزء من المهام، وحصار بعض مراكز المقاومة الفلسطينية، المدعمة بالعناصر الوطنية اللبنانية. أمّا المحور الجنوبي، فهو الذي حقق أكبر نجاح في مهمته، حيث كانت المقاومة الفلسطينية في اتجاهه محدودة.

          وعلى المستوى السياسي، استمر الموقف العربي علي ما هو عليه، بين الشجب والإدانة، ومناشـدة القوى العظمى القيام بدورها في إيقاف العدوان الإسرائيلي. بينما استمرت الأطراف اللبنانية ـ السورية علي موقفها السابق نفسه. وازدادت المطالب في مجلس الأمن بضرورة إصدار قرار وقف إطلاق النار.

أعمال القتال، يوم 17 مارس

          عززت القيادة الإسرائيلية قواتها، حرصاً على سرعة إنجاز المهمة، بينما كانت القوات الفلسطينية المدافعة في موقف ضعيف، فخسائرها في ازدياد، وإمكاناتها في تناقص، والدعم طرقه مقطوعة. وبذلك، تمكنت القوات الإسرائيلية من الانطلاق في حدود المهمة المحدد (10 ـ 15 كم شمال الحدود السياسية)، واقتحام المواقع الفلسطينية، والوطنية اللبنانية، وتدمير القري، وقتل أو أسر الموجودين فيها، بالأسلوب الصهيوني نفسه، الذي نفذته إسرائيل في قرية دير ياسين من قبل ، وذلك من أجل إرهاب اللبنانيين، وتحفيزهم علي الانتقام من المقاومة الفلسطينية، التي تسببت بهذه المجزرة أولاً: بوجودها في الجنوب اللبناني، وثانياً: بشنها أعمالاً عدائية ضد إسرائيل.

          وفي هذا اليوم، سقطت قرى: الناقورة، معقل القيادة الفلسطينية، وعين إبل، وبنت جبيل، وبليدا، وغيرها من القرى والمدن الحدودية. واعتبرت إسرائيل أنها حققت مهمة المرحلة الأولى في هذا اليوم. ومع تلك المجازر، لم يتجاوز رد الفعل السياسي، الإقليمي والدولي، ما كان عليه في اليومين السابقين.

المرحلة الثالثة: تطوير الهجوم، يومَي 18 و 19 مارس

أعمال قتال، يوم 18 مارس

          بنجاح القوات الإسرائيلية في تحقيق المهمة المباشرة للهجوم، يومي 16 و 17 مارس، كان تقدير الموقف، السياسي والعسكري، يسمح  بأن تستمر القوات في تحقيق مهام المرحلة الثانية. فالقوات العسكرية في ساحة القتال، أحرزت نصراً، طبقاً للمهام المحددة. ولم تكن هناك ردود فعل من جبهات القتال الأخرى المواجهة لإسرائيل. ولم تتحرك القوات السورية لمواجهة العدوان الإسرائيلي. كما كانت ردود الفعل السياسية، بما فيها لبنان نفسه، لا تخرج عن الإدانة الإعلامية. وفي الوقت نفسه، كان رئيس الوزراء الإسرائيلي، بيجن، الموجود في الولايات المتحدة الأمريكية، قد نجح في إقناع واشنطن بضرورة تنفيذ العملية الإسرائيلية، وتأجيل رد الفعل الأمريكي حتى تحقيق معظم أهداف مراحل الغزو. وبناء علي ذلك، قررت واشنطن في 18 مارس، أن تقدم، بنفسها، إلى مجلس الأمن، مشروع قرار لإيقاف النيران، حتى يأخذ إجراءات تمريره، من مناقشات، ومشاورات، تستغرق حوالي يومين تكون القوات الإسرائيلية خلالهما، أكملت المرحلة الثانية من غزوها.

          بدءاً من صباح 18 مارس، اندفعت القوات الإسرائيلية تستكمل مهامها في عمق الجنوب اللبناني، واصطدمت بمقاومة فلسطينية ولبنانية وطنية، ولكنها دمرتها. ولتحقيق السرعة في تنفيذ المهمة وإحكام الحصار على المقاومة على المحور الساحلي، جرى إبرار بحري بقوة مجموعة كتيبة مشاة، تحت ستر إبرار جوي بالطائرات العمودية، بقوة سرية مظلات، في منطقة الرشيدية، لقطع خطوط انسحاب القوات الفلسطينية، ومنع وصول أي إمدادات إليها.

أعمال قتال، يوم 19 مارس

          استمرت أعمال القتال طوال اليوم، وتمكنت القوات الإسرائيلية، بنهاية يوم القتال، من الوصول إلى الخط العام، جنوب مرجعيون ـ جويا ـ الرشيدية، من دون تحقيق المهمة النهائية المحددة في الخطة .

تحقيق الهدف النهائي

          لم تلتزم إسرائيل ـ كعادتها ـ بقرار إيقاف النيران، واستأنفت، يوم 20 مارس، الهجوم على المحورين الأوسط والساحلى، مصحوباً بقصف جوي وبحري شديدين، بهدف استكمال مهام الغزو. فوصلت طلائع القوات الإسرائيلية إلى جنوب نهر الليطاني، واكتمل حصار مدينة صور من البر، بعد أن كانت محاصرة من البحر فقط. ثم أجرت القوات الإسرائيلية عملية تمشيط كبرى لكل الجنوب اللبناني، اشتركت  فيها القوات البرية من المشاة الآلية والمدرعات، وقوات المظلات المحمولة بالطائرات العمودية، بغرض أسر أو قتل أي عناصر فلسطينية أو لبنانية وطنية، ما زالت موجودة في الجنوب اللبناني.

          وبنهاية يوم 20 مارس 1978، هدأت النيران في الجنوب اللبناني، بعد سيطرة إسرائيلية تامة علي هذا القطاع العربي من أرض لبنان.

الخسائر الناجمة عن الغزو

          تضاربت أرقام الخسائر الناتجة من الغزو. فبينما قدرت منظمة التحرير الفلسطينية أنها كبّدت الإسرائيليين من الخسائر البشرية حوالي 450 فردًا، ما بين قتيل وجريح، قدرت السلطات اللبنانية الضحايا من الفلسـطينيين واللبنانيين بحوالي 1100 قتيل. كما أدى الغزو الإسـرائيلي إلى تدمير 82 قرية في الجنوب اللبناني، منها 6 قرى، دمرت تدميراً كاملاً.

          وقد صدر تقرير عن الأمم المتحدة في أكتوبر 1980، عن آثار هذا الغزو، جاء فيه: "ترتب على هذا الغزو تدمير ما يقرب من عشرة آلاف منزل. وأصبح 85% من القرى معزولة عن أي مصدر للمياه. كما دُمرت شبكة للكهرباء أيضاً. مما ترتب عليه أن أصبح 64% من القرى، أمّا تعاني نقصاً في الكهرباء، وإما تعيش في حالة إظلام تام. وترتب على الغزو أيضاً، أن أصيبت شبكة الطرق المحلية بأعطال شديدة. كما انهارت الأنشطة الاقتصادية في المنطقة. ولقد قدرت المصادر، أن ما يقرب من مائة ألف من الجنوب، أصبحوا بلا مأوى. كما قدرت مصادر الصليب الأحمر الدولى، أن ما يقرب من ألف لبناني قتلوا، وأن ما يراوح من 250 ألفاً و300 ألف من سكان الجنوب، تركوا المنطقة، وهاجروا إلى الشمال" .

إجراءات إسرائيل للسيطرة على جنوبي لبنان

          استمرت إسرائيل في احتلال الجنوب اللبناني إلى حين وصول "جيش لبنان الجنوبي"، بقيادة المنشق الرائد سعد حداد، واحتلاله مراكز أمنية في المنطقة، التي حددتها إسرائيل كحزام أمني شمال الحدود الدولية بـ 10 ـ 15 كم. إذ انسحبت انسحاباً جزئياً من منطقة جنوب نهر الليطاني، واستمرت في تنفيذ الانسحاب "قطعة قطعة" طوال العام. وقد أدى ذلك إلى مواجهات بينها وبين قوات الطوارئ الدولية. وبينها وبين الفلسطينيين أحياناً أخرى. وقد أتمت الانسحاب مع نهاية عام 1978. ولكنها تركت لنفسها الحق في دخول الجنوب اللبناني في أي وقت، سواء لمعاونة قوات جيش جنوب لبنان، أو لتنفيذ إغارات علي الفلسطينيين، الذين بدأوا يتوافدون على الجنوب اللبناني مرة أخرى.



الصفحة الأولى الصفحة السابقة الصفحة التالية الصفحة الأخيرة