مقترحات البحث الأشكال والخرائط الصور المحتويات

مقاتل من الصحراء

الفصل الخامس

جرعة من الانضباط البريطاني

         تقف الأكاديمية الملكية العسكرية في ساندهيرست شامخة وسط مساحة شاسعة من الأراضي الخضراء البهيجة لمقاطعة ساري surrey. وتبعد الأكاديمية نحو ثلاثين ميلاً عن مدينة لندن. وتُعد من أفضل الأكاديميات العسكرية العريقة وأكثرها صرامة وانضباطاً في العالم بأسره، وتضار أكاديمية سان سير saint cyr في فرنسا أو أكاديمية ويست بوينت west point في الولايات المتحدة الأمريكية وهما من المعاهد العسكرية المرموقة التي يُعرف عنها أنها تُعنى بتحويل الشباب الغَضّ إلى قادة أكْفاء. وقد يبدو لك، للوهلة الأولى، وأنت تنظر إلى الواجهة العظيمة لمبنى أكاديمية ساندهيرست القديم بحدائقه الغناء وبحيراته الأخّاذة، أنك أمام قصر مُشيّد لدوق إنجليزي. ولكن سرعان ما تكتشف أن الكلية تحمل ملامح سجن للأحداث الجانحين.

         تتلخص طريقة التدريب في أكاديمية ساندهيرست في أنهم يعمدون أول الأمر إلى تحطيمك تماماً، جسدياً وعقلياً، فتتحول في أيديهم بفعل المعاملة القاسية إلى عجينة طرية، ثم يعمدون عقب ذلك إلى بنائك مجدداً، فيعلمونك النظام والأدب واللباقة، ويردون إليك ثقتك بنفسك وتقديرك لذاتك، ثم يجتهدون عقب ذلك ليجعلوا منك، كما تقول العبارة الإنجليزية القديمة، ضابطاً ورجلا مهذباً.

         أمضيت سنتين في ساندهيرست في أواخر الستينيات، من سن السابعة عشرة حتى التاسعة عشرة. ولا أدّعي أنها كانت خبرة سارة تماماً، لكنني أجزم أنها من أكثر خبرات حياتي ثراءً وفائدة.

         ليس النجاح في ساندهيرست أمراً سهل المنال. فمن الطلاب من يترك الدراسة لصعوبتها ومنهم من يُستبعد لفشله فيها. لذا، كان إتمام الدراسة، في حد ذاته، إنجازاً لا يستهان به. عندما بدأت الدراسة في ساندهيرست كنت واحداً من ستة طلاب عرب. وعند نهاية البرنامج لم يبق من هؤلاء الستة سواي و الشيخ خليفة بن أحمد آل خليفة، وزير الدفاع البحريني الحالي، الذي لا يزال من أعز أصدقائي مُنذ ذلك الحين. كنّا على تواصل دائم طوال فترة الدراسة، يشجع أحدنا الآخر على المثابرة والاستمرار.

         كان الخوف والرعب من يومٍ يعود فيه الطالب إلى بلده يجر أذيال الخيبة، بعد فشله في الحصول على شهادة التخرج ضابطاً، دافعاً من أكبر الدوافع لمعظم الطلاب إلى مواصلة الدراسة وتحمل مشاقها.

         تروى قصة - وأرجح صدقها - أن أحد الشبان السعوديين الذين سبقوني إلى الالتحاق بأكاديمية ساندهيرست وهو واحدٌ من أول ستة سعوديين قُبِلوا للدراسة فيها عام 1948، أُجبر على ترك الدراسة والعودة إلى بلده، لا لشيءٍ سوى أنه لم يكن يهوى الرياضة. وقبل أن يرحل استدعاه قائد الأكاديمية الجنرال السير هيوستوكويل sir hugh stockwell ( الذي حقق بعد ذلك شهرة واسعة، أو قل إن شئت خزيا مبينا، بعد أن قاد القوات البريطانية في العدوان الثلاثي على مصر عام 1956 ).

وانطلق صوت القائد هادراً: "هل تريد مني شيئاً يا بني قبل أن ترحل؟".
فأجابه الشاب: "شيء واحد يا سيدي".
فسأله القائد: "حسناً، ما هو؟".
فأجابه الشاب: "أن تطلق عليَّ الرصاص".

         وكما رويتُ من قبل، كنت أُلح على والدي ليرسلني إلى ساندهيرست قبل أن أُنهي دراستي الثانوية. كنت أتعجل الذهاب، لأنني لم أكن أعرف ما ينتظرني هناك. لم أكن مقتنعاً بتأجيل التحاقي بالأكاديمية، في حين التحق بها أربعة من أبناء عمومتي قبل أن ينهوا دراستهم الثانوية.

         لكنّ الأمير سلطان كان حازماً في قوله لي: "دعك من الآخرين ولتكمل دراستك الثانوية أولاً. أريدك أن تنهج النهج الصحيح إذا كنت تريد الالتحاق بساندهيرست حقاً. عليك أن تفعل كما يفعل الشاب الإنجليزي تماماً. لا بد من أن تحصل على مؤهلات زميلك الإنجليزي نفسها، فالدراسة العسكرية لا تقبل أقل من الشهادة الثانوية".

         أنهيت دراستي الثانوية بعد ذلك بسنتين وعندها قال لي أبي: "جاء وقت الاختيار، في وسعك إن شئت أن تتخلى عن فكرة الدراسة في ساندهيرست وتلتحق بالجامعة. لن يُملي أحدٌ عليك اتجاهاً، فالاختيار لا بد أن ينبع من داخلك. ولكن إذا قررت الالتحاق بساندهيرست فعليك أن تمضي حتى النهاية. وإذا فشلت فلا أريد أن أرى وجهك مرة أخرى. عليك أن تنظر إلى ساندهيرست كجواد جَموح، إذا جَفل منك فعليك أن تلحق به مهما كانت الصعاب." راودتني نفسي مرات عدة، في الأسابيع الأولى من الدراسة، أن أتخلى عن محاولة اللحاق بالجواد الجموح، ولكن كلمات والدي كانت تشحذ همتي وتشد أزري.

         كنت واحداً ممن يطلق عليهم "الطلاب الأجانب" أي طالباً غير بريطاني أُتيحَت له فرصة الدراسة، لأن حكومة بلده كانت على وفاق مع الحكومة البريطانية. كنت و الشيخ خليفة من البحرين وطلاباً آخرين من تايلاند والهند وباكستان وسيلان وزامبيا والعراق نمثل مجموعة الطلاب الأجانب. وكان عدم إجادة اللغة الإنجليزية عائقاً كبيراً لكثير منّا، نحن الطلاب الأجانب. وكنت، إبَّان فترة المراهقة، قد أمضيت ثلاثة فصول صيفية أدرس اللغة الإنجليزية في إحدى مدارس لندن. وأتبعت ذلك بشهرين كل عام، لمدة عامين، أمضيتها مع أسرة إنجليزية، أسرة العقيد دينت dent وزوجته وولديه، في ستوكبريدج stockbridge، مقاطعة هامبشاير hampshire في جنوب بريطانيا. وكانت تلك كل ممارستي للغة الإنجليزية.

         لهذا السبب، أُرسلت أنا ومجموعة من الطلاب الذين كانت تعوزهم إجادة اللغة الإنجليزية، في سبتمبر عام 1966، إلى مؤسسة تعليمية نائية للجيش البريطاني في بيكونسفيلد beaconsfield للالتحاق بدورة في اللغة الإنجليزية استمرت ثلاثة أشهر. كان ذلك قبل بداية الدراسة الفعلية في ساندهيرست في 3 يناير عام 1967. وتسمى هذه المؤسسة التعليمية جناح ساندهيرست وهي تتولى إعداد الطلاب الأجانب للالتحاق بالأكاديمية، بتدريسهم اللغة الإنجليزية لمدة أربع أو خمس ساعات يومياً، فضلاً عن التدريبات العسكرية بقية الوقت. ومن الأمور التي جعلت التجربة أكثر صعوبة وتحدياً أنهم أسكنونا في أكواخ مع جنود الجوركا gurkha حيث يقيم كل 12 فرداً في كوخ. والجوركا جنود أشداء من جبال نيبال ولهم تاريخ يمتد إلى أكثر من مائتي سنة في خدمة الإمبراطورية البريطانية. ويشبهون أهل اليمن إلى حدٍّ كبير، فكلاهما من سكان الجبال، كما أن الجوركا يشدُّون إلى خصورهم خناجر معقوفة تتدلى من أحزمتهم يسمونها الـ "كوكري" kukri . وتم تحذيرنا من أن الجوركي إذا استل الكوكري، فلن يعيده إلى غمده قبل أن يراق على جوانبه الدم. كان العيش مع هؤلاء الجنود هو أول تدريب عملي تلقيته في الصلابة والشدة.

         كان نادر، ابن مربيتي، في صحبتي في بيكونسفيلد وقد أرسله والدي معي، لأن نادراً كان مثلى حريصاً على الالتحاق بأكاديمية ساندهيرست ولكن نادراً كان نحيفاً ضعيفاً. ولسوء الحظ، كان المطر المتقاطر من سقف الكوخ القديم، الذي يرجع تاريخه إلى الحرب العالمية الثانية، يتساقط مباشرة على سريره، فتبادلنا الأَسِرّة إذ لم يكن البلل يضيرني. ولكنه أُصيب إثر ذلك بداء السل، واضطُر إلى العودة إلى البلاد بعد أن قَدّم إليَّ خدمة لن أنساها.

         أصدر والدي الأمير سلطان تعليمات مشدَّدة بألاّ يرسل أحد إليَّ، بمن في ذلك أمي، أية نقود، وكان يفترض أن يكفيني المبلغ البسيط الذي كنت أتلقاه شهرياً من اللواء مشهور الحارثي، الملحق العسكري في لندن ( كان اللواء الحارثي وزوجته في غاية النبل معي، ولا يزال ابنهما نائل الذي تخرج قبلي في ساندهيرست من أصدقائي المقربين ). وفي يوم من الأيام وصلني خطابان من أمي، أحدهما موجه إليّ والآخر إلى نادر. كان خطابي يفيض شوقاً وحناناً ودعاءً بالتوفيق، أما خطاب نادر فكان فقرة قصيرة مرفقا بها شيك بمبلغ مائة جنيه إسترليني. وقعت عيني على الشيك عندما فض نادر خطابه. فقلت له: "اسمع يا نادر أنت بمثابة أخ لي، ولا فرق بيننا. لِمَ لا نضع نقودي ونقودك وننفق منها معاً؟". وفكر نادر للحظات، ولعله قال في سرِّه، إذا كانت أم خالد قد أرسلت إليّ بمائة جنيه فلا بد أنها أرسلت إليه ألفاً. ووافق على اقتراحي، فأخذت نقوده كلها وأعطيته منها خمسة جنيهات. وأعترف بأنني أنفقت باقي الثروة كلها على نفسي، لكنني عوضته عنها بعد ذلك في صفاء نفس وطيب خاطر.

         مرت الأيام ولم أنْسَ جنود الجوركا الذين كانت تبهرني رباطة جأشهم وانضباطهم وبشاشة وجوههم. وعندما عَلِمْت أن البريطانيين بدأوا يستغنون عنهم تدريجياً لقلة الاعتمادات المالية وضعف الإمبراطورية، استقدمت عدداً منهم للعمل رجال أمن في مزرعتي التي تقع على مشارف الرياض. وفي كل مرة ألج فيها بوابة المزرعة، أشعر بسعادة غامرة عندما أتلقى التحية من جندي بادي الحيوية والنشاط، طُبِع شعار الكوكري على غطاء رأسه.

         ينقسم برنامج الدراسة في ساندهيرست الذي يستمر لمدة سنتين، إلى ستة فصول دراسية كل منها 14 أسبوعاً. الفصل الأول هو مرحلة ( التحطيم )، التي سبق أن تحدثت عنها وعُرِفت بأنها لفحة من عذاب أليم. وتتم بطريقتين: أولاهما، تطبيق مبدأ اللياقة البدنية الذي يقدسونه، إذ يتعرض الطالب لإجهاد بدني مستمر. فيركض مسافة ثلاثة أميال يومياً بكامل هيئته الميدانية، البندقية والخوذة وجعبة الظهر والزمزمية، وساعة تلو ساعة من التدريبات المختلفة. تارة يسير الطلاب بخطواتٍ عسكرية جيئة وذهاباً عبر الفناء، وأخرى تدريبات الاقتحام حيث يتسلق الطالب الموانع التي يبلغ ارتفاعها 12 قدماً، أو يخوض الأنهار، ويتدلى على الحبال، ويزحف تحت الشباك. وتدريبات ليلية حيث زمهرير البرد يكاد يفتت العظام، ويجعلك لا تكاد تشعر بأطرافك. ويستلقي الطالب على وجهه في أخدود مملوء بالطين، ومنتهى أمَله أن ينتهي من هذا الجحيم.

         وعندما يعود الطالب إلى المعسكر وقد أعياه التعب، عليه أن يمضي الساعات الطوال يلمّع حذاءه وينظف معداته ويُبيض أحزمته وعلاَّقاته ويُلَمع الأزرار. فهو باختصار يجهز نفسه وجميع مهماته للتفتيش، الذي غالباً ما تتلوه جرعة أخرى من العقاب في شكل تمرينات الضغط وتدريبات إضافية. كان هناك، ولا يزال بكل تأكيد، ما يسمى بـ ( حلاقة ساندهيرست ) إذ يأتي أحدهم بورقة مقوَّاة ويحكها على وجهك ليتأكد أنك قد حَلقت ذقنك بكل عناية من كلا الاتجاهين. وإن ذلك كله ليهون أمام العقاب البدني والعقلي الذي تتلقاه إذا وقعت أسيراً في تدريبات النجاة. فعلى الرغم من إدراك الطالب تماماً أنه لن يتعرض للتعذيب الحقيقي، إلا أن فرائصه ترتعد خوفاً من الوقوع في الأسر. فأثناء دراستي هناك، كان عقاب الأسرى أليماً حقاً. فالتهديد قائم بأن من يقع في الأسْر سيُسحل سحلاً. ولحسن الحظ، كانت تُتاح للأسير فرصة الفكاك من الأسْر والهرب إلى الحقول المجاورة. وفي أحد التمرينات، تمكنت من الهرب وانطلقت أتعثر في الظلام حتى وجدت كوخاً في أحد الحقول واتخذت من القش الدافئ فراشاً وثيراً. وعندما انفلق الصبح اكتشفت أنني كنت نائماً جوار خنزير.

         ليس الجهد البدني هو الذي يجعل تدريبات ساندهيرست تفوق كل احتمال، لكنها المهانة التي تصاحبه. إنها العنصر الثاني في عملية "التحطيم". يعامل الطلاب خلالها معاملة الحشرات، وهناك من يصرخ بهم ويستأسد عليهم ويسومهم سوء المهانة والعذاب. هناك الرقباء الشداد من لواء الحرس ومن يوالونهم، من الطلاب القدامى ذوي النزعة السادية الذين ذاقوا الأمرّين في العام الذي مضى، ويريدون أن يصبُّوا جام كبتهم على من جاء بعدهم. كان التدريب على الالتحام واستخدام الأسلحة والرماية وقراءة الخرائط واستخدام أجهزة الاتصالات والإسعافات الأولية، من المهارات الأساسية التي على الطالب أن يكتسبها وهو يقدح زناد فكره ويُجهد كل ذرة في جسده من أجل البقاء ليجتاز الأسابيع العجاف.

         لم أكن معتاداً على تلقِّي الأوامر الصارمة كل وقت وحين. لم أتعرض من قبل للصياح بي جيئة وذهاباً! لم أتعرض من قبل للسَّب والإهانة! ولَمَّا كنت ذا طبع عنيد، وجدت صعوبة بالغة في كبت غيظي وابتلاع ألمي وعدم الرد على الإهانات صاعاً بصاع! وكان من شأن ذلك كله أن ينهي مستقبلي العسكري قبل أن يبدأ.

         وحدث، أثناء دراستي، أن أحد الطلاب الذين فُصِلوا لضعف مستواهم الدراسي وضع فوَّهة مسدسه في فمه وأفرغ طلقة خُلَّبِيَة ( وهي ذخيرة تستخدم أثناء التدريب وتسمى بالذخيرة الفشنك في بعض الجيوش ) فقضى نحبه منتحراً. بيد أن بعض الطلاب كانوا قدوة حسنة لنا، ومن هؤلاء الطالب شامي من باكستان الذي كان مثالاً يحتذى به في الاجتهاد والمثابرة والتفاني في خدمة الوطن. وكانت مكافأته أن عين وكيل ضابط. استشهد والده في الحرب بين الهند وباكستان عام 1965، وفَقد هو نفسه إحدى ساقيه في الحرب بين البلدين عام 1971، لكنه لا يزال في الخدمة. كان شامي أول من وَجَّهتُ إليه الدعوة لأداء فريضة الحج، من المسلمين غير العرب.

         تعرضت في ساندهيرست لمشكلة صحية مؤلمة. حين أُصبت بناسور وتطلب العلاج تدخلاً جراحياً. ذهبت إلى أشهر الجراحين في لندن، في ذلك الوقت، الدكتور نورمان تانار norman tanner الذي أجرى من قبل عمليات جراحية ناجحة لكثير من أفراد العائلة المالكة. وشخّص حالتي أنها خرَّاج، وقام بإزالة ما اعتقد أنه الخراج، ولم يقم باستئصاله كاملاً. ونتيجة لذلك، أُجْرِيَتْ لي ست عمليات جراحية لعلاج تلك المشكلة. وأخيراً، أشار عليَّ الدكتور جون إند john ind، وهو طبيب موهوب، بأن أستشير اختصاصياً آخر هو الدكتور جون جريفث john griffiths، فانتهت بعد ذلك المشكلة تماماً بغير رجعة، لكنها كانت كابوساً مزعجاً حقاً. كان عليَّ أن أضع ضماداً ثقيلاً على الجرح حتى لا تظهر منه أية إفرازات. كنت أخشى أن يؤدي اكتشاف مشكلتي الصحية إلى فصلي من ساندهيرست بسبب عدم اللياقة الطبية. فكان عليَّ أن أخفي تلك المشكلة تماماً.

         كنّا ننفّذ، في أحد الأيام، واحداً من تدريبات الاقتحام الشاقة، وكانت تتطلب، كما سبق أن ذكرت، الركض لمسافة ثلاثة أميال يتخلله اجتياز عدد من الموانع. كنت أسير مترنحاً من فرط الإعياء عندما دفعني طالب من الخلف، فصحت به: "ابتعد" لكنه دفعني مرة أخرى قائلاً: "صه أيها العربي الغبي". لو أنه كان من الطلاب القدامى لما وسعني إلا أن أبتلع الإهانة، لكنه زميلي من الفصيل نفسه. وكانت الإهانة أكبر من أن تحتمل. أحسست بالدم يغلي في عروقي. فوكزته بمؤخرة البندقية بكل قوتي وطرحته أرضاً. وعندما استدعيت للتحقيق قلتُ: "إنه أهان هويتي القومية". ولكنّ ذلك لم يشفع لي في شيء. وعُوقبت بالحبس داخل المعسكر لمدة ثلاثة أسابيع وبأداء التدريبات الإضافية. وكان ذلك كله أهون بكثير من فصلي من الأكاديمية.

         وحدث أن كانت أمي، في تلك الفترة، تُعالَج في لندن من أزمة ضيق في التنفس، ولم أتمكن من الخروج لرؤيتها، إذ كنت وقتها رهين الحبس في المعسكر. وكانت سعادتي لا توصف عندما جاءت هي في صحبة إحدى أخواتي لرؤيتي. لم تكن أمي تعرف أنّي كنت أنفِّذ عقوبة الحبس. ولم أتمكن من الجلوس معها أكثر من عشر دقائق. كانت في غاية التعب ولا تقوى على المشي، واكتفينا بالجلوس في سيارتها، بينما التهمتُ طَبقاً من ( الكبسة ) الشهية ( أكلة من الأرز واللحم على الطريقة السعودية ) أحضرته معها، فأتيت عليه. كانت، مثلها مثل كل الأمهات، تخشى أن تكون تغذية ابنها أقل مما يجب.

         وبعد حادثة تدريب الاقتحام، قررت أن أرد الإهانة الصاع صاعين. كان معنا طالب آسيوي دمث الخلق، طلق المُحيّا، قمة في الذوق والأدب، لكنه لفرط أدبه وحسن خلقه، كان يعامل معاملة العبيد على أيدي أفراد الفصيل. ولما لم يكن لي سابق خبرة بالمدارس البريطانية الداخلية، ولم أعهد مثل هذا النظام من قبل، لذا فاتني أن ذلك السلوك يُعَد أمراً مألوفاً بين قدامى الطلبة ومستجدّيهم. ولكنني أيقنت أنه إذا لم يكن المرء ذئباً فستأكله الذئاب.

         عندما التحقت بالدفعة 42 في أكاديمية ساندهيرست كنت غِراً ساذجاً. فإذا طلب أحد مني ستة بنسات، مثلاً، ليجري مكالمة هاتفية، أعطيه ما يطلب بلا أدنى تردد. وكنت أرفض رفضاً قاطعاً أن يعيدها إليَّ. ولكن ما أسرع ما لاحظت أن باقي الطلاب حسبوني صيداً سهلاً، وكانوا يسخرون مني ويتندرون بتصرفاتي، فغيّرت أسلوبي تماماً. كنت أقدح ذهني لأتذكر أولئك الذين يدينون لي بالبنسات وأدور عليهم واحداً بعد الآخر قائلاً: "هيا، أريد نقودي الآن وفورا". ولم تلبث أن تغيرت معاملة الجميع لي.

         ولعل من الإنصاف أن أعترف هنا بأنني عندما التحقت بـساندهيرست كان وزني زائداً ولياقتي البدنية ضعيفة وكنت مدللاً بعض الشيء. ولَمّا كنت أميراً شاباً في المملكة، فلم أكن مضطراً إلى خدمة نفسي. صحيح أن مربيتي بشرى كانت تقسو عليَّ أحياناً، إلاّ أنني لم أتعود تنظيف دورات المياه، ولم أتعود أن أُنادى بأقذع ألفاظ السباب، مثل: "أيها التافه، الكسول، اللعين، الفاسد". كان الرقيب أول راي ray يخاطب سريتنا مزمجراً: "أنا أناديك قائلاً يا سيدي، وأنت تناديني بقولك: يا سيدي، والفرق الوحيد هو أنك تعني ما تقول، بينما لا أعني أنا شيئا مما أقول".

         ويُروى أن الملك حسيناً، عاهل الأردن كان يَلقى المعاملة نفسها عندما التحق بأكاديمية ساندهيرست قبل أن ألتحق بها بعشرين سنة. كان رقيب أول السرية يصرخ في وجهه أثناء التفتيش: "أيُّ ملك كسول أنت اليوم يا سيدي!" وقد علمت أن كلمة "كسول" تستخدم في تدريبات الجيش البريطاني لوصف كل نشاط لا يستنفد الطاقة القصوى للعضلات والأعصاب للمتدرب. كان أخوتي وأبناء عمومتي يدرسون في جامعات مختلفة، يهنأون برغد العيش وكل صنوف المتعة، بينما كنت أنا في ساندهيرست أعالج قدمي المتقرحتين، وأزحف على ركبتيَّ، مستخدماً فرشة تلميع الأحذية لمسح البلاط! فهل أخطأت الاختيار؟

         ابتُليت، بعد وقت قصير في ساندهيرست برقيب من الطلاب القدامى اسمه بارني رولف سميث barney rolfe smith، وكان عضواً في ما يسمى "حكومة الطلاب cadets government" . ومن الواضح أن مظهري لم يَرُقْ له. أمرني سميث، يوماً، أن أحضر إليه في اليوم التالي في السادسة صباحاً لإجراء اختبار اللياقة البدنية. كنت أعرف أن الاختبار هو " اختراق ضاحية "، وأنني سأفشل فيه لا محالة. لم تكن بنْيَتي تساعدني على الركض السريع وكنت أشعر بآلام مبرحة جراء الجراحة التي أجريت لي. كنت أتخيل أن الفشل سيؤدّي حتماً إلى فصلي من ساندهيرست وبالتالي إلى أن يطردني أبي من الأسرة، لا سيما أن صدى كلمات الوعيد التي وجّهها إليَّ كان لا يزال يتردد في سمعي. أو هكذا كنت أتخيل.

         في تلك الليلة، وبينما كنت جالساً مع صديقي الشيخ خليفة، أخذت أقدح زناد فكري لأصل إلى حل. لا بد أن أفعل شيئاً لأنقذ الموقف. كان كابوساً ثقيلاً يجثم على صدري. ودونما تردد وجدتني أخلع حذائي وجوربي، وأتناول شفرة حلاقة وأدقها دقاً في إبهام قدمي مستخدماً كعب حذائي. سال دمى بغزارة مغطيا كل قدمي. فاستشاط الشيخ خليفة غضباً وصاح بي: "ماذا دهاك! أَجُنِنْت؟". كان وجهه شاحباً من هول الصدمة. لم أعتن بالجرح وتعمدت أن أهمله. وفي صباح اليوم التالي توجهت أحجل على قدم واحدة، إلى المستشفى. كان إصبع قدمي متورما ولا يزال أثر الدماء عليه. قلت لهم: كنت أسير حافي القدمين فحدث ما حدث". ومن المضحك أنهم تركوا الإصبع المصاب ووضعوا الضماد على الإصبع الذي يليه! وإن كنت قد نجوت من الاختبار ذلك اليوم، فلا شك أن سميث كان واثقاً أنني جرحت نفسي عمداً، ولكن أنى له إثبات ذلك. قلت له: "من ذا الذي يقوم بعمل أحمق كهذا؟". على كلٍّ، لقد نجحت في مراوغة النظام الصارم في الأكاديمية.

         تعلمت، خلال الفصل الأول في ساندهيرست فن النجاة خصوصاً في المواقف التي لا مفرّ فيها من الفشل. تعلمت أن أكون واسع الحيلة، أتميَّز غيظاً وأغلي كمداً وتُجرح كبريائي ولا أكاد أبين. تعلمت كيف أبتسم في الضراء وفي مواجهة المحن. وكان ذلك كله درساً لا يُقدر بثمن في مواقف كثيرة عرَضَت لي في حياتي.

         أحتفظ في بيتي في الرياض، بصورتين التقطتا في مكان واحد في برشلونة ( حيث ذهبت إلى هناك في مناسبتين مختلفتين مرافقاً لإحدى أخواتي التي كانت تعالج على يد طبيب عيون مشهور هناك ). التُقِطت الصورة الأولى قبل وقت قصير من ذهابي إلى ساندهيرست وأظهر فيها شاباً ممتلئ الجسم غضاً يافعاً مرحاً خالياً من الهموم يتطلع باسترخاء إلى تناول كوب ثان من الآيس كريم. أمّا الصورة الثانية، فالتقطت لي بعد ذلك بستة أشهر، ويظهر فيها فرق واضح. أقف ممشوقاً بعدما اختفت كل معالم السمنة، تعلو وجهي ابتسامة واثقة، بيد أنني أُحَدِّقُ إلى الأفق البعيد، كأنني أتوقّع ظهور خطر ما.

         جاء أخي فهد ليزورني عند نهاية الفصل الأول من دراستي في ساندهيرست انطلقت أمشي في خطوة عسكرية منتظمة نحو البوابة الرئيسية لأجده في انتظاري هناك. وعندما وقع بصرُه عليَّ ورآني نحيفاً هزيلاً، اغرورقت عيناه بالدموع. خُيِّل إليه أنني مريض. وما إن صعدت إلى سيارته حتى بادرني بصوت متهدج: "هيا بنا نتناول وجبة دسمة".

         تحسنت الأحوال بشكل كبير في ساندهيرست بعد انتهاء فترة التدريب الأساسي. بدأوا يعاملون الطلاب كبشر، بعد أن كانوا يعاملونهم كحيوانات. أخذنا ننعم في الفصول التالية بالراحة والمدنية، فقد اشتملت على الدراسة الأكاديمية لفن الحرب، والإستراتيجية، والتاريخ العسكري، والشؤون الدولية. أصبح يُنظر إلينا كأننا طلاب جامعة، وأخذنا نسترد ثقتنا بأنفسنا. فعقب انتهاء المحاضرات اليومية وساعتين من الرياضة الإجبارية، كان في وسع الطالب أن يخرج في ملابس مدنية أنيقة مرتدياً قبعة ساندهيرست كان هدفنا من الخروج دائماً هو شراء شرائح السمك والبطاطا ( البطاطس ) أو الدجاج والبطاطا من قرية كامبرلي camberley. أما إذا توافرت للطالب الرغبة والوقت والمال، فلا بأس من أن تجرَّه قدماه إلى لندن لقضاء عطلة نهاية الأسبوع.

         اقتنيت سيارة شيفرولية كورفيت chevrolet corvette حمراء اللون واستفدت منها في كل ما صنعت لأجله. كنت أسابق بها الريح في طريقي إلى لندن، حيث أجلس أحياناً في ردهة فندق رويال جاردن royal garden وكان وقتها لا يزال حديثاً، فأترك انطباعاً لدى أبناء عمومتي وأصدقائي بأن لدىّ المال الكثير، وأنني معتاد على ارتياد ذلك المكان المرموق. كنت لا أزال صغير السن، إلا أنني كنت أهتم بالجوانب المظهرية. أمّا الواقع، فكان غير ذلك. كنت أحياناً لا أجد مكاناً يؤويني إلاّ سيارتي، فعندما أشعر بالتعب أقودها إلى مكان هادئ وأستسلم للنوم. وأحياناً أخرى أرتاد الفنادق الصغيرة، خلف متحف " مدام توسو tussaud " حيث في إمكانك، في تلك الأيام، أن تستأجر سريراً بجنيه إسترليني واحد في غرفة ليس فيها، بداهة، حمام خاص. وذات صباح، وأنا أندفع خارجاً من أحد تلك الأماكن، فوجئت بسيارتي وقد تلطخت عمداً بالأصباغ، فأعدت طلاءها باللون الأبيض. كانت تلك فترة الستينيات التي عُرِفَت بأنها "فترة الزهور والحب والشعر الطويل ونبذ الحرب". كان ذلك الاتجاه هو السائد في المجتمع الإنجليزي في ذاك الوقت، وتبين لي، من أصدقائي الإنجليز، أنني لم أكن مسايراً للأوضاع القائمة في المجتمع، كطالب قصير الشعر في أكاديمية عسكرية.

         وعودة إلى الأكاديمية، حيث كانت اللغة الإنجليزية لا تزال تمثل مشكلة لي. كنت أتحدثها بطلاقة، لكنني أجد صعوبة في فهْم المحاضرات. كان علينا أن ندرس المعارك الحربية التي خاضها الجيش البريطاني، كموقعة ووترلو waterloo وموقعة سوم somme. لم تكن تلك الأحداث التاريخية تمثل صعوبة للطالب البريطاني، أمّا بالنسبة إليّ، فكان الأمر مختلفاً. كانت أحداثاً غريبة عليَّ، أحداثاً تتعلق بتاريخ بلد آخر غير بلدي.

         لاحظ قائد سريتي الرائد كارني d.b. carnie ( وله موقف نبيل معي لن أنساه ) أنني كنت متخلفاً عن الركب، على الرغم من المحاولات المستميتة التي بذلتها. كانت الظروف كلها تعمل لغير مصلحتي. كانت تنقصني اللياقة البدنية وأعاني مشكلة صحية (الناسور) أجد حرجاً في البوح بها خشية الفصل من الأكاديمية. لم يكن تعليمي السابق يؤهلني لتحمل قسوة التدريب في ساندهيرست والبيئة التي انتقلت إليها غريبة عني وبردها قارس، وفوق هذا كله كنت ضعيفاً في اللغة الإنجليزية. بيد أن هاجس الطرد من ساندهيرست جعلني أتشبث بالبقاء والنجاح. كانت كلمات أبي لا يزال صداها يتردد في أذني. ترك هذا الإصرار انطباعاً مؤثرا لدى الرائد كارني الذي هبّ إلى نجدتي.

         تولى الرائد كارني، بعد التفاهم مع الملحق العسكري في لندن، ترتيب التحاقي ببرنامج مكثف في اللغة الإنجليزية، مدته ستة أسابيع في مدينة إيستبورن eastbourne على الساحل الجنوبي لإنجلترا. وقد آتى هذا البرنامج ثماره، إذ أصبحت بعده، قادراً على متابعة المحاضرات وأحرزت تقدماً ملحوظاً، بيد أنني لم أحقق تفوقاً أكاديمياً. كان الرائد كارني مولعاً بالسباحة وكرة المـاء، ومن فرط حرصي على أن أترك انطباعاً جيداً لديه وأحصل على تقرير طيب منه، بدأت أمارس هاتين اللعبتين. وبعد مضي أكثر من عشر سنوات، وكنت أدرس في كلية القيادة والأركان في فورت ليفنوورث fort leavenworth في مدينة كانساس kansas، زارني الرائد كارني وكان يشغل منصب الملحق العسكري البريطاني لدى الولايات المتحدة. ضحكنا ملء أشداقنا ونحن نستعيد تلك الذكريات.

         لعل أهم نقاط القوة في أكاديمية ساندهيرست أنها تُعامل طلابها على قدم المساواة سواء أكانوا بريطانيين أم أجانب، ملوكاً أم من عامة الناس، من أبناء كبار الضباط أم من أبناء الطبقة العاملة. كانوا يعاملون جميعهم على أساس من العدل ودون محاباة. كل يعرف حدوده. يتعلمون الالتزام بقواعد سلوكية محددة لا يمكن التهاون في شأنها، إذ هي أكثر أهمية من الفرد نفسه. وتتلخص تلك القواعد في شعار الأكاديمية: "اجتهد لتقود". ويُفترض أن يكون خريج ساندهيرست شاباً تشرب المبادئ العسكرية الرفيعة كالشجاعة والانضباط وضبط النفس والاستقامة - وهي مبدأ يحظى بكل اهتمام - إضافة إلى القدرة على التفكير والتصرف السليم في المواقف الحرجة. ففي ذلك المبنى الأنيق بمناظره الخلابة ومروجه الخضراء، لم نكن لننسى أبداً أننا لم نأتِ إلاّ لنتعلم كيف نقود الرجال في أرض المعركة، وكيف نقتل الأعداء، ولكن طبقاً لمواثيق الحرب وفي حدود ضوابطها.

         لم نكن لنتعلم ذلك كله دفعة واحدة، فلم يكن من السهل كبح جماح الحيوية والمرح اللذين جُبِل الشباب عليهما. وفي إحدى المناسبات وفي محاولة لإثبات سعة الحيلة، تطوعت مع ثلاثة طلاب بالسفر إلى المغرب عن طريق الركوب المجاني ( أوتوستوب ). كان ذلك في ربيع عام 1967. وكان معنا من المال ما يكفي لشراء الجمال التي كنا نخطط لاستخدامها في السفر عبر الصحراء الجزائرية. ووصلنا إلى مدينة الرباط ثم اشترينا أربعة جمال من أحد الأسواق في أطراف المدينة وبدأنا الرحلة. ولكن، تجري الرياح بما لا تشتهي السفن ( بما في ذلك سفن الصحراء ). نفق أحد الجمال، ونفدت نقودنا. ولم يكن أمامنا إلاّ أن نعود أدراجنا. وحطّت رحالنا في حديقة لا تبعد كثيراً عن هيلتون الرباط انصرف رفاقي عائدين إلى بلادهم، وترددت في اللحاق بهم. وآثرت الاتصال بالسفير السعودي الذي أبلغ الأمير عبدالله، شقيق الملك الحسن، بوجودي. دعاني الأمير لأحل ضيفاً عليه. ومكثت عشرة أيام، أنساني كرم ضيافته كلَّ ما لقيته من صعاب في ساندهيرست وأذكر أنني تشرفت بالسلام على العاهل المغربي بينما كان يلعب الجولف. وكانت تلك هي المرة الأولى التي أقابل فيها الملك الحسن، الذي أعدُّه واحداً من أذكى حكام العالم العربي وأغزرهم علماً.

         لم أكد أعود إلى بريطانيا حتى اندلعت حرب يونيه عام 1967. كان أمراً ثقيلاً على نفس كل عربي، لا سيما في ساندهيرست بلغت إسرائيل قمة الصلف بعد نشوة انتصارها على العرب، إثر ضربة جوية مبكرة دمرت القوة الجوية المصرية وهي رابضة على الأرض، وهوت بالعرب إلى أدنى درجات الإحباط واليأس. كما أظهرت خواء صيحات الكفاح من أجل الاستقلال التي كان يطلقها العرب منذ الحرب العالمية الثانية. فبعد أن تحققت لإسرائيل السيطرة الجوية الكاملة اجتاحت مساحات شاسعة من الأراضي العربية، شملت شبه جزيرة سيناء المصرية، ومرتفعات الجولان السورية، والأراضي الفلسطينية في غزة والضفة الغربية والقدس الشرقية. ومن دواعي سروري، وبعد ربع قرن من الزمان، أن أرى جهود السلام تحرز تقدماً كان لحرب الخليج فيه دور لا يخفى على أحد.

         وفي أكاديمية عسكرية مثل ساندهيرست لم يكن هناك إلاّ الإعجاب، كل الإعجاب، بقدرة إسرائيل على هزيمة جيرانها العرب خلال أسبوع. لم يكن الطلاب ولا المعلمون ملمين بالظروف السياسية للمنطقة، وانصب تقييمهم للموقف على الوجهة العسكرية. وربما لم يَدُر بخلد أيّ منهم أن ما حدث لم يكن سوى جولة واحدة في صراع طويل. وعلى الرغم من أن الصراع في فيتنام كان لا يزال قائماً على أشدِّه، إلا أن حرب الشرق الأوسط استحوذت على الاهتمام، وكانت موضوعاً لكل حديث في ساندهيرست كان البريطانيون يحَقِّرون من شأن العرب، ربما لأن فكرة الإمبراطورية كانت لا تزال حية في أذهانهم. وبما أني عربيّ في ساندهيرست فلم أسْلم من الأذى، وكنت موضع السخرية والمهانة، وتدور حولي معظم النكات السخيفة. أين المفر؟ هناك قواعد سلوكية يعرفها جميع الضباط تُطبّق في السلم والحرب، في النصر والهزيمة، لكن الطلاب لا شأن لهم بتلك القواعد. جعلني ذلك الموقف أشعر بألم ومهانة لم أعهدهما في حياتي. ومما زاد الأمر سوءاً أنني والشيخ خليفة، الذي كان يشاركني في تلك الآلام، صدَّقْنا في بادئ الأمر كل ما جاء في البيانات العسكرية المصرية، وفي تعليقات أحمد سعيد من إذاعة صوت العرب. فظننَّا أننا في طريقنا إلى نصر مؤزَّر. كنا نستمع لإذاعة "صوت العرب" من القاهرة فيزداد يقيننا بأن الحرب تدور لمصلحتنا. ثم وقعت الطامة. وليتنا سمعنا تلك الأخبار السيئة في أول الأحداث، إذاً لكان الأمر أهون بكثير.

         كان لتلك الهزيمة وقع ثقيل في نفوسنا. كانت صدمة قاسية مُرَّة أن نبدأ حياتنا العسكرية والجيوش العربية تلعق جروحها بعد هزيمة قاسية.

         وفي سنة 1967 والسنة التي تلتها، كانت قبرص مقر التدريب السنوي لأكاديمية ساندهيرست ويشترك في التدريب عادة ما يقرب من نصف طلاب الأكاديمية، أيْ نحو 600 طالب. وكان هناك اتفاق بين بريطانيا و قبرص تحتفظ بريطانيا بموجبه بسيادة على بعض القواعد هناك. وقُسِّمَ الطلاب إلى فريقين متضادين، وزودوا بالذخيرة الخُلَّبِيَّة، وأمضينا ساعات طويلة ومضنية نمارس التكتيكات العسكرية، يحارب بعضنا بعضاً بين صخور جزيرة قبرص وغاباتها.

         كانت مفاجأة لنا عندما هددت تركيا بغزو الجزيرة بدعوى حماية الأقلية التركية المقيمة في جزئها الشمالي من اعتداء الغالبية اليونانية: إذ احتشدت السفن الحربية التركية قرب شواطئ الجزيرة، بينما قصفت الطائرات الحربية الأهداف العسكرية للقبارصة اليونانيين. أصبحت تركيا واليونان على حافة الحرب. كانت نيقوسيا، عاصمة الجزيرة، مقسمة إلى قطاع تركي وآخر يوناني. وسادت حالة من الذعر في المعسكر البريطاني، فلم يكن أحد يدري إن كان الأتراك يخططون للهبوط على الجزيرة والتقدم نحو القاعدة التي لم يكن فيها سوى حامية صغيرة. ونظراً إلى عدم وجود قوات بريطانية نظامية، فقد دُفِعَ بطلاب ساندهيرست إلى الأتون، وسُحبت الذخيرة الخُلَّبِيَّة واستُبدِلت بها ذخيرة حية، وأصبح المعلمون ضباطاً يقودون قوات حقيقية. وبدا كأن التدريب سيتحول إلى مواجهة حقيقية بين بريطانيا و تركيا.

         أخذ اللاجئون يتدفقون من مناطق الخطر بحثاً عن ملاذ آمن، وأوكلت إلينا مهمة العناية بهم، فأنشأنا معسكراً للأُسَر النازحة، حيث قمنا بأعمال الطبخ وتقديم الطعام، بل الخدمة أيضاً. وما زلت أذكر كم كنت أقشر أكواماً كبيرة من البصل والبطاطا!

         وعندما بدأت الاشتباكات الفعلية نَمَى إلى علمي أن اللواء علي حسن الشاعر، الملحق العسكري السعودي لدى بيروت كان يريد إرسال طائرة لإخلائي، لكنني رفضت. لم يكن من تقاليد ساندهيرست ولا التقاليد العربية أو التعاليم الإسلامية، أن يُوَلّي المرءُ دبره. وكان من شأن هذا الفرار، أن يدمغ جبيني بالعار.

         لم يمضِ وقت طويل حتى عدنا إلى بريطانيا، واستغرقنا في الدراسة مرة أخرى. يرتكز أسلوب التعليم في ساندهيرست إلى تحويل كل نشاط عسكري إلى مجموعة من الإجراءات تسمى: "إجراءات العمل المستديمة". فسواء أكان الأمر متعلقاً بالمشي، أم بإطلاق النار، أم بتفكيك أجزاء السلاح، أم بإصدار الأوامر، أم باستخدام اللاسلكي، أم بقراءة الخرائط، أم بكتابة تقديرات عسكرية، أم بالقتال، أم بأخذ الأسرى، فثمة أسلوب صحيح متفق عليه للتعامل مع كل أمر من هذه الأمور. هناك قواعد دقيقة تحكم كل حركة وسكنة وكل شاردة وواردة. فكل شيء يتم تعليمه بالأسلوب نفسه وإن اختلف الموضوع. تُعطي في البداية شرحاً نظرياً، يليه تطبيق عملي، ثم يُطلب منك أداء العمل، وأخيراً يخضع أداؤك للتقييم. وتتكرر هذه الخطوات إلى أن تتقن الأداء. وتُراقب مهارة الطالب في كل مرحلة لمعرفة مدى اقترابه من المستوى المطلوب. فإذا لم يحقق ذلك المستوى، فإنه يعيد فصلاً دراسياً أو فصلين أو يفصل آخر الأمر من الأكاديمية نهائياً.

         الهدف النهائي من كل تلك القواعد مساعدة الضابط على السيطرة على نفسه وعلى رجاله في مواقف المعركة المشحونة بالإجهاد والذعر. ويوضح هذا الهدف جون كيجان john keegan، وهو معلم سابق في ساندهيرست ومعلق عسكري، في كتابه القيّم "وجه المعركة"، الذي نُشِرَ في لندن عام 1976 حين يقول: "إن الهدف، هو تحويل إدارة الحرب إلى مجموعة من القواعد ونظام من الإجراءات. وبذلك تتحول الأفعال الفوضوية الغريزية إلى أعمال مرتَّبة ومنطقية".

         ولا شك أن التغلب على الخوف الغريزي من الموت والاحتفاظ برباطة الجأش تحت النيران مع القدرة على اتخاذ القرارات السريعة، كلها أعمال تتطلب قدراً هائلاً من القدرة الجسدية والعقلية. وهذه صفات لا يُفْطَرُ عليها معظم الناس، بل يقتضي الأمر اكتسابها وتنميتها. وعندما أنظر إلى ما تعلمته في ساندهيرست يظهر لي أن أهم درس استفدته كان حسن التصرف ليس بصفتي ضابطاً فحسب، بل حُسن التصرف بوجه عام. تعلمت أن آخذ الأمور مأخذ الجد وأن أكون منضبطاً انضباطاً ذاتياً، عقلاً وجسداً ومشاعرَ، وهي أشدها صعوبة.

         كان لدينا شيء من الفراغ يوم الأحد من كل أسبوع. ورغبة منّا في استغلال الوقت في ما يفيد، قررت والشيخ خليفة أن نتعلم الطيران. أمضينا أيام آحادٍ كثيرة في التدريب على قيادة طائرة من نوع شيروكي cherokee في إحدى مدارس الطيران القريبة في مطار بلاكبوش blackbush. أمّا عطلات نهاية الأسبوع الأخرى، فكان دَأْبنا أن نذهب إلى لندن في السيارة حيث نستمتع بالطعام الشهي ونلتقي أصدقاءنا ونعوِّض شيئاً مما فاتنا من النوم. فعلى الرغم من ضغوط العمل، كانت هناك أيام للمرح والمتعة. رغبت، ذات مرة، أن أحضر حفلةً ساهرةً تُقام في شهر يونيه في ساندهيرست وهو احتفال ممتع وبهيج، لكنني احتجت إلى "بدلة سهرة" لحضور الاحتفال، فاستعرتها من صديق مصري اسمه محمد عاصم، كان يعمل موظف استقبال في فندق رويال جاردن ويرتدي تلك البدلة خلال ساعات العمل.

         وفي تلك الأيام، كانت أكاديمية ساندهيرست تتكون من ثلاث كليات: الكلية القديمة والكلية الجديدة وكلية النصر. وتتألف كل كلية من أربع سرايا. بدأت دراستي في الكلية الجديدة في سرية يقودها الرائد كارني وتسمى باسم معركة سوم التي وقعت أثناء الحرب العالمية الأولى. وقبل نهاية آخر فصل دراسي لي في الأكاديمية، أُدْخِلَتْ بعض التعديلات، فتم تقليص عدد السرايا من أربع إلى ثلاث. وأُلْغِيتْ سرية سوم، وانتقلت إلى سرية غزة gaza، تحت قيادة الرائد هنري ترايجير henry trigear وسميت هذه السرية باسم المعركة التي خاضها الإنجليز ضد الأتراك في الحرب العالمية الأولى. وقبل أن أغادر سرية سوم استدعاني الرائد كارني وقال لي: "أنت سيئ الحظ، فلو بقيت سرية سوم لأصبحت فيها وكيل ضابط. كان في نيتي أن أرقِّيك، فعلى الرغم من الظروف الصعبة التي واجهتك فإنك اجتهدت ونجحت". كنتُ فخوراً الفخر كله بكلمات الثناء تلك التي صدرت عن الرائد كارني. ففي كل سرية يُرقّى أربعة طلاب إلى رتبة وكيل ضابط، أمّا الترقية إلى وكيل أول فلا ينالها إلا طالب واحد فقط.

         ولا أزال أحتفظ بخطاب أرسله الرائد كارني في شأني إلى سمو الأمير سلطان في 30 يوليه عام 1968. يقول:

"لقد حاول جاهداً وأظهر اهتماماً شديداً ومقدرة في كل ما درسه. وشعرت بالأسف لأن سرية سوم سوف تُحَلْ، لأنني كنت أنوي ترقيته إلى وكيل ضابط في الفصل النهائي. وسيكون، على كل حال، برتبة عريف في سريته الجديدة. ولا يساورني شك في أنه سيؤدّي عمله بمهارة وحماسة. وأعتقد جازماً أنه أحسنَ استغلال وقته أثناء وجوده في بريطانيا. وقد نمت شخصيته إلى حدٍّ بعيد، وسيكون ضابطاً متميزاً عندما يتخرج. وتُعَدّ القدرة على القيادة من أبرز سماته، فلديه كامل الثقة والدبلوماسية والذكاء. وسيكون، في المستقبل، ذخراً عظيماً للمملكة العربية السعودية، عندما يزداد معرفةً ويكتسب خبرةً".

         كان الفصل الأخير في أكاديمية ساند هيرست عسكرياً صرفاً وشاقاً إلى حدٍّ بعيد ولا يختلف كثيراً عن الفصل الأول. ولعل الفرق الوحيد بينهما أن الطالب أصبح الآن متقدماً بعد أن كان مستجداً. بمعنى أن المرء أصبح عضواً في "حكومة الطلاب" التي تتحكم في رقاب الدفعة الجديدة، وكنّا من قبل نلقى المعاملة نفسها من الطلاب القدامى. لقد جاء دورنا لنعامل الطلاب الجدد معاملة الحشرات ونسومهم سوء العذاب.

         كان الهدف النهائي من هذا الفصل، هو تهيئة الطلبة للمرحلة الأخيرة قبل تخرجهم والارتفاع بمستوى كفاءتهم وتطوير قدراتهم على التفكير تحت الضغوط المختلفة. ولتحقيق ذلك، ينفذ الطلاب تمرينات لا حصر لها في أجواء مماثلة للمعارك الحقيقية، فيُطلَب منهم وضع الخطط والتقديرات واتخاذ القرارات العسكرية في أضيق الأوقات.

         وتنتهي السنتان الدراسيتان في أكاديمية ساندهيرست بطابور عرض مهيب. وفي أحد طوابير العرض التي شهدتها أيام دراستي، حضر اللورد مونتجمري montgomery، بطل معركة العلمين، لاستعراض الطلاب. فعلى الرغم من تقاعده من الجيش قبل عشر سنوات كان لا يزال محتفظاً بمظهره العسكري الباهر وشخصيته القيادية. وتصادف أن وقف أمامي ونوه بي في كلمة ثناء. وبعد انتهاء العرض حصلت على إجازة لمدة 24 ساعة، هي المكافأة المعتادة التي يحصل عليها الطالب إذا أثنى عليه الضابط الذي يستعرض الصفوف.

         وفي طوابير العرض، يقوم طلاب الأكاديمية، وهم في أحسن مظهر وفي نسق استعراضي منتظم، بإبراز مهاراتهم التي تدربوا عليها بقيادة أركان حرب الكلية. فتمر الصفوف بالخطوة البطيئة في دورة كاملة على إيقاعات الموسيقى العسكرية، ويلي ذلك دورة أخرى بالخطوة المعتادة. ويتقدَّم الطلاب المتخرجون، بعد ذلك، في صفوف متوالية متجهين نحو المبنى الرئيسي ومن خلفهم أركان حرب الكلية ممتطياً صهوة جواده الأشهب الشهير. ويصعد هذا الموكب المهيب الدرجات العريضة للمدخل الرئيسي، فيلج الجميع، وما إن يكتمل ولوجهم المبنى حتى تُغلق البوابة الرئيسية. فيصبح هؤلاء الطلاب بذلك ضباطاً.

         تلك هي اللحظة التي طالما حلمت بها ولم آلُ جهداً في سبيل الوصول إليها. كنت أتيه فخراً بالنجمة التي وُضِعَتْ على كتفي. فأقمت، احتفاءً بالتخرج، حفلةً لثلاثين من زملائي الضباط في فندق رويال جاردن.

         في تقرير إتمام الدراسة، كتب عني العقيد ماثيو a.w. mathew، قائد الكلية الجديدة، الآتي:

"هو رجل معتز بذاته فخور بتراثه. قائد لديه القدرة على أن يُمسك بزمام الأمور، ويتخذ القرار الحاسم متى دعت الحاجة. لا يبتئس، بل يبقى رابط الجأش، منفرج الأسارير، مثالاً يحتذى حتى في أحلك الظروف. استمتع بدراسته في ساندهيرست ولا شك أنه سيكون ضابطاً مميزاً".

         تغيرت أكاديمية ساندهيرست كثيراً على حدّ علمي. قُلّص برنامج السنتين إلى حد كبير، لم يعد الطلاب الجدد يتعرضون للمهانة. لم يعد هناك وجود لحكومة الطلاب المرعبة. أصبح التدريب والتأديب في يد ضباط الحرس وضباط الصف. بيد أنه، وكما ظهر لي من الضباط البريطانيين الذين شاهدتهم في حرب الخليج، لا تزال مناقب ساندهيرست ملء السمع والبصر.

سابق بداية الصفحة تالي