مقترحات البحث الأشكال والخرائط الصور المحتويات

مقاتل من الصحراء

حفيد ابن سعود (تابع)

          تركت الأحداث التي دارت في اليمن أثراً بالغاً في حياتي. فقد دارت في الستينات حرب أهلية في اليمن استمرت سبع سنوات، وكنت أيامها شاباً يافعاً. كان لتلك الحرب أثرها في تهديد أمن المملكة، كما شغلت والدي الوقت كله. ولعل من أهم آثارها أيضاً أنها جاءت بالملك فيصل إلى الحكم، وحددت اختياري لحياتي المهنية.

          عندما أطيح بالإمام البدر في انقلاب عسكري شهدته صنعاء يوم 26 سبتمبر عام 1926، كنت في الثالثة عشرة من عمري. وما زلت أذكر الصدمة التي خلّفها ذلك الحدث في المملكة وفي العائلة المالكة. كانت تلك المرة الأولى التي يطاح فيها بنظام ملكي في الجزيرة العربية ، وكانت سابقة غير مستساغة لدينا. استنجد النظام الجمهوري الجديد في اليمن بمصر. ولم يلبث الرئيس جمال عبدالناصر الذي كان وقتها رمزاً للقومية العربية أن أرسل جيشه لحمايته. وتحولت بذلك دولة كانت تربطنا بها علاقات الصداقة طوال 30 عاماً، ودون سابق إنذار، إلى تهديد مباشر. وهو وضع لا يختلف كثيراً عن الوضع الذي خلَّفه غزو صدّام حسين الكويت ولست أعني بذلك أن صداماً صورة أخرى من عبد الناصر ، فعبد الناصر، على الرغم من كل أخطائه، يُعَدّ بطلاً قومياً في نظر مؤيديه.

          كان الخطر الذي يتهددنا محدقاً، ويَمسُّ صُلب كياننا. لقد وضعت مصر نفسها، بإرسالها جيشاً إلى اليمن في موقع يسمح لها بمساعدة مجموعات المعارضة التي بدأت تنشر الفوضى في أرجاء شبه الجزيرة العربية. ولم يمضِ وقت طويل حتى بدأت الطائرات المصرية الإغارة على مدننا الحدودية في جيزان ونجران. ولم يكن في وسعنا أن نفعل شيئاً للدفاع عنها. فلم يكن لدينا جيش أو قوات جوية أو نظام للدفاع الجوي نواجه به القوات المصرية. ولا أزال أذكر قلق أبي البالغ في شأن ضعفنا وقلة حيلتنا. كنت أيامها صغير السن، لكنني كنت أشعر بالألم، أن كبرياءنا قد جُرحت.

          كان لعبدالناصر تحدياته الأيديولوجية أيضاً. كان بطلاً نتطلع إليه. ويحبه الأمراء الصغار، بلا استثناء، حباً جماً إلى درجة أن الخلاف كان ينشب بيننا إذا قال أحدُنا إنه أشدنا حبا له. كنّا جميعاً ناصريين، كما كان أكثر العرب كذلك. كان هذا الاتجاه واضحاً في عائلتي، كان أبي وأعمامي معجبين بعبد الناصر، وتستهويهم خطبه وأفكاره. تجد صورته على الجدران وسيرته على كل لسان أينما يمَّمت وجهك. فنحن في المملكة، بطبيعتنا، نُكِن لإخواننا المصريين كل محبة وأخوّة، ونحتفظ لهم بمشاعر الود والألفة. وقدم كثير من المصريين للعيش في المملكة، خصوصاً في منطقة الحجاز وتظل مصر هي المكان المُفضل الذي يقصده السعوديون لقضاء إجازاتهم، ونتيجة لذلك تَمّت زيجات كثيرة بيننا وبينهم.

          لكنّ عبدالناصر لم يَدَع لنا خياراً إلاّ أن نتصدى له، بعد أن أرسل جيشه إلى اليمن وأعلن تصميمه على الإطاحة بعائلتنا. وترك ذلك جرحاً غائراً في نفوسنا. إذ تبين لنا، على أرض الواقع، أن القومية العربية التي ما فتئ عبد الناصر يتغنّى بها لم تكن إلا ستاراً لطموحاته السياسية. بدا لنا واضحاً، كفلق الصبح، أن اليمن لم تكن منتهى طموحات عبد الناصر، بل كان يطمع في أن يصبح زعيم العرب الأوحد. ومن هنا، تغيرت نظرتنا إليه تغيراً جذرياً، تغيراً من النقيض إلى النقيض. فبعد أن كان بطلاً في الخمسينات، أصبح خطراً في الستينات، على الأقل، في نظرتنا إليه. كنّا لا نزال أطفالاً في ذلك الوقت، لكننا كنّا نشعر بما يدور في خلد آبائنا. فقد كان علينا، لكي نحافظ على استقلالنا، أن نقاوم القوات المصرية في اليمن بكل ما أوتينا من قوة. وكأنما التاريخ يعيد نفسه، فلم يكد يمضي جيل واحد حتى وجدنا أنفسنا مضطرين، وللسبب نفسه، أن نقاوم أحلام صدّام في السيطرة والنفوذ. ويرى بعض الناس أن حرب اليمن التي خضناها، بالوكالة، في الستينات تمثل أول اختبار لإرادتنا الوطنية. بينما جاء الاختبار الثاني في حرب الخليج التي خضناها، بالأصالة، ضد العراق وفي كلتا الحالتين ثمة حاكم عربي يهدد بممارسة ضغوط لا تُحتمل على صانعي القرار في بلدنا، وكانت مقاومته أمراً لا مفر منه. وفي كلتا الحالتين، كان لملك المملكة العربية السعودية - الملك فيصل في الحالة الأولى، والملك فهد في الحالة الثانية - الرؤية الإستراتيجية الصائبة حين أسرع إلى درء الخطر قبل أن يصل إلى عقر دارنا.

          في الاختبار الأول، سلّم الملك سعود زمام الأمور إلى ولي العهد الأمير فيصل في أكتوبر عام 1926 وكانت الخطوة الأولى التي أدّت إلى تولّيه شؤون الحكم بعد ذلك بسنتين. وعيّنَ الأمير فيصل، بعد ذلك مباشرة، الأمير فهداً وزيراً للداخلية، والأمير عبدالله رئيساً للحرس الوطني، والأمير سلطان وزيراً للدفاع. ومن هنا، كان والدي المسؤول الأول بين أفراد العائلة المالكة عن درء الخطر العسكري القادم من اليمن.

          كان الصراع القبلي متأصلاً في اليمن لكن الأمير سلطان، بذكائه وحكمته، أدى دوراً بارعاً في التأليف بين زعماء القبائل. وظلت الشخصيات اليمنية المهيبة، بعمائمها وخناجرها المعقوفة تتدلى من أحزمتها، تسعى إليه في جدة والرياض. لم أكن أسمع ما يدور بينهم من مباحثات، لكنني، وأنا أراقب الموقف عن كثب، تعلمت من صبر والدي وحكمته الشيء الكثير. وكان لِمَا تعلمته أثره الكبير في قدرتي على التعامل مع أعضاء التحالف على اختلاف مشاربهم إبَّان حرب الخليج.

          كانت خبرة حرب اليمن ذات قيمة كبرى لوالدي وأعمامي، وإن كان جل العبء السياسي والدبلوماسي في الصراع مع عبدالناصر قد وقع، بطبيعة الحال، على عاتق الملك فيصل. خاضت المملكة الصراع ضد موجة الناصرية بمفردها. وظلت صامدة إلى أن أثبتت هزيمة العرب في حرب 1967 أن عبد الناصر، على الرغم من جاذبيته الشخصية وما أشيع عن قدراته الخارقة، كان هو نفسه معرضاً للسقوط. ومما رجَّح كفة الملك فيصل أنه، خلافا لعبد الناصر، كان مُلماً بالبديهيات الإستراتيجية لليمن، وعلى معرفة بقبائلها القوية وبطبيعتها الجبلية وبتاريخها الحافل بالأحداث. تعلم الكثير عن تلك البلاد أثناء الحملات العسكرية على اليمن التي قادها بنفسه نيابة عن والده، ابن سعود، في عام 1926 وعام 1932.

          اكتسب الأمير فهد والأمير عبدالله والأمير سلطان في الستينات خبرة الحرب، تلك الخبرة التي يطلق عليها اليوم مصطلح "إدارة الأزمات" علمتهم تلك الأيام، أنه إذا حزب الأمر فلا مناص من القتال، وأن حماية البلاد والعائلة ليست أمراً يوكل إلى الآخرين. وأعتقد أن مجهوداتنا الناجحة في بناء التحالف القوي أثناء أزمة الخليج، كانت دليلاً واضحاً على استعدادنا لبذل دمائنا والدفاع عن أنفسنا. لم يكن ذلك التحالف قاصراً على الولايات المتحدة و بريطانيا و فرنسا لكنه شمل أيضاً مصر وسوريا وشركاءنا الخليجيين و المغرب و النيجر و السنغال و تشيكوسلوفاكيا و بولندا و الفيليبين وغيرها. كانت مواجهتنا صداماً ضرورة حتمية، مهما قال عنها المرجفون، فهي درس تعلمناه في اليمن قبل ذلك بثلاثين عاماً.

          في الستينات، وتحت التأثير النفسي لحرب اليمن التحق الكثير من الأمراء الصغار بالخدمة العسكرية. ومما لا شك فيه أنني بدأت أميل إلى هذا الاتجاه وأنا أرى والدي محاطاً دائماً بالعسكريين. فأصبحت أتوق إلى الانخراط في السلك العسكري. وبدأت، وأنا لا أزال في سن الرابعة عشرة أو الخامسة عشرة من عمري، ألح على والدي ليرسلني إلى الأكاديمية الملكية العسكرية البريطانية في ساندهيرست كنت قد سمعت عن شهرتها وجدية الدراسة فيها، وسبق أن التحق بها ما يربو على عشرة طلاب من السعوديين.

          لكنني عندما أتأمل في الأمر ملياً، أرى أن ضعف قدرتنا على الدفاع عن بلدنا، كان هو السبب الرئيسي الذي دفعني إلى الانخراط في الجندية.

سابق بداية الصفحة تالي