إرشادات مقترحات البحث معلومات خط الزمن الفهارس الخرائط الصور الوثائق الأقسام

مقاتل من الصحراء
Home Page / الأقســام / موضوعات سياسية عسكرية / الصراع في جنوبي السودان





موقع منطقة إبيي
المناطق الحدودية المختلف حولها

مناطق النفط جنوب السودان
أماكن معسكرات الفصائل
الموقع الجغرافي للسودان
التوزيع القبلي
التقسيم الإداري للسودان
التقسيم الإداري لجنوب السودان
تضاريس السودان
قناة جونجلي



الفصل الأول

المبحث الثالث والعشرون

استفتاء 9 يناير لانفصال جنوب السودان وتداعياته

استمر الصراع في السودان لفترة طويلة بين الشمال والجنوب، قاربت خمسين عاماً، ما أدى إلى كثير من الشكوك بين طرفيه، وعدم قبول التسوية إلى أن أدت الأحداث إلى إجراء استفتاء 9 يناير، لتقرير المصير، الذي قاد إلى الانفصال.

أولاً: الصراع في جنوب السودان وارتباطه بالاستفتاء على حق تقرير المصير

1. حقيقة الصراع في جنوب السودان

لفهم حقيقة الصراع في جنوب السودان، سواء في مرحلته الأولى أو الثانية، نُشير إلى عديد من العوامل المهمة.

أولهما: أن معظم الأدبيات التي تناولت الصراع في جنوب السودان ـ ولا تزال ـ تُضفي عليه بُعداً أيديولوجياً وسياسياً، فكثيراً ما صورته في إطار ثنائيات جامدة، كالانقسام بين العروبة والأفريقية، أو بين الإسلام والمسيحية، أو بين الشمال والجنوب، وهكذا. وفي هذا السياق يمكن القول إن حرب جنوب السودان، عادة، ما وصفت بأنها صدام بين الشمال العربي المسلم والجنوب الأفريقي ذي الاعتقاد المسيحي والوثني. وفي حقيقة الأمر، فإن الصدام مع أنه يحوي في داخله هذا المفهوم، إلا أنه تجاوزه ليكون صراعاً على السلطة والثروة، وغذاه التهميش الذي طال الجنوب، بل وأدى إلى تأخر التنمية في الشمال نتيجة تكلفة العمليات الحربية.

ثانيهما: ثمة مجموعة من العوامل التاريخية شكلت مدخلاً مهماً لفهم الصراع وتطوره في الجنوب، ولعل أبرزها المكونات الثقافية والحضارية التي شكلت المجتمع السوداني قبل الاحتلال البريطاني، إضافة إلى السياسة البريطانية تجاه الجنوب تحديداً، والتي جعلت منه منطقة معزولة يُحظر على الشماليين الوصول إليها إلا بإذن مسبق. أي أن السياسة البريطانية التي كانت تعتمد عموماً على الحكم غير المباشر، هدفت إلى تطوير هوية جنوبية منفصلة عن الشمال، وربما أنها كانت تفكر في ضم هذا الكيان الجنوبي الهش إلى أوغندا أو الحبشة.

أما العامل الثالث: فإنه يُشير إلى فشل مشروع الدولة الوطنية في السودان بعد الاستقلال، وعدم قدرته على تحقيق الاندماج القومي بين مختلف مكونات النسيج الاجتماعي، وذلك من خلال تأكيد تقاليد المواطنة والهوية الوطنية الجامعة، وعدم انتهاج سياسات التهميش أو الإقصاء لأي طرف من الأطراف. وهكذا فإن حالة عدم الاستقرار السياسي، وخضوع السودان لحكم العسكريين لفترات طويلة، وانتشار الفساد، وغياب المساءلة والمحاسبة، كلها عوامل مهمة في تفسير الحرب الأهلية في الجنوب.

ومن جهة رابعة، فإنه لا يخفى أهمية العوامل الاقتصادية وتقسيم الثروة والموارد. ويتضح ذلك بجلاء من تطوير مشروع قناة جونجلي، والنظر إليه من قِبل الجنوبيين على أنهم سوف يُحرمون من مواردهم الطبيعية لصالح الشمال، كما أن اكتشاف النفط في الجنوب أضاف بُعداً مهماً لفهم الصراع.

وأخيراً، يبقى أثر المتغير الخارجي في دعم أطراف الصراع، والتدخل في تفاعلاته المختلفة، وكذلك التحكم في آليات تسويته ليصبح هو المتغير الأهم، في دراسة حالة الحرب الأهلية في الجنوب السوداني.

2. التحديات التي واجهت عملية الاستفتاء

على الرغم من إقرار الاستفتاء، في نهاية ديسمبر 2009، إلا  أن المؤسسات، التي عمل عليها شُكلت في وقت متأخر، بعد انتهاء انتخابات أبريل 2010. وعندما اتجه الطرفان إلى تكوين المفوضية التي تولت الإشراف على عملية الاستفتاء، ظهر الكثير من الخلافات بينهما بشأن اختيار رئيس المفوضية، وأمينها العام، وموظفيها الرئيسيين، وتدبير الميزانية اللازمة لعملها. وترتب على هذا التأخير في تكوين المفوضية، تأخر تلقائي آخر في بدء الإجراءات اللازمة لقيام الاستفتاء، مثل طبع بطاقات الاستفتاء، والبدء في عملية تسجيل من يحق لهم التصويت، وإعلان القوائم، وما يتبع ذلك من ترك المهلة الرسمية التي حددها القانون للطعن على هذه القوائم، ومن ثم إعلان الكشوف النهائية، وكذلك حددت أماكن لجان الاقتراع، وعُين الموظفون اللازمون (قُدر عددهم بحوالي خمسة آلاف)، ثم تدريبهم، وتوفير كل المعدات والأدوات اللوجستية المطلوبة لقيام الاستفتاء.

هذا من الناحية التنظيمية والإجرائية، أما من الناحية السياسية، فقد تبادل حزبا المؤتمر الوطني والحركة الشعبية الاتهامات بخصوص الاستفتاء ونتائجه، حيث دأب بعض قادة الحركة الشعبية على القول بأن حزب المؤتمر سعى لتعطيل الاستفتاء، أو قوض نتائجه عبر التحالف مع بعض الفصائل والقوى الجنوبية المعارضة للحركة الشعبية، أو المتمردة عليها، من أجل إشاعة نوع من عدم الاستقرار الأمني في الجنوب، بما أدى في النهاية إلى إعاقة إجرائه، أو المماطلة في إقرار الإجراءات أو الترتيبات الضرورية له، بغرض تأجيل موعده المقرر، من 9 يناير 2011، إلى موعد لاحق.

وقد تمسكت الحركة بهذا الموعد، ورأت فيه موعداً مقدساً لا يجوز المساس به، ولا يمكن تعديله أو التراجع عنه لأي سبب من الأسباب، بسبب خشيتها في الأغلب من أن أي تأجيل قد يفتح الباب لتأجيلات أخرى، وقد يدخل الأمر في متاهة إجرائية. ولعل هذا السبب يفسر التصريحات والمواقف الجنوبية، التي اتسمت بالعصبية والتوتر عند الحديث عن موعد الاستفتاء أو إجراءاته، ولهذا أكدت الحركة الشعبية مرات عديدة أنها قد تتجه إلى إعلان الانفصال من جانب واحد (من داخل برلمان إقليم جنوب السودان)، في حالة عدم قيام الاستفتاء في موعده.

وعلى الجانب الآخر، أكد حزب المؤتمر الوطني أن الحركة الشعبية لتحرير السودان لم تُتح المناخ الحر والملائم لإجراء الاستفتاء، إذ إنها شجعت المنادين بالانفصال، وسمحت لهم بتسيير المسيرات والتظاهرات في الجنوب، في الوقت الذي ضيقت فيه على مؤيدي الوحدة، وحالت بينهم وبين التعبير عن رأيهم أو الدعوة له. كما أن الحركة بمواقفها الانفصالية خالفت اتفاقية السلام الشامل، التي نصت على أن يعمل الطرفان معاً على أن تكون الوحدة جاذبة، وأن الحركة بمواقفها هذه إنما نفذت أجندات خارجية، ودفعت فواتير الدعم الذي كانت تتلقاه في المراحل السابقة. وفي السياق ذاته، ظل حزب المؤتمر الوطني يُعلن طوال الوقت التزامه بإجراء الاستفتاء في موعده، خشية من اتهامه بمحاولة التنصل من الوفاء بنصوص اتفاقية نيفاشا.

نخلص مما سبق، أن الخلافات العديدة حول موعد الاستفتاء وإجراءاته، كانت تعبيراً عن التوتر القائم بين الطرفين، وهو موقف حرج ودقيق وحساس، كما ويفسر، في الوقت نفسه، القلق الإقليمي والدولي، الذي خشى من تدهور الأوضاع لأسباب غير محسوبة، أو خارجة عن السيطرة. كما يفسر الاهتمام الأمريكي المتزايد، خشية فقدان ما استثمرته من جهد ووقت ونفقات طوال السنوات العشر السابقة، في هندسة وإعادة صياغة الأوضاع السودانية، حتى وصلت بها إلى الوضع الحالي.

وقد انتهت عمليات الشد والجذب هذه، بإصدار مفوضية استفتاء جنوب السودان قراراً، في 22 أكتوبر 2010، أعلنت فيه الجدول الزمني لجميع عمليات الاستفتاء، حيث حددت بداية الحملة الإعلامية، في 7 نوفمبر 2010، واستمرت حتى 7 يناير 2011، أي قبل يومين من الاقتراع، الذي حددت له 9 يناير. وحددت المفوضية تاريخ 14 نوفمبر 2010 موعداً لتسجيل الناخبين، و6 ديسمبر لنشر السجلات، و13 ديسمبر للطعون، و10 يناير 2011 لتاريخ نشر السجل النهائي للاستفتاء.

وقد تم الالتزام بتنفيذ هذا الجدول الزمني، الأمر الذي أدى، في النهاية، إلى بدء عملية التصويت في الموعد المحدد لها، في 9 يناير 2011.

3. الاستفتاء على حق تقرير المصير

بعد العديد من المناورات السياسية والخلافات والضغوط المتبادلة، كان شريكا الحكم في السودان، وهما حزب المؤتمر الوطني، والحركة الشعبية لتحرير السودان، قد توصلا إلى توافق أقر المجلس الوطني السوداني بمقتضاه، في نهاية ديسمبر 2009، قانون الاستفتاء على حق تقرير المصير. وقد توصل الشريكان إلى حلول وسط، حول النقاط الأساسية التي كانت محل خلاف بينهما، وتتمحور بشكل أساسي حول نقطتين أساسيتين تعلقتا بالنسب المئوية اللازمة لإجازة الاستفتاء، واعتبار نتائجه مقبولة ونافذة، سواء من حيث نسبة المشاركين في الاستفتاء، أو نسبة المصوتين لصالح الانفصال.

وقد جاءت نصوص قانون الاستفتاء في مُجملها أقرب إلى ما طالبت به الحركة الشعبية لتحرير السودان، خاصة فيما يتعلق باعتبار أي من خياري الاستفتاء نافذاً، في حالة حصوله على نسبة خمسين زائد واحد، كما تم النص على أن تكون مشاركة 60% من المسجلين كافية ليصبح الاستفتاء قانونياً.

وفي ظل الأجواء الإعلامية المحمومة، والتعقيدات الإجرائية الخاصة بإجراء الاستفتاء في موعده المحدد، يمكن أن نخلص إلى أن الانفصال بات حقيقة واقعة، حيث أعلنت الحركة الشعبية أنها تدعم وتفضل خيار الانفصال، كما أنها تتمسك بإجراء الاستفتاء في موعده، وتعده موعداً مقدساً، بغض النظر عن أي معوقات، وأنها قد تلجأ إلى إعلان الانفصال من جانب واحد من داخل برلمان الإقليم الجنوبي، إذا تعثر إجراء الاستفتاء لأي سبب من الأسباب.

وفي المقابل، وعلى الرغم من كثرة الحديث في شمال السودان، على المستويين الرسمي والشعبي، عن أهمية المحافظة على الوحدة، إلا أنه من الواضح أن هناك نوعاً من عدم الممانعة الشمالية في قبول الانفصال، كنوع من رد الفعل على الخطاب الجنوبي، الذي تحدث طوال الوقت عن أن الجنوبيين يعانون من التهميش، ويُعاملون كمواطنين من الدرجة الثانية.

كما ارتفعت نبرة أحاديث شمالية ترى أن الجنوب كان عبئاً على السودان منذ الاستقلال، بسبب التكلفة الباهظة للحرب الأهلية المستمرة، وعدم مساهمة الجنوب في الناتج القومي السوداني في المرحلة التي سبقت استكشاف النفط، وأن الجنوبيين حصلوا على مكاسب هائلة في اتفاقية نيفاشا، حيث يحكمون أنفسهم، ويشاركون في الحكم على المستوى القومي، ويحصلون على حصتهم من الميزانية القومية للبلاد، إضافة إلى حصولهم على 50% من إجمالي النفط المُنتج من الحقول الجنوبية، كنوع من التمييز الإيجابي، في الوقت الذي لا تحصل فيه الولايات الشمالية المنتجة للنفط سوى على 20% من إنتاج الحقول الواقعة في أراضيها، كنوع من الدعم للأجهزة المحلية للولاية. ومع ذلك لا يشعر الجنوبيون بالرضا.

أ‌.    جنوب السودان واستفتاء محسوم سلفاً لصالح الانفصال

كان مشهد المواطنين الجنوبيين، الذين وقفوا في صفوف طويلة ممتدة أمام صناديق الاقتراع لتقرير مصيرهم في نظام وهدوء وصبر، أمراً عجيباً مثيراً للاستغراب. وقد حضر المواطنون الجنوبيون منذ الصباح الباكر لمراكز الاقتراع، وأعداد منهم لم تطق الانتظار حتى بزوغ فجر يوم التاسع من يناير، وباتت ليلتها أمام مراكز الاقتراع.

هي، إذن، معركة محسومة لصالح الانفصال، الذي تعالى صوته في الأشهر الأخيرة، وخف فيها صوت الوحدة، وتوارى أنصارها خوفاً وخجلاً، بعد أن أصبحت رديفاً للعبودية، والقهر، والمظالم، والحروب، والأمراض، والفقر، والمذلة، وفقدان الكرامة. فقد توجهت حملة ضخمة لشحن الرأي العام في الجنوب لحشد مواطنيه من أجل هذا اليوم الفاصل في تاريخهم، ولم تخفِ جميع القيادات البارزة في الجنوب والحركة الشعبية انحيازها للانفصال، بل وحضت الجماهير على اختياره وعدم خيانة أرواح ملايين الشهداء، الذين سقطوا نتيجة وحدة غير مجدية مع الشمال.

وفي مجتمع تسوده الأمية، على الأقل بنسبة 80% أو أكثر، كانت هناك أنشطة كثيرة من قِبل الناشطين والكوادر السياسية، وتدريبهم على ممارسة حقهم في تقرير مصيرهم.

لم يكن الأمر سهلاً على حكومة الجنوب، وجميع أجهزتها تعمل لهذا اليوم، الذي أرادوه يوماً أسطورياً فاصلاً في تاريخهم، وبذلوا جهوداً خارقة، بمساعدة منظمات دولية عديدة، من أجل استقبال النازحين، الذين قدموا من الشمال، واللاجئين الذين أتوا من دول الجوار وغيرها. ولا شك أن استيعاب كل هؤلاء قد يكون عبئاً كبيراً ومشكلة للحكومة في المرحلة المقبلة.

إن هذه الأعداد الكبيرة جداً القادمة من الشمال، والتي قُدرت بمئات الآلاف، عبّرت عن مأساة حقيقية تُضاف إلى مآسٍ إنسانية لا يمكن حصرها في الجنوب، الذي عانى حرباً أهلية وصفت بأنها الأطول في القارة الأفريقية.

فثمة أعداد كثيرة من هؤلاء الجنوبيين ولدوا وعاشوا ودرسوا في الخرطوم ومدن الشمال، ولم يعرفوا أرضاً سواها. وكثيرون منهم ارتبطوا بأصدقاء وجيران وأعمال في الشمال، وكثيرون منهم حملوا مشاعر بعضها إيجابي وبعضها الآخر ملتبس، أو متناقض تجاه إخوتهم في الشمال، وكثيرون منهم لم يكونوا راغبين في العودة، لأنهم لا يملكون شيئاً في الجنوب، وكثيرون منهم وصلوا بشق الأنفس إلى مناطقهم وقراهم، التي دمرتها الحرب في الجنوب، وعليهم أن يبدأوا حياتهم من الصفر، وقد يصبحون عبئاً حقيقياً على حكومة الجنوب.

وما دفعهم إلى الرحيل، أولاً، هو رغبة حكومة الجنوب أن يكون التصويت للاستفتاء على تقرير المصير في الجنوب، حتى لا يحدث فيه أي تلاعب بالشمال. وثانياً، وهو الأهم، هذه الأجواء المسمومة الناجمة عن تصريحات بعض قيادات حزب المؤتمر الوطني الحاكم، من أن الجنوبيين لن يكون لهم أي حق في الخرطوم إذا وقع الانفصال، ولن يكون لهم حق العمل أو الإقامة أو التجارة، أو حتى الحصول على الدواء.

كان يمكن أن يكون جنوب السودان بسهولة أرضاً خصبة للعروبة والإسلام، لولا سياسات الأسلمة والتعريب القسري. ونتائج الاستفتاء كانت إعلاناً لفشل الحكومات السودانية الوطنية في السودان، منذ رحيل المستعمر البريطاني وحتى الآن، في صياغة مشروع وطني يستطيع استيعاب التعدد والتنوع العرقي، والديني، والقبلي، والثقافي، والاجتماعي، والسياسي الواسع في السودان، بعد رحيل المستعمر البريطاني، الذي كان قد بذر بذور الخلاف والشقاق بين الشمال والجنوب، وجعل من الجنوب مناطق مغلقة، وحرَّم دخول الشماليين والعرب إليها.

وكان إعلان انفصال الجنوب، أيضاً، إعلاناً لفشل نظام حكم الإنقاذ، الذي يترأسه الرئيس "عمر البشير"، والذي حكم السودان منذ انقلاب عام 1989، تحت مسميات مختلفة، آخرها "حزب المؤتمر الوطني"، والذي لم يستطع الحفاظ على وحدة أكبر بلد عربي وأفريقي، على الرغم من أنه توافرت له فرص عديدة لذلك. وكان إعلان انفصال الجنوب، كذلك، فشلاً لمشروع الحركة الشعبية، الذي وضعه زعيمها الراحل الدكتور "جون قرنق"، المعروف باسم "السودان الجديد"، والذي كان يدعو إلى إقامة سودان موحد على أُسس من العدالة والمساواة. وقد تراجع المشروع كثيراً بعد موت صاحبه، ويخشى أن لا يكون انفصال الجنوب خاتمة المطاف، أو آخر تقرير مصير في السودان، في ظل الظروف الراهنة.

وقد أعلن الجنوبيون، وهم بصدد استقبال دولتهم الجديدة، أنهم سيكونون دولة مسالمة محبة لجيرانها، لها مصالح ومنافع مشتركة مع الجميع، ومع شمال السودان، على وجه أخص، وكذلك مع الدول العربية، ودول جوارها الأخرى في أفريقيا. وهذه الأحلام الطيبة الكبيرة صادفتها وستصادفها عقبات هائلة على أرض الواقع، وأولى هذه التحديات أن دولة الجنوب الوليدة المنتظرة، ستبدأ تقريباً من الصفر لبناء وتعمير مساحة الجنوب، التي تُقدر بـ700 ألف كم2، والتي تفتقد تقريباً إلى كل شيء.

كما سيقع على الجنوب عبء أمني كبير، هو حماية حدود الجنوب مع الشمال، وهي أطول حدود في أفريقيا، وتبلغ حوالي ألفي كم؛ فضلاً عن حدود أخرى مع كل دول الجوار الجنوبية في أفريقيا، علاوة على مشكلة جيش الرب الأوغندي، وحدود الجنوب مع دارفور. وفي ظل عدم حسم القضايا العالقة مع الشمال، والتي قد تستغرق أشهراً لحلها، بعد الفصل الحقيقي للدولتين، ستكون دولة الجنوب القادمة عرضة للكثير من الضغوط الإقليمية والدولية، ومنطقة لتقاطع مصالح إقليمية ودولية عديدة. وسيظل الأمر في الجنوب كله مرهوناً بالعلاقة بين جنوب السودان وشماله بعد الانفصال، كما تتوقف طبيعة هذه العلاقة (عداء أم حُسن جوار)، على أمور كثيرة في شطري السودان.

ب. نسبة التصويت لصالح الانفصال بلغت 99%

أعلنت مفوضية استفتاء جنوب السودان، في موقعها على الانترنت، أن 98.6% صوتوا لصالح الانفصال، بعد فرز أكثر من 80% من الأصوات.

وأعلن مدير إدارة الإعلام بالمفوضية، في 22 يناير 2011، أن النتائج الأولية للاقتراع أظهرت أن جوباً صوتت بنسبة 97.5% لصالح الانفصال، وأن 211 ألف و18 ناخباً صوتوا لصالح الانفصال، مقابل 3650 ناخباً للوحدة، وأن النتائج الأولية الكلية لعدد من ولايات الجنوب العشر، أظهرت تأييداً كاسحاً للانفصال، تصل نسبته إلى 99%، وأشار إلى أن الداعمين لخيار الوحدة في الشمال لم يتجاوز 0.076% حيث صوت 227 ناخباً فقط لهذا الخيار.

كما ذكر أن 298 ألف و216 ناخباً في ولاية البحيرات، صوتوا لصالح خيار الانفصال، من بين 300 ألف و444 مشاركاً في عملية الاستفتاء، بنسبة 99.924% من الأصوات. وأضاف أن أصوات الانفصال في ولاية بحر الغزال الغربية بلغت 153 ألف و839 صوتاً، من بين 162 ألف و594 صوتاً، بنسبة 94.6% من إجمالي المقترعين، بينما لم تتعد الأصوات المؤيدة للوحدة 7237 صوتاً، وفي ولاية الوحدة صوَّت 417 ألف للانفصال، و91 ألف للوحدة، من بين 472 ألف مقترع.

وأكد مستشار "سيلفاكير" أن الفترة الانتقالية، انتهت في 9 يوليه 2011، وأن الجنوب لن يصبح دولة إلا بعد هذا الموعد. وأعلن أنه إذا لم تحل قضايا أبيي والحدود وغيرها حتى يوليه 2011، سيكون الجنوب دولة مستقلة، وستُناقش المشكلات حينها بين دولتين، وإذا لم تستطع الدولتان حل هذه المشكلات وحدهما سيتدخل وقتها المجتمع الدولي والأمم المتحدة، وقد يتم اللجوء إلى التحكيم الدولي. لكن الحرب ليست أمراً سهلاً للجنوب أو الشمال.

ج. السودان سيتمزق إلى أشلاء، والمعارضة متفقة على إسقاط النظام

أعلن الدكتور "حسن الترابي"، رئيس حزب المؤتمر الشعب المعارض، في حواره مع جريدة الأهرام المصرية، قبل ساعات من اعتقاله، في 19 يناير 2011، أنه يحذر من أن السودان سيتمزق إلى ثماني دول، وربما يتحول إلى أشلاء إذا استمرت الأوضاع الحالية، وأن المعارضة في السودان الآن بشقيها السياسي والعسكري، على خلاف توجهاتها، مجمعة على ضرورة زوال النظام الحالي، الذي يستخدم شعارات إسلامية لتبرير بقائه. وتوقع الترابي تصاعد القتال في دارفور، وأن يسير على نهج الجنوب الذي قاتل حتى اضطرت الحكومة للاستجابة لمطالبه.

وأشار إلى أن الأوضاع الاقتصادية للمواطنين أصبحت صعبة، وستصبح أكثر صعوبة بعد أن يذهب 80% من دخل النفط إلى الجنوب بعد الانفصال. وأكد أن الفساد في السودان الآن أكبر من أي دولة عربية. وقال إن العقوبات الدولية ستشتد على السودان من قِبل الولايات المتحدة الأمريكية والمجتمع الدولي بعد انفصال الجنوب، وأن أحداً لن يتعاطف مع شمال السودان العربي المسلم مستقبلاً.

ثانياً: السودان وتداعيات ما بعد الانفصال

بعد أن أصبح الانفصال واقعاً ومؤكداً، بعد اكتمال عملية الاستفتاء، وسط حفاوة أمريكية وإسرائيلية وأوروبية غير مسبوقة وغير معهودة، كانت أول التداعيات الصراع السياسي العنيف، الذي قد يتحول مع الوقت إلى اضطراب وفوضى سياسية، ربما تعجل بانفصال إقليم دارفور بعد إقليم الجنوب، وتقاسم السودان الشمالي بين الفرقاء.

فالواضح منذ أسابيع سبقت الاستفتاء الجنوبي، أن هناك حالة تربص بالنظام الحاكم، من جانب المعارضة السودانية بكافة فصائلها، من أجل إسقاطه، انطلاقاً من قناعة مؤداها أن النظام أضحى في أضعف حالاته، بعد فشله في المحافظة على الجنوب. وهذا الصراع لن يكون فقط على السلطة، ولكنه سيمتد إلى قضايا الحكم والشريعة، وغيرها من القضايا الأساسية، على ضوء ما أعلنه الرئيس البشير من أن الدستور سوف يتعدل، وستكون الشريعة هي المصدر الرئيسي للتشريع، في حال انفصال الجنوب.

ثاني هذه التداعيات تتعلق بالصراعات المحتملة بين الشمال والجنوب بعد انفصاله، وأبرزها قضايا ترسيم الحدود، وخاصة ما يتعلق بوضع منطقة أبيي المتنازع عليها بين الشمال والجنوب، إضافة إلى قضايا النفط والمياه، والجنوبيين في الشمال، والشماليين في الجنوب، والحقوق المكتسبة لكل هؤلاء. هذه القضايا الخلافية، والمرشحة لأن تتحول إلى قضايا صراعية، سوف تزداد خطورتها في ظل التدخل الأمريكي ـ الإسرائيلي القوي في شؤون حكومة الجنوب، وفي ظل الصراع السياسي المرشح لأن يتطور بين الفرقاء المتنافسين على السلطة في الشمال.

أما ثالث هذه التداعيات، فيتعلق باستمرار أسباب وعوامل تغذية النزعة الانفصالية في بقية أجزاء السودان، والتركيز الآن على منطقتي أبيي ودارفور، وجنوب كردفان، والنيل الأزرق، ومناطق البجة في شرقي السودان، في ظل الدعم الأمريكي الصريح، والانحياز المعلن من جانب الرئيس الأمريكي "أوباما" لما يسميه بحق تقرير المصير. وفي ظل رؤية الحركة الشعبية لتحرير السودان (التي تحكم جنوب السودان) من أن كردفان والنيل الأزرق مناطق متصارع عليها مع الشمال، وتريد أن تستخدمها كورقة مساومة للحصول على منطقة أبيي النفطية.

ونأتي لما هو أخطر، حيث الوجود القوي للنفوذ الإسرائيلي على حكومة الجنوب السودانية، وحرصها على أن توظف هذا النفوذ كأوراق ضغط مستقبلية في علاقتها مع مصر والسودان؛ فضلاً عن خطورة سيناريو التقسيم الذي حدث في السودان، ومحاولة تعميمه كحل سحري للصراعات العرقية والطائفية والدينية داخل كل دولة عربية، وأن هذه الصراعات الفرعية بديلة للصراع العربي ـ الإسرائيلي، حسب ما يخطط الإسرائيليون.

ويدعم الأمريكيون الفكرة المحورية الإسرائيلية، المدعومة أمريكياً منذ الغزو الأمريكي للعراق واحتلاله، ومنذ الحرب الإسرائيلية على لبنان صيف 2006، وهي فرض التقسيم، واعتماد الصراعات الداخلية، العرقية والطائفية، داخل الدول العربية، وتغذية الصراعات الدينية العربية ـ العربية، كحل بديل للصراع الشامل بين العرب وإسرائيل، كي يتوارى هذا الصراع ويتحول إلى قضية ثانوية، مقارنة بتلك الصراعات.

وهكذا أخذت قضايا مثل الصراع السني ـ الشيعي، والصراع الإسلامي ـ القبطي، والصراع العربي ـ الكردي، والعربي ـ الأمازيغي، أولويات ملحوظة في السنوات الأخيرة.

1. اشتباكات بين ميليشيات منشقة وجيش جنوب السودان

أعلنت ميليشيات منشقة عن جيش جنوب السودان، في 3 مارس 2011، أن مقاتلين تابعين لها اشتبكوا مع الجيش للمرة الثانية خلال ثلاثة أسابيع، ما يؤجج المخاوف بخصوص استقرار الجنوب الغني بالنفط.

وتردد أن نحو مائة شخص لقوا حتفهم في اشتباكات في ولاية جونقلي بالجنوب، حيث كان من المقرر أن تبدأ شركة توتال الفرنسية النفطية العملاقة التنقيب هذا العام.

2. ترتيبات رسمية وشعبية لتوفيق الأوضاع

اجتمعت القوى السياسية الشمالية والجنوبية، في 10 يوليه 2011، في قصر الرئاسة بجوبا، صبيحة يوم إعلان استقلال الجنوب، في خطوة للتأكيد على ضرورة الإبقاء على الروابط بين دولتي السودان، وبحث توطيد هذه العلاقات الشعبية. وقد شارك في اللقاء زعماء وقادة الأحزاب السودانية الشمالية، الذين قدموا إلى جوبا للمشاركة في احتفال استقلال الجنوب. وشارك في اللقاء كل من رئيس حزب الأمة، وزعيم حزب المؤتمر الشعبي، وزعيم الحزب الشيوعي. وذكر مسؤول العلاقات الخارجية بحزب المؤتمر الشعبي، أن الاجتماع أظهر رغبة الشعب السوداني الأكيدة في دولتي السودان، في المحافظة على الروابط والصلات المشتركة.

ثالثاً: الدولة الوليدة بالجنوب تواجه حقائق الواقع

1. مشاعر متباينة في شطري السودان

بعد انتهاء الاحتفال التاريخي باستقلال دولة جنوب السودان، عُقدت اجتماعات مكثفة متوالية لترتيب الأوضاع في الجنوب. وكانت أولى هذه الاجتماعات، التي دعا إليها "سيلفاكير ميارديت" رئيس دولة جنوب السودان، أكدت أهمية توطيد العلاقات بين الدولتين، في ظل الوضع الجديد؛ ثم أعلن سيلفاكير اختيار نائبه سابقاً الدكتور "رياك مشار" ليكون نائباً لرئيس الدولة الجديدة، وإعلان الحكومة السابقة حكومة لتكون تسيير أعمال لحين تشكيل الحكومة الجديدة.

وعلى الرغم من أن الوضع السياسي الجديد للسودان الذي جعله دولتين، فمازالت تسيطر على السودانيين في شطري السودان مشاعر متباينة، والأمل يحدو الجميع في أن يسود السلام والتعاون بين الدولتين، وألا يفقدوا السلام، بعد أن فقدوا وحدة بلدهم. وكثير من أبناء الشمال تعتمل في نفوسهم الأحزان والشجون والأمنيات الطيبة، بالخير والتوفيق لدولة الجنوب القادمة، ويطلبون دولتهم في الشمال بإقامة علاقات حوار أخوية مع دولة الجنوب. والواقع يؤكد أن السودان يواجه ظرفاً جديداً، هو انفصال جنوب السودان، وقيام دولة جديدة في الجنوب، وهذا الجنوب أمامه خياران، إما أن ينظر شمالاً، أو أن ينظر جنوباً. فإذا نظر جنوباً، فإنه يمكن أن يتحالف مع قوى معادية، وإذا نظر شمالاً يمكن أن تقوم بينه وبين الشمال توأمة ومصالح مشتركة.

وفي أوساط الجنوب، وعلى الرغم من أجواء الفرح بالاستقلال الذي طالما حلموا به، كان هناك من يشعر أنه استقلال ناقص بدون أبيي.

أما الشماليون من أتباع الحركة الشعبية، وهم –بلا شك- الأكثر تأثراً بما يجري اليوم. فهم الذين انضموا للحركة الشعبية على زمن قائدها الراحل الدكتور "جون قرنق"، إيماناً منهم بمشروعه الفذ (السودان الجديد)، الذي تهاوى بعد رحيله، ولم يجد من يزود عنه، وهم اليوم في مأزق حقيقي، في الشمال والجنوب، ولكنهم لا يزالون يرون في هذا المشروع بارقة الأمل والمخرج الحقيقي لشطري السودان، ولو بعد التقسيم الذي تم. ويماثل وضع الشماليين في الحركة أوضاع الجنوبيين في الأحزاب الشمالية، المطلوب منهم اليوم أن يغادروا الشمال، لأنهم بعد التاسع من يوليه أصبحوا أجانب.

والسودان بلد مستضيف للاجئين أكثر من ست دول، هي أوغندا، وكينيا، وإثيوبيا، وإريتريا، وأفريقيا الوسطى، وتشاد، والصومال، ولم يطرد أياً منهم يوما ما، فكيف يطرد المواطنين السوادنيين؟ ولكن يمكن القول إن اتفاقية نيفاشا هي التي تسببت في ذلك، لأنها لم تحسم قضية المواطنة، فظلت قنبلة موقوتة أخرى إلى جانب الحدود والديون القومية (اُنظر ملحق الحوار مع الدكتور "رياك مشار" نائب رئيس دولة جنوب السودان) و(ملحق الحوار مع الدكتور "برنابا بنجامين" وزير إعلام دولة جنوب السودان) و(ملحق وزير الداخلية بدولة جنوب السودان في أول حوار له بعد انفصال الجنوب وإعلان الدولة) و(ملحق الحوار مع السيد "الصادق المهدي" رئيس حزب الأمة السوداني).

2. ملامح المستقبل السوداني بعد تقسيمه

إن واقع التجزئة فرض نفسه على دولتي السودان، فشكل تحدياً أساسياً أمام كلتا الدولتين.

فشريكا اتفاق نيفاشا أهدرا فرصاً ثمينة خلال الفترة الانتقالية، للمحافظة على التراب الوطني السوداني، وتجنيبهما معاً مخاطر تجزئة الدولة؛ ولكنهما في المقابل حافظا على درجة من التفاعل بمساعدة المجتمع الدولي، أسهمت في محافظة كل منهما على السلطة السياسية في إقليمه؛ ولكن الآن برزت متغيرات مؤثرة تهدد استمرار هذه الحالة، وتتلخص هذه المتغيرات في الآتي:

أ. حالة الصراع المسلح المستجدة في مناطق التماس بالمناطق الثلاث المهمة (أبيي، وولايتي جنوب كردفان، والنيل الأزرق)، وذلك على مستويين، الأول بين شريكي الحكم، والثاني بين الشمال وسكان هذه المنطقة التي تتشارك قواسم عرقية مع الجنوب. ويعد الخطاب الإقصائي الشمالي مهدداً لحقوقها في المواطنة المتساوية. وطبقاً للتفاعلات الراهنة، فإن استمرار هذا المستوى من الصراع، مع احتمال وجود تحفيز أو تحريض من قوى دولية أو إقليمية مستفيدة، من شأنه أن يُعيد السودان إلى مربع الحرب الأهلية.

ب. ارتفاع وتيرة الاحتقانات شمالاً وجنوباً ضد السلطتين الحاكمتين في كل من الشمال والجنوب، لأسباب اقتصادية وسياسية، والتي تغذيها معطيات الانقسام العرقي والثقافي والديني، بما يعظم فرص التجزئة في المرحلة المقبلة.

وتحمل الدولة الجديدة ميراثاً مثقلاً بأعباء تنوء بها داخلياً، من بنية أساسية متخلفة، وحياة اقتصادية واجتماعية وصحية بدائية، وتحديات عديدة مع الدولة الأم والجيران، وعلى المستويين الإقليمي والدولي.

وهناك قضايا مهمة ظلت عالقة بين الشمال والجنوب، وستبقى سيفاً مسلطاً على العلاقات بينهما، إلى أن تتم تسويتها، وأهمها:

أ. ترسيم الحدود بين الدولتين في منطقة أبيي وجنوب كردفان وولاية النيل الأزرق، وما يتصل بذلك من خلافات حول ملكية القبائل للأراضي، وتداخلها على جانبي الدولتين، والمطالبة بحرية التنقل مع قطعان الماشية في مناطق المراعي، على امتداد الحدود داخل الدولتين.

ب. آبار النفط وتقسيم عائداته، حيث يقع أكثر من 70% من هذه الآبار في مناطق يراها الجنوبيون ملكاً لهم، بينما تمتد أنابيب تصديره عبر الشمال إلى ميناء بور سودان، على البحر الأحمر.

ج. كيفية اقتسام أعباء الديون الخارجية على السودان، والتي تقدر بنحو 28 مليار دولار أمريكي؟ هل تقسم وفقاً لمعيار عدد السكان ومساحة كل إقليم منهما، بوصف الجنوب يمثل نحو 20% من السكان قبل الانفصال، أي نحو 8.2 مليون نسمة، ونحو 27% من المساحة الكلية للسودان؟ أم وفقاً لما يقترحه الجنوبيون من معيار ما تم إنجازه من مشروعات وتنمية في كل من الشمال والجنوب، حيث يرون أن التركيز في التنمية كان منصباً بصفة أساسية على ولايات الشمال الخمس عشرة، دون الولايات العشرة في الجنوب؟

د. أوضاع الجنوبيين المقيمين في الشمال، وإمكان ازدواج جنسيتهم، وكذلك أوضاع الشماليين المقيمين في الجنوب ، وتداخل المصاهرة والأنساب بين أعداد كبيرة من كليهما، وحاجة الجنوب إلى الشماليين المقيمين فيه، سواء التجار أو المهنيين.

هـ. تداخل الكثير من المسائل الأمنية والإدارية والتنظيمية، سواء على الحدود المشتركة التي مازالت مفتوحة، أو في المواني البحرية والجوية، وحاجة الجنوب إليها لأنه دولة بلا شواطئ على البحر، وفك ارتباط الدولتين بعملة واحدة حالياً، هي الجنيه السوداني، على الرغم من إصدار دولة الجنوب لعملتها الجديدة، إلا أن الارتباط يظل قائماً لفترة قادمة.

ويعاني جنوب السودان من اختلالات هيكلية، سواء في أوضاعه الاقتصادية أو السكانية والبنية الأساسية، فهناك 90% من السكان يكسب الواحد منهم أقل من نصف دولار أمريكي يومياً، ويمثل ذلك معدلاً من أعلى معدلات الفقر في العالم، إضافة إلى معدلات عالية للبطالة، وارتفاع معدلات الأمية والجهل الثقافي، وانخفاض مستوى الرعاية الصحية، مع انتشار أمراض المناطق المدارية، وتدني مستويات التغذية الأساسية.

3. سودان ما بعد الانفصال

عاش جنوب السودان يحلم بدولته الخاصة، وكانت الأسباب التي يرتكز عليها تعتمد على الاختلاف الجذري في مكوناته الدينية والقيم الاجتماعية والعادات والتقاليد، عن تلك التي في شمال السودان.

وإذا نظرنا للانفصال بوصفه الحل للصراع والاختلاف بين الشمال والجنوب؛ فالجنوب يوجد به العديد من القبائل المختلفة في القيم والعادات والمعتقد، والتي يندلع بينها الصراع بين الحين والآخر، خصوصاً بين قبيلتي "الدينكا" و"النوير"، وما تقع بينهما من اشتباكات بفعل القتال على المراعي. وقد حدثت تلك الاشتباكات في سبع ولايات من الجنوب من أصل عشر ولايات. كذلك، تشكو قبائل جنوبية من هيمنة "الدينكا" على المؤسسات الحكومية، والتي ينتمي إليها رئيس الحكومة "سيلفاكير". لكل ذلك، قد يواجه الجنوب عنفاً قبلياً بشكل أكبر مما هو عليه الآن.

وثمة قضايا أخرى ستظهر قريباً، هي تلك التي نص عليها قانون الاستفتاء، مثل: الجنسية، والعملة، والخدمة العامة، والوحدات المدمجة، والأمن الوطني والمخابرات، والاتفاقيات والمعاهدات الدولية، والأصول والديون، وحقول النفط وإنتاجه وتصديره، والعقود، والبيئة في حقول النفط والمياه، والملكية. فكل هذه القضايا لا بد من الاتفاق عليها حتى لا تهدد هي الأخرى أمن الشمال والجنوب.

وثمة العديد من المقترحات التي طرحت من أجل معالجة المخاطر المتوقعة من الانفصال، ومن أكثر هذه المقترحات قرباً للواقع تطبيق نظام كونفدرالي، حيث يعد الاتحاد الكونفدرالي تجمع مجموعة من الدول المستقلة، تفوض بموجب اتفاق مسبق بعض الصلاحيات لهيئة أو هيئات مشتركة لتنسيق سياساتها، وبذلك يتحقق حلم الجنوب في تأسيس دولة كاملة الصلاحيات، وتربطها بالشمال علاقة رأسية لا تمس كافة شؤونها، وأيضاً يعطي للجنوب الحق الكامل في تقرير المصير، ويحمي مصالح الطرفين وما يربطهم ببعضهم بعضاً، وبذلك يشكّل السودان اتحاداً بين الشمال والجنوب، مع احتفاظ كل دولة منها بالحق في ممارسة السياسة الخارجية، أو التمثيل الدبلوماسي الفعلي. كذلك يعطي الاتحاد الكونفدرالي حقاً لكل دولة عضو في الاتحاد الانسحاب منه متى شاءت لكونها دولة مستقلة، وبذلك تصبح علاقة الشمال بالجنوب علاقة رأس برأس، وليس علاقة رأس بأطراف مهمشة.