مقترحات البحث الأشكال والخرائط الصور المحتويات

مقاتل من الصحراء

الفصل الثالث والعشرون

هُدوء العاصفة

          أحدث تحرير دولة الكويت وانتهاء العمليات العسكرية، تغيراً جذرياً في واجباتي وواجبات كل من كان معي في قيادة القوات المشتركة. فما أن حلت عملية "وداع الصحراء" محل عملية " عاصفة الصحراء "، حتى وجدت نفسي مستغرقاً مرة أخرى، وبشكل أساسي، في دوامة الإمداد والتموين، كما كان الأمر في بداية الأزمة، إلاَّ أن الصعوبات، هذه المرة، تتعلق بتفكيك الآلة الحربية الضخمة لقوات التحالف بدلاً من إقامتها.

          تعهد الرئيس بوش للملك فهد بمغادرة القوات الأمريكية ومعداتها المملكة ، فور انتهاء الحرب. وكان الأمريكيون حريصين على تنفيذ وعْدهم. ولكنهم كانوا محتاجين إلى مساعداتنا لتنظيم عمليات رحيل قواتهم، كما كانوا، عند بداية الأزمة، محتاجين إلى هذه المساعدات في عمليات تنظيم وصول القوات ونشْرها في المسرح. فوجدت نفسي، مرة أخرى، أعمل عن قرب مع الفريق يوساك ، قائد القوات البرية للقيادة المركزية الأمريكية، وأعمل أيضاً مع الفريق باجونيس رئيس الإمداد والتموين للقيادة المركزية، الذي بقي في المملكة ، بحكْم وظيفته، للإشراف على رحيل القوات الأمريكية.

          غادرتْ القوات الأمريكية المملكة في أعداد هائلة، وصلت إلى 5000 شخص تقريباً كل يوم، أي ما يزيد على 300 ألف خلال 90 يوماً. وربما كانت تلك أسرع عمليات رحيل نفّذَتْها الولايات المتحدة عن منطقة صراع في تاريخها العسكري. استُخدم لهذا الغرض أكثر من 400 سفينة ضخمة، ذات أماكن فسيحة تسمح بتحرك العربات والمعدات داخلها بحرِّية. وهنا برزت، مرة أخرى، القيمة الكبرى للمرافق الحديثة في موانئنا.

          يحدثنا تاريخ الحروب المعاصرة أن الجيوش الأمريكية خَلّفت وراءها، في نهاية الحرب العالمية الثانية، الكثير من معداتها الحربية في ألمانيا ولم تأخذ معها سوى القليل. أمّا في الحرب الكورية، فلم يكن لدى القوات الأمريكية هناك إلاّ قدر قليل من العتاد. أمّا في فيتنام ولأن الأمريكيين غادروها على عَجَل، فقد خَلّفوا وراءهم عتاداً يُقَدر بمليارات من الدولارات مكدساً في المخازن، بما في ذلك دبابات وقِطع مدفعية وعربات نقل جُنْد مدرعة وورش كاملة وغير ذلك الكثير. ولعل حرب الخليج هي أول حرب في التاريخ الأمريكي يتِم فيها إخلاء كـل الجنود وأغلب العتاد من مسرح العمليات. بينما بِيعَ الفائض من مختلف الأصناف بكمياته الهائلة في مزادات علنية قرب قاعدة الملك عبد العزيز الجوية في المنطقة الشرقية. كانت هناك جميع مواد البناء: الأخشاب، والأسقف، وتوصيلات الكهرباء والمياه والصرف الصحي، إضافة إلى العربات والمعدات الهندسية من كل الأنواع. غطَّت هذه البضائع والعربات مساحات شاسعة، فكان ذلك منظراً غير عادي يستحق المشاهدة حقاً.

          في بداية الأزمة، حين بدأنا تعبئة موارد المملكة لتأمين احتياجات قوات التحالف، لم يحدث الكثير من الاتصالات المباشرة بيني وبين الفريق باجونيس، إذ كان يتعامل مباشرة مع ضباط أركاني للتفاوض في شأن العقود وإبرامها لتأمين احتياجاته من الإمدادات والتموين. أمّا خلال عملية "وداع الصحراء"، فكان عملُنا في صورة أقرب من ذي قبل. كان يأتي لمقابلتي كل أسبوع؛ ليطلعني على أعداد القوات الأمريكية التي لا تزال في المملكة ، وأعداد العقود التي ما زالت سارية المفعول، ومستحقات المقاولين التي لم تتِم تسويتها، وليطلب مساعدتي ومساعدة ضباط أركاني في حلّ كثير من المشاكل، مثل معالجة أمر الشاحنات والعربات التي استأجرناها لقوات التحالف وفُقدت أو دُمّرت في العمليات العسكرية. وكذلك أمر بعض الحافلات التي استُخدمت لجمع أسرى الحرب من داخل العراق فتعطلت أو دُمرت أو تُركت في الصحراء. وبلغ عدد الحافلات المفقودة، في إحدى المراحل، ألف حافلة من أربعة آلاف تقريباً كانت تُستخدم بالفعل. لذلك، أرسلنا مجموعات للبحث عنها، وإعادتها إن أمكن ذلك، قبل انتهاء فترة العقد ومطالبة أصحابها بالتعويضات. وكان علينا فحْص كل طلب من طلبات التعويض على حِدَة، لاتخاذ القرار المناسب في شأن الدفع.

          انتهت الحرب، ولدى المملكة مخزون هائل من الخيام والبطاطين والملابس والعربات من كل نوع وطراز، فضلاً عن قطع الغيار والمولدات، وغيرها كثير مما قمنا بتأمينه خشية أن يطول أَمَد الحرب. كانت توجيهات الأمير سلطان تقضي بأن نُهدي قوات التحالف التي هبَّت إلى مساندتنا ( وبعضها جاء من أقاصي أفريقيا ) كميات كبيرة من تلك المعدات، تعبيراً عن شكرنا وتقديرنا لوقوفها معنا في خندق واحد، ومؤازرة دولها السياسية والعسكرية التي تستحق منّا الإشادة والعرفان بالجميل. كما أخذت تلك القوات أيضاً جزءاً من المعدات العراقية، التي تم الاستيلاء عليها. فاكتفى بعضها بأشياء رمزية، بينما أخذ بعضها الآخر كميات غير قليلة من تلك المعدات.

          كان من دواعي فخري أنه، على خلاف كل الحروب التي وقعت عبْر التاريخ، لم تنشأ في المملكة سوق سوداء للاتِّجار بالاحتياجات العسكرية. وكانت تلك مفاجأة لقادة قوات التحالف. كان من الممكن، إزاء فوضى الحرب ووفرة المعدات، أن تُسرق بعض البضائع أو تُشترى بطرق غير مشروعة، ومن ثم تظهر معروضة للبيع في السوق السوداء. ولكني لا أذكر سوى حادثتين أو ثلاث من هذا النوع، وقعت في المملكة سواء أثناء الحرب أو في الأشهر التي تلتها.

          كان من دواعي فخري، كذلك، أننا عندما ذهبنا لتفتيش المواقع التي كانت تتمركز فيها قواتنا، لم نجد طلقة حية واحدة خَلّفَها الجنود وراءهم. ولربما كانت تعوز رجالنا بعض الخبرات القتالية، إلاّ أن اعتناءهم بمعداتهم كان محل الفخر والثناء! وكان هذا الانضباط لدى جنودنا يفوق ما لمسناه لدى بعض قوات التحالف الأكثر عدداً والأضخم عدةً. فعندما فتشنا بعض مواقع تمركُز القوات المتحالفة، عثرنا على كميات من الذخيرة الحية، تُرِكَت من دون حراسة، منها ذخيرة الدبابات وقذائف مدفعية الميدان وصواريخ الراجمات، بل إن بعض الأسلحة الفردية وذخيرتها تُركت وكأنها من المهمَلات. فعندما حمي الوطيس، أخذت القوات حاجتها وخلّفت الباقي وراءها. ولتوثيق هذه الحقائق، التقطنا صوراً لِمَا وجدناه، وصوَّرنا " فيلم فيديو" على الطبيعة، وأحطنا حلفاءنا علماً بذلك. وحتى النفايات الضخمة التي خصصنا مناطق محددة لحرقها، لم تخْلُ من وجود ذخيرة حية. وعليَّ أن أسجل، للتاريخ، وجود انتهاكات في تلك الحرب لأبسط قواعد الأمن والسلامة. فبعد انتهاء الحرب، استغرق الأمر عامين أو أكثر من العمل الشاق وإنفاق عشرات الملايين من الدولارات لرفع مخلفات الحرب من مناطق الرعي شمالي المملكة ، حفاظاً على أمن وسلامة المواطنين ومواشيهم في تلك المناطق. فغدت آمنة، كما كانت من قبل.

سابق بداية الصفحة تالي