إرشادات مقترحات البحث معلومات خط الزمن الفهارس الخرائط الصور الوثائق الأقسام

مقاتل من الصحراء
Home Page / الأقســام / موضوعات سياسية عسكرية / الحرب الإيرانية ـ العراقية، من وجهة النظر العربية





مناطق النفوذ في العالم
موقع الجزر الثلاث
منطقة جزر مجنون
إصابة الفرقاطة الأمريكية STARK
مسارح الصراع البرية والبحرية
معركة الخفاجية الأولى
معركة تحرير الفاو
معركة سربيل زهاب
الهجوم الإيراني في اتجاه عبدان
الإغارة الثالثة على دهلران
التشابه بين مضيقي تيران وهرمز
العملية رمضان
العملية فجر ـ 8
العملية فجر ـ 9
الغارة الإسرائيلية الثانية
القواعد البحرية الإيرانية في الخليج
اتفاقية سايكس ـ بيكو 1916
حادث إسقاط الطائرة الإيرانية
حدود المياه الإقليمية الإيرانية
حرب الناقلات

مناطق إنتاج النفط
أوضاع القوات العراقية والإيرانية
مسلسل العمليات كربلاء (1 – 9)
مسرح العمليات (الاتجاهات الإستراتيجية)
مسرح العمليات (التضاريس)
مسرح العمليات والدول المجاورة
الموقع الجغرافي للعراق وإيران
المنطقة الكردية
الهجمات الثانوية للعملية بدر
الهجوم المضاد الإيراني العام
الأفكار البديلة للعملية خيبر
التواجد الأجنبي في الخليج
التجمع القتالي لقوات الطرفين
العملية مسلم بن عقيل
العملية بدر
العملية فجر النصر
القواعد والتسهيلات الأمريكية
القواعد والتسهيلات السوفيتية
بدء الهجوم العراقي
تضاريس المنطقة الإيرانية
تضاريس العراق
تقسيم إيران
سلسلة العمليات فجر
طرق المواصلات بالشرق الأوسط
فكرة الاستخدام للقوات الإيرانية
فكرة الاستخدام للقوات العراقية



حرب عام 1967

المبحث الرابع

نزاع الحدود والبعد الأمني للصراع العراقي ـ الإيراني

أولاً: نزاع الحدود، البُعد الواضح لتطور الصراع العراقي ـ الإيراني، تاريخياً

عادة، تفسر أسباب الحروب في إطار أسباب تاريخية مَحْض، وهو ما يجرّدها من دوافعها الحقيقية، ويربطها بالدوافع المعلَنة للأطراف المتصارعة. والحقيقة، أن الاعتبارات الجغرافية وحقائقها، ذات تأثير كبير في الدوافع الحقيقية للحروب، وتداخلها الاعتبارات السياسية، في التنافس في القوة والزعامة الإقليمية، أو الدولية، طبقاً لحجم الأطراف المتصارعة وأطماعها. وقد تطغى اعتبارات الزعامة الفردية والطموح الشخصي للقادة، وهو ما يشوّه الدوافع المعلَنة في إطارها التاريخي، ويدفعها إلى قمة الأحداث، ليلبسها ثوباً زائفاً، وتظل الملابسات التاريخية بداية لكل التعليلات.

عام 1639، وقع أول اتفاق لتخطيط الحدود بين الإمبراطورية العثمانية (اُنظر ملحق الاتفاقات المنظِّمة لأوضاع منطقة الصراع، وترسيم الحدود بين الجانبَين، حتى بدء الحرب، في سبتمبر 1980)، التي كانت تحتل العراق، والدولة الصفوية الفارسية. وهي تُعَدّ أقدَم محاولة لرسم حدود سياسية بين جانبَين متصارعَين.

1. طبيعة المنطقة الحدودية بين إيران والعراق

لم يكُن ترسيم الحدود في هذه المنطقة، مجرد رسم لخط هندسي ذي طبيعة جغرافية. فقد واجَه الخبراء المتصدون للترسيم اعتبارات ذات طبيعة معقدة جداً، متناقضة، ومتشابكة، ومتداخلة بشدة، على جانبَي المنطقة المتنازع فيها. فالمنطقة الحدودية، تتوسط عالَمَين مختلفَين، حضارياً وعرقياً (الفرس شرقاً، والعرب غرباً)، مع تداخل العرب في تجمعات سكانية داخل المنطقة الفارسية (إقليم عربستان). ويزداد عمق الاختلاف على جانبَي المنطقة، باختلاف مذهبي، كذلك. فالفرس يتبعون المذهب الشيعي. بينما العرب والعثمانيون، يتبعون المذهب السُّني. وقد وقعت صدامات مذهبية، عبْر تاريخ المنطقة، كان لها ضحايا من الجانبين، ويتداخل هذا العامل بوجود طائفة شيعية عربية، ضخمة، في العراق وبعض الدول العربية القريبة. وتزداد حدّة المشكلة المذهبية بوقوع المناطق المقدسة لدى الشيعة، التي يطالب زعماء الشيعة بالسيطرة عليها، داخل المنطقة العربية العراقية.

من جهة أخرى، فإن رأس المنطقة، شمالاً، يقطن به مسلمون من أصل هندو ـ أوروبي، يتبعون المذهب السُّني. وتُعَدّ منطقتهم ( جبال كردستان ) موطناً تاريخياً قديماً، استوطنته قبائل الأكراد، واستقرت به، منذ مئات السنين. وهم أكثر اختلافاً وتمسكاً بأعرافهم وتقاليدهم.

كان لمَوقع المنطقة الجغرافي، وقرْبها من مصبّ الأنهار في الخليج العربي، المعروفة باسم شط العرب، أثرهما في الاعتبارات، التي تتزاحم أمام المخططين للحدود، ومطالبة كل جانب بالسيطرة على هذا المنفذ المهم، الموصل، نهرياً، إلى أعماق المنطقة، مما يزيد من أطماع كل جانب في الجزء الجنوبي منها.

أدى وجود المناطق التجارية، وعقد المواصلات البرية المهمة، في المنطقة المنبسطة، أو المناطق القريبة منها، وأشهرها، تاريخياً، البصرة وبغداد وتبريز، إلى محاولة كل جانب وضعها في دائرة نفوذه. وهو ما دار حوله الصراع، تاريخياً، في عصور الدولتين، العباسية والعثمانية، لأهمية تلك المراكز، عسكرياً واقتصادياً.

2. المنظور التاريخي لنزاعات الحدود

عقد الطرفان المتصارعان في المنطقة، عام 1555، معاهدة، ذات صبغة سياسية عسكرية، لوقف القتال بينهما، سميت بمعاهدة أماسيه، كأول اتفاق سياسي بينهما. إلاّ أن الفرس والعثمانيين، خرقوا الاتفاق، مرات متعاقبة، وتبادلوا السيطرة على مناطق بغداد وكركوك والموصل، حتى عام 1638، حين استعاد السلطان العثماني، مراد الرابع، بغداد.

وقع الطرفان معاهدة حدودية، في 17 مايو 1639. وهي المعاهدة الأولى، التي يُتَّفق فيها على ترسيم الحدود في المنطقة. وعرفت باسم معاهدة زوهاب. وقد افتقرت إلى رسم دقيق، لعدم كفاءة رسم الخرائط في هذا العصر، وبُعدها عن الدِّقة المطلوبة في مثل هذا الشأن. واعتمد الطرفان، في تحديد النقاط الحدودية، على مناطق النفوذ في المدن والقرى والقلاع، في المنطقة. وهو أمر صعب، من وجهة نظر طبوغرافية. إضافة إلى عدم التزام الطرفين بالدِّقة الواجبة في التحديد. فكانت هذه المعاهدة سبباً مهماً لاستمرار التوتر الحدودي، لقرون تالية. فقد حددت المعاهدة تبعية المدن والقرى. ولم تحدد تبعية القبائل، المتنقلة في أرجاء المنطقة. وكانت القاعدة الأساسية لخط الحدود، المتَّفق عليه، هو بقاء منطقة جبال زاجروس داخل الأراضي الفارسية، بينما تظل سهول ماسوفوتاميا تحت السيادة العثمانية[1].

استمرت الحروب بين الطرفين، للسيطرة على المدن المهمة في المنطقة. ففي عام 1733، حاصر نادر شاه مدينة بغداد، وفشل في الاستيلاء عليها، فوقّع اتفاقيه كوردان، عام 1745، لوقف القتال، وتأكيد مبادئ معاهدة زوهاب. وفي عام 1773، احتل الفرس مدينة البصرة، على الرغم من تبعيتها للمنطقة المحددة للسيادة العثمانية، طبقاً للمعاهدة. وهو ما فجّر النزاع الحدودي، مرة أخرى، عام 1818، وتركز، هذه المرة، في منطقة شط العرب، حيث يلتقي نهرَا دجلة والفرات، ويجريان معاً 193 كم إلى المصبّ، عند الفاو على الخليج العربي، بمحاذاة حدود الطرفين.

اتسع نطاق الحرب بين الطرفين، عام 1821، حينما حاول العثمانيون السيطرة على القبائل العربية في المنطقة الحدودية، التي كان الفرس يرون تبعيتها لهم. وللمرة الأولى، تتدخل الدول الأوروبية في النزاع الفارسي ـ العثماني[2]، خاصة مع ازدياد مصالحها في المنطقة، وأنشأ الإنجليز مركزاً تجارياً في مدينة البصرة. وقد استعانت الدول الأوروبية (بريطانيا وروسيا) بوسيط إنجليزي على الوصول إلى اتفاق جديد بين الطرفين، وقِّع عام 1823، وعرف باسم معاهدة أرضروم الأولى، شملت عدة اتجاهات، كان أهمها ما تعلق بالحدود المسببة للنزاع. إلاّ أن هذه الاتفاقية، فشلت في تسوية النزاع.

كانت محاولات إعطاء إمارة المحمرة، العربية (خورمشهر الحالية)، نظام حكم ذاتياً، تحت سيادة شيخ مجلس للإمارة، سبباً في تعقّد المفاوضات، عام 1812، وتوقّفها، وحاول الجانبان فرض سيطرتهما على هذه الإمارة، التي كانت لا تزال مستقلة. وانصرفت المباحثات كلها إلى الحدود البرية، في هذا الوقت، قبل أن تشمل شط العرب والخليج العربي، فيما بعد.

كما نصت معاهدة 1823 على أن تبقى معاهدة عدم التدخل المبرمة عام 1639، سارية المفعول. وذكر في بنود معاهدة 1823، وضْع بغداد وكردستان تحت سيطرة السلطان العثماني، مقابل حق مرور الحجيج من الشيعة إلى المناطق المقدسة في العراق، أو إلى مكة المكرمة، لأداء مناسك الحج. وعلى الرغم من ذلك، فإن الخلاف على تبعية القبائل، تزايد ما بين 1834 ـ 1840، فهاجم العثمانيون إمارة المحمرة، وتعرض الشيعة الفرس للمذابح في العراق.

تزايدت احتمالات تجدد الحرب بين الطرفين، مما أدى إلى تدخل الدول الأوروبية الكبرى، مرة أخرى، لتوقيع معاهدة جديدة، تغطي كافة النقاط المتنازع فيها، منتهزة فرصة ضعف الإمبراطورية العثمانية والدولة الفارسية معاً، ولضمان المصالح الأوروبية في المنطقة.

شكلت، عام 1843، لجنة مباحثات الحدود من الفرس والأتراك، بمشاركة الإنجليز والروس. واستمرت أعمالها قرابة أربعة أعوام، توصلت إلى معاهدة أرضروم الثانية (اُنظر ملحق معاهدة أرضروم الثانية (31 مايو سنة 1847)). وبمقتضاه، أعطيَت فارس مدينة عبدان، وميناء المحمرة (خورمشهر)، وجزيرة خزر، والضفة الشرقية لشط العرب، أي معظَم إقليم عربستان[3]. بينما احتفظت الدولة العثمانية بالسيادة على بعض المناطق الحيوية حول السليمانية. وقد كشفت هذه المعاهدة، للمرة الأولى، ازدياد حركة الملاحة في النهر، مما يستوجب ضرورة التحديد الدقيق للحدود فيه؛ وهو اقتراح بريطاني. إلاّ أنه لم يحدد شيئاً، سوى ما ذكر من حرية الملاحة في النهر، للسفن الفارسية. وهو ما يعني، ضمناً، سيطرة العثمانيين على الضفة الغربية ومياه النهر، وسيطرة الفرس على الضفة الشرقية فقط.

تجاهلت السلطات العثمانية بنود المعاهدة، على الرغم مما أنفقته بريطانيا على رسم الحدود في خرائط، ما تجاوز 100 ألف جنيه إسترليني، حتى عام 1885، وأسفر عن خريطة ملونة، غير واضحة بشكل قاطع. واستمرت القلاقل في المنطقة، حتى نهاية القرن التاسع عشر، كنتيجة لاختلاف تفسير كل جانب لبنود المعاهدة. وقد زاد الموقف سوءاً، غزو العثمانيين، عام 1906م، للأراضي الفارسية، في الشمال، في منطقتَي أذربيجان وكردستان. وتقدمت الدولتان الأوروبيتان، (بريطانيا وروسيا القيصرية)، بوساطة جديدة، أسفرت عن توقيع اتفاق جديد، في نوفمبر 1911، عُرف باسم اتفاق طهران. ونصّ على تشكيل لجنة مشتركة من الأطراف الأربعة (الفرس والأتراك والإنجليز والروس) لبحث الموضوعات الحدودية، التي لم تبت بين البلدين. وأمكَن التوصل، عام 1913، إلى اتفاق جديد، وقِّع في القسطنطينية (الآستانة)، في نوفمبر من العام نفسه، سمي بروتوكول الآستانة (اُنظر ملحق البروتوكول الموقّع عليه في الآستانة، في الرابع (السابع عشر) من شهر نوفمبر 1913).

ضغطت بريطانيا وروسيا بشدة على حكومتَي فارس والدولة العثمانية، من أجل استقرار المنطقة، لتأمين مصالحهما فيها، إذ كانت روسيا، تبسط نفوذها على شمالي فارس. بينما سيطرت بريطانيا على جنوبيها، الذي ظهر فيه النفط، وبدأ إنتاجه التجاري، عام 1908، من خلال شركة نفط مشتركة بريطانية ـ فارسية. تنازلت الحكومة العثمانية، بمقتضى الاتفاق الجديد، عن جزء من مياه شط العرب، أمام المحمرة، بطول 25, 7 كم، تحدد خط الحدود فيها في منتصف النهر. وتم تحديد حوالي 227 نقطة حدودية. ووضعت خرائط دقيقة، ذات تفاصيل طبوغرافية كثيرة، استخدمت في تعيين الحدود، إضافة إلى الجسور والحدود الإدارية للولايات والمحافظات. كما وضع على الطبيعة خط جديد للحدود، بين مندلى وحويزة. ولم توقف الحرب العالمية الأولى، التي نشبت عام 1914، أعمال اللجنة الرباعية المشتركة، التي رأت ضرورة الإسراع في إنهاء عملها. واستطاعت تعيين ما يقرب من 1898كم من الحدود البرية، من الخليج العربي جنوباً، حتى جبل أرارات شمالاً، عدا منطقة قريبة من مدينة قطَر، شرق الحدود التركية ـ الإيرانية الحالية، قبْل أن يتوقف العمل في تعيين ما تبقى من الحدود، لدخول الدولة العثمانية طرفاً في الحرب، حليفة لألمانيا.

تغيرت الخريطة السياسية لمناطق كثيرة، كإحدى نتائج الحرب العالمية الأولى. وفي منطقة الصراع، أدى انهيار الإمبراطورية العثمانية إلى ظهور العراق كوحدة سياسية تحت الانتداب. وقد حصل على استقلال مشروط عن بريطانيا، عام 1921، لم تعترف به الدولة الفارسية، كما رفضت الاعتراف بالاتفاق السابق في شأن الحدود مع الدولة العثمانية، بحجة إجبارها عليه. وزاد من صعوبة الأمر نشوب اضطرابات في العراق، كان الشيعة فيها ضد الإنجليز من جانب، وضد الحكومة السُّنية من جانب آخر، انتقل، على أثرها، علماء الشيعة من العراق إلى فارس. وتجددت الاضطرابات، عام 1925، حينما تولى رضا شاه السلطة في فارس، وألغى سلطات شيخ المحمرة وضمها إلى نفوذه، وسميت بخورمشهر. واتخذ خطوات مماثلة، بالنسبة إلى القبائل العربية، القاطنة بالقرب من شط العرب. وقد قبِلت تلك القبائل الجنسية الفارسية، مما أثار معارضة الحكام الجدد في العراق[4]. وأصبحت حقوق الشيعة لدى العراق، وحقوق العرب لدى فارس، الموضوع الرئيسي بين البلدين. وتوقفت أعمال تسوية المشاكل الحدودية، حتى نهاية العشرينيات، حينما اعترفت فارس بالنظام الجديد في العراق، كي يمكِنها توقيع اتفاق مع الحكومة العراقية، للتعاون والتفاهم، للنضال المشترك ضد الثوار الأكراد في الدولتين.

زار ملك العراق، فيصل الأول، وفي صحبته رئيس وزرائه، نوري السعيد، طهران، رسمياً، في 22 أبريل 1932. وصدر، عقب تلك الزيارة، بيان مشترك، أعلنت فيه الدولتان نيتهما في التفاوض للوصول إلى اتفاقية قضائية[5] وأخرى لتنظيم تحرك السكان في المنطقة الحدودية. وتبادل الطرفان الاتهامات والادعاءات، حول التجاوزات الحدودية، خاصة بالنسبة إلى قواتهما المسلحة والتلاعب في حدود المياه والممتلكات.

تقدّم العراق،  عام 1934، بطلب لبت النزاع مع فارس، إلى عصبة الأمم[6]، التي أوصت باستئناف المفاوضات المباشرة، إذ عارضت فارس الادعاءات العراقية، بحجة عدم تصديق المجلسين النيابيين للطرفين (البرلمانين) على المعاهدات السابقة، مما يُفقِدها شرعيتها.

تغيرت الأوضاع، عام 1935، باحتلال إيطاليا الحبشة. وبدت نُذُر الحرب العالمية الثانية في الأفق. وأصبح تحقيق استقرار في المنطقة بين الدولتين، العراقية والإيرانية[7]، مطلباً مهماً، وحيوياً، لبريطانيا وتركيا. وتحت ضغطهما، استُؤنفت المحادثات العقيمة، حتى عام 1936، حينما وقع انقلاب بكر صدقي، في العراق، وقدمت الحكومة الجديدة تنازلَين مهمَّين لإيران، بتبنّي فكرة اعتماد خط الحدود في منتصف شط العرب، بطول 75, 7 كم، في المنطقة أمام عبدان، يسمى خط الثالوج، والسماح للسفن الحربية، لأي دولة، بالدخول عبْر شط العرب حتى الموانئ الإيرانية. وقد أدى هذان التنازلان إلى اعتراف إيران ببروتوكول عام 1913، وأعمال لجنة تخطيط الحدود، عام 1914، كأساس لحل النزاع.

تم في طهران توقيع معاهدة عام 1937، متضمنة ثلاثة اتفاقات، الأول اتفاق حدود (اُنظر ملحق معاهدة الحدود بين العراق وإيران، مع البروتوكول المرفق بها، الموقع عليها في طهران، في 4 يوليه 1937)، والثاني معاهدة صداقة، والثالث لتسوية سلمية للمنازعات. وأرفق بالمعاهدة بروتوكول. وقد اعترفت المعاهدة بحقوق العراق في مياه شط العرب، عدا المناطق المحددة، من قبْل، أمام المحمرة (25, 7 كم) وعبدان (75, 7 كم)، وتنظيم حقوق الملاحة وأجورها، من قِبل العراق، وسحبت بغداد الشكوى المقدمة إلى عصبه الأمم ضد إيران.

كانت معاهدة 1937، مكسباً للدولة الإيرانية. لكنها أثارت سخط الحكومة العراقية. ولم يصادق عليها البرلمان العراقي إلاّ بعد مناقشات صاخبة، عام 1938. وتظاهر الشعب ضدها، في بغداد والبصرة. ازداد استياء الحكومات العراقية المتعاقبة من المعاهدة، وطالبت بعودة شط العرب عربياً كاملاً، كاسمه[8].

عقب انتهاء الحرب العالمية الثانية، استأنفت لجنة الحدود أعمالها. إلاّ أنها وصلت إلى طريق مسدود، للخلاف على طبيعية أعمالها، والسلطات التي يمكنها ممارستها. واستمر الخلاف، على الرغم من اشتراك الدولتين، كعضوين، في حلف واحد، حلف بغداد، عام 1955. وبدا أن انفراجاً في الأزمة الحدودية هو وشيك، عندما اقترحت حكومة العراق، عام 1957، وسيطاً محايداً من السويد، للنظر في حل النزاع. ووافقت حكومة طهران على الاقتراح، الذي لم يقدر له التنفيذ، بقيام الثورة، التي أطاحت بنظام الحكم العراقي. وانتكست العلاقات بين البلدين، بتوقف التعاون على الطرف الآخر من الحدود، في المسألة الكردية. واتهم كل منهما الآخر بمساعدته الأكراد على الجانب الآخر. وفي نوفمبر 1959، أعلن شاه إيران رفض معاهدة 1937. وكان رد العراقيين المطالبة بالسيادة على عربستان. وتصاعدت الأزمة إلى اشتباكات حدودية. وفي فبراير 1964، اتفقت الدولتان على استئناف المباحثات، في طهران، والتي استمرت أربع سنوات، من دون تقدم.

بوصول حزب البعث العراقي إلى السلطة، عام 1968، عاد التوتر بين البلدين. وفي العام التالي ألغت إيران معاهدة 1937، من جانبها، مدّعية أنها تّمت تحت ضغط بريطانيا وسيطرتها. كما اتَّهمت العراق بعدم القدرة على إدارة الملاحة في شط العرب، كما تنص عليه المعاهدة[9]. وقد قامت تركيا بوساطة للتوفيق. إلاّ أن الطرفين تبادلا طرد أعدادٍ كبيرة من مُواطني الطرف الآخر من أراضيه. وتبع ذلك مقاطعة اقتصادية، واشتباكات حدودية. ورفضت إيران مقترحاً عراقياً، بعرض النزاع على محكمة العدل الدولية، في لاهاي، وطالبت بمعاهدة جديدة، تمنحها نصف المياه (خط الثالوج)[10]، بطول شط العرب كله.

مع بداية العقد الثامن من القرن العشرين، اتخذت إيران عدة إجراءات، تهدف إلى السيطرة على منطقة الخليج كلها، "لتملأ الفراغ الناتج من انسحاب بريطانيا من المنطقة". فاحتلت جزر طنب الكبرى والصغرى وأبو موسى، في مدخل الخليج العربي، في 31 نوفمبر1971، بالقرب من مضيق هرمز الإستراتيجي[11]. ووقّعت اتفاقية مع سلطنة عُمان، تخوّلها السيطرة على مدخل الخليج. وأرسلت، في المقابل، قواتها لقتال الجبهة الشعبية لتحرير عُمان. (اُنظر شكل موقع الجزر الثلاث).

جاء الرد العراقي، بعد يومين، بقطع العلاقات الدبلوماسية بإيران، في 3 ديسمبر 1971. وزاد من حجم مساعداته للجبهة الشعبية لتحرير عُمان، لتقاوم ما سماه "بالغزو الإيراني". ووقعت عدة اشتباكات مسلحة بين البلدين، مع بداية عام 1972، والذي شهد، كذلك، توقيع العراق معاهدة صداقة مع الاتحاد السوفيتي، الذي قدّم مبادرة لعقد اجتماع سري، في جنيف، بين وزيرَي الخارجية في البلدين. ناقشا فيه النزاع حول شط العرب، والاحتلال الإيراني لجزر الخليج العربي الثلاث، والمسألة الكردية. ولم يصلا إلى أي حسم للأمور الثلاثة. إلاّ أن التوتر هدأ، خلال تلك الفترة، نسبياً[12].

اقتحمت القوات المصرية خط بارليف، على جبهة قناة السويس، في السادس من أكتوبر 1973، بعد سكون دام أكثر من عامين، عقب آخر اشتباكات حرب الاستنزاف، بين المصريين وإسرائيل. وتزامن ذلك مع عبور القوات السورية خطوط وقف القتال، لاسترداد مرتفعات الجولان، مما أفقَد إسرائيل توازنها. وبعد أقل من 24 ساعة، تقدّم العراق باقتراح إلى إيران، لإعادة العلاقات، وحل الخلاف بين البلدين، على أن يحل التعاون وحُسْن الجوار محل الخلاف والتصادم. ووافقت إيران، وكانت مبررات العراق لتلك الخطوة، أن يتمكّن من تحمّل مسؤوليته القومية الكبرى، بالمشاركة الفاعلة في تلك الحرب ضد إسرائيل[13].

هدأت نار الحرب على جبهتَي القتال، المصرية والسورية[14]. واشتعلت صدامات الحدود، مرة أخرى، بين العراق وإيران، في نهاية العام 1973، واستمرت أغلب فترات العام التالي (1974م). وقد دعا العراق، في فبراير 1974، مجلس الأمن إلى الاجتماع "لوضع حد لسياسة التوسع والهيمنة الإيرانية". وقد كلف المجلـس أمينه العام، في 28 فبراير، إرسال مندوب عنه إلى المنطقة لتقصّي الحقائق[15].

وقرر مؤتمر القمة العربي، في الرباط، في أكتوبر 1974، تشكيل لجنة وساطة عربية، تتولى محاولة تسوية النزاع. كما تدخل الرئيس المصري، محمد أنور السادات، لدى رئيسَي البلدين؛ وكانت تربطه بهما علاقات ودية حميمة، بهدف وقْف تدهور الأحداث على جانبَي الحـدود. وأسهمت تلك المحاولات ونظيراتها، التي قامت بها الجزائر والأردن وفرنسا، في التمهيد لاتفاقية، تم التوصـل إليها، خلال انعقاد مؤتمر القمة الأول للدول المصدرة للنفط (الأوبك)، في مارس 1975، أي بعد عام من الاتفاق على وقف القتال، الذي لم يحترمه الطرفان (اُنظر ملحق بيان الجزائر في شأن معاهدة الحدود الدولية، وحُسن الجوار، بين العراق وإيران في 6 مارس 1975).

استطاع الرئيس الجزائري، هواري بومدين، عقد اجتماعَين مع كل من شاه إيران، محمد رضا بهلوي، والرئيس العراقي صدام حسين، تم فيهما الاتفاق على الخطوط الرئيسية للمعاهدة، التي وقِّعت، بعد ذلك، في بغداد، في 13 يونيه 1975، لتسوي نزاع شط العرب في مصلحة إيران، بتحديد خط الحدود المائي لهذا النهر بطوله كله، وفقاً لخط المنتصف (الثالوج). كما وافق العراق على تعيين الحدود البرية، وفقاً للاتفاقات السابقة. وفي المقابل، تعهّد الشاه بمنع تسلل العناصر التخريبية من أراضيه إلى العراق. وهو ما يعني توقّف إيران عن مساعدة حركات التمرد الكردية، في شمال العراق، بزعامة الملاّ مصطفي البرزاني، وقد ساعد ذلك على إخمادها (اُنظر ملحق معاهدة الحدود الدولية، وحُسن الجوار، بين العراق وإيران والبروتوكولات الثلاثة الملحقة بها الموقعة في بغداد، في 13 يونيه 1975).

لم تستقر الأمور تماماً، بعد عقد تلك المعاهدة، التي عرفت، بـ "معاهدة الجزائر 1975". إلاّ أنها أسفرت، إلى جانب الأحداث السلبية، عن أحداث إيجابية. وكان أول حادث سلبي هو المشكلة التي دارت، بعد خمسة أيام فقط من توقيع المعاهدة، حول اسم الخليج، هل هو عربي، كما جاء في مشروع وكالة أنباء الخليج العربي، الذي احتجت عليه إيران، وسحبت، على أثر ذلك، سفيرها من بغداد. أو هو فارسي، كما يدوّن في الرسائل الرسمية لإيران، والتي يرفض العراق تسلّمها، لذلك؟ وتبع ذلك تشدد العراق في منح تأشيرات الزيارة للإيرانيين، لزيارة مناطق الشيعة المقدسة، أو للتجارة أو السياحة.

على الجانب الآخر، فإن إيران، عاونت، بوحدات إطفاء إيرانية متخصصة، على إخماد حريق شب في حقل نفط الرميلة العراقي، في أبريل 1976. مما أدى إلى تخفيف حدّة التوتر، وساعد على توقيع اتفاقات، زراعية وتجارية والسماح للشيعة الإيرانيين بزيارة النجف وكربلاء. كما تبادل الطرفان الزيارات، على أعلى مستوى[16]. وصرح الرئيس العراقي إلى إحدى الجرائد[17] بقوله: "بات العراق وإيران من دون مشاكل".

حتى منتصف عام 1978، كان حجم الاتفاقات قد ازداد بين البلدين، للتعاون في مجالات شتى: زراعة وداخلية وثقافة وسياحة ومواصلات وصيد وإعلام وصحة وتجارة. كما زار بغداد عدة وفود رسمية، للحصول على تأييد لفكرة عقد ميثاق دفاع مشترك بين دول الخليج، لاحتواء "التوسع السوفيتي" في المنطقة[18]، لم تحبِّذها بغداد، مفضِّلة الاتفاقات الثنائية.

توقفت الزيارات، وانعقاد اللجان المشتركة، المتفَّق عليها، في نهاية عام 1978 وحتى بداية عام 1979، إذ رحل الشاه محمد رضا بهلوي عن بلاده، إثر قيام الثورة الإسلامية فيها.

احتفظت بغداد بعلاقات حُسْن الجوار مع طهران، خلال الفترة، التي كان الشاه يحاول فيها قَمْع الثورة الإسلامية في بلاده. ولإظهار ذلك السلوك، فقد فرضت الحكومة العراقية قيوداً مُحكَمة على نشاط الزعيم الديني الإيراني، آية الله الخميني، الذي كان يقيم بها، منذ خمسة عشر عاماً. وهو ما دفعه إلى مغـادرة العراق، إلى فرنسا، في أكتوبر 1978[19]. وقد برر الرئيس العراقي، صدام حسين، موقف حكومته من الإمام، بالرغبة في عدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول الأخرى، والحفاظ على استمرار العلاقات الطيبة بين البلدين، منذ معاهدة 1975[20].

حققت الثورة الإسلامية في إيران انتصارها على نظام حكم الشاه، بعد ثلاثة أشهر من وصول الإمام الخميني إلى فرنسا. لذا، فإن العلاقات بين العراق وإيران، أصيبت بفتور، عقب نجاح الثورة الإيرانية في الوصول إلى الحكم. ثم تحول الفتور إلى توتر، فعداء، فمواجَهة، مرة أخرى. وأثيرت مسائل الأقليـات، والولاء المزدوج، مما مهد لبدء نزاع جديد، كانت بدايته إعلان المطالب الإقليمية المتبادلة. ثم تصاعدت أعمال الاستعداد على جانبَي الحدود وصاحبتها اشتباكات، وعمليات طرد واسعة لرعايا البلدين والممثلين الدبلوماسيين، وكما ازدادت حدّة التصريحات الإعلامية المتبادلة.

بدأ العراق بإلغاء معاهدة الجزائر، في 17 سبتمبر 1980، والعودة للعمل باتفاقَي 1937. وقد رفضت إيران هذا الإجراء. وفي 22 سبتمبر 1980، أعلنت إيران إغلاق مضيق هرمز في وجْه الملاحة البحرية. فرأى العراق في ذلك الإجراء إعلاناً للحرب عليه. فأعلن مجلس قيادة القوات المسلحة، في 22 سبتمبر 1980، أن "الأوامر قد صدرت إلى القوات المسلحة، بغزو إيران، والتحرك لضرب الأهداف الموضوعة لها، رداً على قرار الحكومة الإيرانية بإغلاق مضيق هرمز ووقف الملاحة الدولية. وهو ما عَدّه العراق قراراً بإعلان الحرب الشاملة عليه".

ثانياً: البُعد الأمني للصراع العراقي ـ الإيراني

أكسبت العناصر الجغرافية للإقليم، الذي يضم دولتَي العراق وإيران، الصراع بين الدولتين، بُعْداً إستراتيجياً بالغ الأهمية. وزاد من وضوح هذا البُعْد تاريخ النزاع في المنطقة، الذي كان أكثر تحديداً مع بداية ظهور النزعة العالمية في الصراع على الإقليم، الذي ضم في قائمته حوالي 15 إمبراطورية ودولة عظمى، عبر التاريخ[21]، في مراحل التوسع والانتشار والتصادم مع الكيانات الكبرى الأخرى.

كان للتقدم العلمي، منذ بداية القرن العشرين، أثره في تأكيد ذلك المفهوم، وترسيخ أهمية الإقليم في السياسة الدولية. ومن ثَم، فقد شهدت المنطقة تطوراً في العلاقات، السياسية والاقتصادية، بين الشرق والغرب، أكدت أهميتها، وأدخلتها في قلب إستراتيجيات الدول العظمى، المسيطرة على النظام العالمي، فأصبحت منطقة تنافس في النفوذ والسيطرة.

واكب التقدم العلمي اكتشافات النفط الضخمة، في الحقول العملاقة في المنطقة، وزيادة محتوياتها الجوفية، من احتياطيات بالغة الضخامة. فأضيفت إلى الإقليم أهمية اقتصادية، سعى لها البريطانيون، أولاً، إلى استغلالها، في بداية القرن، وتبعتهم الدول الأوروبية الكبرى وأمريكا. وتضاعفت أهمية المنطقة، مع تطورات الثورة الصناعية في أوروبا ونتائجها الاقتصادية.

أدّت الصراعات المتتالية، وتعارُض المصالح، إلى ظهور الحاجة إلى صيغة أمنية في المنطقة. وهي إن كان يصعُب أن تحقق المفهوم المجرد للأمن، لجميع الأطراف المهتمة بالمنطقة، إلاّ أنه يمكِن، من خلالها، توفير قدر من الهدوء، والسيطرة، نسبياً، على مجريات الأحداث، لتبعدها عن التأزم، ثم التفجر، ما يضر بمصالح الجميع.

1. المناخ العام لأمْن المنطقة

قامت بريطانيا بجهود شاقّة، في الفترة بين إعلانها النية في الانسحاب من المنطقة، عسكرياً، عام 1968، وبين تنفيذ ذلك، عام 1971، لتضمن استقرار حالة المنطقة، بما يحافظ على مصالحها، بإبقاء الأوضاع والنظم السائدة كما هي. وسارت مجهوداتها في خطين متوازيين. الأول يزيد من ترابط المنطقة، فشجعت على إقامة اتحاد الإمارات العربية، واعدة بمعاونته. وحاولت إقامة منظمة دفاعية، تشترك فيها المملكة العربية السعودية ودولة الكويت وإيران.

وعلى الخط الثاني، حاولت الوصول إلى حلول، ولو مؤقتة، للنزاعات الإقليمية القديمة، التي قد تهدد أمْن المنطقة. فتدخلت، كوسيط، في الخلاف على جزر الخليج. وشجعت التقارب بين الحكام[22]. وحاولت الوصول إلى حل لادعاءات إيران في دولة البحرين.

عكَس الدور البريطاني في ضمان استقرار المنطقة، حالة الضعف والتراجع في الإستراتيجية البريطانية، منذ نهاية الحرب العالمية الثانية. وأوضح محاور التوازنات والمواجَهة الجديدة، بين قطبَي النظام العالمي، الناشئ عقب تلك الحرب. كما أوضح تعاظُم دور القوى الإقليمية[23] في أمْن المنطقة، خاصة بعد أن وضحت الخريطة السياسية واستقرت باستقلال كل دول المنطقة، منذ بداية السبعينيات من القرن العشرين.

2. البُعد الإقليمي للأمن في المنطقة

تعاملت الأطراف المهتمة بالمنطقة، من خارجها أو داخلها، مع المسألة الأمنية، على أساس افتراض، أن إيران الشاهنشاهية محور أساسي وعامل مشترك فاعل في الجهود المبذولة لتحقيق أمْن الخليج. ولا شك أن شاه إيران، كان حريصاً، كذلك، على إقامة "نظام دفاعي إقليمي خليجي"[24]. وجاءت الثورة الإسلامية الإيرانية، لتقلب المفاهيم، وتغيّر شكل التحالفات، وقِيم التوازنات، في المنطقة، وهو ما استدعى صيغة أمنية جديدة.

أثير موضوع أمْن المنطقة الخليجية، في منتصف السبعينيات، للاتفاق على صيغة أمنية، يوافق عليها دول المنطقة. ونوقشت الآراء، المطروحة على هامش مؤتمر وزراء خارجية الدول الإسلامية، الذي عقد في جدة، في المملكة العربية السعودية، في يوليه 1975[25] بين وزراء خارجية الدول الخليجية. وناقش الموضوع، كذلك، ممثلو هذه الدول الثماني في الأمم المتحدة. وأسفرت المناقشات عن عقد مؤتمر، في نوفمبر 1976، لوزراء خارجية دول الخليج، لم يسفر عن الصيغة المشتركة المنتظرة، لكنه أوضح اختلاف الرؤى في منظور تلك الدول. فقد طالبت إيران، ووافقت عُمان، إلى عقد حلف عسكري، يشمل الدول الثماني، توزع فيه المسؤوليات بالتلاؤم مع القدرات، المادية والبشرية، أو بقدر متساوٍ، إذا تخوفت الدول الصغرى من سيطرة الدول الأكبر على الحلف. وقدّمت عُمان، منفردة، مذكرة بتوصيات بالتعاون في المجالات: الاقتصادي والثقافي والعلمي، عارَضها العـراق، وتحفظت إزاءها الكويت، التي طالبت أن تنحصر أعمال المؤتمر في حرية الملاحة في الخليج، وحل الخلاف بين دوله. بينما طالب العراق بإعلان حرية الملاحة في الخليج، لكل الدول المطلة عليه، والتصدي لمَن يخلّ بذلك، على أن يستكمل بحث أمْن المنطقة من خلال اتفاقات ثنائيـة! أمّا إيران، فقد رأت أن المذكرة العُمانية، تخدم مصالح الدول الإقليمية الكبرى[26].

وضح تباين المنظور الأمني للقوى الإقليمية في المنطقة. فقد كانت إيران الشاهنشاهية، تسعى إلى تجمع آرِيّ (فكرة الأخوَّة الآرِيَّة)، التي تعتمد على إنشاء سوق آسيوية مشتركة، بين إيران والهند وأفغانستان، لمواجَهة القومية العربية. بينما كان العراق يركّز في مسعاها إلى تكريس مفهوم العروبة في الخليج، والعمل على تنمية المنطقة كأساسين مهمين لتحقيق الأمن. من منطلق ثالث، كانت المملكة العربية السعودية، تطرح مفهوماً أكثر اتساعاً وشمولاً، وهو مفهوم الأخوّة الإسلامية، الذي يعتمد على الروابط الدينية بين شعوب المنطقة وما جاورها. لذا، كان من الطبيعي أن يرفض كل جانب، ومن يؤيده من الدول الأخرى، فكرة الأحلاف الأمنية الدفاعية.

كان البديل، الذي يدور في تلك الآراء والمفاهيم المطروحة جميعها، هو تضامن دول المنطقة، من أجل أوضاع أمنية أكثر استقراراً، وهو ما لا يمكن تحقيقه، من دون علاقات حُسْن جوار. ويتيح هذا البديل الحدّ الأدنى للمطالب الأمنية، كما أنه يتيح مرونة كافية ليتّجه كل طرف نحو ما يتفق ومصالحه وأمْنه الذاتي، من علاقات خارجية. وقد ارتكزت دول المنطقة على تلك النقطة في إقامة علاقات قوية، خاصة في المجال العسكري، مع قوى خارجية، من الدول الكبرى والعظمى.

تبنّت المملكة العربية السعودية فكرة إنشاء "جهاز أمْن قومي"، تابع لجامعة الدول العربية[27]. تكون مهامه وسلطاته مماثلة لتلك الممنوحة لمجلس الأمن، التابع لهيئة الأمم المتحدة. ويختص بالقرارات الملزِمة، في الخلافات والمنازعات بين الدول الأعضاء. وكان الاتجاه السعودي، والذي أيدَته البحرين والعراق، رافضاً لاعتماد أي دولة عربية على القوى الخارجية، لحماية أمْنها، إذ كانت السعودية ترى أن الأمن مسألة ذاتية، وأن دول الخليج أقدر على تحمل مسؤولية الأمن في المنطقة[28].

سببت تداعيات الأحداث العنيفة في المنطقة، تحركات ومظاهرات، لاستعراض القوى في الخليج. فقد وصل إلى البحرين قوة بحرية سعودية. وأعلنت مصر استعدادها لمساندة البحرين، عسكرياً، إذا طلبت ذلك. وسارعت الولايات المتحدة الأمريكية إلى تحريك قِطعها البحرية العملاقة نحو المنطقة، شملت ست مدمرات وحاملة الطائرات "ميدواي"[29]. قدر البعض أنها لإيجاد توازن مع الوجود السوفيتي، المتزايد في المحيط الهندي، واستعداد لتطورات الخلاف، الذي وصل إلى حدّ الخطر، والتداعيات المفاجئة المرتقبة له، في المنطقة.

كان التصور الجديد للأمن في المنطقة، من منظور أمريكي، بعد سقوط إيران الشاهنشاهية، الحليف الأكبر لأمريكا في المنطقة ـ تقديم دعم أمريكي اقتصادي وعسكري، بزيادة مبيعات الأسلحة الأمريكية، لست دول، قدر وزير الدفاع الأمريكي، هارولد براون، أنها ذات فاعلية وتأثير في الأحداث في المنطقة، وهي: المملكة العربية السعودية ومصر وإيران وإسرائيل، وإلى درجة أقلّ السودان واليمن الشمالي. ويعطي هذا التصور مؤشراً جديداً إلى دور المملكة العربية السعودية المحوري، لمنطقة أكثر اتساعاً من الخليج. ويُدخِل في إطار المنطقة الخارجي دولاً من خارجها، مثل مصر والأردن وإسرائيل. كما يُسقِط من حساباته دولتين إقليميتين، هما العراق وإيران. وقد أغفل هذا التصور التطورات الاجتماعية بالمنطقة، وأُسُس الأمن فيها، المرتكزة، في عديد من أسبابها، على جذور عِرقية، بين دولتَي الشمال الخليجيتين[30].



[1] أُعيد التصديق على هذه الاتفاقية وتجديدها، عام 1823، كما كانت أساساً للمفاوضات بين الفرس والعثمانيين، عام 1847.

[2] لا يزال هذا التدخل مستمراً حتى الآن.

[3] يقع هذا الإقليم على الخليج العربي، بين جبال البختيارية شمالاً، التي تفصله عن باقي الأراضي الفارسية، وبين شط العرب من الغرب. ويعرف، الآن، باسمه الفارسي `ولاية خوزستان`. ومساحته حوالي 185 ألف كم2. وفيه عدة مدن رئيسية، هي عبدان والمحمرة والأهواز والحويزة. ويزيد عدد سكانه على ثلاثة ملايين نسمة، من أصل عربي (قبائل بني كعب وبني طرف والمحيسن وربيعة وبني تميم ومالك) نزحوا إليه قبْل الإسلام، ولا يزالون محافظين على لغتهم وتقاليدهم العربية. وقد تمتعت المنطقة باستقلالها ـ نسبياً ـ حتى عام 1924، حين فرض رضا شاه سيطرته عليهم، بالقوة. وتُعَدّ تلك المنطقة، اقتصادياً من أهم الولايات الإيرانية، حالياً، إذ يستخرج منها ثلثا إنتاج إيران من النفط، بما يعادل 28 ألف مليون دولار، سنوياً.

[4] عام 1927، انتقلت قبيلة محيسن من منطقتها، داخل العراق، إلى إيران، واستقرت بها، خشية انتقام السلطات العراقية.

[5] اتفاقية لتسليم المجرمين، وراء الحدود.

[6] تنظيم دولي، أنشئ عقب الحرب العالمية الأولى، لمنع نشوب حرب أخرى. وقد فشل في ذلك، وانهار مع اندلاع الحرب العالمية الثانية واستبدلت به منظمة هيئة الأمم المتحدة الحالية.

[7] عام 1935، طلبت الحكومة الفارسية من الدول الأجنبية، رسمياً، إطلاق اسم إيران على الدولة، لتصحيح الأوضاع القديمة الشائعة؛ إذ إن اسم فارس مأخوذ من كلمة باريس، الاسم الأصلي للإقليم الشمالي الشرقي للخليج، الذي احتضن قصور ملوك الدولة الأكينية وأمرائها، بينما اسم إيران، يعني موطن الآريين، نسبة إلى هجرات الآريين من جنوب بحر أورال، حيث موطنهم الأصلي إلى الهضبة المرتفعة (الهضبة الإيرانية)، جنوب بحر قزوين. وبقيت اللغة فقط، تعرف باسم اللغة الفارسية.

[8] كان رشيد عالي الكيلاني، رئيس الوزراء، عام 1940، يطالب بضم الكويت إلى العراق، كذلك.

[9] كانت الاتفاقية تنص على أن يمد العراق السفن الإيرانية بالمرشدين، ليقودوها إلى داخل شط العرب حتى عبدان، وأن يطهر العراق المجرى الملاحي لشط العرب، وينفق عليه من عائد رسوم المرور.

[10] خط الثالوج (الثالوك) كلمة ألمانية/ اسكندنافية، تعني الخط المتكون من امتداد أعمق نقطة من المقاطع المتتالية للنهر.

[11] تُعَدّ هذه الجزُر عربية، جغرافياً، وتاريخياً حيث تقع الأولى، وهي أكبرها، على مسافة 45 كم من إمارة الشارقة، داخل الجرف القاري العربي. وقد كانت لإمارة الشارقة السيادة عليها، بينما تقع الجزيرتان الأخريان داخل الجرف القاري الإيراني، إلا أنهما، تاريخياً، تحت سيادة إمارة رأس الخيمة، منذ زمن بعيد. وقد وقعت إيران اتفاقاً مع حاكم الشارقة، ولم توقع مثله مع حاكم رأس الخيمة.

[12] تسبب بالاشتباكات المسلحة خلاف على ملكية بعض الأراضي، على الحدود، وبناء العراق محطات ونقاط شرطة، رأت إيران أنها تقع داخل حدودها.

[13] من المعروف أن العراق، شارك في تلك الحرب المجيدة ببعض العناصر الرمزية، على كلتا الجبهتَين.

[14] حرصت المملكة العربية السعودية، مثل سائر الدول العربية، على أن تساند شقيقتَيها العربيتَين في دفاعهما عن حقهما في الأرض. وأرسلت لواء من تبوك إلى سعسع، لتعزيز الدفاعات السورية على تلك النقطة، بين الجولان ودمشق. وبقي هذا اللواء في مواقعه أكثر من سنتَين.

[15] كُلِّف الدبلوماسي المكسيكي، لويس مونوز، ببذل المساعى الحميدة بين الدولتَين، لدعم اتفاق وقف إطلاق النار، الذي وقعه الطرفان في مارس 1974. وقد أوصى المندوب الدولي، في تقريره، بضرورة إتباع التفاوض، للوصول إلى تسوية للمشاكل المتنازع فيها.

[16] زار وزير خارجية العراق طهران عده زيارات. كما زار بغداد كلٌّ من الأمير رضا والأميرة أشرف.

[17] Arab Times

[18] شملت الزيارات رئيس أركان القوات المسلحة، ووزير الخارجية، ورئيس البرلمان الإيراني.

[19] وجّه زعماء الشيعة الإيرانيين تحذيراً إلى الحكومة العراقية من القيود المفروضة على إمامهم وحمّلوها مغبة إلحاق أي ضرر به. ولدى وصول الإمام إلى باريس، هاجم أنصاره القنصلية العراقية في خور مشهر.

[20] قال صدام حسين: `لقد رحبنا بآية الله الخميني، عندما كان محكوماً عليه بالإعدام ... وطالما بدأ ممارسة نشاط سياسي ... فعليه مغادرة العراق ... إننا نحترم رجال الدين، لكننا لا نسمح لهم بأن يحلوا محل سلطة الحكومة`.

[21] مملكة بابل، مملكة أشور، الإمبراطورية الفارسية، الإمبراطورية المقدونية، الدولة الإسلامية الأولى، الدولة الأموية، الدولة العباسية، الإمبراطورية العثمانية، روسيا القيصرية، بريطانيا العظمى، جمهورية فرنسا، بروسيا القيصرية، ألمانيا النازية، الاتحاد السوفيتي، الولايات المتحدة الأمريكية.

[22] كانت بريطانيا تَعُدّ المملكة العربية السعودية وإيران، هما القوّتَين اللتَين يعول عليهما في تأمين استقرار المنطقة، بعد انسحابها.

[23] شملت، في هذه المرحلة، المملكة العربية السعودية والعراق وإيران.

[24] لم يؤيد هذا المقترح أي طرف، إقليمياً كان أو دولياً.

[25] ساعد على ذلك، التقارب الذي كان قد جرى بين الطرفَين المهمَّين العراق وإيران، بوساطة الرئيس الجزائري، هواري بومدين، في مارس 1975، وأسفر عن بيان الجزائر، ثم معاهدة الحدود في التوقيت نفسه للمؤتمر الإسلامي.

[26] كانت إيران ترى، أن حضور العراق هذا المؤتمر، يهدف إلى عرقلة أي نتائج، يمكن التوصل إليها.

[27] كانت المخاوف الأمنية تتزايد مع تطور الأحداث، فبعد الثورة الإيرانية، وقعت اليمن معاهدة صداقة مع الاتحاد السوفيتي، مثيلة لتلك التي وقعها العراق من قبْل.

[28] نفت المصادر الرسمية السعودية ما أشيع في الجرائد الأجنبية، عن المساعدات التي تقدمها الولايات المتحدة الأمريكية والمملكة العربية السعودية، لتأمين مضيق هرمز، والتي قدرت بمائة مليون دولار من المملكة، وسربين من الطائرات المقاتلة وألف فني أمريكي للمملكة، إضافة إلى عشرة آلاف في اليمن الشمالي وعُمان والبحرين، كنواة لقوة حماية خليجية، متعددة الجنسيات.

[29] أعلن أنها بسبب احتجاز الطلبة الإيرانيين رهائن أمريكية، في حادث اقتحام السفارة الأمريكية في طهران.

[30] أشار الأمير سلطان بن عبدالعزيز، وزير الدفاع والطيران السعودي، في تصريح له، في 21 نوفمبر1979، إلـى أن `المخاوف الأمنية، ليست من الأمريكيين أو الروس ولكنها من أنفسنا`، وهو ما أثبتته الأحداث في حربَي الخليج، 1980 و1990.