مقترحات البحث الأشكال والخرائط الصور المحتويات

مقاتل من الصحراء

قراءة في فكرِ صدّام (تابع)

          وكما حدث للرئيس جمال عبدالناصر في مصر عام 1967، لم يستطع صدّام هذا الحاكم المتغطرس التنبؤ بأن أعداءه سوف يستغلون الفرصة لتدميره، لمجرد أن يعطي العالم ذريعة لشن حرب عليه، وأنهم لن يدَعوه يفلت، سالماً غانماً، من أيديهم.

          وعلى الرغم من اختلاف الظروف، يمكن أن يُقارن صدّام بعبد الناصر عام 1967. فعندما ارتكب الرئيس المصري خطأه طالباً من الأمم المتحدة سحب قواتها من سيناء، وجدت إسرائيل أمامها فرصة ذهبية لشن هجومها على مصر مع أن القادة الإسرائيليين كانوا يعرفون جيداً، كما اعترف بعضهم لاحقاً، أن نشْر القوات المصرية في سيناء كان دفاعياً وليس هجومياً. ولكنهم ما كانوا ليتركوا عبد الناصر يفلت من المصيدة. ومع أن الرئيس المصري اقترح التفاوض، وكان على وشك أن يوفِد نائبه زكريا محيي الدين إلى واشنطن للشروع في ذلك، إلاّ أن إسرائيل نفذت ضربتها قبل بدء المحادثات. وبعبارة أخرى، فوّتت إسرائيل الفرصة على عبد الناصر للنجاة من خلال المفاوضات.

          وحدث الشيء نفسه مرة أخرى في 1990 - 1991. فما أن أقدم صدّام على غزو الكويت حتى سارع من طالهم تهديده إلى الضغط على الولايات المتحدة لاتخاذ موقف متشدد إزاءه، فلا تراجع عن ضرورة تحطيم آلة صدّام العسكرية، ولا ربْط لهذا الأمر بمشاكل الشرق الأوسط الأخرى.

          لكن المقارنة بين موقفي صدّام وعبد الناصر تُظهر تبايناً كبيراً بين الموقفين. تبايناً يرجِّح كثيراً كفة عبد الناصر على صدّام فموقف عبد الناصر حين نشر جنوده في سيناء، كان دفاعياً ولم يكن تهديداً لأحد. أمّا صدّام فقد دفع قواته في اتجاه الكويت وكان عمله هجومياً. ثم إن صداماً أُعطي فرصة للانسحاب بعد مفاوضات شارك فيها، تقريباً، كل زعماء العالم، ومددت مهلة الانسحاب إلى ستة أشهر، وكان لديه الخيار في حل سلمي. أما عبد الناصر، فلم تكن لديه تلك الفرصة، مع أنه كان مستعداً للتفاوض ومُرَحّباً به، خلافاً لصدام الذي كان رافضاً للتفاوض في غرور وصلف. لذلك، فالمحصلة النهائية لتباين الموقفيْن، ولا جدال في شأنها، أن صداماً ابتلع الكويت ومَزّق سيادتها، ودنّس أرضها، أمّا عبد الناصر، فلموقفه تحليل آخر.

          ولو كان صدّام مفكراً إستراتيجياً، لما أعطى أعداءه هذه الفرصة، بل لانتهز غير فرصة مواتية للانسحاب والحفاظ على كرامته. لكنّ إصراره على عدم الانسحاب حمل بعض العرب على الاعتقاد بأنه عميلٌ للغرب. ومن وجهة نظري، فأعتقد أنه ليس سوى طاغية ارتكب سلسة من الأخطاء الفادحة، التي أحسن أعداؤه استغلالها لإضعافه وإضعاف بلده، وما كانوا ليتركوه يفلت من المصيدة التي نصبها لنفسه بنفسه.

          في البداية، رغبت الدول العربية المشتركة في قوات التحالف في احتواء العراق لا في تدميره. أرادت هذه الدول إعادة الحكومة الشرعية إلى الكويت ودرء الخطر عن أنفسها. فناشدت صداماً العودة إلى جادة الصواب والانسحاب من الكويت فليس من السهل على أي بلد عربي أن يفكر في تدمير بلد عربي آخر ومعاقبته. ولكن كلما طال بقاء صدّام في الكويت ينهب ويشرد ويعذب ويبطش ويتحدى العالم بأسره، زاد التأكد من أن الحرب هي الخيار الوحيد. واستبد القلق بالدول في منطقة الخليج، فحتى لو انسحب صدّام من الكويت وبقيت ترسانة أسلحته سليمة لحاول تهديدها من جديد. ومرة أخرى نجد أن المصيدة التي وقع فيها صدّام كانت من صنع يديه!

          ارتكب صدّام حين هدد المصالح الحيوية لدول كثيرة، خطأً جسيماً وَحّد ضده تحالفاً دولياً هائلاً، يُعَدّ أقوى تحالف شهده العالم منذ الحرب العالمية الثانية. فاستيلاؤه على الكويت شكل تهديداً مباشراً لاستقلال المملكة ودول الخليج المجاورة. وعداوته لحكام دول الخليج الصغيرة لا تخفَى على أحد، ويبدو أنه صمَّم على تقويض أسس ولايتهم الشرعية. وعلى صعيد الشرق الأوسط بكامله، شكلت محاولة صدّام فرض هيمنته على المنطقة تحدياً خطيراً لمصر وسوريا وإسرائيل وتركيا بالإضافة إلى إيران، ألدّ أعدائه طوال ثماني سنوات. ويعتبر تحديه الدول الرئيسية في المنطقة تحدياً للمصالح النفطية والإستراتيجية للولايات المتحدة، وهي المصالح التي تعهد الرؤساء الأمريكيون المتعاقبون على السلطة بالدفاع عنها. وبصرف النظر عن الولايات المتحدة، كان موقفه أيضاً تحدياً للعالم الصناعي المتعطش إلى النفط، بما في ذلك القوى الاقتصادية العملاقة مثل اليابان وألمانيا. وقد أثبت صدّام جهْله المطبق بطبيعة النظم السياسية والاقتصادية في الغرب وبكيفية اتخاذ القرارات، لا سيما في الولايات المتحدة. وظن، على ما يبدو، أن في إمكانه التعامل مع الدول الأجنبية كما يتعامل مع شعبه.

          نجحت "عبقرية" صدّام في توحيد قسم كبير من العالم ضده، بما في ذلك دول يناصب بعضها بعضاً العداء. فارتكابُ صدّام لهذا الخطأ الجسيم في أغسطس عام 1990 ثُمَّ رفضه تصحيح ذلك الخطأ في الأشهر التي تلت، يعزز انطباعي بأنه لم يكن سوى طاغية إقليمي يجهل أمور العالم الخارجي، فحالت غطرسته ووحشيته دون أن يخبره أحد ممن حوله بالحقيقة. فالنظام العراقي لا يحتوي أية مؤسسات تحافظ على التوازن وتتولى الرقابة فَتَحِدُّ من سلطة صدّام المطلقة. ولم يكن ثمة أحد يجرؤ على أن يقول له: "يا سيادة الرئيس، ليست هذه أم المعارك. لقد ارتكبت خطأً جسيماً. وعليك أن تنسحب".

سابق بداية الصفحة تالي